دور الجامعات في التقريب

دور الجامعات في التقريب

  

دور الجامعات في التقريب

 

                                                                           الاستاذ الدكتور محمد عطية السراج

                                                                     عميد كلية الهندسة الخوارزمي / جامعة بغداد

                                                                      رئيس تجمع التدريسيين الجامعيين في العراق

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

قال سبحانه في محكم كتابه الكريم: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ))[1]؛ وجاء في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام): "يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، يُتَّبَعُ فِيهِمْ قَوْمٌ مُرَاؤُونَ، يَتَقَرَّؤُونَ، ويَتَنَسَّكُونَ، حُدَثَاءُ، سُفَهَاءُ، لَا يُوجِبُونَ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، ولَا نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، إِلَّا إِذَا أَمِنُوا الضَّرَرَ، يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرُّخَصَ، والْمَعَاذِيرَ، يَتَّبِعُونَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، وفَسَادَ عَمَلِهِمْ، يُقْبِلُونَ عَلَى الصَّلَاةِ، والصِّيَامِ، ومَا لَا يَكْلِمُهُمْ فِي نَفْسٍ، ولَا مَالٍ، ولَوْ أَضَرَّتِ الصَّلَاةُ بِسَائِرِ مَا يَعْمَلُونَ بِأَمْوَالِهِم،ْ وأَبْدَانِهِمْ، لَرَفَضُوهَا كَمَا رَفَضُوا أَسْمَى الْفَرَائِضِ، وأَشْرَفَهَا، إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُالْفَرَائِضُ؛ هُنَالِكَ يَتِمُّ غَضَبُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهِمْ، فَيَعُمُّهُمْ بِعِقَابِ،ه فَيُهْلَكُ الأَبْرَارُ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، والصِّغَارُ فِي دَارِ الْكِبَارِ. إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، ومِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ، فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ، بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وتُعْمَرُ الأَرْضُ، ويُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، ويَسْتَقِيمُ الأَمْرُ، فَأَنْكِرُوا بِقُلُوبِكُمْ، والْفِظُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، وصُكُّوا بِهَا جِبَاهَهُمْ،  ولَا تَخَافُوا فِي اللَّه لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَإِنِ اتَّعَظُوا، وإِلَى الْحَقِّ رَجَعُو،ا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ )؛  هُنَالِكَ  فَجَاهِدُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ، وأَبْغِضُوهُمْ بِقُلُوبِكُمْ، غَيْرَ طَالِبِينَ سُلْطَاناً، ولَا بَاغِينَ مَالاً، ولَا مُرِيدِينَ بِظُلْمٍ ظَفَراً حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّه، ويَمْضُوا عَلَى طَاعَتِه.... وأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ صلوات الله عليه: أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ، أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ، وسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ؛ فَقَالَ عليه السلام:"يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ الأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الأَخْيَارِ؟ فَأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، ولَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي"[2].

 إن الجامعات، والمثقفین، والنخب العلمية تنوء بثقل مسؤولية عظيمة في مسيرة الأمة، هذه المسؤولية تتمثل في أمرين:

أحدهما: توجيه مسيرة الأمة في المسار السليم، لبلوغ أهدافها في تحقيق حياة حرة كريمة في هذه النشأة الدنيوية، تقود إلى حياة أبدية سعيدة في النشأة الأخرى، فالدنيا مزرعة الآخرة، ولا يُنال ما عند الله إلا بالتقوى، والعمل الصالح.

والأمر الآخر: مواجهة الانحرافات التي تقف عائقا في مسيرة الأمة، والسعي لتصحيحها، أو فضحها وتحذير الأمة من شرورها.

إن المجتمع ينتظر من الجامعة تنمية أبنائه على مستويات ثلاثة:

الأول: تربية الجيل تربية سليمة بناءة، وغرس قيم الفضيلة والصلاح في نفسه.

الثاني: تعليمه تعليما عاليا في ميادين التخصص التي يعيش المجتمع حاجة شديدة لها، ولا سيما مع تنامي وتيرة التطور في كل ميادين الحياة.

الثالث: تنمية روح البحث العلمي، والانتقال بالطالب من مستوى التلقي إلى مستوى الإبداع والتجديد.

ولا يمكن للجامعة أن تقوم بهذا الدور الخطير من دون تعاون أبنائها كافة من إداريين وتدريسيين وطلبة.

واليوم، إذ تمر الأمة الإسلامية بهذا المقطع الحرج من تاريخها، فتواجه مدًا تكفيريا عارما، عاصفا، يهدد كيانها بالتصدع والاضمحلال، فإن دور الجامعات، والمثقفین، والنخبينشعب على ثلاثة محاور:

المحور الأول: مواجهة الفكر التكفيري الممزق لجسد الأمة، وفضح جوانب الخلل، والضعف فيه؛ إذ إن أبرز ما يتسم به التكفيريون في فهمهم للإسلام هو:

أولا: اجتزاء نصوص شرعية، قرآنية وحديثية، وتأسيس منظومة فكرية كاملة على أساس هذا الفهم المجتزأ للنصوص؛ فهم، مثلا، يتناولون آية من آيات الجهاد في القرآن الكريم، ويدعون كل النصوص القرآنية التي تدعو إلى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ومجادلة المخالف بالتي هي أحسن، وهكذا في شتى المسائل الأخرى.

ثانيا: إلغاء الرأي الآخر الذي يخالف ما به يؤمنون، خلافا لما هو شائع في الأوساط العلمية أن الأحكام الشرعية المستنبطة بالاجتهاد ظنية قد استنفد فيها العالم وسعه في الوصول إلى الحكم الشرعي؛ من دون أن يعني ذلك سد باب الاجتهاد على العلماء الآخرين، أو مصادرة حقهم في التفكير.

ثالثا: عدم الاكتفاء بتخطئة المخالف، بل تكفيره، والحكم عليه بالهلاك النهائي في الدنيا والآخرة.

المحور الثاني: نشر الفكر الإسلامي الأصيل؛ الذي هبط به جبرائيل (عليه السلام) من السماء، الفكر الذي على أساسه قام بناء الأمة، وشيد مجدها العظيم، ذلك الفكر الذي نستقيه من الثقلين: كتاب الله، والعترة الهادية المهدية صلوات الله عليهم.

مع ملاحظة أن هذين المحورين لا ينفصلان تماما عن بعضهما، فلا بد من معرفة الحق وأهله من جانب، والباطل وأهله من جانب آخر؛ ولا بد من الكفر بالطاغوت بعد تشخيصه، ثم إقامة صرح الهدى على أساس الإيمان بالله، ولعل هذه الحقيقة هي سر تقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله في قوله تعالى: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))[3].

المحور الثالث:بناء بيئة جامعية لا تدع مجالا للتطرف ليسري في عقول الطلبة، من خلال الآتي:

أولا: بناء علاقات حوارية منفتحة بين إدارات الجامعات والطلبة، ومنحهم حق التعبير عما يريدون، وتأسيس علاقات الاحترام المتبادل بين الطالب والإدارة.

ثانيا: بناء علاقات مودة وتفاهم بين الطلبة والتدريسيين تقوم على احترام الآخر وحقه في التعبير عما في نفسه.

ثالثا: تشجيع تأسيس الروابط الجامعية التي تقرب بين فئات المجتمع المتعددة، وتزيل جدر الانعزال بين أبناء المجتمع الواحد.

إننا نواجه عدوا من طراز خاص، توافرت فيه كل عناصر الجهل والتطرف من جانب، وتلقى كل أشكال الدعم الخارجي من جانب آخر؛ فأصبح لزاما علينا وضع ستراتيجيات مدروسة مقننة لمواجهته، ولا بد لهذه الستراتيجيات من آليات نذكر منها:

1ـ تأسيس منظمات مجتمع مدني في الجامعات، ومؤسسات النخب، والمؤسسات الثقافية، بنيتها من الإسلاميين، والوطنيين، على اختلاف توجهاتهم الفكرية، والعمل على أساس القاسم المشترك بينهم، وهو محاربة التكفير والتمزيق والتطرف.

2ـ تقوم هذه المنظمات بنشاطات مشتركة في مختلف أمصار العالم الإسلامي حاملة رسالة التآخي، والتعاون، بين المسلمين، فهم مؤمنون بلا حدود، ودعاة إلى الخير بلا حدود.

3ـ استغلال مواقع التواصل الاجتماعي، والفضائيات، على اختلاف توجهاتها، لتحقيق هذا الهدف، آخذين بنظر الاعتبار دور الإعلام المرئي، والمسموع، الذي طغى على دور المؤلفات المكتوبة، مع عدم إهمال الكتب، والنشرات.

4ـ قيام الجامعات، ومؤسسات النخب، والمؤسسات الثقافية، بإقامة مؤتمرات للتقريب بين المدارس الإسلامية المتعددة، تخرج بتوصيات عملية يُشرع بتنفيذها حالا.

5ـ إبراز ما تمخض عنه الفكر التكفيري من جرائم، وويلات على الأمة، بكل مدارسها المتعددة، إذ تجاوز تأثيره أبناء المدارس المتعددة إلى أبناء المدرسة الواحدة؛ وتوثيق ذلك بالصور والأرقام؛ لتعلم الأمة أن التكفير خطر يهدد الجميع.

6ـ نشر المواقف المشرقة في حياة الأمة، حين وقف المسلمون على اختلاف مدارسهم صفا واحدا في مواجهة الخطر المحدق بالأمة، وبالخصوص في مرحلة صدر الإسلام، وإبراز المواقف التوحيدية.

7ـ الفكرة الأهم التي ينبغي التركيز فيها، هي أن الاختلاف أمر مألوف بين البشر، فينبغي التفريق بينه وبين ضرورة التعايش السلمي بينهم، إن الاختلاف واقع ليس بين أبناء المدارس الإسلامية المتعددة فقط، وإنما بين أبناء المدرسة الواحدة.

أما فيما يتعلق بالمناهج الجامعية، فيتم العمل في هذا الميدان على المحاور الآتية:

1ـ التركيز في النصوص القرآنية والحديثية الحاثة على الوحدة والتآلف، الناهية عن التمزق والتفرق.

2ـ إشاعة أجواء حرية التعبير والمناقشة البناءة لكل فكرة مهما بدت غريبة.

3ـ تطهير المناهج الجامعية من كل ألوان التعصب.

4ـ دحض المرتكزات الفكرية للتكفير، وتعرية ضلالهم.

5ـ التركيز في ما جرّته الخلافات الداخلية بين أبناء الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل من أضرار على الأمة؛ فلقد سالت أنهار من الدماء العزيزة في صراعات مذهبية داخلية بين أقطاب الأمة، بما يفوق كثيرا تلك التضحيات التي قدمها الإسلام في مواجهة الشرك، والكفر عامة في عصر الرسالة.

6ـ التركيز في تبيان حجم المؤامرات الخارجية التي تستهدف كيان الأمة.

ومما نقترحه في هذا الميدان تدريس مادة علمية في كل الجامعات على اختلاف تخصصاتها لفصل دراسي واحد تشيع الفكر الإسلامي السمح من جانب، وتفضح الفكر التكفيري من جانب آخر.

قيام الأساتذة المتخصصين بالعلوم الإسلامية بإلقاء محاضرات، وعقد ندوات، تشيع ثقافة التآلف والتسامح، وتعري ثقافة التكفير.

لقد اتحد أعداؤنا على اختلاف مشاربهم، ومصالحهم، وتوجهاتهم الفكرية، للنيل من حاضرنا، ومستقبلنا، بل حتى ماضينا المشرق من خلال تشويهه سعيا لتنفير الجيل الحاضر منه، ولم يألوا جهدا على كل الأصعدة لتحقيق ذلك، فينبغي علينا أن نواجههم بكل ما نملك من قدرات على نحو يبرز فيه المجموع المتفاعل المنسجم من الأمة.

إننا اليوم في تحد مصيري يقرر أن نكون أو لا نكون، فلسنا مهددون في كياناتنا السياسية والاقتصادية فقط، وإنما مهددون في وجودنا الاجتماعي والعقائدي، بوصفنا أمة تقوم على أساس عقيدة واحدة هي الإسلام، ولا بد من الدفاع عن العمود الفقري لهذا الكيان، وهو العقيدة؛ ولا بد من عدم الاستهانة بكا تلويث لعقول أبنائنا تحت أي اسم كان.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



[1]- آل عمران: 104 ـ 105.

[2]- الكافي :5/56، كتاب: الجهاد، باب: الأمر بالمعروف والتهي عن المنكر, ح: 1

[3]البقرة/256