كان من القرون أي من الأقوام المقترنة في زمان واحد من قبلكم أولوا بقية أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون البقية إسما للفضل والهاء للنقل وأطلق على ذلك على سبيل الإستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه ومن هنا يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم وبذلك فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا يأتيني بقيتكم فما علي بذنب عندكم فوت ومنه قولهم : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه والظاهر أنها على هذا مصدر وقيل : إسم مصدر ويؤيد المصدرية أنه قرىء بقية بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : بقينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تأخر صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج الخبر أراد معاذ انتظرناه وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه وقريء بقية بتخفيف الياء إسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية .
وقرأ أبو جعفر وشيبة بقية بضم الباء وسكون القاف ينهون عن الفساد في الأرض الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي إلا قليلا ممن أنجينا منهم إستثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون وقيل أي : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي و من الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه : أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا وإلى ذلك ذهب الزمخشري ومنع إتصال الإستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لإستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية هلى النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم ثم قال : وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان إستثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان اإتصابه على أصل الإستثناء إن كان الأفصح أن يرفع على البدل والحاصل أن في الكلام إعتبارين : التحضيض والنفي فإن اعتبر التحضيض لا يكون الإستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له والتحضيض معناه لم ما نهوا ولا يجوز أن يقال : إلا قليلا فإنهم لا يقال لهم : لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت : إضرب القوم إلا زيدا فليس المعنى على أنه ليس أضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال : أولو بقية محضوضون على النهي إلا قليلا فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالإستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الإستثناء أنهم غير محضوضين وذلك إما لكونهم نهوا وأو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم فإما أن يكون قد جعل إحتمال الفساد إفسادا أو إدعى أنه هو المفهوم من السياق ثم إن المدقق صاحب الكشف قال : إن ظاهر تقرير