يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا وهذا أفحش من الأول وإن كان المراد بعض الأولاد أو أريد من يعقوب غير المتبادر وهو إبن إسحاق عليهما السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته والإبن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي أنقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني وأتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وأنتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة وإحتمال موت الفجأة .
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشى من أشرار بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الآلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر وإتصال الثواب والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة فما الضرورة هنا أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الإستعمال في العرف مختصا بالمال وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في إستعمال القرآن المجيد ومن ذلك قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب وأرثوا الكتاب إلى غير ما آية ومن الشيعة من أورد هنا بحثا وهو أن النبي إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن والجواب أنذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بني كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها وأسامة وسلمه إليهما وكان كل من بيده شيء مما بناه له رسول الله يتصرف فيه