فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضى لها هو الفاعل الحكيم المختار وإن كان الثاني قلنا : إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرى الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا إن النطفة رطبة سريعة الإستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفرق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم ولا يصح أن يقال : إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه .
وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجيء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والإطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والإختيار والثاني قيل : أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر .
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مثله : قال من يحيي العظام وهي رميم فإنه نص فيما ذكر فيكون صدر الآية للإستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الإستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله تعالى عما يشركون فعدم المنافي لا يقتضى وجود المناسب وعندي لكل وجهة .
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله : تعالى عما يشركون ثم أنه أدمج فيه المعنى الأول وروي الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعض رميم وقال : يا محمد أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم فنزلت نظير ما في آخر يس والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه : فإذا هو إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم .
والأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز قال الراغب : ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى : خلقها وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقريء به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما