ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له : إني الخ وهو ظاهر في أن مدار العتاب لاشتباهه كما ذكرنا وإليه ذهب الزمخشري قال : إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخاطبه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنى لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه وكأنه أراد أن الإستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويفحص في الأهل عن وجوده وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولى العزم مؤاخذون بالنقير والقمطير وحسنات الأبرار سيئات المقربين وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال : في كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله ثم قال : ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا عن نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول : لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلقا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناءا على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتابا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا وأما قوله سبحانه : إني أعطك الخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن علمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهي عنه كما يدل عليه قوله سبحانه : قال رب أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال : بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال : لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إني أعظك بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء .
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة والده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر والظاهر على ما قررنا أن قوله : رب الخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن السئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشيتبه الحال أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة