ومن أدعى أن جميع الأحكام الدينيةمذكورة في القرآن صريحا من غير إعتبار قياس فقد أرتكب شططا وقال غلطا وبالجملة المعول عليه ماذهب إليه الجمهور ويد الله تعالى مع الجماعة ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعول عليه ولم تحط رحال القبول لديه وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الإعتصام .
ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه : إنما التوبة على الله أي إن قبول التوبة و على وإن أستعملت للوجوب حتى أستدل بذلك الواجبة عليه فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة يحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال : واجب الوجود وقيل : على بمعنى من وقيل : هي بمعنى عند وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله للذين يعملون السوء أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة والتوبة مبتدأ و للذين خبره و على الله متعلق بما تعلق به الخبر من الإستقرار أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب منه رطبا وجوز أن يكون على الله متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي إنما التوبة الكائنة على الله و للذين هو الخبر وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته وذكر أبو البقاء إحتمال أن يكون على الله هو الخبر و للذين متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر ولا يخفى أن سوق الأية يؤيد جعل للذين خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف بجهالة حال من فاعل يعملون أي يعملون السوء متلبسين بها أو متعلق يعملون والباء للسببية والمراد من الجهالة الجهل والسفه بإرتكاب مالا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب وغيره : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته وأخرج عبدالرزاق وإبن جرير عن قتادة قال : أجتمع أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فزاوا أن كل شيء عصى به فهو جهالة عمدا كان أو غيره وروى مثل ذلك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال أبو عبدالله رضي الله تعالى عنه : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه السلام لإخوته : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى وقال الفراء : معنى قوله سبحانه : بجهالة أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة .
وقال الزجاج : معنى ذلك إختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ثم يتوبون من قريب أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبيء عنه ما سيأتي من قوله تعالى : حتى إذا حضر إلخ يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها : من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه ثم قال : وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه ثم قال : وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم