الوحدة المنشودة الرسول الأعظم مثالاُ

الوحدة المنشودة الرسول الأعظم مثالاُ

الوحدة المنشودة الرسول الأعظم مثالاُ

 

الدكتور عبد الله كتمتو

نائب رئيس اتحاد علماء بلاد الشام

 

في ظل المتغيرات الدولية التي يشهدها العالم بأسره، والتي تنعكس آثارها المباشرة على أمتنا العربية وعالمنا الإسلامي، وبالأخص ما تلا أحداث الحادي عشر من سبتمبر من احتلال لأفغانستان والعراق، وفي ضوء ما يشهده العالم من تكتلات وتحالفات يتساءل المسلمون اليوم عن موقعهم وعن طموحاتهم وأساليب تحقيقها.

إن ما تعيشه أمتنا اليوم من تفكك وتشرذم يشبه -إلى حد بعيد- حالات عاشتها من قبل، تقطعت فيها الراية الواحدة إلى عدة رايات.. يقاتل بعضها بعضا، وتمزق فيها الشعب الواحد إلى شعوب ودول شتى، وما أشبة الليلة بالبارحة، تلك الحالة تشابه كثيرًا ما نقاسيه اليوم من شتات وضياع.

ولا يكاد يختلف اثنان على أن الوحدة هي السبيل الأمثل –إن لم نقل الأوحد- لتجاوز تحديات المرحلة، والعودة بالأمة إلى موقعها المعهود الذي ذكره الله تعالى بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ‌ أُمَّةٍ أُخْرِ‌جَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110].

ولكن: ما نمط الوحدة المنشودة وما هويتها؟ أهي فيدرالية أم كونفيدرالية، أم أن نظام الخلافة المتبع في سالف الأيام هو النموذج الأنسب؟ وهل تكون نواتها وحدة بين الأقطار العربية، أم غير ذلك من مل الرؤى المطروحة ؟

ما السبيل إلى تحقيقها في ظل الصورة السوداء المأساوية للوضع العربي والإسلامي الراهن؟

في العقد الأخير من القرن الماضي أفاق المسلمون عامة والعرب بشكل خاص على جملة من المتغيرات الدولية التي ولدت واقعا مستجدا جعل من وحدتهم (أو اتحادهم) أمرا لا مفر منه إذا أرادوا البقاء في عالم يحكمه الأقوياء.

ومن أهم تلك المتغيرات:‏

- تفكك المعسكر الاشتراكي، وانتهاء الحرب الباردة، والصراع الأيديولوجي، مما أدى إلى بروز ظاهرة العولمة وإعلان مولد نظام عالمي جديد يكرس الهيمنة الأمريكية.

- إعادة ترتيب البيت الأوروبي، وتشكل الاتحاد الأوربي كاستراتيجيه مواجهة لما بعد الحرب الباردة.‏

- تولي مجموعة السبع التي تسيطر على ثلاثة أرباع الإنتاج العالمي إدارة الرأسمالية العالمية.‏

-  ظهور الصين كقوة اقتصادية سريعة النمو، وسعيها إلى غزو أسواق الدول النامية، مع إدارة صراع اقتصادي مع الولايات المتحدة.‏

ويسهب المثقفون والمحللون العرب في عرض أسباب فشل المحاولات المتكررة للوحدة والتي يمكن تلخيص أهمها بما يلي:

الأطماع الاستعمارية في مقدرات الأمة، فهي أرض الديانات والتاريخ، وفيها تتقاطع طرق التجارة والاتصال، وتحتوي على مخزون هائل من النفط والفوسفات واليورانيوم؛ لذلك نرى قوى الشر تتكالب عليها بغرض إبقائها على ما هي عليه من خلاف وفرقة وتمزق وتناقض يصل إلى حد القطيعة والحرب.

وكذلك العوامل الاجتماعية والعوامل الاقتصادية وغياب التصور الموحد للوحدة العربية وآلية تحقيقها:

 

مفهوم لا بد منه

- من العناصر الثابتو والخطوط العامة للنظام الإسلامي – الوحدة الإسلامية – فإن الظروف مهما تبدلت وتغيرت ، لا بد ان يكون سعي المسلمين وخاصة العلماء والأمراء – ومن يدور في فلكهم من أعل الحل والعقد – على الحفاظ على هذا العنصر ، بل السعي إلى ترسيخه في نفوس المسلمين

- ومما ينبغي التأكيد عليه ان الوحدة الاسلامية ليست مفهوماً نظرياً يلقن باستخدام وسائل التعليم ، بل هي حالة سلوكية يعيشها المسلمون في مختلف أنماط وأشكال حياتهم .

 

نماذج على توحيد الأمة من تاريخنا الإسلامي

إذا عدنا إلى تاريخ أمتنا المجيد، لنقرأ بين صفحاته المضيئة عن تجارب وحدوية فريدة، قام بها رجال أفذاذ تميزوا بصدق النية وإخلاص السريرة، بعيدا عن التنظير والسفسطة والمؤتمرات العقيمة والانقلابات العسكرية، وعلى رأس هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حول قبائل العرب المتناحرة فيما بينها إلى خير أمة أخرجت للناس، وبعثها بعثا جديدا أقرب ما يكون إلى المعجزة، فحملت لواء الحضارة الإنسانية ومشت في طليعة الركب البشري لقرون عدة.

كانت الحياة العربية قبل الإسلام تقوم أساسًا على نمطية خاصة؛ فالقبيلة هي التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يضم حياة الفرد في القبيلة، فكان انتماء العربي الجاهلي انتماءً قبليًّا، وليس هناك أية رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها، بل على النقيض؛ كانت القبائل متناحرة متحاربة، وإذا ما قامت أحلاف قبلية، فلِمُنَاصرة قبيلة على أخرى.

ومن هنا كان الانقلاب الذي أحدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عميقًا في حياة الجزيرة العربية؛ إذ استطاع بسياسته التي تُمليها روح الإسلام أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة، ويرتقي بها لتظهر في إطار الأمة الإسلامية، أمة لا فضل فيها لعربي على أعجمي، أو لأبيض على أسود إلا بالتقوى، يصرح قائدها أمام الملأ: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"[1]، أمة يتساوى فيها عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين مع أضعف فرد مسلم وأقلهم شأنا.

ويؤكد ذلك المفكر الألماني رودي بارت بقوله:

"جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو إلى القول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة في دعوته لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، لا تضبط الأمور الدينية فحسب، بل أيضًا الأمور الدنيوية، وعندما قُبض النبي العربي صلى الله عليه وسلم، كان قد انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرا فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وتمت للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل.."

ويتحدث الباحث الأمريكي جورج دي تولدز(1815-1897)، عن فضل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على العرب حين نقلهم من الهمجية إلى المدنية، وعن دور الرسالة في تبديل أخلاق عرب الجاهلية، حين عمر ضياء الحق والإيمان قلوبهم، فيقول:

"إن من الظلم الفادح أن نغمض الجفن عن حق محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على ما علمناهم من التوحش قبل بعثته، ثم كيف تبدلت الحالة بعد إعلان نبوته، وما أورته الديانة الإسلامية من النور في قلوب الملايين من الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل؛ لذا فإن الشك في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو شك في القدرة الإلهية التي تشمل الكائنات جمعاء".

ويبين آرنولد توينبي أن النبي محمدًا قد وقف حياته لتحقيق رسالته في كفالة مظهرين أساسيين في البيئة الاجتماعية العربية؛ هما الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم، وتم ذلك فعلًا؛ فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب، ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولى على أجزاء كبيرة من العالم تمتد من سواحل الأطلسي إلى شواطئ السهب الأوراسي.

كيف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة العرب من قبائل متناحرة إلى أمة محترمة؟

بهذا الإيمان الواسع العميق، والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة، وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه، بعث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة.

عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد مكامنها، وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض، فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة، وبعث فيها روحا جديدة، وأثار من دفائنها، وأشعل من مواهبها، ثم وضع كل شخص في محله فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغرًا لم يزل ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جمادا؛ فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفًا، وكأنما كان ميتًا لا يتحرك؛ فعاد حيًّا يملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائدًا بصيرًا يقود الأمم.

عمد إلى العرب التائهين، فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ، فأصبح عُمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب، وينهره وكان من أوساط قريش، لا يتبوأ منها المكانة العليا، يفاجئ العالم بعبقريته وعصاميته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما، ويؤسس دولة إسلامية، تجمع بين ممتلكاتهما، وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام، فضلًا عن الورع والتقوى والعدل، الذي لايزال فيه المثل السائر.

 

هل كانت كلمة التوحيد السبب في توحيد الكلمة؟

وتمر السنون، وتتوالى النكبات على الأمة الإسلامية، فتارة يهاجمها الصليبيون في تجمع لم يسبق له مثيل، فاستباحوا الأعراض والدماء، فهيأ الله للأمة قائدا لملم شتاتها، ووحّدها تحت راية الدين والشريعة، وقام بعملية بعث وإحياء على الجبهتين اللتين لا يمكن للأمة المسلمة أن تستغني عنهما، جبهة العلماء وجبهة الحاكم والوزراء وأصحاب النفوذ الغيورين، فكان الاتحاد بين جبهة العلماء وجبهة الحاكم له كبير الأثر في تحرير المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين، وهو الهدف الذي تحركت له الأمة وعملت من أجله على جميع الجبهات.

كان صلاح الدين رجلا يتمتع برجاحة العقل وإخلاص النية، فبدأ بتوحيد المسلمين فأرسل حملة إلى جنوب مصر لتأمينها من الجنوب بقيادة شقيقه شاه بن أيوب، وأرسل حملة إلى اليمن بقيادة شقيقه الأمير شمس الدين توران شاه لتأمين البلاد في بحر العرب ومضيق باب المندب والبحر الأحمر. ولما توفي نور الدين محمود زنكي، ضم صلاح الدين دمشق بناء على طلب أهلها، ثم زحف بعد ذلك إلى حمص وحماه والموصل فتوحدت تحت إمرته. وكان هدف صلاح الدين توحيد الأمة أولًا ثم تجنيد كل الإمكانيات لقتال الصليبيين وإخراجهم من أرض الإسلام، وتحرير القدس واسترداد الكرامة العربية والإسلامية.

وتارة يبهتها السيل المغولي المدمر الذي لم يبق ولم يذر، ويكتسح الولايات الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ويصل لحدود مصر، فينبري له حكامها المماليك، ولا يكتفون بإبعاد الخطر المغولي عن مصر وحدها، فالقضية بالنسبة لهم قضية أمة، فيلاحقون فلول الجيش المغولي المنهزم، ليتم لهم توحيد الشام ومصر استعدادا لتطهير البلاد من الصليبيين.

نحن مطالبون اليوم – أكثر من أي وقت مضى- بالاستفادة من تلك التجارب ودراستها بجدية ووعي، كي نتعلم منها ونعمل لتحقيق هدف الوحدة الذي تتوق إليه الأمة الإسلامية خاصة ، والإنسانية عامة .