المسلمون في المجتمعات الغربية العلمانية، حقوقهم وواجباتهم
المسلمون في المجتمعات الغربية العلمانية، حقوقهم وواجباتهم أطروحة الاندماج عند الأستاذ طارق رمضان نموذجا
دكتور محمد همام
باحث مغربي
تقديم : إسلام أوروبا، الأوضاع والآفاق
يذهب الأستاذ طارق رمضان إلى أن إسلام أوروبا يعني كل المثقفين والفاعلين السياسيين والاجتماعيين المنشغلين بمستقبل القارة العجوز.
والوجود الإسلامي الأوروبي بشكله الفاعل، كما يبرز اليوم، هو ظاهرة قريبة؛ ذلك أن الأربعين أو الخمسين سنة التي تفصل الموجات الأولى من المهاجرين عن الأجيال الشابة وأجيال التسعينات، لا تعبر تاريخيا إلا عن حقبة قصيرة، بالنظر إلى عمر المجتمعات أو المجموعات.
ولقد أثار الظهور السريع للجاليات الإسلامية في أوروبا، في الثمانينات، فجأة، دهشة ومخاوف، عمقها سوء الفهم والرفض المتبادل بين المسلمين والمجتمع الأوروبي. ولم يستطع أفراد الجالية المسلمة إبراز أنفسهم بشكل أفضل، والدخول في حوار عميق وواعي مع الأوروبيين، نظرا لظروفهم الفنية والاقتصادية والاجتماعية، ولوجودهم العابر، عادة، والمؤقت.
وهذه الظروف الصعبة التي اجتازتها الجالية المسلمة وما زالت تجتازها، من بطالة وتهميش وطرد وعنف، أعاقت بنظر الأستاذ رمضان مسيرة الاندماج، فحصل تصدع اجتماعي، وواكبه توتر وغياب للأمن وسوء تفاهم فظيع.
وزاد من حدة هذه الأوضاع بعض الأحداث الدولية المرتبطة ببلاد المسلمين مثل فلسطين والجزائر وأفغانستان والعراق... فهذه المعطيات كلها ستلقي بظلالها القاتمة على مسار الوجود الإسلامي وتطوره بأورويا.
إن فهم الوجود الإسلامي في أوروبا لابد وأن يستحضر التاريخ ومعاناة المسلمين اليوم، مع الانخراط في البيئة الأوروبية بخصوصياتها وجس نبض الحياة اليومي، حيوية أو تقلصا، اندماجا أو تمردا.
مبادئ التواجد الإسلامي في أوروبا :
غاب عن الفقه الإسلامي بلورة نظرية فقهية منسجمة مع السياق الأوروبي؛ فقد شاع شعور عام في وسط المسلمين في المجتمعات الغربية، خاصة في فرنسا، يوحي بأنهم لن يلبثوا إلا أياما معدودة ثم يعودون في يوم من الأيام إلى بلدانهم الأصلية. وعليه اكتفى العقل الفقهي بإصدار بضعة فتاوى تهم : اللحوم والمساجد والعقود المالية، وقضايا فردية مجزأة هنا وهناك. وبقدر ما تزايدت أعداد الجاليات المسلمة بأوروبا بقدر ما كثرت الأسئلة الوجودية والمعرفية للمسلمين في تلك البلاد. هذا ما استلزم وجود اجتهاد فقهي يعين المسلمين على العيش في المجتمعات الغربية في انسجام مع مكوناتهم العقدية والفكرية. هذا الاجتهاد الفقهي الجديد خلص إلى خمسة مبادئ في ضوء مصادر المسلمين المتفق عليها، لتشكل الأرضية التي يتأسس عليها تواجدهم بأوروبا.
و هذه المبادئ يمكن تلخيصها كالآتي :
1- على المسلم أن يعتبر نفسه في البلاد الأوروبية في إطار عقد أخلاقي واجتماعي في الآن نفسه مع البلد الذي يسكن فيه، سواء كان حاملا لجنسيته أو مجرد مقيم فيه؛ هذا يترتب عليه احترام قوانين ذلك البلد الذي يقيم فيه.
2- إن الإطار العلماني للدولة الأوروبية، في جوهره وروحه، يسمح للمسلمين بممارسة دينهم دون احتوائهم سلبيا أو محو هويتهم.
3- على المسلمين تجاوز التعبيرات القديمة في النظر إلى جغرافيا العالم؛ مثل مفاهيم : "دار الحرب" و "دار الإسلام" ؛ فإضافة إلى أنها لا تستند إلى مرجعية معتمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، فهي، اليوم، تعبيرات متجاوزة لا تأخذ بعين الاعتبار واقع العالم المعاصر. وعليه لابد من اقتراح تعبيرات إيجابية جديدة عن الوجود الإسلامي في أوروبا.[1]
4- على المسلم أن يعتبر نفسه في البلد الذي يقيم فيه مواطنا كامل المواطنة يشارك بوعي، ويرعى قيمه، مع الانخراط في الحياة الجماعية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لذلك البلد.
5- على الفرد المسلم التيقن من أن الإمكانيات التشريعية الأوروبية تتيح للمسلمين، مثل سائر المواطنين، تبني اختيارات تتجاوب مع حالات وعيهم ومقتضيات دينهم. مع ضرورة التفكير في أساليب التعبير والتعامل مع المقتضيات التشريعية الأخرى، وهي محدودة جدا، وقد تضاد مبدءا إسلاميا!
فمن خلال صياغة هذه المبادئ الكلية للوجود الإسلامي في أوروبا، أصبحت الجالية المسلمة تتوفر على إطار مرجعي لسلوكها وتصرفها إزاء الكثير من القضايا التي تعترضها في تلك المجتمعات، كما أصبحت قادرة على تحويل مجموعة من المفاهيم من مفاهيم-معوقات إلى مفاهيم ايجابية ودافعة لمسار حياتهم نحو مزيد من الاندماج الإيجابي والمشاركة والتفاعل مع مجتمعاتهم؛ مثل الهوية والطائفة والثقافة.
أ) الهوية والاندماج :
قدم الأستاذ طارق رمضان مفهوما جديدا للهوية، بما يساعد الجاليات المسلمة في الغرب على الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم. ووضع أربع ركائز للهوية في علاقتها بالواقع وهي :
1- الهوية إيمان وروح وعبادة.
2- الهوية عقلانية ومسؤولية؛ أي إدراك مقتضيات المرجعية الإسلامية في علاقتها بالسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي للبلد الذي يقيم فيه المسلمون.
3- الهوية تربية وتبليغ.
4- الهوية عمل ومشاركة؛ مشاركة لإقامة المثل الإنسانية العليا؛ كالعدل...
إن المسلم في البلاد الغربية مطالب بتوفير الضمانات الكافية لحماية هذه الركائز المؤسسة لفعل الهوية بشكل إيجابي. ويذهب الأستاذ رمضان إلى أن الإطار التشريعي الأوروبي يحمي التعبير عن الهوية بهذه المعاني، مع التأكيد على أن هذا التشريع نفسه قد يتعرض للاختزال والتأويل المغرض بناء على مخاوف وأحكام مسبقة عن الإسلام وقوانينه، بما يحرم المسلمين من الاستفادة من فسحه وحقوقه.
ب) الطائفة والاندماج :
يرى الأستاذ طارق رمضان أن المسلمين مطالبون اليوم بالتخلي عن كل نزوع طائفي؛ بكل ما يحمله من إنطوائية ومحدودية في التواصل والمشاركة، إذ لا يجب الخلط بين التجمع الايماني وأساليب النزوع الطائفي المغرقة في الانعزال والتفرد على المستويات الاجتماعية والسياسية والتشريعية.
إن النزوع الطائفي أسلوب غريب عن المنظومة الإسلامية؛ ذلك أن الشعائر عند المسلمين ذات طبيعة جماعية ومقاصد تواصلية، كالصلاة والصوم والزكاة والحج. فممارسة هذه الشعائر من المفترض أن يعبر عن مستويات عليا من الأخوة والتضامن وفعل الخير والتواصل التي تملأ المسلم وتعبر عن مكنون ذاته الدفينة. بل إن الممارسة الايمانية العليا لا تتم إلا وسط تجمع إيماني وروحي هو "مجتمع المؤمنين". إلا أن النزوع الانعزالي الفكري والمادي ليس هو التجمع الإيماني، بل هو غريب عن روح الإسلام؛ فأن يعيش المرء ايمانه في ظل جماعة للتعاون على تزكية الخلق والروح شيء، والانعزال عن المحيط الاجتماعي شيء آخر مخالف.
ولتحقيق المقتضيات الجماعية والاجتماعية للايمان، فالمسلم في البلاد الأوروبية مطالب بالتصرف باعتباره مواطنا، وأن يكون مطلعا على القوانين المنظمة للحياة في تلك البلاد، مع المشاركة اليومية والمستمرة في مختلف الأنشطة. وفوق هذا لابد أن يسر ي في الجاليات المسلمة بأوروبا شعور حقيقي بالانتماء إلى المجتمع الذي يعيشون فيه؛ إذ لا معنى لاندماج إيجابي يستجيب لمقتضيات الايمان الجماعية، مع تصور وجود شباب من الجالية المسلمة، من الجيل الثاني أو الثالث، يتقوقعون في دوائر مغلقة؛ يتجاهلون محيطهم الاجتماعي، ويتهاونون أحيانا في إتقان اللغة الرسمية والمتداولة للبلاد التي يقيمون فيها، وهذا ما تثبته بعض الدراسات عن أبناء الجاليات المسلمة، خصوصا في بريطانيا.
إن الجماعة المسلمة[2]، ليست طائفة، بل هي فضاء إشعاعي وايماني يمنح الفرد المسلم مزيدا من الحماس والفعل والنزاهة الفكرية، والانفتاح على مجتمعه بصفته فردا مسلما ومواطنا أوروبيا.
ج) الثقافة والاندماج :
يحضر مفهوم "الثقافة الإسلامية" في وعي الأوربيين، بما هو أداة توحي بعدم إخلاص الجاليات المسلمة في إعلان الرغبة في الاندماج في المجتمع الأوروبي؛ فالثقافة الإسلامية عندهم ليست سوى آلية لتكريس خصوصية الجاليات المسلمة؛ في اللباس وتخصيص أماكن خلفية للنساء، وفي رفض أدوات الجمال، من موسيقى ومسرح وسينما... هذا التصور عند الأوروبيين يتأسس على رؤية ضيقة لمفهوم الاندماج تقوم على أن الاندماج يجب أن يمس كل سلوكيات الناس مهما دقت أو صغرت، وهي رؤية تنحو نحو الاحتواء والدمج القسري، وترفض كل تعبير مخالف مهما كان مستواه.
وعليه يدعو الأستاذ طارق رمضان، لتجاوز عدم التواصل بين الجاليات المسلمة ومجتمعاتها الأوروبية، إلى بلورة "ثقافة إسلامية أوروبية" غير مرتهنة للأصول الاجتماعية والتاريخية للثقافة العربية في إفريقيا الشمالية أو في الشرق العربي أو في تركيا أو الهند أو الباكستان، مع إمكانية اعتبارها منبعا للإلهام والتحفيز على الفعل الإيجابي.
ففي فرنسا، مثلا، فالمسلمون، بنظر رمضان، مطالبون بابتكار سلوك خاص في اللباس، مع التفكير في أنواع من التعبير الفني المبدع والثقافي الذي يجند الطاقات الفرنسية في تساوق مع العادات الوطنية والقيم والتوجهات الإسلامية. هذه التعابير الثقافية المندمجة هي الآن في طور التشكل في المجتمعات الأوروبية.
أية مشاركة للجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية؟
من الصعب تلمس صيرورة اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية بدقة كبيرة، أمام ما يتعرض له المسلمون من ضغط وعدوان، خاصة في الضواحي المحرومة. ولكن الأكيد أن حركية جديدة تدب في الأجيال الشابة من الجالية المسلمة؛ فقد تبلور وسط الشباب الإسلامي في أوروبا وعي جديد بالرهانات الدينية والاجتماعية والسياسية مما بدأ يترسخ في الواقع. وكانت فترة التسعينات فترة انتقال وتخلق عسيرين، ولكنها كانت غنية وواعدة؛ فبدأت ثقة الشباب المسلم بذاته تنمو، وازداد نضجه السياسي في ارتباط متين وإيجابي ومتحرر مع وعيه وهويته، مع الانفتاح الواقعي على مجالاته التداولية للمجتمع الأوروبي قانونيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
لقد صنع شباب الجاليات المسلمة اليوم في أوروبا ما عجز عنه آباؤهم، وطوروا مواقف مشاركة ايجابية على الصعيدين المحلي والجهوي. وقد تحدد سلوك الموجة الجديدة من شباب الجالية المسلمة في أوروبا بناء على رعاية الدين والاستمساك بالإسلام، ثم الاندماج في إطار المواطنة والاستقلالية، والتمثيلية الديموقراطية.
أ ـ رعاية الدين والاستمساك بالإسلام في إطار الاندماج :
كان شباب الجالية المسلمة في أوروبا مترددا في الإقبال على الدين؛ فقد جرى في تصورهم أن الحركية والمشاركة داخل المجتمع الأوروبي لن تتم إلا على حساب الممارسة الدينية. وقد عمل الكثير من الفاعلين السياسيين وكذا وسائل الإعلام على ترسيخ هذا التصور. إلا أن التشريعات الأوروبية في روحها لا تتعارض مع الممارسة السليمة والتامة للدين الإسلامي؛ وإنما خضعت القوانين العلمانية لعمليات تأويل متحيزة ضد المسلمين، وليست بالضرورة في صالح الدولة الأوروبية المعنية.
وباكتشاف هذه التحيزات وهذه الثغرات في التصور تنامى الوعي لدى الجالية المسلمة بإمكانية العيش كمسلمين أوروبيين مندمجين بيسر وسلاسة في مجتمعاتهم دون التنكر لذواتهم وهويتهم؛ كل هذا ساعد الجالية المسلمة في أوروبا على إنتاج خطاب هوية منسجم ومنفتح، خطاب جديد يقطع مع الخطاب القائم على ردود الأفعال، أو الخطاب الهجومي الرافض والذي راج خلال السنين الماضية.
هذا التصور الجديد والممارسة الجديدة دونهما إزعاجات إدارية متنوعة ومعوقات واقعية وفكرية، جاءت من خلفيات تاريخية مملوءة بالتخوف والتوجس من المسلم، كيفما كان، باعتبار أن من يسعى إلى رعاية دينه وتنمية وجدانه وروحه فهو أصولي سلفا، والدليل هو المصطلحات الرائجة في الأبحاث والدراسات الغربية منذ 1979م، تاريخ قيام الثورة الإسلامية في إيران؛ فقد انتشرت مصطلحات "الأصوليين"، و"الإسلاميين"، وراجت لدى وسائل الإعلام بشكل يومي دون تحديد دقيق لمدلولها، مما يتعذر معه معرفة ما إن كان المسلم الذي يؤدي صلواته الخمس، والمسلمة التي تلبس الزي الشرعي، هم من الملتزمين بإتمام واجباتهم الدينية أم هم متطرفون في حالة كمون؟
ب - الاندماج في إطار المواطنة :
بدأت الجمعيات التي أسستها الجاليات الإسلامية في أوروبا في تعميق الوعي المدني المشارك عند أفرادها. وقد شرعت هذه الجمعيات في تنفيذ برامج تكوينية في مجال المواطنة بالتعاون مع مؤسسات محلية أو وطنية، متخصصة في هذا الشأن.
إن النسيج الجمعوي للجاليات المسلمة في أوروبا أصبح يعرف حالات وعي متطورة وحركية دؤوبة. فهم حريصون على الوصول إلى العيش المشارك والمندمج في إطار مواطنة حقيقية، ودون التنكر لدينهم ومقوماتهم الروحية، عبر الانخراط في الدولة والمجتمع ومؤسساتهما، وعيا بالواجبات والحقوق داخل مجتمعاتهم.
ج - الاندماج مع الاستقلالية :
تشتغل الجمعيات الإسلامية في أوروبا عادة بكيفية مستقلة، اعتمادا على إمكاناتها الذاتية. وتقوم بأنشطة داخلية بهدف الوفاء بحاجات الطائفة المسلمة على الصعيد المحلي. وهذه الأعمال المتكاثرة هي التي ستؤسس مستقبلا لفعل جمعوي للجاليات المسلمة مبني على الاستقلالية السياسية والمالية. وسنرى في المستقبل وجودا إسلاميا حرا، يتمتع بتنظيم ذاتي ويتخذ قرارا مستقلا. هذه المكتسبات بدأنا نراها من خلال الخروج من المساجد كمقرات "ضيقة وخاصة"، لكل الأنشطة المختلفة، إلى تأسيس مقرات جديدة وبمواصفات فنية ومعمارية جديدة توحي بهذا الوعي الجديد عند الجاليات المسلمة في أوروبا. وتم تخفيف الضغط عن المساجد مع الحفاظ على دورها الحيوي الروحي والاجتماعي والثقافي، بالنسبة للمسلمين.
د- الاندماج في إطار التمثيلية الديموقراطية :
إذا كان مستقبل مؤسسات الجاليات المسلمة يمر عبر الاستقلال المالي السياسي، فإن الأمر أيضا يتطلب احترام اختيار جمهور المسلمين في الدول الأوروبية أي تمثيلية القواعد؛ أي أن تكون تمثيلية ديموقراطية. أكيد أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل، ولابد أن تحرق مراحل، تتحول أثناءها العقليات وأنماط الوعي عند عموم الجالية المسلمة بأوروبا، لإنجاح هذه العمليات. ولابد من تجاوز التمثيلية المؤسساتية الوحيدة؛ فهي عملية غير جدية وغير واقعية. كما تنبئ عن نقص في ممارسة الوضوح السياسي؛ إذ لابد من احترام التعابير الجماعية والمختلفة لعموم أبناء الجالية المسلمة في أوروبا، مع تطوير تجربة المجالس الإسلامية الموسعة والتي تضم حساسيات مختلفة لكنها متكاملة من أجل المصلحة العامة للجالية المسلمة في أوروبا.
ويرى الأستاذ طارق رمضان أن النسيج الجمعوي للمسلمين بأوروبا يعتبر اليوم مؤهلا أكثر من غيره لبلورة مشاريع راقية لتمثيلية ديموقراطية ومستقلة. كما حذر من الاستجابة المتسرعة لإلحاح السلطات الحكومية الأوروبية على "فبركة" تمثيلية على عجل، وغالبا ما تكون غير ديموقراطية. فلابد من وقت كاف للجاليات المسلمة لصياغة هذه التجربة وحمايتها من كل توظيف مخل بمصالحها والتزاماتها.
خاتمة :
يوضح الأستاذ طارق رمضان أن العراقيل ستتكاثر في وجه الجاليات المسلمة بأوروبا؛ من مثل حالات الرفض والتمييز ضدهم؛ كل ذلك يقلل من قيمة الوعي بالاندماج الإيجابي عند أفراد الجالية المسلمة، لصالح مشاركة باهتة وخفية وغير فعالة. فالضغط الذي يمارس اليوم على المسلم في أوروبا يدفعه لإخفاء دينه كما يخفي كل واحد عقده؛ هذه الوضعية تهيئ الأجواء لغياب الأمن الاجتماعي والتنافر بين مكونات المجتمع وفي الدولة الوطنية الواحدة؛ إنها نذير قنابل موقوتة تشكل خطرا على الجميع في أوروبا.
فلابد للقوى الحية والمنصفة في أوروبا من التقليل من حالات الوعي الشقي التي تعيشها الجاليات المسلمة في أوروبا، وتشجيع المسلمين على الاندماج الايجابي، مع إشعارهم بأن مشاركتهم تعد إثراء لرصيد أوروبا تاريخيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ...فبهذه المشاركة، ومن خلال الحوار متعدد الأوجه والمستويات، يمكن الوصول إلى تعددية دينية وثقافية جديدة وأصيلة في أوروبا، متحررة من رواسب الماضي وأشكال التصنيف المغرض للمسلمين، والإساءة البشعة للإسلام ولتاريخه ورموزه والتقليل من كسبه الحضاري لفائدة الإنسانية.
وعليه فمن حق المسلمين بل من واجبهم، وبصفتهم مواطنين في أوروبا، طرح أسئلتهم، والانخراط مع شركائهم الاجتماعيين والسياسيين والاقتصاديين، والبحث عن الأجوبة المناسبة لما فيه مصلحة بلدانهم والإنسانية جمعاء. عندها سيكون اندماجهم دعما وإسهاما وشاهدا ايجابيا على مشاركة فعالة تغذيها قوة روحية إسلامية وحالة انتماء وطني رشيد ونافع.
هذه المهام التاريخية التي تنتظر الجاليات المسلمة في أوروبا دونها صعاب كثيرة؛ منها ما هو تاريخي وبنيوي في تجربة الغرب نفسه؛ حيث صار الدين في زوايا مهمشة حتى عاد غريبا بين ذويه وأهله. ولهذا من الطبيعي أن يرى في عودة الجاليات المسلمة إلى دينها بشكل حيوي شرا مستطيرا تتوجب محاصرته خوفا من عودة سلطة الإكليروس التي قامت الحداثة الغربية على أنقاضها. لذا فالجاليات المسلمة مطالبة باستحضار تاريخ الغرب وتجربته مع الدين في بناء تجربتها الجديدة.
-[1] اقترح الأستاذ طارق رمضان في كتابه "ماذا يعني أن تكون مسلما أوروبيا؟ (سبتمبر 1998)"، منشورات توحيد) مفهوم دار الشهادة لما يحمله من دلالات فردية واجتماعية ايجابية، توحي بالمشاركة والتواصل بين المسلمين وغيرهم.
-[2] حاول بعض الكتاب الفرنسيين تشويه تصور الأستاذ طارق رمضان لمفهوم الجماعة، واعتبروه من دعاة الطائفية، مع العلم أن مقاربة مفهوم الجماعة من خلال (الإسلام في أوروبا)، ليس هو مقاربتها من خلال (الإسلام في البلاد المسلمة). (ينظر اوليفييه روي، مجلة Esprit يناير 1998).