شيخ الاسلام : ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى : وقد مكروا الخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع مافعلوا من الاقسام المذكور مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الاقسام الذي وبخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة وقوله سبحانه : وعند الله مكرهم حال من ضمير مكروا حسبما ذكر من قبل وقوله تعالى : وإن كان مكرهم إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا أو ضعيفا كما مرت الاشارة اليه وعلى تقدير كون إن نافيه فهو حال من ضمير مكروا والجبال عبارة عن أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي وقد مكروا والحال أن مكرهم ماكان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه ايضا على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى : وعند الله مكرهم كما ذكر سابقا اه ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال .
وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الاقسام مع ماينافيه بل اجترؤا على الشرك وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وقد روى عن الضحاك أنه صرح بأن مانحن فيه كهذه الآية ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال وهو الظاهر كما قيل وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي وفي البحر الذي يظهر أن زوال الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمه والجبال لاتزول وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لايخفى .
وأما ماروى أن جبلا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فأركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان .
وما روى من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الانسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الاسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم : هذا سحر هذا شعر هذا إفك فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ وبعيد جدا قصة الانسر اه .
واستبعد ذلك أيضا كما نقل الامام القاضي وقال : إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية اليه ونعم ماقال في خبر النسور فاه وإنجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وعن مجاهد وابن جبير وأبي عبيدة والسدي وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لايخفى على من نقر .
وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله تثبيت له صلى الله تعالى عليه وسلم على ما هو عليه من الثقة بالله سبحانه والتيقن بانجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون