فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة : أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها والأفلاك عندهم مختلفة في الثخن وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والأبعاد وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة الله جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم : لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه وقوله في الجواب عن السادس : إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه E إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة وقوله في الجواب عن الخامس : إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر هذا ثم أعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذين عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه ويشهد لهذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة Bها قالت : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم ولا ينافيه ما رواه أيضا عن عكرمة أنه قال : سمعت أبا هريرة يقول : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله سبحانه كأنه سلسة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم قالوا : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع الخبر إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض وعدم منافاة هذا لذاك ظاهر عند من ألقى السمع وهو شهيد وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمى بنجم وأين هذا من ذاك نعم في خبر الزهري ما يحتاج معه إلى تأمل وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للإستراق في كل سنة مثلا مرة ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني .
ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفا من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك : إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضعهم فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر إن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه .
وتعقبه بقوله : ولقائل أن يقول : إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيرها فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وأن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود أصلا فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالإستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا وهذا بخلاف حال