أصل الإنس وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام إنس وفي القلب من صحته ما فيه وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور وقيل : كان من الملائكة والجن قبيلة منهم وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفا على أهل السماء فوقع بنفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى فلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة وكان على ما رواه عنه قتادة يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه وبغيره مما لا يخفى وإلى ذلك ذهب ابن جبير وقد روى عنه جماعة أنه قال : الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلي أهل الجنة حتى تقوم الساعة وفي رواية أخرى عنه أن معنى كان من الجن كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : هو من الملائكة ومعنى كان من الجن صار منهم بالمسخ وقيل : معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث أنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن ابليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية نعم مسئلة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك ويبقى عليه أيضا أن الآية تأبى مدعاه وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم ففسق عن أمر ربه أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره وسموا الفأرة فاسقة لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدى بعن كما في قول رؤبة : يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل وقال أبو عبيدة : لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن ووافقه المبرد على ذلك فقال : الأمر على ما ذكره أبو عبيدة وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب وكأنما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به وإما قوله تعالى : أسجدوا وخروجه عنه مخالفته له وكون حاصل لمعنى ذلك على المعنيين ظاهر وقيل : عن للسببية كما في قولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود