مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم إستناد أمره ونهيه إلى سند ثم قال : وجواب الشرط محذوف يدله عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون وإستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه ! وادعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم .
وفسر القاضي الرزق الحسن بما آتاه الله تعالى من المال الحلال ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله وقدر جواب الشرط فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلام إعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي .
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون إنتهى .
وأقول : لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال : إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون ولم يتعرض عليه السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك مما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم : يا قوم إنكم إجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع وربما يقال : إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال : إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضى وارتفاع ما يظن مانعا ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل .
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني أرأيتم إن كنت إلخ أن تقدر