خصائص الإسلام العامة
خصائص الإسلام العامة
السيد أحمد شبّر
قم ـ إيران
المقدمة
الإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير أبو القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً .
قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ صدق الله العلي العظيم.
يمتاز الدين الإسلامي العظيم عن غيره من الأديان والمذاهب والاتجاهات الوضعية بنظرته السامية التكريمية لبني الإنسان، فالإنسان هو خليفة الله سبحانه وتعالى على وجه البسيطة، استخلفه ليطبّق وينفّذ قوانينه ويأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه ويحافظ على حدوده تعالى وليتكامل في طريق الإنسانية اللاحب وليقود بني جنسه نحو الحق والخير والكمال والانعتاق من كل أشكال الظلم والتعدي والانحراف
ـ(486)ـ
والطغيان، كل هذا في سبيل مجتمع فاضل متكافل يبغي السعادة للجميع بدون استثناء وتفاضل وتمايز.
فالإسلام هدفه بناء الإنسان المتمتع بالصفات والخصال التي تؤهله لاستلام منصب الخلافة، لذا نرى سبحانه وتعالى يقول في كتابه المبين: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ في سبيل تكامل الإنسان والاستفادة من كل ما خلق سبحانه في هذا المجال وجعل ذلك وسيلة من أجل بلوغ هذا الهدف المقدس وان كان هذا الطريق تعتريه الأشواك والمشاكل العظيمة والابتلاءات الفظيعة التي ينتهى بعضها إلى السجن والتعذيب والقتل والنفى وانتهاك الأعراض وانتهاب الأموال والتغرّب في البلدان وتشتت أفراد العائلة الواحدة... الخ.
وهذا بالضبط هو الثمن الذي يجب أن ندفعه في سبيل المحافظة على الدين وفي سبيل إنشاء المجتمع الذي نصبوا إليه.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(1).
وهذه بشارة منه سبحانه بالجنة ووعد منه تعالى لكل المجاهدين في سبيل ألاّ يهنوا ويحزنوا وينكروا إن كانوا مؤمنين وقليل ما هم.
﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(2).
_____________________
1 ـ سورة التوبة: 16.
2 ـ سورة الأنفال: 7.
ـ(487)ـ
وهذا وعد منه سبحانه وبشرى للمؤمنين بنصره تعالى وإحقاق كلماته وقطه دابر الكافرين وان طال الزمان فما على المؤمن أن يشهد نصره بل عليه إنجاز تكليفه لحد الموت والقتل.
يقول الشيخ محمد جواد مغنية حول هذه الآية الكريمة: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين - العير أو النفير - أنها لكم - المصدر المنسبك بدل من إحدى الطائفتين - وتودون أن غير ذات الشوكة - أي غير ذات القوة وهي العير - تكون لكم - من غير قتال - ويريد الله أن يحق الحق بكلماته - أن ينصر الإسلام والمسلمين على الشرك والمشركين بآياته المنزلة في محاربتهم ويقطع دابر الكافرين - قتلاً وأسرا)(1).
والحمد لله ربّ العالمين.
1 ـ الاعتراف بمساواة الناس:
جاء في الحديث الشريف ان الناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وهذا الحديث يتضمن عدة معاني منها: انّ الناس متساوون من ناحية العنصر والمنشأ ومنها ان عليهم ألاّ يفخروا بأنفسهم ويتبجحوا بذواتهم.
فالتراب مصدرهم وهم صائرون إليه، وهو الذي تطأه الأقدام ولا يُباع بالأثمان، والإسلام هو الدين الإلهي الوحيد الذي يعترف بهذه الحقيقة الساطعة، بعدما حُرّفت الأديان الإلهية الأخرى، مع غضّ النظر عن المذاهب الأرضية التي لا تعتـرف بها الأمر واقـعاً وإن اعترف بعضها بذلك على الورق فقط.
فترى استفحال العنصرية واشتدادها بمرور الزمن، فكم جلب هذا الأمر المشين
__________________________
1 ـ التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله ص 228 - دار الكتاب الإسلامي.
ـ(488)ـ
من أهوال وويلات وتوارث على الإنسانية، فتحت ذريعة الجنس الآري المتفوّق اعتدت ألمانيا الهتلرية على بعض الدول ودمرتها تحت لواء هذا العنوان البّراق الزائف.
واليهود قالوا نحن شعب الله المختار واحتلوا فلسطين لتحقيق هذا الشعار الباطل، وحسبوا في وثائقهم السرية ان كل ما عداهم من البشر هم أتباع لهم وبهائم يستفيدون منهم لتحقيق مآربهم الشيطانية، ويصعدون أكتافهم ليوجهوهم حيثما شاؤوا للاستحواذ على مقدرات العالم وأحكام قبضتهم عليه، وهذا ما يحدث الآن من حولنا بهدوء، وشعارهم الشيطاني الآخر: (بلادك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) ما هو إلاّ مفردة واحدة من مفردات ذلك المشروع العالمي الضخم للاستحواذ على مقدرات العالم كلّه والتمايز بين الناس قديم قدم الإنسان وقد اتخذ إشكالا وألواناً عديدة فتارة يعتمد على الجنس والعنصر وأخرى على اللون واللغة والدين والثروة والمنزلة الاجتماعية والمنصب والقرابة... الخ.
وللأسف فقد شهد التاريخ الإسلامي بعد رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم نموا لأنواع من التمايز والتفاضل اعتمد القرابة والسابقة والجنس العربي.
وبهذا نرى ابتعاد تلك المجتمعات شيئاً فشيئاً عن الدين الإسلامي الأصيل الذي يُقرّر أن لا فرق لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى وان أكرمكم عند الله أتقاكم.
نعم يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين: ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).
وهذا تفاضل وتمايز بالإيمان والجهاد ومقدار اتباع المسلم لقوانين الحق تبارك
____________________
1 ـ سورة النساء: 95.
ـ(489)ـ
وتعالى، وهو أمر معقول ومقبول يختلف اختلافاً جوهرياً عن التفاضل باللون والجنس والقرابة وما شاكل وقد تطورت تلك العصبية التي نشأت تحبو بعد رحيل القائد الأعظم محمد صلّى الله عليه وآله واشتدت في العصر الأموي حتى استفحلت في العهد العباسي والى يومك هذا حيث العنصرية وقد رأينا قريباً كيف كان يجري القتل والتعذيب على الهوية في لبنان والبوسنة وهذا الأمر يُمثّل تطوّراً مقيتاً ومشيناً للعنصرية الحاقدة ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين.
والغريب ان هذين الدولتين هما عضوان في الأمم المتحدة التي جاء في ميثاقها وجوب احترام الإنسان وعدم الحاق الأذى والضرر به بسبب اللون أو الدين أو الجنس، وعلى مرآى من تلك المجازر الرهيبة تنمو جمعيات الرفق بالحيوان في العالم الغربي المتمدن بصورة مستفحلة والتي تجاوزت الحدود في احترامها ورفقها بالحيوانات إلى أبعد ما يتصوره الخيال، فهنيئاً للحيوان إذ وُجد لـه من يُدافع عن حقوقه وكرامته، مما لا يوجد لـه نظير وشبيه في مملكة البشر البائسين.
ونرى أئمتنا عليهم الصلاة والسلام يفيضون رحمة وعطف وإنسانية تجاه الآخرين، أيّا كان لونهم ودينهم وجنسهم.
«فكم من مرة شاهد الناس أسد الإسلام وقديسه - الإمام علي عليه السلام - معتماً بعمامته الخضراء يردّد ما قالـه مرّة في مسجد النبي محمـد صلى الله عليه وآله وسلّم (من آذى ذميّاً فقد آذانى)»(1).
وهذا منتهى الإنسانية والمحبة للجنس البشري فأين هم قادة العالم المتحضّر وقادة الأمم المتحدة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الذين مهما حاولوا من
______________________
1 ـ كتاب الإمام علي أسد الإسلام وقديسه - روكس بن زائد العزيزي ص 187.
ـ(490)ـ
جهود للدفاع عن الإنسان وحريته وإنسانيته فلن يبلغوا معشار ما بلغه أمير المؤمنين قبل أكثر من ألف عام من إنسانية وعطف تجاه بني البشر.
ونذكر قصة أخرى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تدل على نظرته الإنسانية تجاه الجميع: «ولّى عليه السلام بيت مال المدينة عمار بن ياسر وأبا هيثم التيهان فكتب: العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء، فأتاه سهل بن حنيف بمولى لـه اسود فقال: كم تعطي هذا ؟
فقال لـه أمير المؤمنين عليه السلام: كم أخذت أنت ؟
قال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس.
قال عليه السلام: فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير.
فلما عرف الناس أنّه لا فضل لبعضهم على بعض إلاّ بالتقوى عند الله سبحانه أتى طلحة والزبير عمار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيهان فقالا: يا أبا اليقظان استأذن لنا علي صاحبك. قال: وعلي صاحبي اذن، قد أخذ بيد أجيره وأخذ مكتله ومسحاته وذهب يعمل في غلّة في بئر الملك وكائن بئر ينبع سُمينَ بئر الملك فاستخرجها علي بن أبي طالب عليه السلام وغرس عليها النخل فهذا من عدله في الرعية وقسمه بالسوية»(1).
ومن القصص التي تروى عن عدله في تقسيم الأموال انه:
(جاءته امرأتان تسألانه وتبينان لـه فقرهما فسّد لهما حاجتهما وأمر أن تشترى لهما ثياب وأطعمة ووهب لهما مالاً، لكن واحدة منهما طلبت منه ـ عليه السلام ـ أن يفضلها على رفيقتها لأنها عربية ورفيقتها من الموالي فأخذ شيئاً من «الـ» تراب فنظر فيه ثم
____________________________
1 ـ كتاب البيان الجلي في أفضلية مولى المؤمنين علي عليه السلام عبد روس بن أحمد السّقاف العلوي الحسيني الإندونيسي ص 239 تحقيق السيد مهدي الرجائي
ـ(491)ـ
قال ـ عليه السلام ـ: ما أعلم ان الله سبحانه وتعالى فضّل أحداً من الناس على أحد إلاّ بالطاعة والتقوى)(1).
وهو تطبيق عملي وحي لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(2).
وهذا الأمر أفصح عنه عليه السلام يوم ولي الخلافة بأجلى صوره إذ قال:
«وأي رجل... يرى ان الفضل لـه على سواه بصحبة فان الفضل غداً عند الله تعالى وأنتم عباد الله والمال مال الله يُقسم بينكم بالسوية ولا فضل فيه لأحد على أحد»(3).
بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ومولى الموحدين لو رأيت ما يصنع خُزّان الأموال اليوم لبكيت كمداً مما يحابوه به أقوامهم ويمنعون الآخرين حقداً وعنصرية وخُبثا.
والذي يثير الدهشة والأسى انك ترى بعض الذين يعملون تحت لواء الدين الحنيف يلعبون بأموال وحقوق المسلمين أنّى شاؤوا ويبذّرونه تبذيراً فهم بحق اتخذوا مال الله سبحانه دولاً، وإن اعترض معترض فيقولون لـه نحن أعرف منك كيف نتصرف بهذه الأموال وهم يتناسون قول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: «الله الله في الفقراء والمساكين أشركوهم في معائشكم».
وقد كان دستوره عليه السلام للولاة إنّما هو المساواة التي تنم عن الاخوة والعطف فيقول عليه السلام:
«إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة».
______________________________
1 ـ الإمام علي ـ عليه السلام ـ أسد الإسلام وقديسه ـ روكس بن زائد العزيزي ص 32.
2 ـ سورة الحجرات: 10.
3 ـ الإمام علي ـ عليه السلام ـ أسد الإسلام وقديسه ـ روكس بن زائد العزيزي ص 83.
ـ(492)ـ
ويقول مرة أخرى: «ان هذا المال ليس لي وليس لك».
فيا لها من تعاليم إنسانية مشرقة تضيء جبين كل من يلتزم بها ويستهدي بهداها ويتعطّر باريحها.
وكل هذا يلخصّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في وصيته لأبنه الإمام الحسن عليه السلام وهي تجسّد الخلق الإسلامي القويم والنموذج الرائع الذي ما اتبعه أحد إلاّ نجى: «يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لـه ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلَم وأحسن كما تحب أن يُحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ولا تقل ما لا تُحب أن يُقال لك»(1).
وتعامل الإمام عليه الصلاة والسلام من منطلق الإنسانية والعدالة حتى مع أعدائه، ومنهم الخوارج فلم يحرمهم من الفيء وهم الذين كفّروه وقُتل عليه السلام شهيداً في محراب صلاته بأيدي هؤلاء الجُناة الخونة.
ومن وصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن ما يبين التعاليم الاسلامية الراقية يقول ـ صلى الله عليه وآله ـ: «.. وأنزل الناس منازلهم خيّرهم وشرّهم وعليك بالرفق والعفو في غير تركٍ للحق»(2).
2 ـ الاعتراف بكرامة الإنسان:
قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين:
____________________________
1 ـ نهج البلاغة - ضبط الدكتور صبحي الصالح ص 297 - 298.
2 ـ المختار من حديث المصطفى - السيد محسن الأمين رحمه الله تعالى ص 9.
ـ(493)ـ
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(1).
يشير سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إلى أمر مهم بغض النظر عن الجنس والدين واللون والثروة وما شاكل ألا وهو تكريم الحق عزّ وجل لبني آدم.
يقول العلامة الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله في كتابه التفسير المبين حول هذه الآية الشريفـة:
(ولابن آدم كرامة ذاتية يستمدها من طبيعته وتخلق معه منذ تكوينه وولادته، وكرامة طارئة يكتسبها بسعيه وإرادته، ومن آثار الأولى وثمارها حقه في الحياة وصيانته من الأذى والاعتداء... حتى إذا صار إنساناً راشداً كان لـه من الحقوق ما لكل الناس، وعليه من الواجبات ما عليهم بلا امتياز واختصاص ذكراً كان أم أنثى تولّد من أسود أو أبيض مؤمن أو ملحد، أما الكرامة الطارئة فتُذكر منها ثلاث كرامات(2).
1 ـ كرامة الإخلاص:
قال سبحانه وتعالى: ﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾
﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
2 - كرامة العلم: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
وما من شك ان المراد بالذين يعلمون الذين ينفعون الناس بعلمهم بدليل وقوله
___________________________
1 ـ الإسراء / 70.
2 ـ التفسير المبين - محمد جواد مغنية، ص 374.
ـ(494)ـ
تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾.
3 ـ كرامة العمل:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾(1).
والإسلام هو الدين الإلهي الأصيل والوحيد الذي رفع لواء الاعتراف بكرامة الإنسان والدفاع عنها ومُحاربة من ينتقص منها أو يُشينها أو يسعى إلى الحطّ منها، وفي هذا الأمر يستوي المسلم وغير المسلم ما لَم يسعى في محاربة المسلمين والإيقاع بهم.
انّ كثير من دول العالم بل معظمها تعترف في دساتيرها وقوانينها الأرضية بكرامة المواطن وإنسانيته، ولكننا نراها في الجانب العملي تضرب كل هذا بعرض الحائط وتسحق كل الدساتير والقوانين الإلهية والأرضية بأقدامها، في معتقلاتها وسجونها الرهيبة من خلال تعاملها مع المعتقلين ومعظمهم سجناء الرأي والفكر والحماسة والمعتقد، وبعد هذا كله نراها تتشرّق بالدفاع عن حقوق مواطنيها وبتوفير الحرية لهم، وبين الحين والآخر يخرج جلواز من جلاوزتهم القذرين ليعلن أمام مراسلي العالم انه لا معتقل سياسي لدينا، والسجون تكتظ بالنساء والرجال ممن لا ذنب لهم إلاّ انهم أعلنوا عن آرائهم وأفكارهم بجرأة وشجاعة فجوبهوا بكل تنكيل ووحشية انظروا إلى قول أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو يتبرّأ من الظلم:
«والله لأن أبيت على حسك السعدان (كأنه يريد من الحسك الشوك والسعدان
_________________________
1 ـ التفسير المبين - محمد جواد مغنية - ص 374.
ـ(495)ـ
نبات ترعاه الإبل لـه شوك تشبه به حلمة الثدي) مسهّداً، أو أُجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله سبحانه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام وكيف أظلمُ أحداً لنفس يُسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها... والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سُبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين»(1).
لله درك يا أبا الحسن، أنت الذي رفعت راية الدفاع عن الإنسان وكرامته فبلغت في هذا مبلغاً لا يساميك فيه أحد، وأبناء أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام من أئمتنا الميامين هم أيضاً قدوة للعالمين في الدفاع عن الكرامة الإنسانية، فكانوا عليهم السلام لا يمسّون كرامة الغير كائناً من كان وكلنا سمع تلك القصة التي تقول ان الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام رأيا شيخاً يتوضأ بطريقة غير صحيحة، فقالا لـه انظر إلى وضوئنا وأحكم أيهما الصحيح، فلم يسحقا كرامته ويقولا لـه إن وضوءك هو غير صحيح يا شيخ فتعلّم منا، فنظر إليهما وهما يتوضئان فقال إن وضوؤكما هو الصحيح ووضوئي كان خطأ.
هكذا يتعامل قادتنا مع الغير بما يحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم وماء وجوههم.
وقد كثرت الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله التي تؤكد على وجوب احترام كرامة الإنسان وبالأخص الإنسان المؤمن، وقد ورد انه ـ صلى الله عليه وآله ـ قال ان حرمة المؤمن أعظم عند الله من حُرمة الكعبة.
__________________________
[1] ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح - ص 346 - 347.
ـ(496)ـ
وقال صلى الله عليه وآله وسلّم: «مـن روى عن أخيه المؤمن رواية يُريد بها هدم مروءته وشينه أوقفه الله سبحانه في طينة خبال»(1).
(وطينة خبال: صديد أهل النار).
والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يتأسف في خطبة لـه قالها يستنهض بها الناس حينما ورد خبر غزو الانبار من قبل جيش معاوية: «.. ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة (الذمية) فينزع حجلها (الخلخال) وقُلبَها (السوار) وقلائدها ورُعثها (نوع من الخرز) ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجل منهم كلم (جرح) ولا اُريق لهم دم فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً»(2).
فأنت ترى الإمام عليه السلام يبدي ألمه وحزنه على المرأة المسلمة والذمية بلا تفريق بينهما جرّاء هجوم جيش العدو وسلبهما.
وهذه تعتبر نظرة تكريم وتجليل من الإسلام للطوائف التي تحيا في كنفه نادراً ما تتواجد في غير المجتمعات الاسلامية الأصيلة، وكان الأئمة عليهم الصلاة والسلام حينما يطرق سائل أو فقير أبواب أحدهم فانهم كانوا يعطونه المال من وراء حجاب لئلاّ يرونه فتُسحق كرامته أو يُراق ماء وجهه خجلاً منهم عليهم السلام. وهذا درس بليغ منهم لنتعلم كيفية التعامل الاجتماعي مع الناس خصوصاً مع المحتاجين منهم. فلا نقابلهم بالمنّ والأذى إن تصدّقنا عليهم ولو بشيء قليل. والدين الإسلامي يؤكد انّ
___________________________
1 ـ المختار من حديث المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ اختيار السيد محسن الأمين رحمه الله ص 35.
2 ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح ص 69 – 70.
ـ(497)ـ
على الإنسان أن يسعى للاحتفاظ بكرامته وألاّ يفرّط بها تحت أي حال من الأحوال كالفقر والحاجة والغربة وما شاكل، لأنه ان فرّط بها فانه بالتالي سيفقد إنسانيته وبالتالي سيكون العوبة بيد من يشاء يستغل حاجته ومشاكله وآلامه، وإن حدث هذا فسيصعب عليه ثانيةً أن يسترد كرامته وإنسانيته وشخصيته.
3 - نفي الظلم والانظلام والاستضعاف
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه المبين: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(1).
في هذه الآية الشريفة بيان صريح من الله سبحانه وتعالى بأن الظلم لا يصدر منه عزّ وجلّ فالظلم يصدر من المحتاج الذي يريد أن يتسلّط على غيره ليخضعه لأمره، وسبحانه غني عن هذا كله، فهو الذي بيده مقاليد السموات والأرض وما بينها، وهو القاهر فوق عباده ولا يعجزه شيء.
وقد حارب الإسلام منذ انبثاقه الظلم والظالمين بلا هوادة ولم يسمح بأن يظلم الناس بعضهم ولم يسمح لهم بالمقابل الخضوع للظلم والاستضعاف، بل زوّدهم بطاقة عظيمة داعياً إياهم إلى محاربة الظلم والاستبداد، والثورة ضد الظالمين من الذين لا يحكمون بما أنزل الله سبحانه وبشّرهم بالشهادة ورضوان من الله إن قُتلوا في سبيل هذا الهدف المقدّس، حتى نقل عن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله انه قال من قتل دون ما لـه فهو شهيد ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد ومن قُتل دون
_________________
1 ـ سورة الروم: 9.
ـ(498)ـ
نفسه فهو شهيد، كل هذا في سبيل الاندفاع نحو مجابهة الظلم بشتّى صوره، حتى يصل المجتمع الإنساني لمرحلة ينتفي فيه الظلم والاستبداد فتتفجّر طاقاته ويعمل الجميع متحابين متكافلين.
صعد أمير المؤمنين عليه السلام المنبر ذات يوم ليعظ الناس وتطرّق فيما تطرّق لـه إلى أنواع الظلم فقال ـ عليه السلام ـ:
«ألا وإنّ الظلم ثلاثة، فظلم لا يُغفر وظلم لا يُترك وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ وأمّا الظلم الذي يُغفر فظلم العبد نفسه عن بعض الهَفنات (صغائر الذنوب) وأمّا الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص هناك شديد ليس هو جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط ولكنه ما يُستصغر ذلك معه فايّاكم والتلّون في دين الله سبحانه..»(1).
في هذا المقطع الشريف من كلام أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه الصلاة والسلام يتضح لنا إنّ ظلم العباد بعضهم لبعض هو الذي يجب أن يحذرهُ العباد وان يبتعدوا عنه بصورة أسرع من أنواعه الأخرى لئلا يوقعوا أنفسهم في شراك القصاص والعذاب حيث لا يخلّصهم مخلّص ولا ينفعهم فداء مهما عظُم.
الاستضعاف وعدم نصرة الحق
والتخاذل عن الحق وعدم المطالبة به مما يوقع المرء تحت الظلم ويجعله من الخاضعين للظالم فيستضعفه ويأسره، فلا أقل لهذا المستضعف ان لم يستطع مجابهة الظالمين ان يفر بدينه ونفسه فأرض الله تعالى واسعة فان لم يفعل كان كالذي ساعد على نفسه، واستثنى سبحانه وتعالى من هؤلاء من لا يجد حيلة في الفرار ولم تساعده
_______________________
1 ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح ص 255.
ـ(499)ـ
الظروف لنستمع لقوله تعالى حول هذا الأمر الخطير: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا _ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً _ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا _ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(1).
فيتضح لنا من هذه الآيات الكريمة ان وظيفة المستضعفين هي الهجرة بدينهم وأنفسهم وأهليهم، ان استطاعوا ذلك وإلاّ فإنّ جهنم في انتظارهم كما هو صريح في الآيات السابقة، وقد بشرهم سبحانه وتعالى بالرحمة ان تُوفّوا في الأثناء، كل هذا في سبيل ألا يعينوا على أنفسهم بالبقاء تحت سلطة الظالمين والكافرين.
وحينما يدخل سبحانه الظالمين والمستضعفين الذين أعانوا على أنفسهم وتخاذلوا في ذلك السبيل، نار جهنم، يحتاجون فيها مع ظالميهم. يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ _ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾(2).
ويتضح من الآية (47) السابقة ان المستضعفين كانوا أتباعاً لظالميهم ومستكبريهم يقتفون آثارهم ويعملون بأهوائهم ظانين ان أسيادهم يصرفون عنهم جزءاً من العذاب فخسروا في الدنيا كرامتهم وإنسانيتهم وحريتهم واستقلالهم وخسروا في
______________________
1ـ سورة النساء: 97 - 100.
2 ـ سورة غافر: 47 - 48.
ـ(500)ـ
الآخرة رضوان الله تعالى وجنّاته. وكم شهدنا أناس كانوا مجاهدين مؤمنين فانحرفوا جزاء ترغيب أو ترهيب السلطة فصاروا أبواقاً لها وخدماً يأتمرون بأوامرها وهذا هو سبيل كل من يعبد الله تعالى على حرف، وهؤلاء هم المعارون في أيمانهم لم يثبت ويستقر في قلوبهم إلاّ فترة قليلة، فانقلبوا على أعقابهم ومُسِخت نفوسهم - ولربما كان البعض منهم، من تجشّم مرارة الجهاد والتضحية فأصابه الملل واليأس خصوصاً وأنه لم يحقّق شيئاً يذكر، فنبذ سلاحه وإيمانه ومدّ يده للسلطات التي اجتذبته بعد عمل جهيد وقائمة طويلة من تحقيق المطالب وإيجاد الديمقراطية والحرية والإفراج عن السجناء ناهيك عن الأمور المادية التي تضعها تحت تصرفه، فسال لعابه لكل هذا ومادرى انه باع دينه ودنياه وشرفه وكرامته بدنيا غيره، فأسرته المادة واستضعفته الدنيا، وكأن هذا المسكين لم يقرأ قوله تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾(1).
فلقد غُربل المؤمنون حتى أذن الله سبحانه لهم بالنصر وهذه هي سنّة الله تعالى ولن تجد لسّنة الله تبديلاً.
وشاهدنا على ما نقول ما رأيناه من بعض الفلسطينيين الذين مدّوا أيديهم للعدو الصهيوني الغاصب بعد طول جهاد ومعاناة، فأصبحوا شرطة لهم ينفّذون أوامرهم ويعتقلون إخوانهم الفلسطينيين يعذبونهم ويقتلونهم فعجباً لهم كيف قلبوا لهم ظهر المجنّ فحازت الكلاب وفاءاً دونهم فتعساً لهم.
___________________________
1 ـ سورة البقرة: 214.
ـ(501)ـ
فانطبقت عليهم الآية الشريفة: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا _ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1).
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «من أعان ظالماً على ظلمه سلّطه الله عليه»(2).
طرق مجابهة الظلم
حسب ما رأيته من الآيات القرآنية الكريمة فهناك عدة سبل لمكافحة الظلم:
1ـ القصاص والمعاملة بالمثل:
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(3).
ويقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(4).
ويقول سبحانه مفصلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى...﴾(5).
________________________
1 ـ سورة النساء: 138 - 139.
2 ـ المختار من حديث المصطفى صلى الله عليه وآله، اختيار السيد محسن الأمين رحمه الله ص 22.
3 ـ سورة البقرة: 194.
4 ـ سورة البقرة: 179.
5 ـ سورة البقرة: 178.
ـ(502)ـ
وجعل سبحانه من لم يكن يحكم بالعدل من الظالمين: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1).
2ـ الصبر والتسامح:
يقول عز من قائل: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾(2).
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «الإيمان نصفان: نصف في الصبر ونصف في الشكر».
3 - العـفـو:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(3).
ووصف سبحانه الذي يعفو بقوله: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(4).
وكفى بهذا تجليلاً وتكريماً خصوصاً إذا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(5).
_____________________
1 ـ سورة المائدة: 45.
2 ـ سورة النحل: 126.
3 ـ سورة البقرة: 109.
4 ـ سورة البقرة: 237.
5 ـ سورة النور: 22.
ـ(503)ـ
فهذا وعد منه سبحانه بغفرانه لذنوبنا في حالة العفو، وكل هذا يمثل تشجيعاً للصفح وكظم الغيظ في سبيل شيوع حالة الرحمة بين الناس، ولكن يجب أن يكون هذا الأمر في محلّه المناسب، وإلاّ فإنّ العفو والصفح سوف لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة وسوف يزداد الظلم ظُلماً، وينتظر منّا العفو والصفح كما علمناه سابقاً، وفي هذه الحالة سنكون مشاركين في الإثم والعدوان معه، إذ إن هكذا طغاة يجب الوقوف بقوة بوجههم، فلن يرد الحجر إلاّ الحجر.
جاء في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله حينما ولاّه على مصر:
«انصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيتك فانك إلاّ تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجّته وكان لله قرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فان الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد»(1).
وهذا بيان جلي من أمير المؤمنين عليه السلام يؤكد ويثبت أن الدين الإسلامي قد حارب الظلم منذ بزوغه ووقف بوجهه دون هوادة.
4 - إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد:
قال الله سبحانه تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(2).
______________________
1 ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح ص 428 - 429.
2 ـ سورة القصص 83.
ـ(504)ـ
تسير البشرية اليوم في خطى مُسرعة نحو وادي سحيق جرّاء سوء اختيارها، ونبذها للقيم الإنسانية والمعتقدات الدينية وتمسّكها بالقوانين الوضعية التي تتيح للناس كل نوع من أنواع الفساد والرذيلة والبغي والحكم بما لم يُنزل الله به سلطاناً، وحتى الدول الاسلامية وذات الأكثرية المسلمة لم تنج من هذا الداء الوبيل، فنرى في معظمها دور الفساد واللهو والرذيلة حيثما حطّت قدماك كل هذا في سبيل انتزاع ما تبقى لدى الناس من ذرة ضمير أو شرف أو غيرة، وثمت شعار الحرية وشعار (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) انشأوا دور الرذيلة تلك، وقالوا لن نجبر أحداً على ارتيادها فمن رغب فيها فليأتها ومن رغب عنها فليأتي المسجد ولا نمانع، فكر واضح، فأصبح من يرتاد المسجد موضع شك وارتياب من قبل السلطة، وتنظر إليه نظرة الإرهابي والأصولي المتعنّت والمتشدّد والمتدين المتطرف والمتهم الذي يجب أن يثبت براءته وكثيراً ما يُساق أصحاب المساجد إلى طوامير السجون الرهيبة حيث فنون التعذيب النفسي والجسدي في انتظارهم.
وهذه الحالة مما يؤسف لها أن تحدث في بعض الدول الاسلامية، حيث الحاكم فرد من أفراد البلد الذي يتسلّط عليه وحَريٌّ به أن يحكم بني جنسه بالعدل والمعروف ويكون لهم بمثابة الأب الرفيق والأخ الحنون ورحم الله الامام السيد روح الله الخميني قائد الثورة الاسلامية في ايران حيث قال:
(من الأفضل أن تسمونني خادماً بدلاً من أن تسمونني قائداً).
أيّة إنسانية وتواضع جم هذا الذي تتصف به ياسليل النبوة والولاية وأنت بحق قائد المستضعفين والمسلمين أينما كانوا، أنت الذي حطّمت أبّهة الشرق والغرب وقذفت بالشاه اللعين إلى نار جهنم، ومرة أخرى قال السيد الإمام الخميني رحمه الله أثناء الحرب الاستكبارية الغادرة التي شُنت ضد إيران، قال في إشارة إلى فتىً في الثالثة
ـ(505)ـ
عشرة من عمره فجّر دبابة للعدو واستشهد: ان قائدنا هو ذلك الصبي الشهيد، رحمك الله يا أبا مصطفى وأجزل ثوابك وحشرك مع الرسول الأكرم والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسّلام.
أسباب انتكاسة المجتمعات الإنسانية
هناك عدة عوامل تظافرت فيما بينها حتى أدّت في النهاية إلى ما عليه اليوم المجتمعات البشرية وهي عوامل متشابكة منذ القدم فعلت فعلها في الإنسانية وأوصلتها إلى هذا الواقع المأساوي المؤلم.
1 ـ الابتعاد عن المقرّرات الإلهية عامة، واستبدالها بقوانين أرضية من صنع الإنسان نفسه.
وقد بدأ تحريف الشرائع الإلهية منذ العهد اليهودي، فترى في التوراة مختلف التقولات والسخافات التي تنسب القبائح إلى الله تعالى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى حول اختفائهم وتحريفهم لكتابهم: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(1).
وقال عزّ وجل: ﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ ____________________
سورة الأنعام:91.
ـ(506)ـ
غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)(1).
والليّ هو صرف الكلام عن الحق إلى الباطل، وكذلك النصارى حرّفوا الإنجيل بما تهوى أنفسهم، قال سبحانه وتعالى محدِّثاً عن أهل الكتاب: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾(2).
وهذا الأمر ينطبق على المسلمين أيضاً، إذ نبذوا كتاب الله تعالى القرآن وتعاليمه الحياتية وانصرفوا إلى قوانين الغرب والشرق.
2 ـ الفساد الأخلاقي والنفسي:
قال سبحانه: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(3).
والفساد اليوم يمثّل الذروة والقمة عما كان عليه في سالف الأيّام، فمن الصحف والمجلات الخلاعية إلى التلفزيون والسينما وبرامجهما الماجنة والى الصحون الفضائية والإنترنت التي اخترعت حديثاً والتي تبث الإباحية بلا حدود، وكل هذه أو بعضها تقتحم بيوتنا شئنا أم أبينا فان عُدِمت كلها فأين المهرب من الشارع والمدرسة والسوق ؟
وكيف يمكن تحصين أبناءنا وأنفسنا - خصوصاً إن كنا نعيش في الغرب - من كل هذه الأمواج الهادرة التي تدفعنا نحو مستنقع الرذيلة والانحطاط ؟ وهذه الموجات
_____________________
1 ـ سورة النساء: 46.
2 ـ سورة آل عمران: 187.
3 ـ سورة الروم: 41.
ـ(507)ـ
وصلت إلى درجة بحيث ان بعض الرؤساء الغربيين صرّح بخطورة الوضع وبضرورة التصدي لهذا الأمر، وحتى لو كانت أقاويلهم ادعاءات فحسب، فهذا يكشف عن عمق المأساة التي تنمى المجتمعات الغربية بالدرجة الأولى فلا تستطيع عنها انفكاكاً، وكلنا يعلم أن أميركا منعت بيع وتداول الخمور في أراضيها قبل سنوات طويلة ولكنها عادت وتراجعت عن هذا القرار إذ لم يمكن تطبيقه، بعد تعوّد الشعب على الخمور وبعد فقدهم للوازع الديني والنفسي الذي يردعهم عن شربه.
جاء في بروتوكولات حكماء صهيون أن على اليهود أن يشيعوا الفحشاء والرذيلة بين مختلف الشعوب ليسهل السيطرة عليها بعد تفّكّك عراها واتباعهم لشهواتهم وهو الأمر الذي بدأوا في تنفيذه منذ عشرات السنين ونجحوا فيه بصورة منقطعة النظير ويحدّثنا التاريخ أن أعداء الدولة الاسلامية في الأندلس حينما رأوا انهم لا يستطيعون التغلّب عليها عسكرياً، ابتكروا طريقة إشاعة الفحشاء بين طبقات المجتمع الأندلسي المسلم ليوهنوا عراه المستحكمة فيُهاجموه في الصميم وقد نجحوا في هذا الأمر وفيما عدا الفساد الأخلاقي هناك الفساد الروحي والنفسي حيث الخواء الديني ضارب أطنابه في المجتمعات البشرية ففي كل وقت تطلع بدعة، ليغرّروا بالناس وليكسبوا الشهرة والمال والقدرة من وراء أعمالهم، فهناك كما يعلم الجميع طائفة تعبد الشيطان في الولايات المتحدة بلد الحرية والديمقراطية الزائفة !
وقد صدق إبليس لعنه الله قوله في غواية الناس، فها هم يعبدونه في أميركا المتحضّرة ! يقول سبحانه وتعالى فيما اقتصّ من خبره:
﴿ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ _ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ _ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ _ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ _ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ _ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ _
ـ(508)ـ
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ _ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾(1).
وقال سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(2).
وقبل فترة انمرى بعض المشعوذين في أميركا طائفة فاتبعوه فما كان منه إلاّ أن أمرهم جميعاً بالانتحار فامتثلوا لـه، وكل هذا ناتج من الخلأ الديني والروحي، الذي يجعلهم يتمسّكون بكل قشّة يظنّون فيها الخلاص. وان دلّ هذا على شيء فإنما يدل على بحث الشعوب المختلفة عن طريق للنجاة والخلاص فأضاعوا الطريق فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار وهذا يعطي الأمل لنا كمسلمين لنشمّر عن هممنا ولنعمل على هداية الناس في مختلف بقاع العالم فهم متعطشون لارواء ظمأهم الروحي والعقائدي ومن أية جهة كانت.
3 ـ سيطرة الاستكبار على مقدّرات دول العالم الثالث:
بدأت القوى الغربية بالسيطرة على دول العالم الثالث منذ مئات السنين في سبيل التحكّم بخيراتها واستغلال موادها الأولية التي تحتاجها في صناعتها وتجارتها وفي سبيل أسر السود ونقلهم من أفريقيا كعبيد يُباعون ويُشترون واستخدامهم في الأعمال الشاقة وغير ذلك، وشيئاً فشيئاً تطورت الحركة الاستعمارية لبلدان العالم الثالث خصوصاً مع اكتشاف البترول الذي يسيّر مصانعهم وسلاحهم فتكلّموا في استخراجه وبيعه وتصديره، فنبذوا أسلوب الاحتلال المباشر للبلد لما يكلّفهم من ثروة عظيمة ولما يثيره من انتقاد واعتراض عند الرأي العام الدولي خصوصاً في الغرب، واستعملوا
_____________________________
1 ـ سورة الحجر: 30 - 43.
2 ـ سورة المجادلة: 19.
ـ(509)ـ
أسلوب بديل ألا وهو تنصيب حكّاماً عملاء لهم تدعمهم بكل شيء في سبيل الإبقاء على مصالحهم ومنافعهم، فاستضعف هؤلاء السلاطين - العملاء، شعوبهم المغلوبة وحكموها بالنار والحديد، ونكّلوا بها أي تنكيل وأشاعوا الفساد والفحشاء ولم يتهاونوا في تقبل علمائهم ومنكريهم وقادتهم الشعبيين الذين يطالبون بالحرية لشعوبهم، وانبثقت من رؤوس بعض هؤلاء الحكّام فكرة إنشاء برلمانات ومجالس نيابية للتخفيف من موجات الاعتراض والانتقاد، وجلبوا لهذه المجالس عملاء خانوا الشعب همّهم هو التصفيق للجلاد في كل ما يعمله ويرتأيه، والهتاف لـه في كل سكناته وحركاته.
ورأينا كيف فعل الله سبحانه بالشاه المقبور حاكم إيران السابق وعميل الولايات المتحدة، بعدما أنهك الشعب الإيراني المسلم بجرائمه وظلمه، فأشاع الفحشاء والمنكرات، وحطّم اقتصاد البلاد من زراعة وصناعة، واعتمد في كل هذا على الغرب الكافر، فأزاحه الله تعالى بيد الإمام الخميني والشعب الإيراني المؤمن، فأراح منه البلاد والعباد. ورجعت طهران لتكون عاصمة الأمة الاسلامية بعد ما كانت توصف بأنها باريس الشرق كما أرادها الغرب المستعمر ولكن تجري الأمور والمقادير بمشيئة الله سبحانه لا بمشيئة الصهيونية العالمية.
4 ـ عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومداهنة الظالمين وعدم ردعهم في البلاد الاسلامية
فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أسمى الفرائض الاسلامية، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
ـ(510)ـ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1).
يقول الشيخ العلاّمة محمد جواد مغنية رحمه الله حول هذه الآية الشريفة:
(لتكن أمر يدل على الوجوب ومن في «منكم» للتبعيض إشارة إلى أن هذا الأمر من فروض الكفايات والخير عام لما يجب فعله وما يجوز تركه، والمراد بالمعروف هنا ما يجب فعله بقرينة وجوب الأمر به والمراد بالمنكر ما يجب تركه بقرينة وجوب النهي عنه.
وتجدر الإشارة إلى أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة دينية عند المسلمين يُستدلّ بها ولا يُستدلّ عليها «وأولئك» الذين يأمرون بالمعروف «هم المفلحون» المنتصرون دنيا وآخرة)(2).
إلاّ بالكاد من المؤسف انّ هذه الفريضة الاسلامية السامية قد انقرضت، وهي فرض كفائي، فتركها من الجميع يعمهم بالإثم ويشملهم.
وقد تهرّب المسلمون من العمل بهذه الفريضة الإلهية نتيجة لابتعادهم عن القيم والموازين الاسلامية ونتيجة لطغيان الفكر المادي المستورد والذي جعل الأكثرية العظمى منهم يسعى لحياته المادية ولرفاهه وسعادته، فما عليه إن رأى الغير يعملون بما ينكره الإسلام وهو نفسه لا يحمل ذرة من دينه سوى ما كُتب في هويته انه مسلم.
وهناك طائفة أخرى تتواكل في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتهرّب منها مدعيّة ان هناك من يقوم بالواجب، وهؤلاء في الواقع مؤيدون لشيوع المنكرات في المجتمع الإسلامي إذ لم يغيروا الحالة بقول أو فعل أو حتى بالإنكار القلبي وهو أضعف الإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
________________________
1 ـ سورة آل عمران: 104.
2 ـ التفسير المبين - المرحوم محمد جواد مغنية - ص 80.
ـ(511)ـ
وهناك طائفة ثالثة أتعس حالاً وأسوأ من الطائفتين السابقتين وهم يفهمون معنى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام حول الإمام المهدي عجل الله فرجه بأنه حينما يظهر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً يفهمون هذا الحديث الشريف فهماً خاطئاً ومعوجاً، إذ يقولون يجب عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً ويقولون أننا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فسوف لا تمتلأ الأرض بالظلم والجور وبالتالي سوف لن يظهر الإمام المهدي عليه السلام مبكّراً.
فمقتضى الحديث الشريف عندهم هو عدم وجوب النهي عن المنكر حتى يتحقق مضمونه ونسى هؤلاء أو تناسوا الآيات والأحاديث الكثيرة التي تأمرنا بهذه الفريضة الإلهية المهمة فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾(1).
فهذا بيان واضح من ربّ العالمين ان على المؤمنين والمؤمنات ان يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وهؤلاء الجهّال بأعمالهم هذه يحبّون ضمناً شيوع المنكرات وتناسوا قول الله سبحانه وتعالى الذي يقول:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(2).
وكل هذا في الواقع تطبيـق عملي لحديث رسول الله محمـد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقـول:
________________________
1 ـ التوبة: 71.
2 ـ النور: 19.
ـ(512)ـ
«كيف بكم إذا فسد نساؤكم وفسق شبّانكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر قيل لـه: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم وشرّ من ذلك وكيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ قيل: يا رسول الله ويكون ذلك قال: نعم وشرّ من ذلك وكيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً»(1).
ونجد هذه الطوائف الثلاثة، هناك أعوان الظلمة ممن يقتات على موائد السلطان ويسبحون بحمده كيف لا وهو وليّ نعمتهم والحافظ لأنفسهم، وهؤلاء شركاء لـه في ظلمه وبغيه، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «من أعان ظالماً على ظلمه سلّطه الله عليه»(2).
وهناك درجات أدنى، كمحبة بقاء الظالم ولو لفترة قليلة كما جاء في الرواية، ان صفوان الحجّال كان يكري جماله للرشيد في موسم الحج فعاتبه الإمام موسى الكاظم عليه الصلاة والسلام على عمله هذا، وقال لـه عليه السلام أتحب بقائهم إلى أن يعطوك كراءك قال نعم، قال عليه السلام: فمن أحبّ بقائهم فهو منهم، فذهب صفوان وباع جماله عن آخرها وهذا تهذيب وتعليم لنا ان لا نشارك الظالمين أعمالهم ولو بشطر كلمة فمن أحبّ قوماً حُشِرَ معهم كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول أمير المؤمنين حول مصير الأمم التي لم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر:
«وإنّ عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه وأيامه ووقائعه فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه وتهاوناً ببطشه ويأساً من بأسه فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن الله تعالى السفهاء لركوب
________________________
1 ـ المختار من حديث المصطفى - اختيار السيد محسن الأمين رحمه الله ص 14.
2 ـ المصدر السابق - ص 22.
ـ(513)ـ
المعاصي والحلماء لترك التناهي».
والفقرة الأخيرة من كلام الأمير عليه السلام تدل بوضوح ان غضب الله تعالى إذا نزل فانه يعم المؤمنين أيضاً إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهذا تحذير منه علّه يفيدنا في المستقبل. وسبل إصلاح الوضع هو العمل عكس ما جاء في الفقرات التالية ولو بصورة تدريجية، وهناك بصيص من نور يبشّر بالخير خصوصاً بعد قيام الدولة الاسلامية في إيران وحملها لواء الإسلام الأصيل والتي أخذت على عاتقها مكافحة الفساد في أراضيها أولاً وفي البلدان الأخرى ثانياً، وفي سبيل هذا العمل المقدس تتحمل كل عدوان وأذىً من الاستعمار العالمي بقيادة أميركا المجرمة والصهيونية الدولية.
وإذا علمنا انّ هناك من يقوم بين الفينة والأخرى في البلدان الاسلامية والنامية وحتى في نفس البلدان الغربية، ويدعو لإصلاح الوضع المأساوي للمجتمعات الإنسانية وتقييد الحرية وكبح جماحها والعودة إلى الالتزام بالقيم الروحية والإلهية، ونبذ العنف والإرهاب، فان كل هذا يبشر بالخير وقد استجاب العشرات بل المئات من الناس لعقولهم وضمائرهم وسلكوا طريق الإسلام بعدما هداهم الله تعالى لذلك، فأحرى بالمسلمين اليوم العودة إلى ينابيع دينهم الصافية والارتواء منها بعد طول فراق وجفاء ولنتمثل قوله سبحانه وتعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾(2).
وتقع على العلماء والمفكرين والفقهاء «خصوصاً في البلاد الاسلامية» مسؤولية
______________________
1 ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح ص 299.
2 ـ النور: 21.
ـ(514)ـ
ضخمة من أجل هداية الناس جميعاً ووعظ الظالمين والجائرين، ففي وصية الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن قال:
«يا معاذ علّمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة وأنزل الناس منازلهم خيّرهم وشرّهم... وذكّر الناس بالله سبحانه وباليوم الآخر واتبع الموعظة فانه (فأنها) أقوى لهم على العمل بما يحب الله تعالى، ثم بث فيهم المعلّمين ولا تخف في الله لومة لائم وأوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد واداء الأمانة وترك الخيانة ولين الكلام وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحب الآخرة والجزع من الحساب وكظم الغيظ وخفض الجناح واحدث لكل ذنب توبة السّر بالسّر والعلانية بالعلانية»(1).
حقاً ما أعظمها من وصية خالدة تُمدُّ لها الأعناق، لو عمل بها البشر لأصلحتهم كلهم، وعلى العلماء والفقهاء أن يضعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي يقول:
«أفضل الجهاد كلمة حق بين يدي سلطان جائر»(2).
و«من أرضى سلطاناً بما يسخط الله تعالى خرج من دين الله»(3).
لئلا ينحرفوا وينزلقوا والعياذ بالله تحت راية الجائر والله العاصم.
5 - الاعتراف بحقوق الأمم والأديان:
قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ________________________
1 ـ المختار من حديث المصطفى صلى الله عليه وآله ـ اختيار السيد محسن الأمين رحمه الله ص 19.
2 ـ المختار من حديث المصطفى صلى الله عليه وآله ـ اختيار السيد محسن الأمين رحمه الله ص 24.
3 ـ نفس المصدر
ـ(515)ـ
وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).
هذا اعتراف واضح منه سبحانه وتعالى بمؤمني أهل الأديان السابقة وبعدم غبن أجرهم عند الله عز وجلّ. والإسلام الحنيف لم يجبر أحداً على اعتناقه فمن لم يؤمن به يمكنه التمتع بأحكام أهل الذمة ويعيش مرتاح البال والضمير في الدولة الاسلامية، لا يمس أحد دينه ومعتقده بسوء ما لم يحدث في عهده، من مساعدة أعداء الدين أو التجاهر بالمنكرات وغير ذلك وهذا الاعتراف بالأديان يمثّل ذروة الإنسانية وقمة التسامح والرحمة.
لا نجد فيها مذهباً آخر غير الإسلام يمتاز بها، فخذوا شاهداً على ذلك الأندلس الاسلامية في أواخر حياتها حينما هاجمها الأعداء وسيطروا عليها فأخذوا ينكّلون بكل مسلم ومسلمة، حتى تنصّر الكثير منهم خوف القتل بعدما آمن المسلمين أهل البلد حينما فتحوا بلادهم وجعلوا لهم مطلق الحرية في العمل بكتبهم ولم يجبروهم على اعتناق الدين الجديد.
ولنلق نظرة على بعض التصرفات التي كانت تتبع ضد المسلمين بعد استيلاء النصارى على الأندلس. يقول الدكتور أسعد حومد:
(لقد ترك ديوان التحقيق «وهو ما كان يُعرف بمحاكم التفتيش» ذكراً يرن في أسماع العصور الخالية ولكنّ الكثيرين يجهلون بالضبط الأساليب التي كان يتبعها هذا الديوان مع الضحايا المساكين الذين يحالون إليه... وقد نقل الأستاذ محمد عبدالله
_____________________
1 ـ سورة البقرة: 62.
ـ(516)ـ
عنان في كتابه (نهاية الأندلس) وثيقة أوردها المؤرخ الأسباني (لورنتي) مؤرخ ديوان التحقيق تضمّنت طائفة من القواعد والإجراءات التي رأى ديوان التحقيق أن يأخذ بها العرب المتنصرين(1) في موضوع تهمة الكفر والزندقة والارتداد عن النصرانية، رأينا أن نقتبسها هنا لما فيها من غرابة وبعد عن روح الإيمان وظلم يعتبر الموريسكي (العربي المتنصّر) قد عاد إلى الإسلام إذا امتدح دين (النبي) محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ أو قال أن يسوع المسيح ليس إلهاً وليس إلاّ رسول أو إنّ صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمّه ويجب على كل نصراني أن يبلّغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يُبلّغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأنّ أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الاسلامية ومنها أن يأكل اللحم يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباح لـه، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية.
أو يستقبل المشرق في صلاته قائلاً: بسم الله أو يربط أرجل الماشية عند ذبحها أو يرفض أكل الماشية التي لم تذبح أو لحم الماشية التي ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده أو يسميهم بأسماء عربية أو يعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة. أو يقول أنه يجب ألاّ يعتقد إلاّ في الله وفي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ رسوله أو يقسم أيماناً بالقرآن أو يصوم في رمضان أو يتصدّق في خلاله ولا يأكل ولا يشرب إلاّ عند الغروب أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجّه وجهه جهة المشرق ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لرسول الشريعة الإسلامية، أو ينشر الأغاني العربية أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن تستعمل النساء الحنّاء في صبغ أيديهنّ وشعورهنّ أو يتبع قواعد الرسول محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ الخمس أو يمسح بيده
_______________________
1 ـ المسلمون الذين أجبرهم النصارى الذين استولوا على أسبانيا أن يأخذوا بدين المسيحية.
ـ(517)ـ
على رؤوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القاعدة، أو يغسل الموتى أو يكفّنهم بأثواب جديدة أو يستغيث (بالرسول) محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ عند الشدّة ناعتاً إياه بالنبي أو برسول الله... أو يقول انّ الكعبة هي أولّ معابد الله سبحانه(1).
ويقول المؤرخ الأسباني مارمول: «كان المورسيكيون يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد فإذا ذهبوا إلى القداس أيام الآحاد فانهم كانوا يفعلون ذلك مراعاة للعرف والنظام (وفي الحقيقة انّ الكنيسة جعلت ذلك فرضاً عليهم ومن تأخّر عن ذلك عوقب وعرّض نفسه لأشد الأخطار) وهم لم يقولوا أبداً الحقيقة في اعترافهم أمام القسس في الكنائس وفي يوم الجمعة يجتمعون ويغتسلون ويقيمون في منازلهم المغلقة الصلاة طبقاً للشريعة الإسلامية، وفي أيام الآحاد يحتجبون ويعملون وإذا عمّدوا أطفالهم عادوا إلى منازلهم فغسلوهم سرّاً بالماء الحار، ويُسمّون أولادهم بأسماء عربية وفي حفلات الزواج تذهب العروس إلى الكنيسة لتلقّي البركة ولكنها متى عادت إلى بيتها نزعت ملابسها النصرانية وارتدت ثياباً عربية وأقاموا حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية)(2).
وهذه شهادة من كاتب نصراني وهي إن دلّت على شيء فإنما تدل على تمسك المسلمين سرّاً بمبادئ دينهم الحنيف فلم يردعهم عن هذا كل أساليب القتل والتعذيب والتنصير فقد ملأ الإسلام قلوبهم وتغلغل في جوارحهم.
ويقول الدكتور أسعد حومة في موضع آخر: «راوياً قصة اكتشاف زنزانات التعذيب على يدي الكولونيل ليمونسكى الضابط في الحملة الفرنسية على أسبانيا:
______________________
[1] ـ محنة العرب في الأندلس - الدكتور أسعد حومة ص 344 - 345.
2ـ محنة العرب في الأندلس - الدكتور أسعد حومة ص 345 - 346.
ـ(518) ـ
(وهبطت على درج السُّلّم يتبعني سائر الضبّاط والجنود شاهرين سيوفهم، حتى وصلنا آخر الدرج فإذا بنا في غرفة كبيرة مربعة هي عندهم قاعة المحكمة في وسطها عمود من الرخام به حلقة حديدية ضخمة رُبطت بها سلاسل كانت الفرائس تقيد بها رهن المحكمة... ثم توجهنا إلى غرفة آلات التعذيب وتمزيق الأجساد البشرية، وقد رأيت فيها ما يستفز نفسي ويدعوني إلى التقزّز ما حييت رأينا غرفاً صغيرة في حجم جسم الإنسان بعضها عمودي وبعضها أفقي فيبقى سجين العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يُقضي عليه، ويبقى سجين الأفقية ممّدداً حتى يموت، وتبقى الجثة في السجن الضيق حتى تبكي ويتساقط اللحم عن العظم. وقد عثرنا على عدة هياكل بشرية ما زالت في أغلالها سجينة، والسجناء كانوا رجالاً ونساءاً تختلف أعمارهم بين الرابعة عشرة والسبعين.
واستطعنا فكاك بعض السجناء الأحياء وتحطيم أغلالهم وهم على آخر رمق من الحياة، وكان فيهم من جنّ لكثرة ما لاقى من عذاب، وكان السجناء عراة زيادة في النكاية بهم حتى اضطر جنودنا أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها لفيفا من النساء السجينات...
عثرنا على آلات لتكسير العظام وسحق الجسم، وكانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل ثم عظام الصدر والرأس واليدين وذلك كله على سبيل التدرج، حتى تأتى الآلة على البدن المهشّم فيخرج من الجانب الآخر كتلة واحدة، وعثرنا على صندوق في حجم رأس الإنسان تماماً يوضع فيه الرأس المعذّب يُربط صاحبه بالسلاسل من يديه ورجليه فلا يقوى على حركة وتقطّر على الرأس من ثقب في أعلى الصندوق نقط، الماء البارد فتقع على رأسه بانتظام، في كل دقيقة نقطة وقد جُنَّ الكثيرون من ذلك اللون من التعذيب قبل أن يحملوا به على الاعتراف، ويبقى المعذّب على حاله تلك حتى يموت.
وعثرنا على آلة ثالثة للتعذيب تُسمى بالسيدة الجميلة وهي عبارة عن تابوت تنام فيه صورة فتاة جميلة مصنوعة على هيئة الاستعداد لعناق من ينام
ـ(519)ـ
معها، وقد برزن من جوانبها عدة سكاكين حادّة وكانوا يطرحون الشاب المعذّب فوق هذه الصورة ثم يطبقون عليها باب التابوت بسكاكينه وخناجره فإذا أغلق تمزّق جسم الشاب وتقطع أرباً، كما عثرنا على جملة آلات لسلِّ اللسان ولتمزيق أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة ومجالد من الحديد الشائك لضرب المعذّبين وهم عُراة حتى يتناثر اللحم عن العظام)(1).
يقول الدكتور أسعد حومه: هذه قصة ديوان التفتيش رواها شاهد عيان وهي لا تحتاج إلى أي تعليق عليها والذي يمكن أن نضيفه إلى رواية الكولونيل الفرنسي، هو انّ مشاهداته كانت عام 1809 وان المعاملة واقعة على كاثوليك مسيحيين فكيف بمعاملة الديوان للمسلمين قبل ثلاثة قرون قبل أن تنصقل العواطف وتتهذّب النفوس بعض الشيء وتنتشر فكرة الحرية في العالم ؟ أنها بلا شك تتجاوز أضعاف ما ورد في هذه الرواية(2).
يا لها من وحشية ونذالة وخباثة، بعد كل الذي ذاقوه من سماحة وعدالة المسلمين الفاتحين ونزاهتهم ورحمتهم، (ومنذ أن حقّق المسلمون أول نصر لهم في أسبانيا بدأوا بتطبيق قواعدهم العامة دون تخبّط أو اضطراب، فوجد الأسبان من المسلمين عدلاً ووفاءاً بالعهد وحرية تامة للمجتمع القائم وأعرافه، وعدم تدخل في شؤونه الدينية فدخلت أفواج من الأسبان في الدين وخصوصاً الطبقات الفقيرة والفلاحين الذين حرّرهم الإسلام من ربقة العبودية، ورفع شأنهم وساواهم بمن كانوا في جيش الفتح من المسلمين السابقين وهي أمور لم يكونوا يطمعون فيها أو يحلمون بمثلها إذ كانت غريبة عن روح العصر وعن تقاليد المجتمع الغربي في ذلك الحين. أما الذين
__________________________
1 ـ محنة العرب في الأندلس، د. أسد حومه ص 348 - 349.
2 ـ محنة العرب في الأندلس، د. أسعد حومه ص 350.
ـ(520)ـ
أرادوا الإقامة على دينهم فقد ترك لهم العرب الحرية التامة في ممارسة دينهم وجعلوا لهم نوعاً من الاستقلال الإداري والقضائي مارسوه بأشراف كنيستهم وأعيانهم.
ويُحسن بنا أن نلقي نظرة على ما قاله (غوستاف لوبون) الفرنسي حول أسبانيا أيام الحكم الإسلامي:
«كان العدل بين الرعية دستور العرب السياسي وقد تركوا الناس أحراراً في أمور دينهم وأظلّ العرب أساقفة الروم ومطارقة اللاتين فقال هؤلاء ما لم يعرفوه سابقاً من الدعة والطمأنينة استطاع العرب أن يحولوا أسبانيا مادياً وثقافياً في بضعة قرون وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوربية... كان لهم الأثر البالغ في أخلاق الناس فهم الذين علّموا النصارى كيف يكون التسامح الذي هو أثمن ما تصبوا إليه الإنسانية وقد بلغ حلم عرب أسبانيا إزاء النصارى مبلغاً كانوا يسمحون به لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر اشبيلية النصراني الذي عقد في تموز 782 م)(1).
وهذا اعتراف واضح من أحد أقطاب الغرب بتسامح ورحمة المسلمين والفضل ما شهدت به الأعداء. قال سبحانه:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(2).
وهذا دليل واضح وبيّن ان الإسلام لا يجبر أحداً على الإيمان به فكل ما يختار لنفسه والحساب غداً عند الله سبحانه وتعالى. وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾(3).
_____________________
1 ـ محنة العرب في أسبانيا، د. أسعد حومه ص 379 - 381.
2 ـ سورة البقرة: 256.
3 ـ سورة الكهف: 29.
ـ(521)ـ
والقرآن الكريم زاخر بالآيات الشريفة والتي تدل على حرية المعتقد والمذهب في الشريعة الاسلامية، فالدين يدخل القلب عن طريق الاقتناع النفسي وعن طريق الموعظة، ولا يمكن لـه أن يعمر القلوب عن طريق السيف والإرهاب، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(1).
وهذا دليل واضح على نبذ الإسلام لأسلوب الدعوة عن طريق القوة والبطش، قيل انه عندما كان أمير المؤمنين علي أبي طالب عليه الصلاة والسلام خليفة رأى شيخاً يسأل الناس فقال عليه السلام: ما هذا ؟ فقيل لـه هذا نصراني عاجز عن العمل ويسأل الناس.
فقال عليه السلام: لقد استفدتم منه حينما كان شاباً وقادراً على العمل وتركتموه حينما عجز، أجروا لـه رزقاً من بيت المال، هذه هي عظمة وسماحة الإسلام تجاه أهل الذمة، وهذا التصرّف يُجسّد الخلق الإسلامي الرفيع والعطف والرحمة اللذان يتسم بهما أمير المؤمنين عليه السلام.
ويعترف سبحانه وتعالى بحقوق الأديان الأخرى يقول عز وجلّ:
﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(2).
ويأمرنا سبحانه وتعالى أن نتعامل مع أهل الكتاب بالعدل والقسط والإنصاف كل هذا ليروا بأم أعينهم طريقة تصرّف الإسلام معهم وبالتالي قد تميل قلوبهم وتنعطف نحو الإيمان وهو ما يريده سبحانه منهم، يقول سبحانه وتعالى:
_________________
1 ـ سورة النحل: 125.
2 ـ سورة العنكبوت: 46.
ـ(522)ـ
﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾(1).
وقال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(2).
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في كتاب لـه إلى أصحاب الخراج:
«... ولا تمسّن مال أحد من الناس مصل ولا مُعاهد (الذمي) إلاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام»(3).
وهذا اعتراف واحترام لأموال أهل الكتاب.
ويقول عليه الصلاة والسلام في كتابه لمالك الأشتر رحمه الله لما ولاّه مصر:
«واشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم فانهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تُحب وترضى أن يعطيك الله سبحانه من عفوه وصفحه فانّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاّك»(4).
هذا دستور عظيم من أمير المؤمنين عليه السلام بمراعاة حقوق أهل الكتاب وجعلهم بموازاة المسلمين، نادراً ما نجد هذا الاحترام في دساتير الأمم والشعوب في الماضي والحاضر، وهذا الدستور الكريم يشعرنا بالحقوق التي لأهل الملل والأديان
__________________________
[1] ـ سورة النحل: 90.
2 ـ سورة الحجرات: 9.
3 ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح ص 425.
4 ـ نهج البلاغة - صبحي الصالح ص 427 – 428
ـ(523)ـ
الأخرى كما هي للمسلمين وان على ولاة الأمر معاملتهم بالمحبة والعطف واللين والسّماحة وأن يضرب على أيدي العابثين بأرواحهم وأموالهم وحريتهم حتى يعيشوا بأمن وسلام وطمأنينة في مجتمع المسلمين.
وأخيراً نعرض لقوله سبحانه وتعالى عن مؤمني أهل الكتاب: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ _ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ _ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ _ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(1).
يقول العلامة محمد جواد مغنية: (يعلن القرآن على الأجيال أنّ علماءاً أبراراً من اليهود والنصارى قد آمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وآله والقرآن، وليس هذا إخباراً عن الغيب بل عن شيء مادي محسوس وملموس فلماذا يخرس المكذبون بالقرآن ولا يقولون هذه دعوى بلا أساس ؟
﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ﴾ إذا تُلي القرآن الكريم على العلماء الأبرار من أهل الكتاب يؤمنون بالرسولـ صلى الله عليه وآله ـ لأنهم قرأوا أوصافه في توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام والحق باب من أبوابه تعالى يفتحه لكل من طلب الحق بقصد العمل به ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ بالرسول محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ لأنهم يؤمنون بالتوراة والإنجيل والإيمان بهما إيمان بالنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ مرة على إيمانهم بالتوراة والإنجيل
_______________________
1 ـ سورة القصص: 52 ـ 55.
ـ(524)ـ
الصحيحين ومرة على أيمانهم بالقرآن صابرين على أذى السفهاء والمجرمين في سبيل الحق ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ لا يقابلون السيئة بمثلها بل يتنزّهون ويصفحون ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ لوجه الله تعالى لا للسمعة وحبا بالشهرة ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ...﴾.
ان وقتنا اعز واثمن من اللغو والعبث ومن مخاطبة السفهاء ومخالطتهم في شيء وكل من بادر إلى الكلام بما يحظر على ذهنه أو يتكلّم بما لا ينفع ويقول بما لا يعلم فهو أحمق فكيف إذا أساء إلى الناس بسفاهته وسفالته(1).
والحمد لله رب العالمين
________________________
[1] ـ التفسير المبين ـ العلامة محمد جواد مغنيه رحمه الله ص 514 ـ 515.