فإن الخاص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الأذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه ونفي العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الإستمرار نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم فالكلام محمول على في الإستمرار ولو حمل على إستمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون فيكون المعنى عادتهم عدم الإستئذان لم يبعد ومثل هذا قول الحماسي : لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا قيل : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الإستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيء للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله E بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه : فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به وجوز أن يكون متعلق الإستئذان محذوفا وأن يجاهدوا بتقدير كراهة أن يجاهدوا والمحذوف قيل : التخلف عليه والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد والنفي متوجه للإستئذان والكراهة معا وقال بعض : إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه باديء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا .
وقيل : الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا وتعقب بأنه مبني على أن الإستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهة ولا يخفى أن الإستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل ولو سلم وقوعه فالإستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الإستئذان لعلة الرغبة لو سلم فالذي نفي عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر والله عليم بالمتقين .
44 .
- شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولا أوليا وعدة لهم بالثواب الجزيل فإن قولنا : أحسنت إلي فأنا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلي فأنا أعلم بالمسيء وعيد بأشد العقاب قيل : وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل : والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى إنما يستأذنك أي في التخلف الذين لا يؤمنون بالله واليوم تلآخر تخصيص الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به وارتابت قلوبهم عطف على الصلة وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره فهم في ريبهم وشكهم المستمر في قلوبهم يترددون .
54 .
- أي يتحيرون وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازا أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان والآية نزلت كما