وقيل المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح فكأن ما فيها بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غيرمنسوخة بشيء أصلا وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه وإدعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه : إنما أنت نذير والله على كل شيءوكيل .
وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآية ونسخت بقوله سبحانه من كان يريد العاجلة عجلنا لهفيها ما نشاء لمن نريد ولا يخلو عن نظر ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لإشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما ومنه قول نمر بن تولب : وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما فقد قال الأصمعي : إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذاأريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصىغاياته ما لا يخفى ثم فصلت أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائدالتي تجعل بين اللآليء ووجه جعلها كذلك إشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن وقيل : يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه أو فرقت فيالتنريل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة و ثم على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادرمن التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لهاحقيق بأن يرتب على وصف أحكامها وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير وقيل : للتراخي بين الإخبارين وإعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده بإعتبار إبتداء الخبر الأول وإنتهاء الثاني .
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبةالتفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الإحكام أمر ظاهر وبالمعنىالثالث فيه نوع خفاء ولا يخفى عليك أن الإحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الإحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في إحتمالات المراد بثم تبلغ إثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين إحتمالا ولا حجر والزمخشري ذكر للإحكام على ما في الكشف ثلاثة أوجه