أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الإعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين بإعتبار إستعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون انتهى وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الإتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني وقوله تعالى : لهم قلوب في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير وقوله سبحانه وتعالى : لايفقهون بها في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له يقال : فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا وكذا الكلام في قوله جل وعلا : ولهم أعين يبصرون بها فيقال : المراد لايبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق إندراجا أوليا كذا يقال في قوله تبارك وتعالى : ولهم آذان لا يسمعون بها حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف وأمر الوصفية في الأخيرين مثله في الأول والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس باشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله ومن ذلك قول الشاعر : وعوراء الكلام صممت عنها وإني لو أشاء لها سميع وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع إنتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال : وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم إبتداء بأن يقال : ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية وتفسير الآية على هذا الوجه