وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس وفي رواية أنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السلام يستقبلون بيت المقدس وأنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لأنه مطلع الأنوار وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى وروي أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر وذلك قوله D : فأرسلنا إليها روحنا أي جبرائيل عليه السلام كما قاله الأكثر وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى .
وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا وقال أبو مسلم : المراد من الروح عيسى عليه السلام لقوله تعالى وروح منه وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء وقرأ أبو حيوة وسهل روحنا بفتح الراء والمراد به جبريل عليه السلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان أو لأنه عليه السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا أو ذا روحنا .
وذكر النقاش أنه قريء روحنا بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليهم السلام فتمثل لها مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء والمراد فتصور لها بشرا سويا 71 سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع ما فيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى قالت إني أعوذ بالرحمن منك فأنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أولا بتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك ليكون مظنة لما ذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدا عن كلامه .
وقال بعض المتأخرين : إن استعاذتها بالله تعالى تنبيء عن تهيج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن فقد قيل : المراد بالصبوة