إلى ذلك قل لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب لو كان أي لو وجد في الأرض بدل البشر ملئكة يمشون كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمع من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مطمئنين ساكنين مقيمين فيها وقال الجبائي أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا 59 يعلمهم مالا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليه الإستماع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبينهم فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم نفوسا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهه بشرية بها على البشر يفيضون وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة وأنزال الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مرارا في صورة دحية الكلبي .
وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه E بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم مما لا يجدي نفعا لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه .
وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية : إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد فأزعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لأوجيت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع .
ونصب ملكا يحتمل أن يكون على الحالية من رسولا الواقع مفعولا لنزلنا وسوغ ذلك التقدم ويحتمل أن يكون على المفعولية لنزلنا ورسولا صفة له وكذا الكلام في قوله تعالى أبعث الله بشرا رسولا ورجح غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه أما الأول فلأن منطوقه أبعث الله تعالى رسولا حال كونه بشرا لا ملكا ولنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وهو المقصود وأما الثاني فلأن التقريب بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشرا مرسلا لا بشرا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكا مرسلا لا ملكا غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم وقال صاحب الكشف تبعا لشيخه العلامة الطيبي في ذلك : لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني أبعث الله بشرا رسولا فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت أعني الرسالة كما تقول أضربت قائما زيدا ولو قلت أضربت زيدا قائما أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائما لا الضرب مطلقا والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه الصفة المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا أن جعل التقديم للحصر