واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فانه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فاذا تمهد هذا فجهل الانسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الاعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا و يفقهون ههنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم وليس من فقه بالضم لان تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها ثم ذكر أنه إدا قيل : فلا لايفقه شيئا كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا وكان معنى قولك : لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وان فهم واما قولك : لا يعلم شيئا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه اجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه : وفي الأرض ءايات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه انكارا مستأنفا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه .
وهو الذي أنزل من السماء ماء تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته D وسعة رحمته والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء وقيل : الكلام على ظاهره والانزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي واحتج على فساد قول من يقول : إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع الى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه أحدها أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد وذلك يبطل ما ذكر ثانيها أن البخارات إدا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار انما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فاذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء ثالثها أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيثلم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول ثم قال : والقوم إنما احتاجوا الى هذا القول لأنهم اعتقدوا ان الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث الا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هدا لا حاجة الى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على ان الماء انما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل القول بامتناع الخرق والالتئام أيضا ووجود ذكر كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحابا يمطر مع مشاهدة ماء نازل من السماء اليه الى غير ذلك وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه