لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها كما قال سبحانه : لفتحنا عليهم بركات من السماء قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وقيل : المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزورع وقيل : بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الارض وقيل : بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ومايعطيه لهم سفلتهم وعواملهم وقيل : المراد المبالغة فى شرح السعة والخصب لاتعيين الجهتين كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة وجعله الطبرسى نظير قولك : فلان فى الخير من قرنه إلى قدمه أى يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما فى قولك : فلان يعطى ويمنع و من فى الموضعين لابتداء الغاية .
وسنشير إن شاء الله تعالى فى باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل وفى الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروى وفى الثانية ترغيب بأمر دنيوى وتنبيه على أن ماأصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لالقصور فى فيض الفياض وتقديم الترغيب بالأمر الأخروى لأنه أهم إذ به النجاة السرمدية والنعيم المقيم وخولف بين العبارتين فقيل : أولا : آمنوا واتقوا وثانيا أقاموا ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل : ويشبه أن يكون ما فى الشرطية الثانية إشارة إلى ماجرى على بنى قريظة وبنى النظير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم فكأنه قيل فى حقهم : لو أنهم أقاموا فى ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن القامة فحرموا وتاهوا فى مهامه الضنك إذ ظلموا وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم فى أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لاشبهة فى أنه إذا آمن كتابى واتقى كفر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه فى رحمته سواء فى ذلك معاصر النبى صلى الله عليه و سلم وغيره ولاكذلك الشرطية الثانية فان الظاهر اختصاص تحقق اللزوم فى المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم على الوجه اللائق وهو فى ضنك من العيش قبل ولايتغير حاله وربما كان فى رفاهية حتى إذا اقام وقفت به سفينة العيش فوقع فى حيص بيص وجعلها كالشرطية الأولى وحمل التوسعة على ماهو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما فى أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا لاأظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحبسه حاسما لما يقال والقول بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ماتقدم وانتفاعهم كذلك أى لو أنهم كلهم أقاموا التوراة الخ لأكلوا كلهم من فوقهم الخ لا لو أقام بعضهم لاأراه إلا منكرا من القول وزورا .
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه : و لأكلوا الخ بقوله : لوسع عليهم الرزق وفسر التوسعة بأوجه ذكرها ولم يجعله شاملا لرزق الدارين ولو حمل على الترقى وتفصيل مأجمل فى الأول شرطا وجزاءا لكان وجها انتهى وبهذا الوجه أقول واليه أتوجه وإنى أراه كالمتعين إلا أن اختلاف الشرطيتين عليه ليستا سواء والاشكال فيه باق من وجه ولامخلص عنه على ماأرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين ولعل النوبة تفضى إن شاء الله تعالى إلى تحقيق مايتعلق بهذا المقام فتدبر منهم أمة مقتصدة أى طائفة عادلة غير غالية ولامقصرة