وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى : ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم وجعل الضمير الأول شاملا للجمعين تغليبا والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك والزمخشري جعله فيهما شاملا للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته وأمر التفكيك سهل ولكن تلاقيتم على غير موعد ليقضي الله أمرا وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم كان مفعولا أي كان واجبا أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه : وكان حقا علينا نصر المؤمنين أو كان مقدرا في الأزل .
وقيل : كان بمعنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولا بعد أن لم يكن وقوله سبحانه : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة بدل من ليقضي بإعادة الحرف أو متعلق بمفعولا .
وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بيقضى واستطيب الأول والمراد بالبينة الحجة الظاهرة أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة الحجج الغر المحجلة ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر إستعارة أو مجازا مرسلا وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة وإلى هذا ذهب قتادة ومحمد بن إسحق قيل : والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه والمشارفة في الهلاك ظاهرة وأما مشارفة الحياة فقيل : المراد بها الإستمرار على الحياة بعد الوقعة وإنما قيل ذلك : لأن من حي مقابل لمن هلك والظاهر أن عن بمعنى بعد كقوله تعالى : عما قليل ليصبحن نادمين وقيل : لما لم يتصور أن يهلك في الإستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الإستقبال وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من إتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيضا لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حيا إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الإتصاف بأصلها فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص بإعتبارها وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والإستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والإستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه و عن لا يتعين كونها بمعنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه .
ونظير ذلك قوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك بناء على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض ويمكن أن تكون بمعنى على كما في قوله تعالى : فإنما يبخل عن نفسه وقول ذي الأصبع :