طبعية الموقف الإسلامي من الأمم الأخرى
طبعية الموقف الإسلامي من الأمم الأخرى
الدكتور حسن عبد ربه المصري
استشاري اعلامي
لندن / بريطانيا
مقدمة:
الإختلاف بين الأمم ظاهرة معلومة ومُعترف بها ، إلي الحد الذي جعل درجات التباين بينهم ليست خافية لا علي الفرد ولا علي الجماعة ، سواء كان ذلك من زاوية اللون ولغة التخاطب والمعتقد الديني ، أو كان علي مستوي القدرات الإقتصادية والمهارات الذهنية ، أو من منظور الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية والملف التاريخي والمساهمة في إثراء القيم البشرية والحضارة الإنسانية ..
الاختلاف بين الأمم علي هذه المستويات يستتبعه بالضرورة اختلاف في الرأي والتوجه السياسي والمصلحة ، ويلحق به تحالف بين هذا الفريق وتنابذ بين هؤلاء الفرقاء .. وتبدل في احيان كثيرة فيما يقود إليه هذا التحالف من ثمار ونتائج وما ترسخه التنابذات من حروب وإفتتال ..
عمدتنا في تناول هذا الأمر القرآن الكريم " تنزيل رب العالمين " ..
ولنبدأ من البيئة التي تتزل فيها علي رسولنا الأعظم عليه السلام ..
عندما نزل القرآن الكريم – منذ 1335 عام - علي رسولنا صلي الله عليه وسلم ، كانت البئية الحاضنة لآياته وأحكامه ، مختلفة فيما بينها اجتماًعيا وسكانياً وأيضا من حيث مصدر الثروة ومكانة القبيلة بين أقرانها ، ولا نبتعد كثيراً عن الحقيقة عندما نقول أنها كانت أيضاً مختلفة عقائدياً ..
وعندما باشر محمد بن عبد الله عليه السلام ، إبلاغ رسالة ربه .. وقف منها القوم مواقف مختلفة .. فهي بالنسبة لهم دعوة جديدة بكل المقاييس .. آمن بها البعض وهم أقلية ، ورفضها البعض الآخر وهم اكثرية ، ولم يحزم البعض الثالث للوهلة الأولي أمره منها !! ..
ولما إنتشرت الدعوة الإسلامية وقوي عودها ، اقبلت الكثرة عليها وبقي البعض علي عنادهم ..
ولما توسعت واستتب أمرها خارج بيئتها الحاضنة ، اختلف المؤمنون بها فيما بينهم وانقسموا فرقاً ومذاهب و أحزاب .. ثم أقطار فيما بعد !! ..
القرآن الكريم وظاهرة الإختلاف
الحقيقة التى نود أن بينها بكل وضوح هي أن القرآن الكريم ، حرص مع بداية آياته الأولي علي مخاطبة كل البشر .. المختلفين فيما بينهم ، حتى في بيئته الحاضنة الأولي .. المختلفين فيما بينهم بعد أن دخلوا في دين الله أفواجاً .. المختلفين فيما بينهم حتى وهم يساهمون في بناء الحضارة الإنسانية ويقدمون للبشرية أفضل دياناتها السماوية ، ويعرفونها علي أسمي وأعظم رسل الله ..
لذلك وقر في ضمير العلماء الثقاة ، أن مخاطبة القران الكريم أو الخطاب الإلهي للبشر ، تأسس علي اختلاف البشر .. لذلك اتفقوا فيما بينهم علي الحق سبحانه وتعالي خاطبهم في كتابه العزيز ، من منطلق انه ..
1 - كتاب " هداية إلهية " يؤسس لحقيقة مطلقة ومهيمنة علي ما عداها من حقائق ..
2 – أنه كتاب يُقر باختلافهم كواقع معلوم لا سبيل لغض الطرف عنه أو البناء علي إمكانية تلاشيه في قابل الأيام ..
لذلك تعددت في القرآن الكريم الآيات التى تتحدث عن وحدة أصل الإنسان ، وتلك التى تعترف بأن بني البشر مختلفون ..
أصل البشرية واحد ، وكلها تعود إلي أب واحد وأم واحدة ، ونفس واحدة .. يقول رب العزة في سورة البقرة / الآية 213 " كان الناس أمة واحدة " ، ويوضح في سورة النساء / الآية 1 " ... خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء " ..
وهذا يعني ان نسل البشرية في شكله الحالي ينتهي " إلي الجذر الأول الذي قام بين آدم وحواء " اللذين هما الأصل الذي بدأت منه الانسانية " أي كان مكان النشأة الأولي لهذه لعائلة جدود البشرية الأوائل " أدام وحواء " .. وأي كان مسار انتشارها وتمددها الجغرافي ، و أي كان عمر حياة الإنسان فوق كوكب الأرض من لدن أدم وحتى يومنا هذا ..
عاشت هذه الوحدة الأسرية الأولي التى شكلت بداية البشرية ، نموذج من الحياة البسيطة القائمة علي الفطرة التي يسودها العنف والصراع ، وفي إطار حياة حرة ذات إحتياجات محدودة يحكمها قانون الطبيعة ..
هذه الأمة الأولي لم تبق علي حالتها .. فإنقسمت ، ومن ثم اختلفت علي مستوي النوع ولون البشرة ولغة التعبير والتفاهم ..
يقول القرآن الكريم في سورة الروم / الآية 22 " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم ، إن في ذلك لآيات للعالمين " ..
أما الآية رقم 13 من سورة الحجرات فتبين لنا تركيبة خلق الله القائمة علي النوع الذي تتشكل منه البشرية ، وتوضح مراد الله عزل وجل من ذلك " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " ..
وعندما نمعن التفكير في الأمر الرباني الذي انتهت به الآية الثانية " لتعارفوا " سندرك بما لا يدع مجالاً للشك ، أنه أمر ألهي يتطلب البعد عن كل ما يحض علي الصراع بين الشعوب والقبائل " الذين " خلقهم الله هكذا مختلفين في اللون واللسان ، لأن خلقهم علي هذه الحقيقة " ليس من أسباب التفضيل " ولكن لأنه المنطلق الأولي والأساسي " للتعارف " فيما بينها علي قاعدة القيم والمصالح ..
التعارف كما يأمر به رب العزة ، يتضمن كافة متطلبات " السلام " التى يحتاجها بناء النهضة والحضارة .. ويحتوي علي كافة المفاهيم التي تبلور التقدم والتحديث بلا صراع ولا قتال وبلا تعصب ولا تمييز عنصري ..
لكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً ..
لأنه لما زاد التطور اختلفت الجماعة البشرية بسبب ما وجدته تحت يدها من امكانيات وقدرات .. ولما تبلورت أوضاعها الإقتصادية وأُطرها السياسية ، وضحت معالم إختلافها في المعتقد ومعطياته ، والرأي ومحصلاته ، ومكونات الفكر وآلياته ونتائجه .. ومن جانب آخر قامت الممارسات الإجتماعية لحياة الإنسان بشق الطريق أمام المواهب أن تنمو وللإستعدادات الذاتية لأن تبرز ، ومن ثم ظهرت علي السطح الإمكانات المتفاوتة للبشر وإتسعت آفاق ومستويات النظر فتنوعت الطموحات مما إدي إلي تعقد الحياة البسيطة .. فبرز الخلاف والتناقض بين مستويات القوة المتعددة والعقليات المتفاوتة والتطلعات المتنوعة ، ومن هنا بدأ التتناقض بين التضاد : القوي والضعيف ، الغني والفقير ، المدرك لحقائق الأمور والغافل عنها ، القابل للتطور والخامل .. الخ ..
وهذا الوضع الإنساني هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في سورة يونس / الآية 19 ، بقوله " وما كان الناس إلا أمة واحدة فأختلفوا " .. ويعززه بقوله تعالي في سورة البقرة / آية 213 " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما إختلفوا فيه ... " ..
هذا الإختلاف هو الذي إحتاج إلي أن يبعث الله النبيين علي امتداد عمر البشرية من آدم إلي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ليبلغوا رسالات ربهم إلي مخلوقاته " المختلفين " ويبينوا لهم أفضل وأسلم السبل لتنقية الخلاف فيما بينهم ويرسموا لهم طريق النجاة من مخاطر إستمراره وتفاقمه – أي الخلاف - وما سيقود إليه من إنسداد إمكانيات السلام فيما بينهم ..
وعلينا أن ندرك معاً أن الخلاف بين البشر أصحاب الدين الواحد ولد تحت راية دعوات الأنبياء والرسل المتتالية ، يتكون لدينا هذا الإدراك من آيات قرآنية كثيرة .. الآية رقم 93 من سورة يونس " ولقد بوأنا بين إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما إختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " .. وقوله جل وعل في سورة الجاثية / الآية 17 " وأتيناهم بينات من الأمر ، فما إختلفوا ألا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " ..
هذا الإختلاف بين البشر أحادي أم متعدد ؟؟ ..
بداية نقول أننا يمكن ان نحدد أبعاد هذا الإختلاف ضمن مستويين ..
الأول .. إختلاف فيما بين من بعثت لهم الرسالة ، فهناك من آمن بها وصدقها وهناك من انكرها وكفر بها ..
والثاني .. إختلاف حول مضمون الرسالة وما يمكن استنباطه منها بين من آمن بها ، والإختلاف حول بغيتها وحقيقة أمرها بين من كفر بها ..
وكل فريق من هذه الفئات إنقسم إلي فرق ومذاهب ومدارس وتيارات وجماعات وتكتلات ، وفقا للبيئات الجغرافية التى وجدوا فيها والعوامل الذاتية التى تتحكم في حركتهم الاجتماعية وعلاقاتهم بالجوار ، والتى إنعكست كلها علي قدراتهم وملكاتهم حيال إستقبال الرسالات ومدي إتساع مداركهم الذهنية علي فهم جوهرها الفكري والعقائدي ..
ولقد تركهم الله علي هذا الإختلاف أو التنوع ، أليس كذلك ؟؟ ..
من هنا علينا ان نقر ونعترف أ، الله جل وعل تركهم علي هذه الحالة لحكمة قدرها بسابق علمه ..
لهذا السبب تبين لنا الآيتين 118 و 119 من سورة هود الحكمة الربانية من وراء ذلك ، حيث تقول " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ..... "
إذن ، هذا الإختلاف المتعدد كان من الممكن أن يتواجد فيما بيننا حتي لو شاءت إرادة الله سبحانه وتعالي أن يجعلنا أمة واحدة ، لذلك فتحت لنا الآية 48 من سورة المائدة أبعاد إضافية للتعلم " ... لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " هنا ندرك بما لا يدع مجالاً للإختلاف أن رب العزة يلفت نظرنا أن الإختلاف إبتلاء من الله ، وأنه سبحانه هو الذي سيببين لنا يوم نلقي وجهه الكريم أسبابه ..
الإختلاف سنة إلهية ..
هذا الإختلاف المتعدد سنة إلهية ..
لذلك صار مشروعاً أن يتواجد وتتعدد صوره بين بني البشر الذين خلقهم ربهم مختلفين .. وهنا يبين لنا مسار التاريخ الإنساني ان التنوع والتعدد بين الناس كما خلقهم الله ، هو الذي يدفع حركة المجتمعات ويحرك عوامل التطور والنهضة والرقي ، ولولا هذا الدفع كما تقول الآيتان الكريمتان .. 251 من سورة البقرة " ..... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل علي العالمين " ، و 40 من سورة الحج " .... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " .. لما نشأت حضارة ولتوقف إعمار الدنيا ولضاعت معالم تراث التوحيد الذي توارثته الأجيال ..
هذا الاختلاف وتلك التعددية التي يوضحها لنا ربنا في قرآنه الكريم تتفق مع مبدأ حرية إرادة الإنسان عندما يختار ويقبل بتحمل مسئولية إختياره ذاك ، لأن الله القادر لم يفرض عليه الإكراه الذي نفته عن نفسها كافة الدعوات الإلهية للتوحيد التي جاء بها النبيون ، لأنها جاءت في الأساس لفك اسره من إغلال العبودية الفكرية لغير الله ، ولإطلاق حريته في الإختيار إلي أقصي مداها وفق رؤيته واجتهاده ، علي أن يتحمل مسئولية ما وقع عليه إختياره ..
الإنسان كما خلقه ربه ، كائن حر ذو مسئولية ، وليس هناك حرية بلا حق موثق في الاختيار .. والمسئولية لا يكون لها معني أن لم تتوافر لها الحرية ..
ولنا في آيات القرأن الكريم أسطع بيان ..
الآية 3 من سورة الإنسان " إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " ..
الآيتان 18 و 19 من سورة الإسراء " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماً مدحوراً ، ومن أراد الآخرة وسعي لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً " ..
هذه أيات ثلاث من بين آيات اخري كثيرة ، تدل علي توافر مقتضيات الإرادة لدي الإنسان لكي يختار بحرية بين زيف الدنيا ونعيم الآخرة ، فمن سأل الله الدنيا آتاه منها ومن عمل من أجل الآخرة سهل الله له طريقه إليها .. وكلاهما أي من إختار هذه ومن فضل تلك ، سيلقي وجه ربه يوم القيامة فيجازيه الجزاء الأوفى .. أليس إلي ربنا المنتهي ؟؟ ..
وفي المقابل شدد القرآن بقوة في التحذير من إستخدام أسلوب الإكراه لأدخال الناس رغماً عنهم في الدين ، أو إكراه أحدهم علي الإيمان دون إختيار حر منه ..
ولذلك جاءت الآية 256 من سورة البقرة نافية لهذا المبدأ " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها والله سميع عليم " .. وقال الله تعالي لنبينا صلوات الله عليه وتسليماته في سورة يونس الآية 99 " ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ..
الإختلاف مكون أساسي من مكونات المجتمع البشري ..
الاختلاف بين البشر أمر فطري ، يقود فريق منهم إلي سبيل الحق وفريق آخر إلي طريق الباطل ، ومن يرحمه العليم القدير يرشده إلي الحق .. فيدلهم كيف يستخدموا إرادتهم وحريتهم وفق ما توفره لهم بيئاتهم وامكاناتهم من قدرات ، للتعرف علي سبيله سبحانه وتعالي كل وفق ما يُسير له ..
الأخر موجود علي مستوي الشخص أو إطار الأمة ..
الآخر الشخص والأمة واقع ملموس ..
الأخر الشخص والأمة ، مُعترف به ..
الآخر الشخص والأمة مختلف ومتفاوت في درجة ومستوي إختلافه ..
الآخر الشخص والأمة معترف بوجوده وبحقه في الإختلاف دون أن نحكم نحن علي نوعية إختلافه ومدي تنوعه ، من منظورنا الشخصي البحت ..
الآخر الشخص والأمة معترف به وموجود سواء كان مسلماً يعتنق مذهب مختلف ، أو صاحب دين سماوي ، أو حتى مشرك أو كافر ..
هو موجود ، وليس من سبيل لنفيه أو إنكار وجوده أو عدم الإعتراف به ، لأنه صاحب رأي ويملك حرية الإختيار وقادر علي تحمل المسئولية ..
هو موجود لأن قرآننا أقر بوجوده ووصفه أانه مختلف في الأصول أو الفروع ، ليس هذا فقط ، بل كلفنا بأن تعامل معه وفق المبادئ الخمسة التالية :
1 – حرية الإرادة والإختيار
2 – نفي الإكراه
3 – لأن قرآننا كتاب هداية يخاطب كل البشر
4 – لأن المخاطبة تنصرف إلي الجميع بلا إستثناء أو إزدراء
5 – لأن المخاطبة القرآنية لا يحد منها تنوع الجنس أو اللون أو اللسان أو العقيدة
ومن بين ما يقوله ربنا في كتابه العزيز ..
" ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ..... " الآية 145 سورة البقرة
" ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات " الآية 148 سورة البقرة
" ..... ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما ءاتكم ...... " الآية 48 من سورة المائدة
" ...... كذلك زينا كل أمة عملهم ثم إلي ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون " سورة المائدة الآية 108
" قل كل يعمل علي شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدي سبيلاً " سورة الإسراء الآية 84
" لكم دينكم ولي دين " سورة الكافرون الآية 6
الآخر في حياتنا ..
كل ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة ، آيات موجهه لرسولنا الكريم ولعموم المسلمين والمؤمنين في زمانه صلي الله عليه وسلم ومن بعده .. كلها تتحدث بإستفاضة عن الآخر المختلف المتعدد من حيث العقيدة والموقف من التوحيد .. كلها تُرجع الأمر كله لله في الدنيا والآخرة .. الآخر موجود وله وجهته .. الآخر موجود وقد زُين له عمله فرآه حسناً .. الآخر يعمل ما يتفق وشاكلته القائمة علي مقومات الإرادة وحرية الإختيار ..
الآخر موجود ، وقد تعامل معه الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة والمدينة .. تعامل معه الرسول والمؤمنون برسالته أقلية ، وتعامل معه والمؤمنون بها أكثرية ذات غلبة .. وهنا تكمن القاعدة الذهبية التى أرسي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ركائزها فينا :
" الآخر موجود وهو مختلف ومتعدد ومن الضروري التعامل معه لدفع الحياة ولتحريك عجلة التنمية ولتبادل الخبرات" ..
هذه القاعدة الذهبية القائمة علي الإعتراف بالآخر وبأن هناك تعددية فكرية وعقائدية وسياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية علي مستوي البشرية جميعاً ، تفتح كل الأبواب للتفاهم معه – الشخص و الأمة – حول السلام والأمن و ما يصون الحقوق والواجبات وما يدفع الاذي والبلاء .. وما يحض علي التنسيق معه لتقوية مسيرة الإنسانية نحو الإزدهار والتطور .. وما يمهد سبل التعاون من أجل التنافس السلمي بين المجتمعات البشرية مهما كان ما بينها من إختلافات وتعارض في وجهات النظر سواء كانت ايمانية او سياسية او اقتصادية .. الخ ..
كيف يوجهنا القرآن الكريم للتعامل مع الآخر ؟؟ ..
القرآن الكريم لا يُقر أن يؤدي الإختلاف إلي القهر والعدوان والإعتداء والتدمير وإضعاف البشرية وتعطيل طاقتها الإبداعية ..
ينصحنا رب العزة " وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " سورة الانفال الآية 48 ..
التنازع حول الحقائق الدنيوة والأمور المادية يُضعف القوة ويقوض الصف الواحد ويقضي علي التواصل الإنساني ويُوقف خدمة البشرية ، لذلك يأمرنا ربنا أن نصبر علي الخلاف ، أي أن نعمل علي ألا يصل بنا – أي خلاف - إلي حد التنابذ ولا أن يقودنا عمياناً إلي التناحر فيما بيننا كأخوة مسلمون أو علي مستونا الإنساني كبشر مختلفون في الفكر والعقيدة واللون واللسان ..
ولن يتحقق لنا الأخذ بهذه النصيحة والإلتزام بهذا الأمر ، إلا إذا إتبعنا المنهج القرآني الذي وضعه لنا ربنا للتعامل مع الآخر الشخص أو الأمة .. لأنه منهج يقوم علي توظيف الإختلاف بين المجتمعات العمرانية لخير البشرية ويحقق لها ما تحتاج إليه من سلام وتقدم وتنافس سلمي حول الأفكار الإنسانية التي يتحقق من ورائها النفع العام لكافة مخلوقات الله علي الأرض ، وحول تسخير مظاهر طبيعية حتى تستفيد منها الإنسانية - ونحن جزء منها - لمواصلة عمارتها لهذا الكوكب الذي نعيش عليه معاً ..
من هنا نقول ..
أن المنهج القرآني في التعامل مع الآخر ، يقوم علي ..
الحوار أولاً وقبل كل شيء ..
القرآن الكريم يحفل العديد من الحوارات التي دارت بين الله سبحانه وتعالي ومبعوثيه إلي خلقه وبين ملائكته ، بل وبينه جل وعل وأبليس ، وبين البعض من رسله والملائكة وبين الأنبياء وأممهم .. الخ ..
جانب كبير من الحوار الذي ورد في القرآن الكريم عرض لنا بكل أمانة وموضوعية ما دار بين الرسول عليه الصلاة والسلام والمشركين والمنافقين بنفس كلماته وألفاظه ومسمياته حتى ما جري علي لسانهم من اتهامات أو اعتراضات غير عملية وتسميات غير مستحبة ، كل ذلك ترسيخا لكلمة سواء أكتملت بعد ذلك بسنوات عندما فتح الله مكة لرسوله ودخل الناس في دين الله افواجا ..
الحوار هو الأداة الوحيدة بين لغات التخاطب البشرية التى ينتج عنها مواقف متقاربة ورؤي متجانسة وخطوات مستقبلية مُدعمه بالعلم والمعرفة بعيداً عن التعصب والعنصرية والإزدراء ..
ألم يقل الرسول صلي الله عليه وسلم للمتحاورين معه " ... وأنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين " الآية 24 من سورة سبأ ، وكان ذلك حواراً حول المعتقد ، ثم اردفه بقول موجز وقاطع " قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعلمون ، قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم " الآيتان 25 و 26 من نفس السورة ..
لم يسبهم ، ولا كان من طبعه عليه السلام أن يزدريهم ، إتباعا لقول رب العرش " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل امة عملها ثم إلي ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون " الآية 108 من سورة الانعام .. السب والشتيمة والتهميش والتعالي والتكبر ليست من الحوار إذا أن ندشن مرحلة جديدة متطورة من الحضارة الأسلامية في ثوبها الجديد ، لأنها تقود إلي ما لا تحمد عقابه من صراعات و إلي ما لا يندرج ضمن متطلبات السلام والإستقرا والبناء والإعمار في كافة أنحاء الأرض ..
ليس المقصود من الحوار ان تكون غايته الاتفاق حول رؤية واحدة أو التوصل إلي تطابق في الرأي ، لأنه أمر ليس من طبائع البشر الفطرية التى تسعي إليه ضمن أول مبادرة .. لكن الإتفاق الجزئي علي قدر بساطته ومحدوديته ، هو الذي يرسم الطريق نحو مزيد من إكتشاف القواسم المشتركة وينمي الحاجة لحجم أكبر من التفاهمات التى تجمع ولا تفرق والتي من شانها أن توسع من مساحات التفاهم وتنقلها من البساطة والمحدودية إلي آفاق التنوع والتعددية ..
ويقوم ثانياً علي تحقيق السلام والوئام والإستقرار لكافة خلق الله ..
دعوة القرآن للسلام والوئام بين المجتمعات البشرية ، أمر ظاهر وواضح وجلي .. ودعوته لإستقرار أركان الحياة لأعمار الأرض ، مسالة لا خلاف عليها .. ونَهيه عن إستخدام العنف إلا للرد علي عدوان ، أمر متفق عليه ..
وأمر الآية 208 من سورة البقرة لنا لا يحتاج لتفصيل " يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان " .. وندرك منه أن كلنا مطالبون بإقرار السلام والأمن فيما بيننا ، ومطالبون أن نعمل علي إقراره للبشرية جميعاً .. ولكي يتحقق السلام علي كلا الجبهتين الداخلية ( فيما بين المسلمين كافة ) والخارجية ( بينهم وبين الأمم الأخري ) لابد من الإعتراف بهؤلاء وهؤلاء .. ولابد من إحترامهم جميعاً والتواصل معهم بلا إقصاء وفق المنهج الذي فرضه الله علي رسوله الكريم " .... وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " الآية 125 سورة النحل..
السلام الذي يدعو إلي الأمن ويؤسس للإستقرار ، لا يقوم علي العنف ولا يُرسخ لإزدراء الآخر ورفض الأعتراف به وإنكار وجوده ، ولكنه يقوم علي التفاهم معه بالمنطق والحجة وعلي تبادل المعرفة معه وتعزيز المشترك بيننا وبينه سواء كان هذا الآخر شخص أو أمة .. لذلك يأمرنا رب العرش الكريم " ..... فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً " الآية 90 سورة النساء ، الإعتزال والإقبال علي السلام شرطان موجبان لتغيير نمط التعامل مع الآخر الذي كان في حالة حرب معنا ..
ماذا نحن فاعلون إذا ما توافرت هذه الإشتراطات ؟؟ ونعني بها الإعتزال ( سواء كان شخص او أمة ) والمبادرة إلي تحفيز عوامل السلم والأمان ( سواء كان شخص او أمة ) ، علينا أن نلتزم بأمر ربنا ..
وفي هذه الحالة يكون علينا ألا نحاربهم أو نعاديهم أو نسفه من أقوالهم أو نزدري أفكارهم أو معتقداتهم ، لكونهم مختلقون عنا في اللون أو اللسان أو المعتقد أو الفكر أو القدرات ..
ويفرض علينا هذين الأمرين ، المشاركة في صنع السلام وتفضيل الحوار ، ان نكونًثالثاً منصفين في رؤيتنا للآخر ..
الإنصاف في الرؤية وإلتزام العدل في تقييم الآخر الشخص أو الأمة ، نبع صافي من ينابيع القرآن الكريم أمرنا الله بأن يكون محور مشاركتنا في إعمار الدنيا بالاتفاق والتواصل مع الآخرين .. " إن الله يأمر بالعدل والإحسان ..... " الآية 90 سورة النحل ..
وإذا رأي البعض منا أن أمر العدل والإحسان كما أوردته الآية الكريمة ينصرف إلي أبناء العقيدة الواحدة والمذهب الواحد أو حتى الفكر السياسي الواحد ، فما رأيهم في عظمة الآية التالية التي تبين ان القرآن الكريم لا يقتصر في حديثه عن الآخر علي الموضوعية والإنصاف فقط ، بل يأمر بالعدل والتسامح معه ويزيد علي ذلك بتفضيل العفو عن الإساءة ويقضي بترسيخ معاملتهم بالمثل !! كما جاء في الآية 85 من سورة هود " ويقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " ..
وما هي وجهة نظرهم في الآية التي تنهي ، المصديقين بكلام القرأن العظيم ، عن ظلم الآخر وعن التقليل من شأنه وإنكار حقوقه في المشاركة الإنسانية الفعالة لخدمة البشرية " يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم علي ألا تعدلوا ، إعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " الآية 8 سورة المائدة ..
فالآخرون " ليسوا سواء " ولا يصح أن ينسحب عليهم تقييم واحد وحكم واحد ..
والتعامل معهم يتطلب بذل الجهد في فهمهم ، والتعرف بعمق علي ما يعتقدون فيه ويؤمنون به ، ليس لأعتناقه ولكن لسبر أغواره ، وان يكون المعروف هو مبدأ التقارب فيما بيننا ..
لابد أن نكون حريصين علي أن نرسخ لمستويات تعاملنا مع الآخر وفق متطلبات العفو والأمر بالعروف ، بالتوزي مع الإعراض عن الجاهلين ..
وإذا ما تعقدت الأمور بيننا ولم تتحقق متطلبات العفو والصفح ، فعلينا ان نتعامل معهم بالمثل .. ويا ليتنا نلجأ للصبر عليهم " ... ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " الآية 126 سورة النحل ..
لأن الصبر عليهم يُبعد أي بادرة للتصادم معهم ويقلل إلي حد كبير مبررات تعميق الاختلاف بيننا وبينهم ، ويؤدي بهم من ناحية أخري إلي إعادة النظر في أقوالهم وأفعالهم ، ومن ثم تصبح عودتهم إلي الطريق القويم أقرب للتحقق ، وهنا يأمرنا رب العزة بإتباع قاعدة قرأنية جوهرية ، تقول " فما إستقاموا لكم فأستقيموا لهم إن الله لا يحب المعتدين " ..
أما إذا تعمق الخلاف وتصاعد التصادم وتحول إلي عدوان سافر ، فعلينا فورا ان نعمل بما أمرنا به القرآن ، أي نقوم برد الإعتداء فوراً بلا تباطئ بعد أن نستعد له كما أمرنا الله " فمن إعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما إعتدي عليكم " ..
أما رابع هذه الأركان فهو التسامح ..
وأقصد بالتسامح هنا الجانب المشرق في آيات القرأن الحكيم التى تعكس رؤية متكاملة لواقع البشر كما خلقهم الله ، رؤية تفرض علي المسلم ان يعتز بدينه وبخُلقه وأن تكون له ثقة عاليه بنفسه وبالموقف العقائدي الذي يعتنقه وبجماعته التى ينتمي إليها ، كما تمليه عليه الآية 105 سورة المائدة " يأيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلي الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون " ..
ذلك لأن ترك الأمر لله هو إعتراف بأنه سبحانه هو المرجع وهو الحكم بين خلقه جميعاً ، حتى فيما يتعلق بالعقيدة " فإن إسلموا فقد إهتدوا ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ " .. الرسول مكلف من ربه بأن يبلغ الرسالة ، أما مستقبل الإهداء بها أو الإعراض عنها ، فالله من قبل ومن بعد في كلا الحالتين ، بنص قرآني قاطع " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ..
ففي نهاية المطاف إلي الله مرجعنا جميعا يوم القيامة ، فيحكم بيننا فيما كنا فيه مختلفين ، هكذا علمتنا الآية 55 من صورة آل عمران " ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم في ما كنتم فيه تختلفون " ..
الخاتمة
هذا المنهج القرآني الذي يرسم لنا خريطة تفصيلية للتعامل مع الآخر المتعدد سواء كان شخص أو أمة ، ينبع من كون القرأن الذي نزل علي رسولنا كتاب حق " لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه " ..
هذا الكتاب الحق يُحذر المؤمنون به من التمادي في نبذ الآخر وإزدرائه بحجة أنهم يحملون وحدهم لواء العلم و المعرفة التي حباهم الله بها دون غيرهم ، لأنه ليس بعد هذا الإعتقاد القائم علي غير أساس ، ليس بعده إلا الضلال !! ومن منا يرضي لنفسه ان يضل بعد أن هداه الله ؟؟ ..
الآخر الذي أفسح القرآن الكريم الكثير من أوامره نواهيه ، وعرفنا علي الكثير من حوارته ، تعلمنا آياته كيف نتعامل نحن البشر معه بكل موضوعية ، وترشدنا لكيفية التعايش معه والحرص علي التواصل به والتلاقي حول ما يجمعنا معه علي كلمة سواء ، وتوصينا بالإستعداد دائماً للتسامح معه ..
وبعد قدوة القرآن الكريم لنا في تجارب إسلافنا العظام مَثل ونموذج ، فقد عرفوا الإختلافات فيما بينهم ، وأدركوا التنوع بينهم وبين جيرانهم والمنافسون لهم .. فعمدوا إلي الحوار والسعي بدأب لأقرار السلام والأمن وسعوا لنشر التسامح لأنارة الطريق الصحيح امام البشرية جميعاً، ووضعوا القواعد للتعامل مع الآخر بأسلوب سلمي وفر للحركة الإسلامية في كثير من الأحيان عوامل البعد عن الإقتتال والتردي في الهاوية ..
وعلي الله قصد السبيل.