تعميم منطق الحوار بين المسلمين على الاسس القرآنية
تعميم منطق الحوار بين المسلمين
على الأسس القرآنية
إعداد: الشيخ عبد الكريم الخصاونة
المفتي العام للمملكة الأردنية الهاشمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الحوار الإسلامي الإسلامي مشروع حضاري، يهدف إلى تعاون المسلمين ليتفقوا على نمط فكري متقارب، يبعد عنهم الصدامات ويجنبهم ويلاتها، ويكسر الحاجز النفسي الذي يحول دون سماع وجهة نظر الآخرين.
يعد الحوار في الزمن المعاصر من أهم وسائل التواصل بين الإفراد والمجتمعات؛ لما له من أهمية في تنمية القدرات المجتمعية على التفكير وطرق الإقناع، وذلك بهدف الحصول على الحقائق.
وإن المتتبع للتوجيهات الإسلامية العظيمة ليلاحظ اهتمام التشريع الإسلامي وخاصة ما ورد في القرآن الكريم في مجال الحوار، والحث عليه، قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/125.
قال أهل التفسير في معنى هذه الآية: "يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة، وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة، أو من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب". ابن كثير جـ4/613.
ومن المناسب أن نذكر أن هذه الآية الكريمة نزلت بمكة المكرمة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين، دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. تفسير القرطبي جـ10/200.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تمثل هذه الدعوة القرآنية، فكان نموذجاً للحوار مع الآخر سواء الذين كفروا بدعوته، أو مع أصحابه وأتباعه، وفي هذا دلالة واضحة جلية على أهمية نشر وتعميق ثقافة الحوار بين المسلمين من جهة، وبين المسلمين وغيرهم من جهة أخرى.
مفهموم الحوار:
معنى الحَوْر: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، يُقال: حارَ على الشيء وعنه حَوْراً، ومَحاراً، ومحارَةً: رجع عنه وإليه.
والمحَاوَرةُ: المجاوبة، والتَحاوُرُ: التجاوب، والحوْر: الجواب.
واستحاره، أي: استنطقه، يقال: كلّمته فما ردّ إلي حوَْراً: أي جواباً، وهم يتحاورون، أي: يتراجعون الكلام.
ويتضح لنا من خلال ما تقدم أن كلمة الحوار تدور حول المعاني التالية:
1- الرجوع إلى الشيء وعن الشيء، والمتحاورون قد يرجع أحدهم على رأي الآخر أو قوله أو فكره، أو رغبته في الوصول إلى الصواب والحقيقة، ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) الإنشقاق/4، أي: لن يرجع مبعوثاًَ يوم القيامة.
2- الإجابة والرد، وهو قريب من المعنى الاصطلاحي للحوار؛ لأن كلاً من طرفي التحاور يهتم بالإجابة عن أسئلة صاحبه، ويقدم مجموعة من الردود على أدلته وبراهينه.
3- النقاء والتخلص من العيوب، والواقع أن طبيعة الحوار والمناقشة تؤدي بالنتيجة إلى التخلص من العيوب الفكرية، من خلال طرح الأفكار المتعددة واختيار الراجح منها.
4- الاستنطاق ومراجعة الحديث، فكل واحدٍ من المتحاورين يستنطق صاحبه ويراجع الحديث معه؛ لغرض الوصول إلى هدفه وقصده.
الحوار في الاصطلاح:
الحوار: أسلوب يجري بين طرفين، يسوقُ كلٌّ منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.
ومما لا شك فيه، إن كل واحد من المشتركين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقنع للطرف الآخر، بحيث يظل العقل واعياً طوال فترة المحاورة؛ ليستطيع إصدار الحكم عليها سلباً وإيجاباً.
يتناول الحوار معظم جوانب الحياة، ويتطرق إلى موضوعات مختلفة في القرآن الكريم: دينية، أخلاقية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية، فلسفية.
والحوار يتفرع إلى حوار داخلي يفترض فيه المحاور طرفاً آخر من ذاته، وحوار خارجي يبرز في الطرف الآخر من خلال الطرح والمعالجة والتدليل.
الحوار الداخلي: ويكون مع الذات، يراجع الإنسان فيه أفكاره، ويحاور نفسه، وهي وقفة تأمل وتصحيح؛ لتحديد مواطن الخلل وإصلاحها، وتحديد مواطن الصحة ودعمها، وتؤدي بالنتيجة إلى رقابة الإنسان على نفسه وأفكاره، وهذا النوع من الرقابة يفتح آفاقاً واسعة مع الحوار مع الآخر، يقول الأستاذ أحمد محمد الطبرسي: "إن لم تستطع محاورة نفسك، فإنك لا تستطيع محاورة الآخرين".
وقد تم تحديد المناجاة مع الذات بالأشكال التالية:
1- المناجاة والدعاء.
2- اللوم والمعاينة للذات.
3- الحوار الداخلي (الحوار الوطني).
المناجاة والدعاء:
يحتاج الإنسان إلى الله تعالى لإذكاء الشعور برحمته وعظمته وعنايته، وإخلاص التوجه إليه بالدعاء والاستغفار، وفي هذا يقول تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) غافر/60
جاء في تفسير ابن كثير: "أن هذا من فضله تعالى وكرمه، حيث أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة".
يقول الله تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الأنعام/ 63-64.
ذكر سيد قطب في تفسير هذه الآية: "إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق، وظلمات البر والبحر كثيرة، فالمتاهة ظلام، والحظر ظلام، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب، وحيثما وقع الناس قي ظلمة لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين".
فعند حصول الشدائد يأتي الإنسان بأمور:
أحدها: الدعاء.
ثانيها: التضرع.
ثالثها: الإخلاص بالقلب.
رابعها: الالتزام بالشكر.
نعتبر من خلال هذه المعطيات أن الدعاء والمناجاة لوناً من ألوان الحوار مع الذات؛ لأن الدعاء نابع من حسن الظن بالله تعالى، والثقة باستجابة الدعاء من الله تعالى، قال الله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الأعراف/55، ادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، وقد ثبت قي الحديث القدسي، يقول الله تعالى: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" متفق عليه
هذا دليل على أن الدعاء حوار تعبدي نابع من ذات الإنسان وداخله.
الحوار في القرآن الكريم:
وقد ورد لفظ الحوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:
الأول: قال الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) المجادلة/1.
الثاني: قال الله تعالى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) الكهف/34.
الثالث: قال الله تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) الكهف/37.
ومن المعلوم أن الحوار الأول كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وإحدى الصحابيات، نزل بعده حكم شرعي كان رحمة للمسلمين والمسلمات. والحوار الثاني: كان بين مؤمن وكافر معتدّ بماله وولده، فمحق الله ماله، وأوقفه على حقيقة نفسه.
الخلاف بين المسلمين ضيق غير واسع:
يعد الخلاف بين الناس صفة إنسانية طبيعية، وهو سنة من سنن الحياة الإنسانية، قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) هود/118-119، وهذا الخلاف يعود لعوامل عديدة منها: اختلاف البيئات، واختلاف أنماط التفكير، وتفاوت القدرات، واختلاف المدارك والأفهام.
وما أحوج الأمة الإسلامية اليوم -وهي في وضعها الراهن- لتوحيد كلمتها وموقفها عملاً بقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) ال عمران/103، وحذراً من مغبة قوله عز وجل: (ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/46، ونظراً إلى خطورة الأمر، وما يترتب عليه من آثار فقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من التفرق في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" رواه البخاري.
إن وحدة الأمة الإسلامية وتماسكها أصل عتيد تضافرت عليه النصوص الشرعية، حتى غدا أصلاً كلياً قطعياً لا يقبل نسخاً ولا تأويلاً، قال تعالى: (وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) الأنبياء/92، وقد كانت هذه الوحدة هي سر القوة والعزة لهذه الأمة، كما أن التفرق ضعف وهوان، وقد يطرأ على هذه الوحدة بين الحين والأخر ما يضعفها لأسباب عديدة، وأسوأ هذه الأسباب وأخطرها أن يكون التفرق ناتجاً عن بواعث دينية، أو يساهم به بعض المتدينين وحملة الفكر الشرعي، الذين ننتظر منهم الآن أن يساهموا في تماسكها والتئام شملها.
فالذي يتفق عليه المسلمون أكثر بكثير مما يختلفون فيه، فقد كان سلفنا الصالح يسيرون على منهج: (نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).
وحبذا لو حصلت لقاءات -كما اليوم- بين الجماعات والفرق الإسلامية، وأصحاب المذاهب الفكرية؛ لبيان المشتركات –وما أكثرها- والاهتمام بها في الحديث مع الآخرين، وليكون الوقوف على السلبيات ومحاولة معالجتها أساس العلاقة بين المسلمين.
إن الخلافات الفرعية -والتي تحتمل الاختلاف- ثغرات يستغلها العدو؛ ليفرّق صفوفنا ويصرفنا عن ديننا، فالواجب إغلاق هذه الثغرات وتجاوزها إلى المشتركات، ولنتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) رواه البخاري.
وبنظرة سريعة إلى الواقع الإسلامي نجد أن الذي يجمعنا أكثر مما يفرقنا، ومن ذلك: اجتماع الأمة على صيام رمضان بغض النظر عن الفتوى في بدء الشهر وانتهائه، واجتماع الملايين على الحج في موسمه، واجتماعهم على التوجه إلى القبلة، وحتى في المشاعر نجد اجتماعهم على حب آل البيت عليهم السلام، فكل هذه الشواهد الحية وغيرها الكثير تؤكد أن الذي يجمع الأمة أكثر مما يفرقها، فمن ينظر من هذه الزاوية يأسف على الفجوة والهوة التي يعمل البعض على توسيعها، وهذه نتيجة حتمية للنظر إلى الخلافات الفرعية، وعدم تسليط الضوء على المشتركات، والأمور المتفق عليها.
أهمية الحوار وأهدافه وغاياته:
ولقد ذكرنا أن القرآن الكريم والسنة المطهرة قد وضعا أسسا للحوار ودعيا إليه، وهذه الدعوة الربانية، والتوجيهات النبوية للحوار تدل على أهميته، وإن له أهدافاً وغايات، وسوف أسلط الضوء –باختصار- على أهمية الحوار وأهدافه، ومن ذلك:
أولاً: الحوار بين المسلمين فرصة عظيمة لتبليغ حقائق الدين الإسلامي للآخرين، فقد أساء الكثير للإسلام، وأصبحت الثورة مشوهة أو على الأقل منقوصة عند الآخرين، فالحوار طريق مهم لتغيير تلك الصورة، وإظهار الصورة الحقيقة المشرقة للإسلام الحنيف، فالأمة الإسلامية التي تؤمن بالله الواحد، وبالمساواة بين البشر في أصل الخلقة، وتحترم كل الأنبياء والمصلحين، ويشجع دينها كل ما استجد من علوم الكون، وهو قادر على استيعاب الجميع، أخوة متساوين أمام الحق، ومن العجز عن حمل الأمانة وأداء الرسالة أن لا نعرِّف الناس بديننا بالوسائل المتاحة، سواء بالدعوة الفردية المباشرة، أو عبر الفضائيات والإذاعات، أو النشرات، أو عبر "الإنترنت"، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سبأ/28، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كُتِب عليه الموتُ، فكيف يبلغ كل الناس؟! إن هذا في حقيقته تكليف له ولأمته من بعده أن يبلغوا، وأن الحوار هو السبيل الأنجع لإيصال الدعوة وإقناع الآخرين، سواء كان الحوار مع المسلمين، أم مع غيرهم.
ثانياً: يعد الحوار بين المسلمين طريقاً للتواصل بين العلماء والفقهاء وأهل السياسة والاقتصاد، لا سيما بين علماء الشريعة؛ لتقليص المساحة الخلافية بين المسلمين، والرجوع إلى الحق وترك الرأي المرجوح للراجح، وعلى أقل تقدير نتعرف على وجهة نظر الآخر.
ثالثاً: يؤدي الحوار إلى تقوية الشخصية الإسلامية المحاورة، فالحوار يصقل مهارة الإقناع والتخاطب، وبالمحصلة بناء الشخصية المسلمة الناقدة، وتعميق ثقافة التواصل مع الآخر، والقران الكريم عرض في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة أمثلة ونماذج للحوارات، ومن ذلك حوار إبراهيم عليه السلام مع قومه، فدراسة هذه النماذج القرآنية الحوارية، تقوي القدرة على المحادثة والمناظرة، وإقناع الآخر، ولم يكن حديث القرآن الكريم عن الحوار عرضياً، بل وضع أسساً وقواعد عظيمة للحوار، والناظر في آياته الكريمة يلاحظ ذلك، فالقرآن يبني حواراته على الحجة العقلية، ويخاطب كل أمة بما يناسبها، وكان القرآن في حواره أبعد ما يكون عن الإنفعال وقد بلغ أعلى درجات السمو في المحاججة حتى أنه كان يفترض في بعض الأحيان صحة دعوى الخصوم؛ ليصل معهم إلى النتيجة المأمولة.
رابعاً: ومن فوائد الحوار ايضاً: تحرير الشخصية المسلمة من الانغلاق والانعزالية، فالمسلم عندما يحاور المسلم وإن كان كل منهما له فكره الخاص ومذهبة الخاص، فمجرد هذا اللقاء، وهذا الحوار يقرب وجهات النظر.
خامساً: كما أن من غايات الحوار إقامة الحجة على الآخر، ودفع الشبهة والخطأ، فإذا كان هدف الحوار الوصول إلى الحق، وجب حينها رجوع المخطئ عن الخطأ، واتِّباع الحق، وترك الشبه.
أصول وأسس الحوار:
إن لكل علم أصولاً وأسساً وقواعد، والحوار بين المسلمين أحرى أن يقوم على أصول وأسس وقواعد، كما أن له آداباً ينبغي للمحاور أن يتأدب بها، ومن ذلك:-
1. يستحضر المُحاور حُسن النية، والإخلاص لله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" متفق عليه. فالهدف من الحوار هو الوصول إلى الحق الذي ارتضاه الحق سبحانه، فإذا أحسن المحاور النية لله تعالى كان الأجر، وتحقَقَ الثواب، أما إذا كان حباً في الظهور والجدال فإن النية تنقلب للشيطان والهوى.
2. الأصل في الحوار أن يقوم على الحجج والبراهين وإيراد الأدلة: وهذا الأصل ورد في كتاب الله حيث يقول الله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) البقرة/111، فهذه الآية الكريمة تنص على أن الحوار يحتاج إلى البراهين والأدلة لإثبات الدعوى والرأي بالحجة والبرهان.
3. إتباع آداب الحوار: وذلك بالنظر إلى القول لا إلى القائل، والاستماع إلى الآخر، وعدم الإساءة، أو مقاطعة الكلام، والحوار بروح المحبة قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) طه/44، ولذا لمّا دخل واعظ على الخليفة العباسي المأمون، فقال له: إني سأعظك وأغلظ عليك، فقال له –وكان أفقه من الواعظ-: ولم الغلظة يا أخي؟ لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل موسى إلى فرعون، فقال له: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).
4. الموضوعية والتجرد بالحوار، والبعد عن الانفعالات والتخندق وراء قناعات مسبقة، ومواقف غير خاضعة للتغير، وأن لا نعتقد بأن الصواب المطلق معنا فقط، وكل رأي آخر، أو وجهة نظر معارضة هي خطأ، ويمكن تلخيص هذه القاعدة الحوارية بقول ذلك العالم: (رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، وقول الإمام مالك رحمه الله: (كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر) أي: النبي صلى الله عليه وسلم، فخلافهم لم يباعد بينهم، ولم يمنع أحدهم أن يصلي خلف الآخر، أو أن يكون صديقه وقعيده، وحسبنا أن نذكر أن الإمام أحمد تلميذ الشافعي، وكان يدعو له في كل صلاة؛ ولذا قال الشافعي رحمه الله: قالوا: يزورك أحمد وتزوره، قلت: المكارم لا تفارق منزله، إن زارني فبفضله، أو زرته فلفضله، فالفضل في الحالين له. والشافعي تلميذ الإمام مالك وكان يثني عليه، والإمام مالك اجتمع بتلاميذ أبي حنيفة اجتماع العلماء بما فيه من مودة واستفادة وإفادة، فخلافهم في الفروع لم يمنعهم من أن يكونوا صفاً واحداً في باب العقيدة، وأن يتعايشوا عصوراً طويلة متعاونين في الذب عن الدين.
تلك الأقوال السابقة للسادة العلماء إنما هي مستقاة من القرآن الكريم، قال الله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) سبأ/24.
ولا بد من التنبيه إلى أن الموضوعية والتجرد وعدم التحيز، قد يخرقه بعض المؤشرات العقلية المنفعلة، أو المورثات السابقة، وقد سطر القرآن الكريم هذه المؤشرات التي تحجز العقل عن سماع الحق والوصول إليه، قال الله تعالى: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) يونس/78، وقال سبحانه وتعالى: (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف/22.
أما مسألة: البعد عن الانفعالات أثناء المحاورة فهي من أصول الحوار، ولهذا الأصل أدلة وأمثلة من القران الكريم، ومن ذلك قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) سبأ/36، فيظهر من هذه الآية الكريمة لفت انتباه المجادلين للنبي صلى الله عليه وسلم والمعارضين لرسالته، والذين قادهم التشبث بموروث الآباء والأجداد إلى اتهامه صلى الله عليه وسلم بالجنون، فأرشدهم الحق سبحانه وتعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام إلى الانفصال عن الجو الاجتماعي المأزوم، والابتعاد عن الموروث العقلي الخاطئ، وبالتالي الجلوس في حال صفاء وتفكر عقلي منفرد، والذي سيقود في النهاية الى الخضوع للحق، والرجوع اليه بعد زوال الغبار المتوارث.
5. الاتفاق على الأصول والمعتقدات والأحكام الثابتة؛ للوصول إلى لغة مشتركة يمكن من خلالها التفاهم عند تبادل وجهات النظر:
فالمُحاور لا بد أن يقف مع محاوره على نقاط الاتفاق، وكما أسلفنا الذكر فإن المسلمين جميعاً يتفقون على الكثير من المسائل سواء الاعتقادية أو الأحكام التشريعية، فما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فلا مجال للجدال فيه فهو من المسلّمات التي لا تناقش، أما الفروع الظنية فهي ما يُعذر الخلاف فيها.
وأقول: ما أحوج المسلمين اليوم لرص الصف، ورأب الصدع، وترك الخلافات، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وأن نركّز على المتفقات والمشتركات، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات/10.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي) متفق عليه.
6- من الضرورة: الإيمان الصادق والجاد بأن كل شيء قابل للحوار، وحق الرد من الضرورة أن يُكفل للجميع على قدم المساواة، وباب الاجتهاد في كل القضايا القابلة للاجتهاد ينبغي أن لا يغلق في وجه أحد.
7- إذا كان المُحاور يلتزم بمبدأ "الرجوع عن الخطأ فضيلة"، فيمكن مواصلة الحوار معه، أما إذا كان عنيداً دون مسوغ فكري مشروع، أو جاهلاً، فإن مواصلة الحوار معه ضرب من العبث مما يتنزه عنه العاقل.
8- من الضروري أن يبدأ الحوار بداية صحيحة، فبعد تحديد الهدف يكون الحوار مبتدئاً من تحليل الواقع، ولا بد أيضاً من تحديد المنهج المستخدم في الحوار (تحديد المفاهيم والمصطلحات).
ضوابط الحوار:
1- تَقبُّل الآخر: ومعنى ذلك قبول الآخر، والاعتراف بحقه في التعبير عن رأيه.
2- حسن القبول: وهو أن ينهج المتحاورون في كلامهم منهجاً من الهدوء والكلمة الطيبة، ويتجنبا كل الألفاظ القبيحة: كالسخرية والازدراء، قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) الإسراء/53.
3- العلم وصحة الأدلة: وهو ضابط يُلزم المتحاورين اعتماد العلم والبرهان للدفاع عن النفس وتفنيد الباطل، قال تعالى: (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) الأنعام/148.
4- أن لا يقصد من جداله المباهاة، أو طلب الرياء والثناء والسمعة، ولا الظفر بالخصم والسرور بالغلبة والقهر.
5- تحري الحق والانصياع له، فيكون الهدف من الحوار الوصول إلى الحق، بغض النظر عن قائله، والبعد عن الجدال.
وأخيراً: نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجمع هذه الأمة على كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.