خطورة التكفير على الأمن المجتمعي

خطورة التكفير على الأمن المجتمعي

  

 خطورة التكفير على الأمن المجتمعي

 

                                                                             الدكتور عبد السلام أحمد راجح

                                                                          نائب رئيس مجمع الشيخ أحمد كفتارو

                                                                   للشئون العلمية والبحث العلمي والدراسات العليا

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن مما لاشك فيه أن طبائع البشر تختلف باختلاف مداركهم وعقولهم, وتباين تحصيلهم ومعارفهم وكذا بيئاتهم وخلفياتهم الثقافية, ويتبع ذلك اختلاف في إدراك الأشياء وفهمها وتحليلها وردود الأفعال حيالها.

وهذا الاختلاف مثّل على طول الزمان سنة ماضية في الخلق تأسيساً على ما يفهم من قوله تعالى:           فكان هذا الاختلاف والتباين وسيلة لإعمار هذا الكون.

ولفهم هذه الآية في ظل عدالة الإله سبحانه وتعالى لابد من قول ما يلي :لا شك أن ميزان التفاضل يقرره كتاب الله تعالى            فالكرامة والمكانة هي للتقي.

إذن كيف يمكن فهم فوقية الدرجات في قوله:       لعل الإشارة ههنا إلى ذات الاختلاف الذي ألمحت إليه قبل قليل وهو اختلاف ثرّ مبارك فياض يشعر بتكامل الخلق في منظومتهم البشرية حيث أقام الله العبادة في مقامات مختلفة جعلت كل صاحب اختصاص هو فوق أخيه, مايفرض صورة التكامل بين الأفراد في صورة عادلة منصفة.

فأنا كطالب علم يقصدني المستفتي ليجد حل معضلته عندي، فأنا في إطار تخصصي أتفوق عليه درجة, وإذا ما احتجت السباك لإصلاح عطل في مواسير الماء فهو فوقي درجة في تخصصه وقل ذلك في الميكانيكي والدهان والبلاط والطبيب والمهندس. 

ومن هنا نفهم أن التفاوت لم يكن ضمن وجهة النظر الإسلامية الإيمانية تفاوتاً طبقياً، وإنما هو وظائف أقام الله بها العباد لأجل التكامل، ومن هنا يمكن الوقوف على سمو شرعة الاختلاف بهذا المعنى لنخرج منها صفة الخلاف المذموم ولا مانع ههنا أن أورد الفرق بين هذين الضدين.

الاختلاف في اللغة هو ضد الاتفاق، فلربما اختلف شخصان على أمر معين هذا يحبه وهذا لا يحبه.

يقول أبو البقاء الكفوي صاحب الكليات: [الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفاً والمقصود واحداً، والخلاف أن يكون كلاهما مختلفاً، ثم أشار: أن الاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة]، وختم بقوله: الاختلاف ما يستند إلى دليل، والخلاف ما لا يستند إلى دليل.

ومن هنا فالاختلاف إنما هو تنوع في الآراء وثراء في المعارف المتعددة التي تخدم أغراضاً سامية، فاختلاف المذاهب مثلاً هو محل ثراء للأحكام الشرعية بحيث يُهيئ للمكلفين الأرضية الفقهية التي تخدم مسائلهم وفتاواهم, كمن يدخل الصيدلية ليجد شركات متعددة تصنّع الدواء ذاته ولكن بأسماء متعددة و كلها تحمل التركيبة الدوائية ذاتها فلا يضير المريض أن يأخذ دواء الشركة الفلانية دون غيرها مادام يؤمن أنها جميعها تمهد له السبيل إلى الشفاء والعلاج بإذن الله.

وكذا المدارس الفقهية التي مثلت ذاك التراث الفقهي الإنساني الخالد هي كلها في خدمة المكلف ليجد بغيته في طيات مصنفاتها، فضلاً عن أن الاختلاف كان دائماً في إطار الفروع والجزئيات باعتبار اتفاق الجميع على الثوابت والقواسم المشتركة.

إن الاختلاف في الفروع من لوازم البشر, ولطالما كان هناك فكر وتفكير وتعقل واجتهاد فلابد من الاختلاف حيث لا تمام للحياة بدون أدوات الحياة وهي العقل ومعطياته والفكر وأسبابه.

إن أسباب الاختلاف بين المذاهب إنما تعود لاعتبارات منطقية يقتضيها واقع الفقه وطواعيته لخدمة المكلفين، ولك أن تلمح أهم الأسباب في:

1-      الرحمة بالعباد.

2-      توسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص.

3-      تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصراً.

كما أن الاختلاف حتمي في المذاهب ولا يمكن أن يكون إلا كذلك، وذلك لأسباب:

أ‌-        أن النصوص الأصلية كثيراً ما تحتمل أكثر من معنى.

ب‌-   النص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة لأن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة، لذلك كان لا بد من اللجوء إلى القياس والنظر في علل الأحكام وغرض الشارع والمقاصد العامة للشريعة وتحكيمها في الواقع والنوازل المستمرة.

وفي كل هذا تختلف أفهام العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد وكل منهم يقصد الحق ويبحث عنه (من أصاب فله أجران ...) هذا هو الاختلاف المذهبي، والخطأ أن يصور على أنه اختلاف عقائدي.

إن من أخطر الأمراض التي دمرت وحدة المسلمين هو نقل الاختلاف الاجتهادي إلى أصول العقيدة، فلقد بدأ الفقه حواراً والخلاف الاجتهادي رأياً وعلماً، ثم انتهى إلى أن يكون نصاً واختلافا ونُقل إلى العقيدة، وأن من وافق على اجتهاد جماعة كان من الفئة الناجية، ومن خالف ذلك كان من الفئة الهالكة أو الباغية أو الفاسقة والمبتدعة، ونتيجة للصراعات السياسية والمذهبية –كما أسلفنا- تضخمت العقيدة، وتوسعت مسائلها، وتفرق المنادون بها طوائف متنازعة يكفر بعضهم بعضاً، ويبدّع بعضهم بعضاً، ويستحل بعضهم دماء بعض، وخرجت العقيدة من وظيفتها التي كان ينبغي أن تؤديها من عبادة الله وحده ومعرفة عظمته ومحبته وطاعته ... إلى عمل فكري محض يورث القلوب قسوة وشكوكاً، والأمة فرقة وأحقاداً، حتى أصبحت (العقيدة) في الأزمنة المتأخرة لا تعني عند الكثير من الناس إلا تتبع بعض المسلمين كالسلفيين أو الأشاعرة ما يرونه من المخالفات الفكرية عند غيرهم من المسلمين مع تناسي الأخطاء الكبيرة لأفكارهم، ثم إتباع ذلك التتبع بالتكفير أو التبديع والتضليل والتفسيق مع الاستعداء السياسي والاجتماعي.

لقد كان النبي r يعلم الناس بأبسط صورة وبلحظات يسيرة، ويحكم على الأعرابي الجاهل عندما يستجيب لرسول الله بالإيمان والإسلام وبالفقه والمعرفة، ويعود ذلك الأعرابي داعياً إلى الله، مبلغاً دعوة الإسلام، من غير تعقيد ومن غير أن يقرأ كتب العقائد...

إن كثيراً من كتب العقائد ملئت بالتكفير والتبديع والتفسيق للمخالفين، وخاصة التي كانت في القرن الثالث والرابع، واعتبرت كل فرقة وجماعة سلفاً صالحاً لها، فمن وافق مذهبهم في الخصومات فهو من السلف الصالح وإن كان كاذباً فاجراً، ومن خالف مذهبهم فهو ليس من السلف الصالح وإن كان من أعبد الناس وأصدقهم.

ولعل ناظراً متأملاً في عصر النبي r وهو الصدر الأول الأبهى والأنقى والأفضل عند المسلمين بدليل تنصيصه r على خيريته (خير القرون قرني), يلاحظ أنه لم يخل من صور الاختلاف, ولما كان الأمر يصل إلى رتبة الخلاف كان يبادر رسول الله r لإنكاره والتشنيع به والتنويه بخطره، ولعل من هذا ما كان في غزوة المريسيع من خلاف بين المهاجرين والأنصار وسمى رسول الله r ما آلت إليه الأمور (دعوى جاهلية) وأكد على ضرورة تركها فقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة) وهذا بيت القصيد فيما بين يدي من عنوان.

بما أنه تقرر في بداية الدراسة أن أسباب الخلاف قائمة كطبيعة البشر و طبيعة الحياة و طبيعة اللغة والتكليف, فإن هذا يستتبع أن من أراد أن يزيل الخلاف بالكلية فإنما يكلف الناس والحياة والشرائع ضد طبائعها, وأن الخلاف العلمي لا خطر فيه إذا اقترن بالتسامح وسعة الأفق واحترام وجهات النظر المتباينة، تقدير أصحابها تقديراً لايعني التسليم بها وإنما يعني حسن الاستماع لها وبذل الوسع في مناقشتها مناقشة بناءة تعتمد لغة الحوار المتحررة من التعصب للرأي أو المذهب، والترفع عن الهوى وحظ النفس، ولعل هذا الذي ذكر يحملنا على البحث في حكم التكفير.

v      لا بد من القول بأن نسبة الكفر إلى أهله لا شيء فيه كما في قوله تعالى:     باعتبارٍ وصفي يصف الأشخاص بما هم فيه.

أما نسبة المسلم إلى الكفر فإنه محرم، وذلك إذا كان المسلم باقياً على إسلامه لقوله تعالى:                                        ، ولقوله : (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا و أكل ذبيحتنا فهو المسلم,له مالنا وعليه ما علينا) وقوله : (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر قد باء بها أحدهما, فإن كان كما قال وإلا رجعت إليه).

ولقد نهى رسول الله عن قتل الفساق بقوله: (إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان) حتى من ظهر منهم الكفر البواح فإن أمر معاقبتهم و إقامو الحد عليهم إنما يناط بولي الأمر خشية ان يقتل الناس بعضهم البعض بحجة إقامة شريعة الله, وحاشا لشريعة الله أن تأمر بالقتل إلا ضمن ضوابط حددتها معالم هذه الشريعة تحديداً يحمي الدماء و يصونها ويحقق من خلال الحدود الشرعية أمن المجتمع و سلامة أفراده.

يقول الإمام ابن الوزير في هذا الصدد: من مرجحات ترك التكفير أمر رسول الله r بذلك في هذه المسألة بالنصوصية والخصوصية وهذا من أوضح المرجحات وفي ذلك أحاديث منها حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: (ثلاث من أصل الإيمان الكف عن من قال لا إله إلا الله , لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل ...) أبو داود في كتاب الجهاد.

 

آثار التكفير على المجتمع:

1-      الاستحلال (حق العدوان على أموال الآخرين الخوارج) على الرغم من اتفاق أئمة الدين مع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على قتالهم إلا أن علياً وسعداً وغيرهما من الصحابة لم يكفروهم بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم , ولم يقاتلهم علي كرم الله وجهه إلا بعد سفكهم للدماء وإغارتهم على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار, ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم، فالأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن من الله ورسوله لقول نبينا محمد r في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) وللحديث (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

2-      تفريق أبناء المجتمع وتجزئة البلاد وتهديم الأفكار والعقائد الصافية النقية في قلوب الناس بسبب ما يترافق من حالات تكفيرية تزعزع الإيمان في نفوس أهل الإيمان , ولأضرب لكم مثلاً يبيّن ذلك من خلال ما كانت تعتقده جماعة التكفير والهجرة التي ظهرت في منتصف القرن الماضي.

أنهم يكفّرون كل من ارتكب معصية وأصرّ عليها ولم يتب منها، وهم يكفّرون الحكام والمحكومين لإنهم رضوا بهم وتابعوهم، ويكفرون علماء الدين لأنهم لم يكفروا الحكام والمحكومين، ويكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله ولم يدخل فيما دخلوا فيه.

ويكفرون كل من قبل فكرهم ولكن لم يدخل في جماعتهم و يبايع إمامهم.

ومن بايع إمامهم ودخل في جماعتهم ثم بدا له لسبب أو آخر أن يترك تلك البيعة فهو مرتد حلال الدم.

وكل الجماعات الإسلامية الأخرى إذا بلغتها دعوتهم ولم تَحُلَ نفسها لتبايع إمامهم فهي كافرة.

وكل من أخذ بأقوال الأئمة أو بالإجماع أو القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان ونحو ذلك من المصادر التبعية فهو مشرك كافر.

والعصور الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري كلها عصور كفر وجاهلية، لتقديسها لصنم التقليد المعبود من دون الله حسب زعمهم .

ويتبع هذا الاثر فكرة الوصاية الموهومة من لدن الجهات التكفيرية على أبناء الملة فإذا بهم يدخلون الجنة من شاؤوا و يخرجون منها من شاؤوا تبعا لما يشترطوه عليها وعلى افرادها من إيمان من عدمه.

v      إن شيوع الفكر التكفيري الذي ينادي به التكفيريون ويدللون عليه بأقوالهم وأفعالهم، وتنظيماتهم المسلحة، وأيديولوجيتهم الفكرية المنحرفة، وتأويلاتهم الباطلة، وتفسيراتهم المحرفة للنصوص، حمل على نشوء أجيال تباينت مواقفها من الإسلام ككل:

لقد أثّر ذلك الفكر المنحرف في نشوء جيلٍ نفرَ من الدين وأنكره بالكلية لما غلب على ظنه من أن الذي يفعله التكفيريون إنما هو الإسلام، وقد مثّل هذا الجيل صنفان:

أ‌-        جيل من يافعة الإسلام ممن لم يقف على حقائق الإسلام السامية ولم يتسلح بالمعرفة المنضبطة لتعاليم الدين، فكان من السهل أن يشكل تصوراً مغلوطاً عن الدين وأحكامه وتعاليمه. ولعلنا ندرج في هذا التصنيف حديثي العهد بالإسلام من معتنقيه من الغربيين أو المسلمين الجدد، حيث أحدثت الأفكار التكفيرية السائدة شرخاً بين ما أسلموا لأجله، وبين الواقع المنظور والتطبيق العملي على الأرض خاصة في ظل تطبيل إعلامي لقنوات فتانة لسانها عربي ولونها إسلامي مزيف، وأدواتها مسلمون باعوا أنفسهم للشيطان، تروج لها وتبثها - مع الأسف - أنظمة عربية وإسلامية تسير في فلك أعداء الإسلام وتعمل لصالحها.

لقد ذكر لي مفتي أستراليا السابق الذي التقيته في أحد المؤتمرات أن ظهور التنظيمات المسلحة التي تزامن ظهورها مع ما يسمى بالربيع العربي أدى إلى حركة ارتداد في مسلمي أستراليا وتراجع في عمل الدعاة يحتاج - ربما - إلى خمسين سنة ليعوض ما ضاع من جهود مائة سنة من عمل الدعاة في تلك البلاد.

ب‌-   جيل - طبقة - من المستغربين الذين يتسمون بأسمائنا وينطقون بلساننا ولون بشرتهم كبشرتنا، من مدجني الثقافة ومتربصي الدين وأهله، ومن المراهنين على فشل الإسلام وعدم صلاحيته لتوجيه الناس  نحو عيش يجمع بين أمم الأرض قاطبة باعتباره ديناً عالمياً ومنهجاً سماوياً ونموذجاً إنسانياً. فإذا بهم يجدون في هذا الفكر التكفيري المنحرف بغيتهم للطعن في الإسلام وتعاليمه وأحكامه والتدليل على فشله وقصوره عن إثبات وجوده العالمي وجدواه في إقامة سلام إنساني وعيش مشترك بين أبناء الإنسانية على تنوع مشاربهم واختلاف أطيافهم.

ولطالما استغل أولئك النفر من المستغربين المدجنين واقع المسلمين في التناحر والاختلاف والتنافر على الرغم من انتسابهم لدين واحد، وامتطى أولئك صهوة المذاهب والفرق التي فرقت بين أبناء الملة الواحدة - على كثير ما يجمعهم - ليدللوا على دعواهم ويؤيدوا اتجاههم الطاعن في صلاحية الإسلام وجدواه.

ولا يخفى ما خلفته تلك الأفكار والرؤى التكفيرية المتطرفة المتشددة من ذهول لدى غير المسلمين وهم يرون الذبح والشنق والتقطيع والحرق والسبي من أبناء تلك المدرسة الآثمة ما حمل على أمور:

أ‌-        تشكل انطباعات سلبية عن الدين الإسلامي وتعاليمه الحاملة على تلك الصور غير الإنسانية التي يمارسها منتسبون إلى الإسلام ويرفعون راية التوحيد.

ب‌-   انحسار أثر الدعوة الإسلامية في البلاد غير المسلمة بعد أن شهدت في أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الجاري مداً واضحاً في إقبال الناس على الدين نتيجة جهد الدعاة المخلصين والمؤسسات الدعوية الفاعلة وبروز دور الإعلام الإسلامي في التعريف بحقائق الدين الإسلامي للآخر - ولو على قدر محدود - ما أسهم في بناء تصورات إيجابية عن الإسلام رأينا معها أعلاماً بارزين في شتى المجالات يعلنون إسلامهم فضلاً عن تزايد عدد الداخلين في الإسلام من عامة الناس.

ت‌-   منحت تلك الحركات المنتسبة إلى الإسلام زوراً وبهتاناً الآخر من المتربصين بالإسلام الذريعة للطعن في الإسلام ومبادئه، ولعل ما تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً عن تصريحات مرشح الرئاسة الأمريكية الجمهوري دونالد ترامب عن منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، أو صناعة هويات خاصة بالمسلمين في أمريكا تميزهم عن غيرهم، وإنشاء قاعدة بيانات إلزامية لتعقبهم وتحديد مواقعهم كونهم يمثلون خطراً في كل موقع ينزلون فيه، لعل كل ذلك يوضح الذريعة التي ملّكناها لعدو الإسلام ليجد في تشدد أولئك وتطرفهم ضالته المنشودة.

ث‌-   شيوع صورة نمطية عن كل مسلم يحل في بلاد الغرب على أنه مشروع إرهابي يجب الحذر منه. ما ترك أثراً سلبياً في نفس كل مسلم، دارساً كان أم زائراً أم سائحاً، أم تاجراً، أشعر كل مسلم ذي سحنة إسلامية أو اسم إسلامي بالوصم والإقصاء والتهمة. ما جعل الجهد منصباً على دفع التهم وردّ المفتريات، ما فوّت فرصة انطلاقه في التعريف بدينه والتبشير به. خاصة في ظل عين الترقب والريبة التي ينظر بها الآخر إليه. ولك أن تتصور حجم نجاحات الدعوة الإسلامية في البلاد غير المسلمة لو أن المبادئ الإسلامية الحقيقية قد سبقتنا إلى تلك البقاع.

إن التكفير والغلو والتطرف ينطوي على مخاطر جمة تهدد كيان الأمة بأسرها من الداخل، وإذا كانت حصوننا في الأصل مهددة من خارجها فلك أن تتصور حجم الدمار الذي سيلحق بالأمة الإسلامية وهي المهددة من الخارج حين تغفل عن بناء بيتها الداخلي، والجمع بين أفراد أسرتها الأقربين.

لقد ساهمت المدرسة التكفيرية المتطرفة في التأسيس لجملة آثار سلبية عانت الأمة بأسرها منها ولا تزال وإليك بعضها:

1-      إضعاف وتوهين وحدة الأمة الإسلامية:

من بين العواقب الوخيمة التي ينطوي عليها التكفير إضعاف بنيان الإسلام وذهاب شوكة المسلمين وعزّتهم بما يفضي إلى تفرّقهم وتضادهم.

يعتقد ابن الوزير أنّ أشدّ وأفظع تفرقة هي التفرقة المتأتية عن التكفير غير الشرعي والمغالي. ويقول في هذا الشأن:

[ولا أفحش في التفرق من التوصل إلى التكفير بأدلّة محتملة يمكن معارضتها بمثلها، ويمكن التوصل بها إلى عدم التكفير وإلى جمع الكلمة وإنما قلنا أنّه لا أفحش من ذلك في التفرق المنهى عنه؛ لما فيه من أعظم التعادي والتنافر والتباين]، وقد قال رسول الله r في حق المحدود في الخمر مراراً حيث لعنوه بسبب ذلك ((لا تعينوا الشيطان على أخيكم، أما إنّه يحب الله ورسوله)) [صحيح البخاري].

ولا شك أنّ في التفرق ضعف الإسلام وتقليل أهله وتوهين أمره.

2-      زهق أرواح الأبرياء باسم الدين:

لقد منّ الله سبحانه وتعالى على البشر بنعمة الأمن، وذكّرهم بها حتى يحمدوه عليها ويشكروا فضله في ظلّها، فقد قال عزّ وجلّ:                  ﮥﮦ                                                    [القصص: 57] ، وكذلك يقول عزّ من قائل:                      [قريش: 3-4]

من المعلوم أنّ التكفير هو من العوامل الرئيسية للقتل والنهب بل استحلال ذلك باسم الدين، نُقل عن أبي قلابة قوله: (ما ابتدع رجل بدعة إلّا استحلّ السيف).

كما نعلم أنّ من عواقب البدع الكبرى للغلوّ في التكفير وجوب القتل والنهب وسفك الدماء.

3-      هدر كرامة الأمة الإسلامية:

من بين آفات التكفير المتطرّف الطعن الذي يورده الأعداء في الإسلام والمسلمين عوامهم وخواصهم أيضاً أعني علماءهم، بينما الواجب يحتّم على الجميع صيانة كرامة الإسلام وسمعة المسلمين وعلماء الإسلام. ولا حاجة بنا إلى القول أنّ النموذج الذي يقدّمه الإرهابيون التكفيريون عن الإسلام للمجتمع العالمي من خلال الأعمال التي يرتكبونها دفع بأعداء الإسلام والمسلمين إلى اتّخاذ تلك الأعمال كأدلة لإقناع شعوب العالم بأنّ الإسلام دين يفتقر إلى المقبولية، فهو طبقاً لممارسات بعض أدعياء الإسلام دين القتل والإرهاب والعنف. من هنا، يمكن أن نزعم أنّ الحرب وإراقة الدماء الجارية في الوقت الراهن بين مختلف الجماعات والفصائل في البلدان الإسلامية إنّما تتمّ بإيعاز من الاستكبار الغربي وهدفها الحؤول دون انتشار الإسلام في الغرب وذلك من خلال عرض المشاهد المرعبة والفظيعة لقتل المسلمين بعضهم لبعض، ونسبتها إلى الإسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، والحال أنّ تلك الممارسات ترتكبها قلّة من الأفراد المتحجّرين والمتطرفين المنتحلين صفة الإسلام زوراً وبهتاناً، والإسلام ونبيه وغالبية المسلمين بريؤون منها.

إنّ ممارسات هذه الأقلية المدّعية للإسلام كذباً دفعت بأحد القساوسة الأمريكان واسمه (فالويل) إلى التصريح بأن الإسلام إرهابي في ذاته، وأن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله هو أول إرهابي.

فها هو العالم الإسلامي في العقود الأخيرة يعاني من ظاهرة الغلو الديني وتفشي مظاهر التطرف والتعصب الفكري والإرهاب الجهادي، مما أدى إلى ارتكاب بعض أعمال العنف والإرهاب التي لا تخدم الإسلام بأي حال بل إنها أثمرت الكثير من السلبيات الماحقة والأخطاء الفادحة وأسهمت في تشويه صورة الإسلام والمسلمين عند غير المسلمين وظهور ظاهرة العداء للإسلام وكراهيته، كما ظهر تحامل المؤسسات السياسية والإعلامية الغربية عليه وعلى المسلمين ونعتهم بأقبح الصور وأشنع التهم؛ من التخلف الحضاري إلى العنف إلى الإرهاب، والوصول أخيراً إلى المحاربة العلنية للإسلام تحت مبرر ودعوى التصدي لظاهرة الإرهاب التي غدت اليوم عند بعض الدول الغربية حرباً على الإسلام نفسه ومظاهره وتشريعاته.

4-      تعارض التكفير مع روح الدين ومبادئه:

من المزايا التي تسم الدين الإسلامي وتنسجم مع الفطرة والعقول السليمة، هي أنه إذا عرضت حقيقته على البشر خالصة منزهة من الشوائب العالقة بها فإنّ النفوس سوف تنشرح لحقيقته وتؤمن به ومن مزايا هذا الدين الحنيف أنّه يتواءم مع الظروف الزمانية ويستكنه جميع الخصال الحميدة والأخلاق العالية، ذلك أن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والسماحة واليسر.

إنّ ظاهرة التكفير أعطت فرصة لأعداء الإسلام لشنّ حملة ظالمة من الافتراءات والمزاعم التي أرادت أن تلصق بالإسلام تهم التعصب والإرهاب وعدم التسامح وغير ذلك من الدعاوى التي لا أصل لها في الإسلام ولا سند لها في العلم ولا من الواقع التاريخي. فكان هؤلاء - بقصد منهم أو بغير قصد - عوناً لأعداء هذه الأمة على تحقيق مرادهم في النيل من الإسلام وأهله. ولا شك أن تكفير المسلم وتفسيقه يترتب عليه وسم الدين بالعنف والقسوة وخلوّه من السماحة واللين، في حين أنه من محاسن الإسلام التحذير من التكفير.

كما يترتب على تلك الظاهرة الدخيلة تشويه صورة الإسلام الحسنة مما يستغله أعداء الإسلام أسوأ استغلال واعتبار تلك الفئة الضالة هي صورة الإسلام الحقيقية، الأمر الذي يحدّ من انتشار الإسلام والتضييق على المسلمين ومعاملتهم على أنّهم تكفيريين قتلة يقتل بعضهم بعضاً بالذنب والمعصية.

5-      التعصب والتشدد والتأويل الفاسد المفضي إلى تشويه حقيقة الإسلام:

قال تعالى: (                             ﮣﮤ                           ﮱﯓ          ﯘﯙ                            ﯣﯤ              )  [آل عمران: 7]

من بين الآفات المنبثقة عن الغلو في تكفير الآخرين التحجّر الفكري وتقييد الآراء والأفكار وعدم تقبل الرأي الآخر لا بل إلغائه بشكل تام والذي يستتبع منع الاختلاف الفكري بما يفضي إلى صدام الأفكار، فضلاً عن بروز التأزّم والانفعال في المجتمع نتيجة لسيطرة الفكر التكفيري على فئة خاصة تقوم بتكفير الآخرين، وهي خطوة تسبق انقداح شرارة حرب الآراء والأفكار بين أفراد المجتمع وتبادل الاتهامات فيما بينهم.

وتكمن خطورة الفكر التكفيري في المجتمعات الإسلامية في أن أصحابه يغالون في رمي الآخرين بالكفر والضلال واستباحة دمائهم وأموالهم، ويقدمون على قتل الناس بمجرد الاختلاف معهم في الرأي والعقيدة.

ولا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أنه قد نجم عن شيوع الأفكار المتعصبة والآراء الغالية والمواقف المتشنجة باسم الإسلام في عقول الناشئة من أبناء المسلمين وبعض الفصائل المتطرفة، انحرافات خطيرة، تبدت على شكل أعمال عنف شنيعة داخل بلدان العالم الإسلامي وخارجها، شوهت صورة الإسلام وقيمه وتشريعاته وتعاليمه في أعين شعوب العالم وأججت مشاعر الحقد عليه وعلى المسلمين.([1])

 

الخاتمة

إنَّ من المسلمات في تاريخ التشريع الإسلامي أن الخلاف في الرأي كان قائماً في عهد الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - فما انقضى عصر النبوة، حتى تفرق أصحاب رسول الله r في البلاد يحملون ما أخذوه من العلم من الكتاب والسنة فسئلوا فأجاب كل واحد حسب ما حفظه واستنبطه، فعند ذلك وقع الاختلاف في الرأي بينهم في بعض المسائل.

وإزاء اختلاف مذاهب الصحابة - رضي الله عنهم - وجدت مذاهب مختلفة أيضاً للتابعين، ووجد في كل بلد إمام مجتهد: مثل سعيد بن المسيب في المدينة المنورة، وعطاء بن أبي رباح في مكة، والشعبي في الكوفة، والحسن البصري في البصرة، وطاووس في اليمن... وغيرهم.

واختلف الفقهاء من بعدهم، فمنهم من أخذ بالرأي ومنهم من أخذ بالرواية، وقامت على هذه الأصول مدارس فقهية كثيرة.

وإذا كان من المُسلَّمات وقوع الخلاف في الرأي بين سائر الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب في العديد من المذاهب الفقهية، وطرق الاستدلال والاستنباط، فمما لا جدال فيه أيضاً أن أتباع هذه المذاهب الفقهية لم يسيروا فيها جامدين، بل كانوا يعملون على إحيائها وتجديدها في كل عصر من العصور بما جد من أفكار وأمور ويفتون فيما يقع من الحوادث بما يتفق مع الحال، وأحياناً كانوا يخالفون مذهب إمامهم، ويقولون: هذا اختلاف زمان لا اختلاف برهان.

لهذا فإن التجديد واجب على أئمة المسلمين وعلمائهم، والتجديد ليس أمراً يُنشأ، ولكنه يكتشف، لأن الشريعة الغراء فيها ألقها الدائم، ومنها ينبع التجديد فيها، وما مهمة المجددين المجتهدين إلا اكتشاف هذا التجديد، وهم الذين بشَّر هم نبي هذه الأمة r فقد قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها).

والتجديد لا يمكن أن يعني بحال تغيير نصوص القرآن أو السنة، بل يعني تغيير الفهم لبعض النصوص التي تحتمل ذلك بما يناسب الحال المعاصر للمسلمين.

وللأسف فإن بعض العلماء تعودوا ألا ينظروا إلى القرآن والسنة إلا من خلال اجتهادات السلف في الفروع، على أنها الفاتح لمغاليق الفهم الصحيح من القرآن والسنة.

والحقيقة المطلوبة هي تدبر القرآن الكريم، وتفهم السنة النبوية بعمق، ودراسة تراثنا الفقهي الكبير، لفهم الحلول المناسبة لواقع اليوم الذي أصبح مختلفاً اختلافاً كبيراً عن واقع الأمس البعيد.

وإذا كان التجديد في الفقه والفهم مطلوباً، فإن مسؤولية ذلك واقعة على عموم المسلمين، ليكون من بينهم طائفة من الأئمة المجتهدين، والفقهاء المخلصين، لينهضوا بشأن الأمة ويُبعدوا عن النصوص تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

 

نتائج البحث

1-      إن التكفير من شأنه أن يؤدي الى زرع الكراهية والحقد عند الآخر الذي كان ينتظر من عناوين الاسلام البارزة سلاماً عالمياً واخوة انسانية ، فإذا به يصدم بالتناقض الصارخ بين ما يشاع عن منهج القرآن في ترسيخ المبادئ والقيم والفضائل وكذلك المنهج النبوي السامي المترجم بسيرته r وبأقواله؛ وبين واقع وتصرفات بعض المنتسبين الى الاسلام ممن يحملون ذلك الفكر المتشدد.

2-      إنّ الفكر التكفيري يعمل على تفتيت العالم الإسلامي ، ويؤدي إلى الاقتتال بين الإخوة ويثير بينهم الأحقاد والضغائن ويفرز التعصب بين الفئات والطبقات.ما ينذر بالفشل كنتيجة حتمية للتنازع.

3-      التكفير ظاهرة تتناقض مع مبادئ حقوق الانسان في الاسلام وفي كل شرعة انسانية, وهي صيغة همجية تنكرها الطبيعة الانسانية والفطرة السليمة.

4-      التكفير مشكلة وظاهرة قديمة واجههاالإسلام منذ فجر تاريخه وكذلك كل الشرائع والرسل والأنبياء ما يشير إلى أنه داء تساوق مع انحراف طرق التفكير عند بعض أتباع الشرائع _سماوية كانت أم وضعية _ يدلك على ذلك تهم الكفر والزندقة والهرطقة ... إلخ التي كانت حاضرة لاتهام الآخر حين يخالف من هو أقوى منه وإن كان هذا الآخر دونه حجة ودليلاً.

5-      إن الفكر التكفيري مشوّهٌ لكل صور التقدم والحضارة والقيم والحقوق في الإسلام؛ مثل حرية الاعتقاد وعدم الإكراه, وكذا التعبير, وحق العيش الكريم, وحق الجميع في الحياة, والحق في التعليم والتعلم وغيرها من الحقوق التي انتهكتها الايديولوجيات المتشددة.

6-      كل منجزات الاسلام على المستوى السلوكي والأخلاقي التي تمثل خلاصة وثمرة التجارب التاريخية للمسلمين أضحت معرضة للتهديد والخطر والتشوه بسبب الازدواجية التي يقدم بها الاسلام للآخر ما يؤدي إلى انهيار المصداقية الأخلاقية للمسلمين.

7-      من مصائب الفكر التكفيري وبلائه إشاعة العنف في الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية، مما يجعل الطرف الآخر يتعامل بالمثل ويتعامل بمفهوم الثأر لنفسه ما يهدد الانسانية جمعاء, وهذا ما نراه اليوم وقد وصل أثر الإرهاب الى أصقاع الدنيا.

8-      التكفير وسيلة سريعة يتم من خلالها إفساد العلاقات بين الشعوب في العالم الإسلامي، ويؤدي إلى النزاعات والمواجهات بين البلدان بسبب الفوضى وعدم الاستقرار الذي يقوم عليه منهج التكفير.

 

 

 

 

 

 

 



(1) انظر في المجمل كتاب التكفير من منظار علماء الإسلام - الأستاذ علي أصغر رضواني.