أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله : لأهب لك غلاما زكيا وقوله تعالى : فنفخنا فيه من روحنا وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات وأيضا يخدش قوله : ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .
فيجوز أن يكون قولهم : لا توجل تمهيدا للبشارة وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالإستعاذة فلم تدعه يبتديء بالبشارة بخلاف ما نحن فيه وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما أعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل : المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلأن يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوى ذكره بأنه بعيد وتوسيط قال والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى وأما الثالث فلجواز أن يقال : أنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يك يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال : إنه لا يحسن أيضا عند قوله : إنا منكم وجلون على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر .
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين .
58 .
- هم قوم لوط عليه السلام وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم إلا آل لوط قال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الإستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الإستثناء ليس مما يقتضيه المقام ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الإتصال على تقدير آخر ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في مجرمين فيكون الإستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له وقوله تعالى إنا لمنجوهم أجمعين .
59 .
- خبر إلا بناء على ما سمعت سابقا وعن الرضى أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا أنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمار أي لكن حمارا لم يجيء قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الإنفصال كالنصب في الإتصال وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول : لي عليك ديناران