جامع الزيتونة والقضية الفلسطينية
جامع الزيتونة والقضية الفلسطينية
د. منير رويس
المقدمة:
أفرز جامع الزيتونة بتونس في تاريخه المعاصر مجموعة من العلماء آمنوا بالإصلاح وسعوا إلى نشر أفكارهم الاصلاحية، واعتبروا أن الاستعمار مضر بالمسلمين في مختلف المناطق، ونادوا بضرورة تحسين الأوضاع والتحرر.
ولم تقتصر دعوات المصلحين من جامع الزيتونة على تحسين الأوضاع بالبلاد التونسية فحسب بل طالبوا بها في كامل مناطق العالم الإسلامي المحتلة أو التي تخشى الاحتلال. ومن هذه المناطق القدس بفلسطين التي صارت هدفا للمستعمرين لتحويل صبغتها العربية والإسلامية، وكانت رغبة شيوخ الزيتونة في نصرتها واضحة وصريحة إذ اعتبروا الدفاع عنها أمرا ضروريا.
فما هو الإطار التاريخي العالمي والمحلي العام في النصف الأول من القرن العشرين؟ وكيف ناضل الزيتونيون من أجل الدفاع عن القدس خاصة وفلسطين عامة؟
1) الإطار التاريخي العالمي العام:
أ- الإطار السياسي العالمي:
اخترنا أن نتناول بالدراسة حقبة متميزة من التاريخ المعاصر وهي فترة النصف الأول من القرن العشرين لتميزها بكثرة المناضلين من الزيتونة من أجل فلسطين. ونقدم بإيجاز أهم م ملامح هذه الفترة مؤكدين على النقاط التالية:
- اندلاع حربين عالميتين خلال فترة قصيرة من الزمن: الحرب العالمية الأولى وتواصلت من 1914 إلى 1918، والثانية تواصلت من 1939 إلى 1945. وكبدت الحربان العالم خسارة كبيرة بشريا وماديا، وانعكست أحداث الحربين العالميتين على العالم العربي والإسلامي بصفة مباشرة وغير مباشرة.
- تواصل السيطرة الأوروبية على غالبية أراضي العالم العربي الإسلامي، ومنها السيطرة التي حصلت في أعقاب القرن التاسع عشر للميلاد (الجزائر1830 وتونس 1881) أو التي حصلت في مطلع القرن العشرين (ليبيا 1911، والمغرب الأقصى 1912، والعراق وبلاد الشام 1922). واختصت الفترة بتعسف استعماري غاشم أضر بالبلاد والعباد في كل البلاد العربية والإسلامية، وولّد الأمر حركات نضالية راغبة في تحسين الأوضاع.
- تجذر الحركات الوطنية النضالية ومنها حركات التحرر ببلدان المغرب العربي التي كافحت من أجل تحسين أوضاع بلدانها. واختصت تحركات الوطنيين بتوسيع دائرة مطالبهم النضالية والتفاعل مع ما يجري في المشرق من أحداث.
وليس أدل على ذلك من اهتمام الوطنيين –التونسيين مثلا- بمسألة القدس وفلسطين الذين هددهما الاستعمار الأوروبي والخطر الصهيوني. وهو ما سنعمل على توضيحه خلال هذا العمل.
ب- جامع الزيتونة:
جامع الزيتونة مؤسسة تعليمية وتربوية عريقة، نشطت فيها الحياة العلمية في النصف الأول من القرن العشرين وصارت قبلة للآلاف من الطلبة من مختلف مناطق البلاد التونسية ومن خارجها( ليبيا والجزائر أساسا). ونظرا لصبغتها التقليدية فقد تعالت فيها أصوات منادية بالإصلاح وهي أصوات الشيوخ المتنورين كالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وابنه محمد الفاضل ابن عاشور وغيرهما. وكذلك أصوات الطلبة الذين كثرت تحركاتهم حتى تحولت إلى منظمات كصوت الطالب الزيتوني الذي ظهر في آخر الأربعينات من القرن الماضي.
تدعم نشاط جامع الزيتونة بظهور الجمعية الخلدونية وهي جمعية إصلاحية تكونت بتونس في آخر القرن التاسع عشر وتنوعت أشكال نشاطاتها ومنها المحاضرات التي تناولت بالدراسة قضايا العالم العربي الإسلامي ومنها قضية القدس والأخطار المحدقة به.
وتخرج من جامع الزيتونة، مثقفون وطنيون آمنوا بالإصلاح ونادوا به واتخذوه مسلكا في حياتهم إلى الممات. وشملت أعمالهم المستوى الوطني التونسي أولا والمستوى العربي الإسلامي ثانيا. وإننا في بحثنا هذا سنتوقف عند البعض منهم، وهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي والشيخ محمد الفاضل ابن عاشور والشيخ محمد الصالح النيفر وغيرهم.
ج- القدس والمسألة الفلسطينية:
شهدت مدينة القدس، الحاضرة الكبرى بفلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، أحداثا كبيرة ومرت وضعيتها السيادية بتغيرات كثيرة. فكانت في مطلع القرن العشرين تابعة للدولة العثمانية، وأثناء أحداث الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما بعدها، تغيرت وضعيتها بسبب الأجندا التي رسمها المحتل الأوروبي للمنطقة. فهي منطقة دولية حسب اتفاقية سايكس بيكو (1916) ثم هي منطقة تابعة للانتداب الانجليزي حسب اتفاقية سان ريمو (1922).
وزادت وضعية القدس تعقيدا لما تدخلت الصهيونية في المنطقة مدعومة بالاستعمار الانجليزي، فاكتسب اليهود الصهاينة وعد بلفور (2نوفمبر1917) ووجدوا تسهيلات للهجرة إلى فلسطين فتوافدوا عليها بكثافة بداية من أواخر القرن التاسع عشر وطوال النصف الأول من القرن العشرين.
تزايدت أخطار طمس الهوية العربية بفلسطين وتحرك الفلسطينيون من الداخل بطرق مختلفة، كما تحرك المسلمون من خارج فلسطين لمساندتهم وناضلوا من أجل حمايتها والذود عنها. ومن الفاعلين في هذا المجال شيوخ الزيتونة وتلاميذها، ومنهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي والشيخ محمد الفاضل ابن عاشور.
د- مكانة القدس عند الزيتونيين:
للقدس مكانة كبيرة في نفوس الزيتونيين وتفسر ذلك عدة عوامل أهمها:
- الانتماء إلى "الأمة الإسلامية" الواحدة، والشعور بضرورة الاهتمام بما يشغل المسلمين في شتى مناطق العالم الإسلامي. ويتأكد هذا الشعور عندما يتعلق الأمر بالقدس التي تختص بمكانة عالية عند المسلمين جميعا. فالقدس مذكورة في القرآن الكريم قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)([1])
وفي الحديث النبوي ورد ذكر المسجد الأقصى. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)([2]).
وفي الحديث أيضا: عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره، مائة ألف صلاة وفي مسجدي ألف صلاة، ومسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة)([3]).
- ظهور فكرة "الجامعة الإسلامية"، والتي تهدف إلى الحفاظ على العالم الإسلامي من الضياع والدخول تحت المستعمر، خاصة بعد أن ظهر ضعف الدولة العثمانية. وأطلق هذه الفكرة المصلح جمال الدين الأفغاني وتبناها من بعده عدد من رجال الإصلاح كالشيخ عبد العزيز الثعالبي وكذلك الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور.
- اعتبار الدفاع عن القدس وكذلك فلسطين هو جزء من النضال الوطني ضد المستعمر الأوروبي وهو ما عبّرت عنه كتابات رجال الإصلاح في الصحافة، وعبّرت عنه أيضا أقوالهم في خطاباتهم السياسية.
2) الشيخ عبد العزيز الثعالبي صاحب السبق في الدفاع عن القدس:
أ- الشيخ عبد العزيز الثعالبي ونضالاته:
ولد الشيخ عبد العزيز الثعالبي في مدينة تونس سنة 1293هـ /1875م في أسرة من أصل جزائري، تختص بالعلم والفضل والدين والجهاد. ترعرع في رعاية جده عبد الرحمان الثعالبي، أحد مجاهدي الجزائر ووجهائها المعروفين.
حفظ عبد العزيز الثعالبي القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، ودرس النحو والعقائد والآداب قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة الذي أمضى فيه سبع سنين، وتخرّج في عام 1896 حاملا شهادة التطويع، ثم تابع دراسته العليا في مدرسة الخلدونية، ثم انخرط في الحياة العامة، مجاهدا منذ صغره في سبيل الله، وبقي مناضلا وفيا لمبادئه إلى آخر حياته.
بدأ الشعور الوطني عند الثعالبي مبكر. وقد وصف شعوره الوطني القوي الكامن في فؤاده منذ عهد الصبا في خطاب الوداع بدار مجلة الرابطة العربية بالقاهرة (17 جوان 1937) فقال متحدثا عن ذكريات الصبا حينما نزلت جيوش الاحتلال الفرنسي بتونس:
"لا بدّ أن نعمل لتحرير بلادنا بعد احتلال فرنسا لها في ماي 1881 وكانت في طريق قرب من بيتنا وأنا صغير حينما دخل الجيش الفرنساوي تونس، فرأيت الكآبة تخيّم على وجود التونسيين، فاستغربت ذلك وكنت أجهل السبب وذهبت إلى جدي فوجدته يبكي لأول مرة فقلت مندهشا: لم البكاء يا جدي؟ هل ضربك أحد؟ قال: نعم، إن البلاء انصب علينا فيجب أن نرحل من هذه البلاد التي نعيش فيها، ولكني قد بلغت من الكبر عتيا، لا أستطيع أن أرحل. وإني خائف وجل أن تصيروا في المستقبل فرنسيين، وكشف وأراني محل رصاص في صدره، فقلت: سأضرب من ضربك."([4]).
بهذه الكلمات عبر الثعالبي عن بدء تكون شخصيته الوطنية. لقد تأثر بمحيطه واكتملت فيه خصال الوطنية الرامية إلى الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية ولم تقتصر وطنيته على حب البلاد التونسية بل تعدت ذلك إلى فضاء أرحب هو العالم الإسلامي برمّته.
آمن الثعالبي بالعمل الجماعي، فانخرط في شبابه في حركة تونس الفتاة (أو حركة الشباب التونسي) وناضل إلى جانب الأخوين محمد وعلي باش حامبة. وأفضت تحركاتهم إلى نمو الوعي الوطني لدى التونسيين. وزاد هذا الوعي بتكوين حزب مناضل ينادي بتحسين أوضاع البلاد التونسية، وكان الثعالبي وراء تكوين هذا الحزب الذي أطلق عليه اسم الحزب الحر الدستوري التونسي (1920).
لم يكن الشيخ عبد العزيز الثعالبي ليحصر اهتمامه في الوضعية التونسية المتردية في ظل الاستعمار، بل كان يحمل هموم الأمة الإسلامية على عاتقه، ويسعى إلى تقديم ما يستطيع من عون ومساعدة لها، وهذا ما نلمسه في حياته وفي رحلاته ومذكراته وكتاباته ومحاضراته.
كان الثعالبي كثير الترحال وزار عدة دول إسلامية وخبر أوضاعها واكتسب معرفة شاملة لظروفها واقتنع بضرورة الدفاع عنها في صلب هيكل موحد. واعتبر الدارسون أن جهوده توّجت بالمؤتمر الإسلامي الأول بالقدس (1931) وهو ما سنتعرض إليه لاحقا.
تتجلى جهود الثعالبي في الدفاع عن العالم الإسلامي في عدة أنشطة أهمها:
- الكتابة الصحفية: فقد أصدر جريدة سبيل الرشاد (1895) ودعا في افتتاحيات أعدادها إلى نصرة المسلمين ومقاومة المحتلين وخاصة الأنجليز.
لقد قال في افتتاحية عدد 16 ديسمبر 1895 أنه سخّرها لـ "خدمة الملة الإسلامية عموما والجامعة التونسية خصوصا". وفي العدد نفسه دافع عن الخلافة الكبرى وممثلها السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918).
كما هاجم في الجريدة نفسها السياسة الاستعمارية البريطانية وأظهر دسائسها، واعتبر أنها تستهدف تفكيك أواصر الدولة العثمانية.
وتأكد هذا الاتجاه الوحدوي الإسلامي في فكر الثعالبي في اسم الجريدة التي أسسها في 1911 وهي جريدة "الاتحاد الإسلامي".
- حضور المؤتمرات الإسلامية: فقد كان الثعالبي حاضرا في مؤتمر الخلافة المنعقد بالقاهرة عام 1926، حضره بتكليف من ملك العراق فيصل الأول ابن الشريف حسين. وشهد الثعالبي في المؤتمر تباحثا حول إمكانية جعل الخلافة الإسلامية في القاهرة بعدما تخلى عنها الأتراك منذ سنة 1924.
- إصدار بيانات مساندة للشعوب المستعمرة: فقد وقف إلى جانب ليبيا في حربها ضد الاستعمار الإيطالي عام 1911، ودعا إلى تقديم العون العسكري والمادي والمعنوي لها. وكان يتابع بانتباه ما يجري في العالم الإسلامي.
- ربط علاقات مع مفكري العالم الإسلامي ومصلحيهم مشرقا ومغربا: فقد كان الثعالبي يتراسل مع عدد منهم، ويتبادل معهم الآراء في شأن تحسين الأوضاع بالعالم الإسلامي وسبل تحقيق ذلك.
وقد نشرت رسائله في عدة كتب ومجلات ومنها كتاب الباحث أحمد خالد حول الشيخ الثعالبي، ومجلة الهداية التونسية التي نشرت عدة رسائل توجه بها الشيخ الثعالبي لأصحابه وصدرت بالمجلة في عدد 26 مارس 2001 وما بعده من أعداد.
وفي 1944 توفي الشيخ عبد العزيز الثعالبي، بعد حياة حافلة بالكفاح، لم يذق خلالها طعم الراحة، ولا سعى لمصلحة ذاتية، وقد جمع في نضاله بين العمل من أجل بلاده (تونس) ومختلف مناطق العالم الإسلامي ومنها فلسطين.
ب- المؤتمر الإسلامي بالقدس ودور الشيخ الثعالبي في انعقاده:
انعقد المؤتمر الإسلامي ببيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج في 27 رجب 1350هـ الموافق لـ7 ديسمبر 1931م ودعي إليه كبار العالم الإسلامي وأعيانه من جميع الأقطار، لينظر في شؤون المسلمين عامة، وللدفاع عن إسلامية بيت المقدس وعروبته مع تزايد التهديدات الصهيونية لفلسطين والقدس. وقد عمل البريطانيون على منع انعقاد المؤتمر وشنوا عليه حملة صحفية شرسة على منظميه وبرزت أقلام صهيونية جاهرت بمعاداة المؤتمر ونادت بإفشال انعقاده.
ورغم ذلك نجح المنظمون في عقد المؤتمر في موعده في القدس وهم: الحاج أمين الحسيني، من فلسطين، والشيخ عبد العزيز الثعالبي، من تونس، وشوكت علي، من الهند. ونجح هؤلاء في جمع مئة وخمس وأربعين شخصية إسلامية من اثنين وعشرين بلدا.
ومن أبرز الشخصيات التي حضرت المؤتمر الشيخ رشيد رضا، عن مجلة المنار، وشيخ الأزهر محمد الحسين آل كاشف الغطاء، الذي أم المسلمين في الصلاة في المسجد الأقصى، وشاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال (1873-1938)، وعبد الرحمان عزام (1894-1959)، ورجل الدولة رياض الصلح (1894-1951) عن لبنان، وضياء الدين الطباطبائي رئيس الوزراء السابق عن إيران، (والذي سيكون أمين السر العام للمؤتمر)، وعبد القهار أفندي عن أندونيسيا، وغيرهم كثيرون.
إن وجود مثل هذا الحشد من الشخصيات الفاعلة في العالم الإسلامي، ببيت المقدس، جعل المؤتمر يتحول عن برنامجه المتعلق بالقدس وفلسطين، إلى تناول مواضيع تخص الحالة العامة للعالم الإسلامي في مختلف البقاع، وهذا ما انعكس على مداولات المؤتمرين وقراراتهم.
لقد عرف المؤتمرون برنامج المؤتمر قبيل انعقاده. وكان الثعالبي قد بين أهداف المؤتمر وبرنامجه في رسالة وجهها من القدس يوم 17 ديسمبر 1931م إلى صديقه، المحامي والصحفي المصري، محمد لطفي جمعة (1886-1953).
يقول الشيخ الثعالبي في مراسلته([5]): "أما مدار أبحاث المؤتمر فسيكون حول نقاط ثلاث:
1- البراق، وهو الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي اتخذه اليهود مبكى لهم وحاولوا أن يتخذوه في عهد الانتداب الانجليزي معبدا أو كنيسا يقيمون فيه شعائرهم وطقوسهم القومية، وقصدهم أن يتذرعوا بهذه الوسائل إلى امتلاك هيكل سليمان وتحويل مسجد الصخرة إلى مذبح يهودي، ومن وراء ذلك إقصاء المسلمين والعرب بالتدريج عن أرض الميعاد، وإحلال اليهود فيها محلهم.
2- اتخاذ التدابير الفعالة لإقرار رسالة المسلمين في فلسطين إلى الأبد.
3- جعل فلسطين مركزا لإنشاء ثقافة إسلامية جديدة تنير بصائر العالم بالهداية والعلم.
وفوق ذلك، النظر في توزيع تكاليف هذه المشاريع على الأقطار الإسلامية وتكوين رأس مال يقوم بسد حاجياتهم في المستقبل التي فيها إحداث جامعة إسلامية في فلسطين لتخريج أبطال وقادة فكر النهضة الإسلامية في العالم".
وانطلق المؤتمر وكان الثعالبي في أعماله، كما وصفه حامد المليجي محرر جريدة البلاغ: "خطيبا متحمسا، فاستعرض التاريخ منذ ظهور الإسلام وتلألؤ قوته إلى الحالة التي وصل إليها أهله اليوم، ثم ناشد المجتمعين أن يعملوا باسترجاع المكانة التي كانت لأمتهم."([6]).
وخاض المؤتمر في عدة مسائل منها: النظر في الطرق الجديرة بالاتحاد لاستبقاء فلسطين بلادا عربية إسلامية. وكانت الأماكن المشرفة ومنها خاصة البراق الشريف وحائط البراق [الذي يسميه اليهود حائط المبكى]، وهو مسرى النبي محمد ومعراجه صلى الله عليه وسلم، من أعظم مواضيع المؤتمر أهمية، لعلاقته بالأماكن المقدسة الإسلامية في فلسطين المعرضة لخطر المطامع الصهيونية والاستعمارية.
وقد استنكر المؤتمرون قرار لجنة البراق الدولية، السماح لليهود بأداء الطقوس أمام الحائط في الأعياد اليهودية، مؤكدين الاستمرار في الاحتجاجات ضد الهجرة الصهيونية، وضد السماح ببيع الأراضي لليهود مع احتفاظ فلسطين بحق تقرير مصيرها بنفسها.
وكون المؤتمرون من أجل ذلك لجنة البراق الدولية، لمواجهة الأطماع الصهيونية في فلسطين "تاج السلطنة العربية العظيمة". وما هي إلا أمانة المسلمين جميعا موضوعة في أعناق الفلسطينيين" كما جاء في قول الثعالبي في كتابه الذي كتبه عن المؤتمر([7]).
وانتخب الثعالبي عضوا في المكتب الدائم عن اللجنة التنفيذية للمؤتمر، وقد أثنى عليه مفتي فلسطين أمين الحسيني لـ " فضله الأكبر في إنجاح المؤتمر الإسلامي الأول بالقدس" في رسالة وجهها إليه في 20 جانفي 1932.([8]).
وقد كان المؤتمر قد انتهى إلى مقررات أهمها المحافظة على البقاع المقدسة بشتى الوسائل، والتصدي لكل مؤتمرات الصهاينة لتهويد القدس، وانتخاب لجنة خاصة تطوف على جميع الملوك والأمراء والأثرياء المسلمين لجمع التبرعات على أن يسمى الذين يتبرعون بمبالغ وافية: "حماة المسجد الأقصى"، وتنقش أسماؤهم في لوحات تعلق تعلق في المسجد. وتقرر كذلك، إنشاء جامعة إسلامية عليا في القدس تفي بحاجة المسلمين في دينهم ودنياهم، وتسمى جامعة المسجد الأقصى الإسلامية، وقد وصلت تبرعات عديدة إلى الحاج أمين الحسيني، بهدف إنشاء الجامعة المذكورة، إلا أن سلطات الاحتلال البريطاني عطلت المشروع، وضغطت على العديد من قادة الدول الإسلامية، لوقف دعم المشروع.
لقي المؤتمر معارضة من الصهاينة الذين أخذوا يؤثرون في شؤون المنطقة بعدما تزايدت أعدادهم بفلسطين بسبب الهجرة.
وما إن سمع الصهاينة باقتراب موعد المؤتمر حتى بدأوا يسعون لإفساد عقده بأي وسيلة، وقد كانوا يروجون أن دعاة المؤتمر يهدفون إلى جعل الخلافة في بيت المقدس، وذلك لتأليب الاستعمار البريطاني والفرنسي على المنظمين والمدعوين، فبدأت جريدة "البالسين بوليتين" الصهيونية تنشر الأخبار بأن شوكت علي (الهندي) أحد منظمي المؤتمر يسعى لجعل الخلافة في بيت المقدس وذلك بجلب السلطان محمد وحيد الدين إليها. ولما تفطن الصهاينة أنهم كتبوا اسم رجل (محمد وحيد الدين) متوفى، عوضوا اسمه باسم السلطان عبد الحميد الذي خلع منذ مارس 1924. وبذلك تمادوا في تشهيرهم بالمؤتمر والمؤتمرين.
ونشطت شركات البرقيات اليهودية ورويتر وغيرها من الوكالات لإذاعة الأخبار المغرضة ضد المؤتمر وجعلت المسألة مرتبطة كليا بإيجاد خليفة للمسلمين واتخاذ فلسطين مقرا لهذه الخلافة.
وبذل الشيخ عبد العزيز الثعالبي، قبل المؤتمر، جهودا واسعة لتبديد الشكوك التي نشرها الصهاينة واعتبروا أن المؤتمر هو تهيئة لتركيز خليفة إسلامي، وأكد لهم أن هدف المؤتمر هو الدفاع عن القدس وفلسطين.
يقول الشيخ الثعالبي للصحافة([9]): "أما مسألة المؤتمر فقد عني بها منذ أكثر من سنتين والجهود لم تزل مصروفة في سبيل عقده، وخصوصا حين ظهرت مسألة البراق الشريف([10])، وقد نضجت أخيرا، وحضرت أكثر الجلسات التي عقدت لوضع القانون الأساسي للمؤتمر وبرنامج أعماله واشتركت فيها وأؤكد لكم تأكيدا قاطعا أنه لم يشهد هذه الجلسات أحد من إخواننا المصريين، ومولانا شوكت علي نفسه لم يكن عضوا في اللجنة التحضيرية ولم يحضر إلا جلسة واحدة، ولم يدر قط في الجلسات التي تكرر عقدها مدة شهرين كلام ما على الخلافة الإسلامية أو من هو الذي يتولى أمرها ...".
ويواصل الشيخ الثعالبي حديثه الصحفي، فيقول: وأستطيع أن أصرح لكم لا عن نفسي وحدي بل وعن الأصدقاء الكرام الذين اشتركوا في مداولات اللجنة التحضيرية، أن مسألة الخلافة لا تشغل أفكارهم، ولن يكون لها ذكر في المؤتمر القادم الذي سيشتغل بالنظر في الوسائل الفعالة لحفظ البقاع المشرفة في فلسطين وصيانتها، وكذلك بوضع مؤسسات لإيجاد ثقافة إسلامية عالية تمد المسلمين بكل ما يحتاجون إليه من علوم وفنون وكتب وتغذيتهم روحيا وعقليا بكل ما تقوم به نهضتهم الاجتماعية الحديثة، وكذلك التفكير في إيجاد موارد مالية للإنفاق على هذه المشروعات وتقوية الروابط الاجتماعية بين المسلمين. وكل ما يقال غير ذلك فهو من قبيل الروايات الخيالية التي يحكيها الدعاة الصهيونيون، ويقصدون بها إفساد المساعي لعقد المؤتمر وكذلك إحداث قلق في أفكار البعض من الدول الإسلامية التي يسرّها فتح الباب للكلام في مسألة الخلافة في الوقت الحاضر".
ووفق الشيخ عبد العزيز الثعالبي (بمعية الشيخ محمد أمين الحسيني) في عقد مؤتمر لفائدة القدس ونجح في إكماله واعتبر من رجال الإصلاح في العالم الإسلامي. وبعد زيارة له للقدس في ديسمبر 1935 تحول إلى عدن باليمن التي وصلها في 23 نوفمبر 1936 فخصّ باستقبال كبير، وأقيم على شرفه حفل تكريم بنادي الإصلاح الإسلامي وألقيت الخطب والأشعار في التنويه بخصاله ونضاله ومنها قصيدة للشاعر العدني عبد المجيد محمد سعيد الأصنج جاء فيها قوله([11]):
سر حيثما تكن الزعامة في الورى تلق الثعالبي للزاعمة عاصما
ونقول أيضا في هذا المجال إن منظمة المؤتمر الإسلامي اليوم (وقد تحول اسمها أخيرا إلى اسم منظمة التعاون الإسلامي)، تستمد جذورها -ولا شك- من المؤتمر الذي نظمه الشيخ الثعالبي بمعية محمد أمين الحسيني([12]).
وننهي هذا العنصر بالقول إن مسألة الدفاع عن فلسطين لازمت الشيخ الثعالبي إلى آخر حياته. وفي مقابلة له مع عدد من الطلبة الزيتونيين قبيل أيام من وفاته (المقابلة آخر جويلية 1944 والوفاة أول أكتوبر 1944) عبّر للحاضرين عن مشاغله، وأهمها المستعمر الفرنسي وأخطاره، واعتبر أن تصرفات الاستعمار تمثل انتقاما من المسلمين لما حصل لهم من خيبات في الحروب الصليبية.
كان في حالة تعب وإجهاد كبيرين، كما كان شديد التأثر، ومما قاله([13]): "إني أبكي لأن قواي قد خارت ولأني مستاء شديد الاستياء من موقف الفرنسيين تجاه الأمة التونسية. ولو كنت في صحة جيدة كالعادة لبذلت أقصى جهودي لمقاومة المستعمر الفرنسي لأنه لا يعرف أحد مثلي حق المعرفة ما يخالج الفرنسيين من أفكار خبيثة للغاية. فهم ما زالوا ينتقمون من الأحداث التي جرت بفلسطين خلال الحروب الصليبية ويريدون الأخذ بالثأر لوفاة الملك لويس التاسع بتونس. والجدير بالملاحظة في هذا الشأن أن نابليون لم يفعل غير ذلك عندما وضع الحلق في جامع الأزهر لربط خيول جنوده.".
3) تواصل اهتمام علماء الزيتونة بالقدس:
أ- الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور وأشكال نضاله لفائدة القدس وفلسطين:
الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور(1909-1970) هو أحد كبار رجال الإصلاح بالبلاد التونسية. وقد اعتبر من ركائز الجمعية الخلدونية بتونس وقدم فيها عدة محاضرات وطنية تناولت الشأن التونسي والشأن العربي الإسلامي. واستأثرت مسألة القدس خاصة وفلسطين عامة باهتمامات هذا الرجل المصلح الذي قدم سلسلة من المحاضرات تناولت جوانب من تاريخ فلسطين وواقعها والأخطار المحدقة بها. وتجلى بوضوح الاهتمام بهذا الموضوع لما أقدم الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور على طبع محاضراته في كتيب نشره سنة 1948 وأطلق عليه اسم "فلسطين الوطن القومي للعرب"، نشر الجمعية الخلدونية (معهد البحوث الإسلامية) ، تونس 1948.
تناول الشيخ محمد الفاضل في محاضراته التي ألقاها على منبر الجمعية الخلدونية بين 1946 و 1948 مسائل كثيرة أهمها:
- اعتبار الحركة الصهيونية حركة عنصرية وليدة اضطهاد اليهود بأوروبا الشرقية خاصة، وهي إيديولوجية تقوم على التضليل والمغالطة التاريخية بادعاء الحق في أرض فلسطين.
- تفنيد القول إن لليهود حقا بفلسطين وإن كانوا مروا بها كما مرت شعوب أخرى بذات الأرض واعتبار العرب الفلسطينيين هم الوحيدين الذين استوطنوها فعلا والدليل على ذلك هم وحدهم الذين حاربوا الصليبيين عند حملاتهم عليها بينما كان اليهود في دور "المرابي الذي ينتهز الفرص لبيع سلعه وترويج تجارته".
- التأكيد على أن وعد بلفور (2 نوفمبر 1917) الممنوح لليهود والذي يعدهم بتكوين وطن قومي لهم بفلسطين، هو مؤامرة انجليزية غايتها إضعاف ألمانيا في الحرب واستعمال الحركة الصهيونية لتكون حارسة لمصالحها في فلسطين خاصة وأن أطماعها كانت متوجهة لنط الموصل وكركوك بالعراق.
- اعتبار خسارة فلسطين قد جات نتيجة أطماع الدول الاستعمارية وخاصة انجلترا والاتفاقيات السرية بداية من اتفاقية سايس-بيكو 1916.ثم إن الانتداب على فلسطين هو تشريع للاستعمار من عصبة الأمم وتمكين دولي لليهود فيها.
- الحديث عن جهود الفلسطينيين في مقاومة المؤامرات الأنجليزية والغزو اليهودي لوطنهم وذلك بحملة من الأشكال النضالية بداية من ثورة البراق سنة 1929 إلى الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 والأحداث الجارية سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. مع تمجيد أبطال المقاومة كعز الدين القسام وفوزي القاوقجي ومفتي فلسطين الشيخ محمد أمين الحسيني وغيرهم.
- الثناء على الجهود العربية والإسلامية للدفاع عن فلسطين باعتبارها قضية إسلامية وعالمية في آن واحد، من المؤتمر الإسلامي العام بفلسطين 1931، إلى مؤتمر بلودان 1937 ، والمؤتمر البرلماني بالقاهرة 1938، والمؤتمر النسائي الذي تزعمته هدى شعراوي 1938، ويعلق آمالا كبيرة على التضامن العربي والإسلامي لصد الخطر الصهيوني وتحرير فلسطين.
- الرفض بأن تحل قضية اليهود الذين اضطهدتهم النازية وضحايا المعاداة للسامية في أوروبا خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية على حساب الفلسطينيين ورفض مبدإ اقتسام فلسطين مع اليهود المهاجرين إليها.
ولم تنقطع مساندة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور للفلسطينيين لتحرير بلادهم بل نشط في مناشط أخرى لمساندتها منها التجمعات والكتابات وقيادة الحركات الاحتجاجية المختلفة. وسنعرض فيما يلي أشكالا أخرى من النضالات التي قام بها الزيتونيون لفائدة القدس وفلسطين إلى منتصف القرن العشرين.
ب- الشيخ محمد الصالح النيفر وأشكال نضاله لفائدة القدس وفلسطين:
ولد محمد الصالح النيفر([14]) في عائلة عريقة في العلم والتقوى، وشب على التقى وحسن الخلق والإحسان، وكان جامع الزيتونة قبلته الأولى في تكوينه الديني والمعرفي في علوم القرآن والحديث والفقه والأصول، إلى أن تخرج منه بشهادة التطويع سنة 1923، ليشغل خطة مدرس بالجامع نفسه.
وإلى جانب العلوم الدينية التي تعلمها، كان شغوفا بالمطالعة وقراءة الصحف وحضور الندوات والملتقيات العلمية.
عاش الشيخ محمد الصالح النيفر فترة جثم فيها الاستعمار الفرنسي على البلاد التونسية، وكبل الحريات فيها ونفذ برامجه التغريبية المانعة لكل نفس تحرري. وكان شيخنا واعيا بخطورة الوضع الاستعماري على البلاد وعلى هويته العربية الإسلامية. وزاد إدراكه لهذه الخطورة عندما لاحظ أن الاستعمار الغربي يمارس السياسة نفسها في مختلف المناطق العربية ومنها أراضي فلسطين التي تحركت فيها الأطماع الفرنسية والأنقليزية وصارت منطقة مستهدفة سياسيا واقتصاديا وحتى ديموغرافيا.
اعتمد الشيخ النيفر سبيل التوعية الدينية لنشر أفكاره، ونظم المنابر والندوات وكتب في الصحافة، وأنشأ الجمعيات ومنها جمعية النشء الرياضي وجمعية الكشاف المسلم، وتنقل بين مختلف المدن التونسية لنشر أفكاره الإصلاحية. وكان له السبق في طرح فكرة تكوين نقابة" العلماء الزيتونيين" لكنها قوبلت بالرفض والتهديد بالمحاكمة والسجن، ثم صارت أمرا واقعا بإحداث نقابة" مشائخ الزيتونيين" سنة 1933 تولى فيها منصب الكاتب العام.
كما كان الشيخ النيفر وراء تأسيس جمعية الشبان المسلمين التي تعددت فروعها داخل البلاد التونسية ومن نشاطاتها نصرة الفلسطينيين في نضالهم ضد الصهاينة مثلما سنرى ذلك لاحقا.
بعد استقلال البلاد التونسية عن الاستعمار الفرنسي واصل منهجه الدعوي مؤمنا بجدوى النضال من أجل إعادة الاعتبار للفكر الإسلامي، وانتقل مدة إلى الجزائر وأقام بها نتيجة التضيق على نشاطه ثم عاد إلى تونس مطلع الثمانينات من القرن العشرين.
واصل منهجه الدعوي رغم شيخوخته، ومن أعماله مساهمته في تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي بتونس سنة 1981، وكان قد فتح بيته لعقد أول جلسة تأسيسية لهذه الحركة.
وبقي متصلا بالنخبة النيرة من الشباب الحاملين للفكر الإسلامي إلى أن توفي رحمه الله بتونس ودفن بها.
ولنعد إلى الحديث عن مساهمته في الدفاع عن القدس وفلسطين(([15]))، لنقول إن ذلك بدأ منذ شبابه، فقد بدأ مشواره النضالي ضد الصهيونية داخل جامع الزيتونة "المعمور"، وكان مشاركا لكل التحركات الزيتونية لطلبة وأساتذة الجامع الأعظم الذين ساهموا في دعم القضية الفلسطينية، ومن ذلك:
دعم القضية الفلسطينية منذ 1934 وانقسام جامع الزيتونة إلى مجموعتين: الأولى طالبت بالاضراب العام والتبرع بالمال، والثانية معتدلة اختارت الصيام والتبرع بالمال، واختار الشيخ محمد الصالح النيفر الشق المعتدل وكان من أبرز الناشطين فيه، ودعم لجنة الطلبة الزيتونيين.
- المشاركة في احتجاجات قرابة 400 شخص من طلبة ومشايخ جامع الزيتونة يوم 01 جانفي 1931 لمنع عرض فلم أرض الميعاد بقاعة سنما الكوليزي بالعاصمة تونس، مما اضطر السلطات الفرنسية إلى إلغاء عرض الفلم، وتفريق المتظاهرين بالقوة، خوفا من وقوع مناوشات.
- الاحتجاج والتصدي للباخرة اليهودية (سارة1)، التي رست بميناء حلق الوادي يوم 31 ديسمبر 1937 وعلى متنها طلبة وضباط يهود.
- إشرافه سنة 1945 ، وهو كاتب عام نقابة" مشائخ الزيتونيين ، على كتابة لائحة في ذكرى وعد بلفور. وأرسلت اللائحة إلى الأمير محمد الأمين باشا باي صاحب المملكة التونسية، وفيها احتجاج على ممارسات الصهاينة ضد عرب فلسطين، وعلى تدنيسهم لهيكل من هياكل الشعائر الدينية الإسلامية، وهو ثالث الحرمين الشريفين بمساندة من قادة السياسة بالعالم. وطالبت النقابة في هذه اللائحة الأمير بالتدخل لتأييد عرب فلسطين والدفاع عن الحرم المقدس، وخاصة وأن الجالية اليهودية تعيش في تونس منذ أربعة عشر قرنا، وتتمتع بجميع حقوقها الدينية والمدنية والسياسية.
- المشاركة الإضراب العام الذي أعلن بجامع الزيتونة وفروعه، بعد قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 نوفمبر 1947.
- النداء لنجدة القدس الشريف ونصرة الشعب الفلسطيني بالتطوع للقتال على أراضيها، وكان ذلك من خلال "جمعية الشبان المسلمين" التي أسسها ومن خلال "اللجنة العليا للدفاع عن فلسطين العربية" التي أسست في تلك الفترة. علما وأن عدد المتطوعين قدر آنذاك ب2676 متطوعا وقيل 3000 متطوع، وهو عدد مرتفع، لكن تحركات المتطوعين جوبهت بالتعطيل والمنع من طرفين: الأول: السلطات الاستعمارية الفرنسية على الحدود التونسية الليبية، والطرف الثاني السلطات الاستعمارية الانقليزية على الحدود الليبية المصرية.
ورغم التعطيل والمنع استطاع بعض الزيتونيين الوصول إلى فلسطين وشاركوا في بعض المعارك وسقط منهم الشهداء (11شهيدا حسب بعض المصادر).
ج- نضالات أخرى للزيتونيين:
إن التقاليد النضالية الداعمة للقضية الفلسطينية في الوسط الزيتوني واضحة للعيان، تجليها الكتابات الصحفية وتقارير الإقامة العامة الفرنسية والدراسات الحديثة. وكانت الزيتونة مكانا لدعم القضية الفلسطينية ومناهضة الأطماع الصهيونية، فقد تأسست منذ آخر الثلاثينات لجان وجمعيات لمساندة الفلسطينيين جل أعضائها من الزيتونيين شيوخ وطلبة.
ومن هذه التشكيلات : "لجنة إسعاف فلسطين الشهيدة" وتكونت في 27 جوان 1937. و"لجنة الدفاع عن فلسطين" وكونها الشيخ محمد الصادق بسيس. أما الشيخ الشاذلي بلقاضي فقد أسس "اللجنة العربية لهيئة المدرسين"، وتكونت في 2 ديسمبر 1947 ومهمتها الدفاع عن فلسطين.
ولم يقتصر نشاط الزيتونيين على تكوين اللجان والجمعيات بل دعموا نشاطهم بالتحرك بطرق نضالية مختلفة مثل إصدار اللوائح والقيام بإضرابات واعتصامات وتوعية الناس في الخطب الجمعية بمخاطر الصهيونية والكتابة في الصحافة وغير ذلك من أشكال النضال. وتضاعفت العمليات النضالية عقب الحرب العالمية الثانية وكذلك عقب قيام دولة الكيان الصهيوني.
وفي لائحة قدمها المشايخ المدرسون للباي في نوفمبر 1945 في ذكرى وعد بلفور، (وقد كنا ذكرناها سابقا) احتج الموقعون (من شيوخ وطلبة) على ما تقوم به الصهيونية من أعمال مضرة بالمسلمين، وتطرقوا إلى نشاط الصهيونية بتونس وحذروا من مخاطر ذلك. ومما جاء في اللائحة([16]): "أما بعد ىا مولانا ... فإن الهيئة العلمية الزيتونية الممثلة في هذا الوفد الناطق بلسانها تعرب لحضرتكم الشامخة عما حل برجال المعهد الزيتوني قاطبة شيوخا وتلامذة ولعموم الأمة الإسلامية بتونس خصوصا وبالعالم عموما من الكدر العظيم من جراء المحاولات الأثيمة التي تقوم بها الحركة اليهودية قصد التعدي على أرض إسلامية والمساس بهيكل مقدس من هياكل شعائرنا الدينية وهو ثالث الحرمين الشريفين...".
ومن التحركات الكبيرة للزيتونيين التجمع الكبير الذي انتظم بالعاصمة بجامع صاحب الطابع وساحته يوم 4 ديسمبر 1947 والذي جمع أكثر من ثلاثة آلاف شخص خاصة من طلبة الزيتونة ومدرسيها ومن غيرهم من مكونات المجتمع المسلم. (وقد كنا ذكرناها سابقا عند الحديث عن الشيخ محمد الصالح النيفر). ومن أبرز الحاضرين من المدرسين الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور والشيخ محمد الشاذلي بلقاضي والشيخ الحبيب شلبي والشيخ الصادق بسيس والشيخ محمد الصالح النيفر وغيرهم.
وتناول الحاضرون خطورة الوضع بفلسطين، واتفقوا على جمع التبرعات لفائدة فلسطين، كما اتفقوا على تشجيع التطوع والذهاب إلى فلسطين لنصرة إخوانهم هناك.
وفي اليوم الموالي 5 ديسمبر 1947 انعقد اجتماع ثان بجامع الزيتونة حضره ستة آلاف شخص وترأسه الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور وعدد كبير من شيوخ الزيتونة وطلبتها. ونبه المتدخلون إلى مخاطر الصهيونية وإلى الأدوار التي كان يقوم بها يهود تونس لفائدة الصهاينة بفلسطين.
وزادت أشكال نضالات الزيتونيين تنوعا بعد إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في 14 ماي 1948، فتعددت إضرابات جامع الزيتونة وفروعه داخل البلاد. وتكونت حركات تطوع لفائدة فلسطين انخرط فيها الطلبة الزيتونيون بشكل كثيف. وقد قدر عدد المتطوعين إلى حدود 22 جويلية 1948 عن ما يزيد عن 2676 متطوعا وصل القليل منهم إلى ساحة القتال، وحجز الأغلبية على الحدود المصرية الليبية([17])، واستشهد العشرات ممن وصل منهم على أرض فلسطين.
إلى جانب هذا، نقول إن البرامج الجديدة للزيتونة في الأربعينات تضمنت درسا متعلقا بالعلاقات بين الشرق والغرب وهي المعروفة بالحروب الصليبية. ودراسة الحروب الصليبية تهدف إلى الحرص على الدفاع عن أراضي المسلمين إذا حصل عليها اعتداء. ومثلت بيت المقدس محورا أساسيا في الصراع بين المسلمين والمسيحيين في تلك الحقبة. ولترسيخ هذه المبادئ والأفكار أوصت إدارة الجامع الأستاذ محمد العروسي المطوي (1920-2005) بوضع كتاب عنوانه الحروب الصليبية وصدر فعلا سنة 1954 وبقي مرجعا قيما في المسألة.
الخاتمة:
نقول في الختام ما يلي:
- إن دور العلماء ضروري ومتأكد لمساندة قضايا الحق والتحرر وإفهامها للناس، كقضية القدس خاصة وفلسطين عامة. وهو ما اضطلع به بامتياز علماء الزيتونة وشيوخها وطلبتها منذ مطلع القرن العشرين وتواصل عبر الزمن. ويؤكد الباحث عميرة علية الصغير على الدور البارز للزيتونيين في مساندة فلسطين ويقول ما يلي: "إن التيار الزيتوني كان له الأثر الأكبر [في دعم القضية الفلسطينية]، ولا غرو في ذلك إذ لم يكن شيوخ الزيتونة وطلبتها في الحاضرة وفي الجهات وحدهم الأكثر تحمسا للقضية بل إن القضية الفلسطينية كان ينظر إليها من عموم الشعب مثلهم على أنها قضية إسلام وعرب يهددهم اليهود والاستعمار."(17).
- إن هذا الشعور بدعم الفلسطينيين الذين تهددهم مخاطر الصهيونية نابع من عقيدة إسلامية تعتبر أن أراضي المسلمين واحدة ومصالحهم واحدة، والأخطار التي تتهددهم هي مخاطر مشتركة تتهدد الجميع ولا بد من التصدي إليها بالأشكال المتاحة. ([18])إن عقد مثل هذه الندوات يؤكد على أن قناعة رجال الفكر في العالم الإسلامي بضرورة مناصرة الفلسطينيين لاسترجاع حقوقهم المشروعة بالقدس وبكافة أراضيهم ما تزال قائمة.
- إن جامعة الزيتونة تواصل إلى اليوم بثبات مساندتها للفلسطينيين في محنتهم، ويتمثل ذلك في الرسائل والأطاريح التي يشرف عليها الأساتذة وتتناول جوانب من التاريخ والواقع الفلسطينيين. كما تتمثل في الجهود التي يقوم بها الأساتذة للتعريف بالقضية الفلسطينية للطلبة والمثقفين، ومن ذلك مساهمة عدد من المختصين منهم في التظاهرات التي تقيمها سفارة الجمهورية الإسلامية في تونس بمناسبة يوم القدس العالمي. ونشير في هذا المجال إلى تظاهرتين الأولى بعنوان: القضية الفلسطينية في فكر الإمام الخميني (ر ه) والشيخ محمد الصالح النيفر (ر ه)، (نشرت بتونس سنة 1433هـ/2012م). والثانية بعنوان: القدس والصهيونية العالمية في فكر الإمام الخميني (ر ه) والشيخ عبد العزيز الثعالبي (ر ه). وقد انعقدت بتونس يوم 02 أوت 2013. لكنها بقيت غير منشورة إلى اليوم وكنت من ضم المشاركين فيها.
أما طلبة الزيتونة اليوم فيتحركون لنصرة للفلسطينيين بطرق مختلفة منها تكوين النوادي المختصة، وعقد التظاهرات والاحتفالات القيمة، ومن انجازاتهم إطلاق اسم "ساحة الأقصى" على ساحة داخل الحرم الجامعي لجامعة الزيتونة، إيمانا منهم، (ومن الإدارة المشرفة على الجامعة) بقيمة نصرة الفلسطينيين لتحقيق استرداد كامل حقوقهم وعلى رأسها استرجاع الأقصى من مغتصبيه.
([1]) الإسراء، الآية1.
([2]) أخرجه البخاري ومسلم.
([3]) أخرجه الطحاوي، في المشكل 1-248 وغيره.
([4]) الخرفي، صالح، عبد العزيز الثعالبي، من آثاره وأخباره في المغرب والمشرق، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1995، ص227-228.
([5]) أورد هذه الرسالة الباحث أحمد خالد في كتابه الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي وإشكالية فكره السياسي، تونس 2001، ص529-532.
([6]) الجندي، أنور، عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية، ص175.
([7]) الثعالبي، عبد العزيز، خلفيات المؤتمر الإسلامي بالقدس 1360هـ- 1931م، أعده للنشر الدكتور أحمد بن ميلاد وحققه الأستاذ حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1988، ص26، 254، 260.
([8]) الثعالبي، عبد العزيز، خلفيات المؤتمر الإسلامي، ص286-287.
([9]) لقاء الشيخ عبد العزيز الثعالبي مع جريدة المقطع في عددها الصادر يوم السبت 24 أكتوبر 1931.
([10]) ثورة البراق: وقعت في 1929 في كل أرجاء فلسطين احتجاجا على تعدي اليهود على المسجد الأقصى وافتكاكهم الجانب الغربي عند حائط البراق وأعلنوه من مقدساتهم. ووفر البريطانيون حماية لليهود، وقمعوا التحركات الفلسطينية بشدة.
([11]) الثعالبي، عبد العزيز، الرحلة اليمنية، تقديم حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997، ص179.
([12]) خالد، أحمد، الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ص276.
([13]) تقرير المقابلة أورده مختار العياشي في ملاحق كتابه الزيتونة والزيتونيون في تاريخ تونس المعاصر 1885-1958، تونس 2003، ص388-391.
([14]) انظر التعريف الشيخ محمد الصالح النيفر بقلم ابنته أروى النيفر، في كتاب: القضية الفلسطينية في فكر الإمام الخميني والشيخ محمد الصالح النيفر، تونس1433هـ/2012م، ص26-33.
([15]) انظر مقال: إيمان حسايني، القدس في عيون الشيخ محمد الصالح النيفر، في الكتاب المذكور: القضية الفلسطينية في فكر الإمام الخميني والشيخ محمد الصالح النيفر، ص74-79.
([16]) مقتطفات من اللائحة التي أوردها عمير الصغير في مقاله المذكور " "الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور والقضية الفلسطينية، ص419-421.
([17]) كرو، أبو القاسم، الشهيد حبيب ثامر في ذكراه، طبعة دار المعارف، سوسة 1999.
([18]) الصغير، عميرة علية، في مقاله المذكور "الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور والقضية الفلسطينية، ص426-442.