الفكر الإسلامي ومتطلبات المستقبل

الفكر الإسلامي ومتطلبات المستقبل

 

 

الفكر الإسلامي ومتطلبات المستقبل

 

علي المؤمن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

يتمتع الفكر الإسلامي بجملة من العناصر التي تؤهله لتطويع الواقع وضغوطاته والاستجابة لتحديات المستقبل أيا كان شكلها ومضمونها، فيما لو أحسن أصحاب الاختصاص التعامل مع القواعد الاساسية التي يستند إليها والتي تتدخل في تشكيل بنيته. ولعل المرونة والدينامية والحصانة من أهم هذه العناصر، والتي تدفع الفكر الإسلامي باتجاه التجدد والاكتشاف والتأسيس، وتحول دون خشيته من المراجعة المستمرة، هذه المراجعة التي تضمن له احتفاظه بعناصر القوة فيه وبقابليته على اخضاع الزمان والمكان للشريعة وأحكامها.

 

ولا نريد هنا تكرار المقولات التي تؤكد أهمية التجديد وضرورته؛ لاعتقادنا بأن هذه المقولات قد تم استيعابها استدلالا وشرحاً. ولكن نجد من الضروري إعادة التأكيد على ماتقتضيه متطلبات المستقبل واستدعاءاته ومشاكله الأكثر تعقيداً، من مراجعة نوعية للفكر الإسلامي من خلال أدوات ومناهج أصيلة تفرزها طبيعة المرحلة التي يراد استقبالها وتشوّف حاجاتها. ونقصد بالمراجعة النوعية هنا؛ اعادة قراءة الفكر الإسلامي بنظرة موضوعية شمولية تنطوي على استيعاب الحاجات الجديدة والتي ستستجد، والاستجابة لها من خلال عمليات الاصلاح والتأصيل والاكتشاف والتأسيس. وتتمثل شمولية هذه النظرة أيضاً في استيعابها لكل مفردة من مفردات الفكر الإسلامي، بما في ذلك علوم الشريعة ومناهجها. فالنظرة المنفعلة والتجزيئية للواقع وللفكر الإسلامي هي التي تؤدي إلى ألوان من اللا توازن والافراط والتفريط والخلل. وبالطبع فان هذه المراجعة تتوقف عند المتغيّر الفكري. أما الأُصول الإسلامية فهي الثابت الالهي المقدس الذي لا يخضع لضغوطات الزمان والمكان، وهو أمر أشبع بحثا، ولا نجد بعد ذلك ماقد يتسبب في حصول لبس أو سوء فهم خلال الحديث.

 

ان متطلبات المستقبل تنطوي على معرفة جملة من الحقائق النسبية، من خلال استطلاع المعطيات التي ستؤدي إليها واستشراف طبيعة العناصر التي ستشكلها. ومن أبرز هذه الحقائق: حقيقة الزمن الذي سنعيشه، أي عالم المستقبل، والتحديات الداخلية التي ستبرز في واقع هذا الزمن، والتحديات الخارجية التي ستواجهنا. ففي الاجابة على تساؤل: (في أي زمن سنعيش؟!) تكمن عملية الاستشراف المستقبلي، التي تكشف لنا عن نوعية الزمن الذي سنعيشه وشكله وضغوطاته وتحدياته. والاجابة على هذا السؤال ستجرنا بصورة طبيعية إلى سؤال آخر هو: (كيف سنعيش؟)، وهذه الكيفية أما نصنعها نحن أو نساهم في صنعها ويستلزم ذلك ألوانا في التخطيط، أو نكون مسلوبي الارادة ولا نمتلك أي برنامج وتخطيط لحياتنا.

 

والحقيقة ان معرفة الزمن الذي سنعيشه، وطبيعة ممارستنا للحياة فيه، يتطلب معرفة حقيقية بالزمن الذي نعيشه الآن، ومعرفة أخرى بآليات ومعادلات وقوانين التطور والانتقال من الحاضر إلى الغد، لأن هذه المعرفة هي القناة التي توصلنا إلى الزمن القادم، إذ انّ الزمن القادم تصنعه معطيات الحاضر وقراراته وتخطيطه. وعلى هذا الأساس ستكون المعرفة بالزمن أو العصر شاملة ومتكاملة. فلا شك ان عجزنا عن دخول عصرنا ومعرفته سيؤدي إلى عجز آخر بالمستقبل وكيفية استقباله وعجز عن التخطيط له. ويعود هذا إلى ان المسلمين لم يصنعوا حاضرهم ولم يساهموا في صناعته؛ لأنهم لم يخططوا له فيما مضى، وإذا خططوا له فهو تخطيط يستبطن ألوانا من الاحباط وعدم الثقة بالنفس والخوف.

استدعاءات المستقبل

يشهد عصرنا آلاف الظواهر الساخنة على الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والايديولوجية والاخلاقية والعلمية والتكنولوجية، وهي ظواهر تعيش ثورات وتطورات سريعة للغاية، وتنبئ عن مضامين مختلفة للحياة وللمستقبل، ويتطلب معرفة هذه الظواهر جهودا استثنائية واسعة في حجمها ونوعية في حركتها)، وهو الحل الوحيد الذي نستطيع من خلاله دخول الزمن القادم بعزم وثقة بالنفس، ونحن نتأبط مشاريعنا ومخططاتنا، وحينها – فقط – يمكننا الحديث عن بديلنا الحضاري ومشروعنا الحضاري.

 

ولاشك ان معرفة العصر الذي نعيش فيه أو سنعيش فيه هي مدخل تطبيق معادلة دور الزمان والمكان في العملية الاجتهادية كما ان التخطيط وتوفير الشروط لهما علاقة مباشرة ولصيقة بالفكر والنظرية والمنهج، فنحن لانتحدث عن تخطيط فني أو تقني فقط، بل تخطيط شامل ينتج عنه البديل الحضاري المستقبلي المطلوب، والذي يستند إلى قواعد الفكر والمنهج. وهنا تكمن مساحة المراجعة التي ننشدها. ففي هذه المراجعة لا نهدف إلى أن تقوم الشريعة بملاحقة تطورات الزمن، ولا نريد للفقه أن يتعصرن أو يلاحق الزمن، بل نريد للشريعة وعلومها أن يسبقا الزمن، ونريد للعصر أن يقف خلف الفقه، أي يجد أمامه فقها قائما يجيب على كل تساؤلاته ويستجيب لكل تحدياته، حينها لن يجد الزمن والعصر أمامهما سوى الانحناء أمام الشريعة والفقه والخضوع لهما. وهذا الهدف ليس ضربا من الخيال أو الترف العلمي، فقضايا المستقبل حاضرة أمامنا نشاهدها ونلمسها، برغم انها لم تتحول إلى واقع فعلي لأننا نعيش في المستقبل، أقصد أن العالم المتقدم علميا ومنهجيا يعيش في المستقبل الآن، وليتنا كنّا أيضاً نعيش الزمن نفسه، ولكن متلفعين بأصالتنا ومتسلحين بالشريعة التي لا يحدها زمان أو مكان. وبالتالي فالمراجعة تهدف إلى التحول في النظرية والاصلاح في الفكر، من خلال الأدوات والآليات التي تقرها الشريعة؛ لدفعه نحو المستقبل ونحو الامساك بعملية التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري، وانتهاءً بتحقيق مقولة: (الإسلام يقود المستقبل).

ومقدمة تطبق هذه المقولة هي أن تكون الشريعة ويكون الفقه مؤثرين وليسا متأثرين (مع الاذعان بأهمية التأثير الايجابي وواقعيته وعدم امكانية الفرار منه)، وأن يصنع الإسلام التغيير ولا يلاحق التغيير، فملاحقة التغيير وتطورات الزمن تعني انه سيبحث عن اجابات لأسئلتها ومواجهة لضغوطاتها، أما إذا صنع الإسلام التغيير وصنع التطور وصنع المستقبل وصاغ الزمان والمكان وفقا لرؤيته، فان كل الاشكاليات الفكرية وكل التساؤلات الفقهية والعقيدية ستكون واضحة أمامه، إن لم تكن جاهزة.

وتناول الشريعة وعلومها ومجمل الفكر الإسلامي لقضايا المستقبل، ليس عبورا على الزمن ولا تجاوزا للحاضر، ولا نقصد به فرضيات وهمية أو موضوعات غير واقعية، بل نقصد به استعداد الفكر الإسلامي للمستقبل، بعد أن فرضت ظواهر الحاضر وتطوراته السريعة والتخطيط الذي تستند إليه، أن تعيش البشرية في المستقبل – كما ذكرنا – فمثلا تناول الفقه لما ستفرزه مخططات وبحوث علماء الهندسة الوراثية (الجنتيك) والبايولوجيا والفضاء والمعلوماتية (الانفورماتيك) والاتصالات والتنمية والسكان والطب وغيرها من أسئلة واشكالات كبيرة، تعنى انه مندك بالواقع؛ إذ انّ البشرية ستقطف ثمار هذه المخططات والبحوث بعد 30 عاما أو 20 عاماً، لاسيما انّ بعض هؤلاء العلماء قد فتحوا باب البحث والتجربة على مصراعيه، دون محددات أخلاقية أو حتى انسانية، وبذلك تجاوزوا السماء وتعاليمها، بل تجاوزوا حتى التعاليم الإنسانية التي تعارف عليها سكان الأرض وباعتبار ان هذه المشاهد المستقبلية من جملة المشاهد التي لا يستطيع المسلمون صنعها أو المساهمة في صنعها، بالنظر لعدم مواكبتهم التطور الذي تعيشه هذه العلوم، فمن المفروض – إذن – أن يجد الفقه حلوللا وتكييفات لاشكالياتها.

 

وينسحب هذا الواقع على الجانب الفكري أيضاً، فمثلا تطورات المستقبل (المنظور) سينتج عنه واقعاً فكرياً جديداً، سواء على مستوى النظام السياسي للدولة ونظمها التقليدية في الاجتماع السياسي والاقتصاد والاعلام والثقافة والتعليم أو على مستوى العلاقات الدولية وغيرها، وما سيترتب على ذلك من نهاية للسياسة، كما يقول بعض المفكرين، ونهاية للايديولوجيا، ونهايات أخرى، كما يقول مفكرون آخرون.

 

ولعلّ التغيير العملي سيسبق الفكر والنظرية والايديولوجيا بمراحل طويلة، وستكون النظرية افرازا للتطبيق، والفكر افرازا للواقع العملي، وليس العكس، مما يعني ان العلوم الإنسانية والاجتماعية والأفكار والفلسفات والمناهج النظرية سيقتصر دورها على المتابعة والتحليل، وستفقد قدرتها على التنظير والأدلجة وصناعة الواقع والتغيير.

 

بيد أن الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة يمكنهما تجاوز هذه الأزمة والقفز على تحدياتها، من خلال المراجعة المستمرة للفكر والاطلاع الدقيق على الواقع. ويمكن للتحول النظري فيهما أن يكون أساسا للتغيير (العملي)؛ بالنظر للبعد الالهي الذي يدخل في تكوين بنية الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة. ويفرض هذا التحول ان يعيش علماء الشريعة والمفكرون المسلمون قضايا العصر بكل تفاصيلها، ويفهمونها فهما شموليا، ويستعدوا لتطوراتها ومعطياتها المستقبلية ؛ لكي يتجنبوا ما سيتسببه المستقبل لهم من صدمات وذهول، ومن ثم تراجع قياسي وهزيمة للامة.

وأؤكد على أنها ستكون هزيمة شاملة؛ لأن التشابك المستبقلي في القضايا والظواهر والأشياء سيأخذ مسارين افقي وعمودي، وسيرمي التشابك الافقي بظلاله على الجغرافية السياسية والسكانية والثقافات والمجتمعات والأفكار والأديان والمذاهب، أما التشابك العمودي فسيشتمل على الموضوعات والمشاكل والتحديات. ومن هنا فأي تراجع في أي مجال سيترتب عليه تراجع وهزيمة في المجالات الأخرى.

 

ان جملة الأدوات والآليات التي تنظم عملية المراجعة ومراحلها وتحدد مساراتها، هي التي تتدخل في تشكيل بنية المنهجية التي تتخذها عملية المراجعة، وهي منهجية تجمع بين كونها فنية وتقنية من جهة وفكرية ونظرية من جهة أخرى، أي انها منهجية مستنبطة من ثوابت الشريعة أو مقبولة لديها، وليست مستعارة من علوم ونظريات وضعية أخرى. وبالتالي يمكن لأصالة المنطلق والهدف والوسيلة أن تضمن أصالة النتاج.

 

وتحوي هذا المنهجية على جملة من المسارات المتكاملة، يتخلص أولها في (الاحياء) و(الاصلاح) و(التجديد) ويتمثل بتمحيص الفكر الإسلامي، التراثي والمعاصر وتنقيته، واستخراج المادة التي تدخل في البناء الفكري الجديد.

 

ويقوم المسار الثاني، بملء المساحات التي تركتها الشريعة الإسلامية لأصحاب الاختصاصات، وهي مساحات فراغ تشريعي وفكري أو تفويض تشريعي وفكري، وترتبط بالموضوعات المستجدة والمتحوّلة، أو التي ستستجد وتتحول، وهو مسار مفتوح لعمليات (التنظير) و(التأسيس) و(الاستنباط)، وأداته الرئيسة (الاجتهاد).

 

ويتجه المسار الثالث نحو (التأصيل) و(الأسلمة) من خلال استطلاع الأفكار والنظريات والموضوعات الجديدة التي أفرزتها بيئات فكرية أخرى، والتي يمكن أن تشكل اضافات ضرورية للفكر الإسلامي، بعد عرضها على مبادئ الشريعة وأحكامها ومقاصدها، وتحييدها ثم تأصيلها وأسلمتها، بالصورة التي يجعل منها رؤية جديدة مختلفة تنسجم مع التصور الإسلامي.

 

وهناك مسار آخر ينزع نحو التطبيق والشكل العملي، ويختص باكتشاف الأساليب التي من شأنها إخضاع الواقع للنظرية أو اخضاع الزمن للشريعة.

 

ووفقا لهذه المنهجية فان عمليات الاحياء والاصلاح والتجديد والتأسيس والتنظير والتأصيل والاسلمة، لها مصاديقها ومجالات اطلاقها وتطبيقها، كما ان لكل منها مساحاته الفكرية والواقعية الخاصة، ولا يمكن تعميمها جميعا على كل مساحات الفكر والواقع؛ لأن حقائقها نسبية، ولكن يبقى أن جميع النتاجات التي تفرزها هذه العمليات، والتي تشكّل بنية الفكر الإسلامي وفقا لاستدعاءات المستقبل، لابد من صياغتها صياغة واحدة، ليكون الفكر المنتج عبارة عن منظومة فكرية واحدة مترابطة في مضامينها ومتناسقة في شكلها.

 

والحقيقة ان التجديد والاصلاح الفكري هو سنة الهية تحدثت عنها النصوص الإسلامية بوضوح تام، وفتحت لها الشريعة أبوابها، لتبقى البناء الخالد بمرونته واستحكامه، والذي تتحطم على ثباته كل التحديات المعرفية والفكرية والحضارية التي تهدد كيان الإسلام وتصوغ بنائها الحضاري الذي يناسب كل زمان ومكان. ولعل أحاديث شريفة مثل: (العلماء ورثة الأنبياء) و(إنّ الله يبعث لهذه الأُمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) و(إنّما علينا أن نلقي اليكم الأُصول وعليكم أن تفرّعوا)، هي أدلة واضحة على دعوة الإسلام لتجديد معارفه وفكره (في مساحة المتغيرات بالطبع)، وتجديد وعي الأُمة وخطابها، واستمرار حركة الاجتهاد والاستنباط، والانفتاح على الحياة ومراقبة الواقع وتطوراته. كما انها تدل على وجود مرجعية ثابتة للاصلاح والتجديد والتنظير والأسلمة، وتتمثل في الأُصول المقدسة: القرآن الكريم والسنة الشريفة (الصحيحة)، وهي مرجعية لايمكن تجديدها والاجتهاد في مقابلها.

 

وهناك مرجعيات أخرى لاتمثل سلطة ثابتة، بل هي مرجعية متحركة للتكامل، كالتراث الكلامي والفكري والفقهي، ومايضمه من نظريات وآراء وقواعد ومناهج، اضافة إلى أدوات فهم الأُصول المقدسة، كالعقل والإجماع وغيرهما.

مراجعة التراث

التراث الإسلامي العلمي هو مساحة المراجعة الأساسية، ولا نقصد به التراث الكلامي والفكري والفقهي والاصولي الذي خلّفه علماء الكلام والفقهاء والمحدّثون والرجاليون والمؤرخون والمفسرون والحكماء والمفكرون من السلف الصالح وحسب، بل يشتمل التراث أيضاً على ماوضعه المعاصرون ؛ إذ أن مسار المعرفة الإسلامية مسار واحد ممتد، وهو حصيلة جهود متواصلة وتراكم معرفي غير منقطع، وفهم تكاملي يعبّر عن مسيرة الوعي والاجتهاد وحركة العقل الإسلامي عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذا التلازم هو الوجه الآخر لقانون (الوراثة الحضارية). ولا نقصد بالتراث ثوابت الشريعة فقها وعقيدة فهي – كما ذكرنا – لا تنتمي إلى تراث المسلمين ولاتشكل مساحات المراجعة، لأنها ليست افرازا لزمن أو عصر.

 

وتعاملنا مع التراث وانماطه ومعارفه لابد أن يتضمن أدق ألوان الاعتدال والتوازن، إذ أن الافراط والتفريط والانفعال والنظرة المبتورة ستؤدي إلى نتائج قاصرة تماما في تحقيق الهدف المطلوب من المراجعة.

 

ففي الوقت الذي لايعدّ فيه التراث سلطتة معرفية ثابتة وقاهرة، فانه – لاشك – يشكّل جزءا من هوية الأُمة وتكوينها العقيدي والثقافي والاجتماعي والنفسي، ومن هنا فالتراث هو قوام حضارتنا في الماضي واطار هويتنا في الحاضر ومنطلق دخولنا عالم الغد. ولكن يبقى ان هذا التراث يعبّر عن فهم عصر آخر وزمن مختلف، وكان تعبيرا عن التجديد والابداع في البيئة التي أنتجته، ولا ينبغي أن تبقى نظمه المعرفية والعقلية وأدواته ومناهجه، التي صاغتها عقول المبدعين والمجددين في أزمنتهم، عائقاً أمام المراجعة والاصلاح والتطور الفكري والتنمية الشاملة، والتغيير والنهوض الإسلامي الذي يكفل التأسيس للبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي.

 

والظواهر الفكرية والحركية المتنوعة التي تشهدها الساحة الإسلامية، منذ بدايات القرن الميلادي الماضي حتى الآن، هي – في معظمها – افراز لانماط التعامل مع التراث، والذي أفرزثلاث تيارات رئيسة، بغض النظر عن أسمائها وسمياتها وطبيعة انتماءاتها وزمن انبثاقها، الأول والثاني تعاملا تعاملاً انفعالياً وغير متوازن وغير واقعي مع التراث ومعارفه وعلومه، إذ جمد الأول على فهم السلف وأدواته ونتاجاته، ولم يع حقائق العصر ومتطلباته وضرورات استمرار الاجتهاد والاكتشاف والتأسيس، فيما أدار الثاني ظهره للتراث ومعارفه وتمسك بالعصر ومشاكله وأفكاره. وهذا التعامل غير المتوازن مع التراث والعصر تسبب في ألوان من القلق والانحراف والانفلات العقيدي والفكري والسلوكي.

 

ويبقى ان رهان المستقبل هو على التيار الثالث الذي عاش توازنا منهجيا وواقعيا في التعامل مع قضايا التراث العصر، فأنتج نمطا متوازناً أيضاً من الفكر والرؤى والخطاب والسلوك، حفظ أصالتهم الإسلامية ومكّنه من معالجة كثير من تحديات العصر، من خلال خطاب عصري في لغته وشكله، وأصيل في بنيته ومضامينة. وهذا الاختلاف في فهم الأُصول وقواعد التعامل معها، وفي نوعية النظرة إلى الانتاج العلمي والفكري للمسلمين، والى قضايا العصر ومتطلباته، هو… على الجانب البشري في التراث.

تجديد علم الكلام

علم الكلام هو من أبرز المفردات للفكر الإسلامي التي تواجه تحدي الحاضر والمستقبل؛ لأنه يمثل الجبهة الامامية المعنية بمواجهة الضغوطات والتحديات الفكرية والعقيدية التي يتعرض لها الدين واصوله ومقولاته وشريعته. ومع تراكم الضغوطات والتحديات وظهور ألوان معقدة منها تبعاً للتطور الهائل الذي شهدته أو ستشهده الحياة، فان مهمات علم الكلام ووظائفه تتضاعف أيضاً، بهدف مواكبة هذا التطور ومحاولة استباقه، وبالتالي العمل على ردم الفجوة بين العقيدة والشريعة من جهة وبينهما وبين الواقع من جهة أخرى، ويستدعي ذلك مراجعة لمقولات علم الكلام ووظائفه ومناهجه ولغته، وهو ماطرحه على طاولة البحث العلمي في العقد الأخيرة – وبشكل مكثف – يمدد من علماء الدين والمفكرين والباحثين. ولكي نتجاوز المقولات التي تطرفت في دعوتها لعلم جديد في موضوعاته ومنهجه وتوجهاته وأهدافه، وكذلك ردود الأفعال غير الموضوعية التي قررت الجمود على التراث الكلامي بموضوعاته ولغته ومبانيه، فاننا نتجه بحديثنا نحو الواقع ومايتطلبه؛ لتأخذ الدعوة لتجديد التراث الكلامي مسارها الموضوعي.

 

ان التحديات الجديدة التي تواجه الدين ومعارفه وفكره، من خلال الشبهات والتساؤلات المعقدة التي تفرزها الدراسات ذات العلاقة بالدين والفكر الديني وكذلك الأفكار والنظريات والعلوم والفلسفات الحديثة التي تجاوزت المجالات العقيدية إلى القيم والاخلاق والسياسة والاقتصاد والثقافة، تجعل مهمة الكلام التقليدي ومقولاته ومناهجه في غاية الصعوبة؛ بالنظر إلى انها وصلتنا وهي مفصّلة على مقاس بيئات مختلفة، كان لها موضوعاتها وشبهاتها وأساليبها في الاستدلال. بل لايمكن لواقعنا الإسلامي أن لايكون معنيا بالتحولات الكبرى التي يعيشها الغرب منذ ثلاثة قرون وحتى الحاضر وصولا إلى تحولات الغد، على صعيد الفكر الديني والنظرة إلى الدين ومناهج تحليله وتفسيره، وليس آخرها فلسفة الدين والهرمنوطيقيا؛ لأن مساحات واسعة من الواقع الإسلامي باتت تتعاطى هذه الأفكار وتحاول اسقاطها على الإسلام وعقيدته وأصوله ونصوصه أيضاً، فضلاً عن أساليب قراءته وفهمه؛ الأمر الذي يضاعف من التحديات التي تواجه الدين، بعد أن أصبحت تنبثق من داخل الواقع الديني.

 

وهذا كله يدفع علم الكلام إلى الانفتاح المنهجي العميق على كل قضايا العصر والمستقبل، وصولاً إلى تشكيل منظومة كلامية جديدة، متماسكة وشاملة في موضوعاتها، ومركزة وعميقة في استدلالاتها، ورصينة ومقنعة وجذابة في خطابها ولغتها.

 

والحقيقة ان تجديد علم الكلام لا يقتصر على الموضوعات والمسائل الكلامية المستحدثة، بل يشتمل على بعض اركانه الأخرى أيضاً، كالمسائل والموضوعات الجديدة التي أفرزت أساليب أو مناهج جديدة في العرض والاستدلال، تستدعي أيضاً مناهج وأساليب أخرى غير تقليدية، وهو تنويع منهجي تتطلبه طبيعة كل مسألة وموضوع. كما ان التطور الذي تشهده اللغة، والتحول المعرفي الثقافي الذي نتج عنه هذا التطور، بسبب تدخل العلوم والافكار الجديدة في صياغة اللغة المعاصرة، وظهور وعي جديد وفهم مختلفة، أدى إلى حدوث فاصلة بين لغة الكلام التقليدي واللغة المعاصرة، الأمر الذي يحتـّم انفتاح علم الكلام على لغة العصر والمعارف والثقافات التي انتجتها، بهدف ايجاد لغة مشتركة مع أصحاب الوعي الجديد.

 

لا يتسع التجديد لأهداف علم الكلام أيضاً، ولكنه لا يتمدد على حساب الهوية المعرفية له، إذ أن غاية علم الكلام تشتمل على عرض العقيدة الدينية واصولها من خلال الاستدلال عليها وتحليلها وتفسيرها، ودحض الشبهات والاشكالات التي تواجهها، وتقديم هذه العقيدة للناس، بصوت تجتذبهم إليها عن قناعة، وتكوين تصور كوني ومعرفة بعالم الوجود من خلال تعاليم الوحي. ويمكن اضافة مهام وأهداف أخرى تنسجم مع نوعية اهداف التحديات الجديدة أو التي ستستجد.

 

وبناء على ذلك فالتجديد لا ينزع إلى تشكيل علم جديد، بل ينزع إلى التكامل مع الموروث، أي انه اضافة وتطوير. ويبقى ان التسميات غير ذات أهمية، فالمهم هو تحقيق الكلام - الذي يطمح إليه المسلمون غاياته، برغم ان التسميات بذاتها قد تحمل فهما مختلفاً ودلالات أخرى.

 

ما يرد على علم الكلام يرد على علم الفقه أيضاً، من ناحية آفاقه ومنهجه في رؤية الواقع، وما ينطوي عليه هذا الواقع الجديد أو الذي سيستجد في موضوعات هائلة في حجمها وسرعة حركتها وتزايدها، الأمر الذي يستدعي اعادة اكتشاف في الشريعة وأبعادها، بعيدا عن بعض زوايا النظر التي تحول دون استيعاب الفقه لكل قضايا الحياة وتعقيداتها؛ باعتباره قانون الحياة الذي ينظم علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبالطبيعة وبالانسان الآخر. من هنا فان هذا القانون يتسع لكل قضايا الفرد والمجتمع، وعلى صعد الحياة كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والأمنية والدفاعية والعلمية والتكنولوجية وغيرها.

 

ولا شك انّ مايضمه الانتاج الفقهي (الموروث والمعاصر) في هذه المجالات لايمكن أن يعتد به قياسا بالأبواب التقليدية. فضلا عن ان هذه المجالات لم يتم تأصيلها فقهيا بالشكل الذي تتحول فيه إلى نظما فقهية متكاملة ومستقلة، ربما باستثناء الفقه السياسي، الذي لا يزال – هو الآخر – بحاجة إلى المزيد من الجهد الفقهي الذي يستوعب النظم الأخرى للدولة الإسلامية، فضلا عن حل الاشكاليات التي ظلت عالقة في مجال النظام السياسي، وازدادت تعقيدا بفعل مايطرأ على الواقع الإسلامي والعالمي من موضوعات جديدة يصعب اللحاق بها.

وفهم الموضوعات المتحولة والمتغيرة التي كانت لها أحكاما سابقة، وفهم خلفيات هذا التحول، وفهم موضوعات الحوادث الجديدة الواقعة أو التي ستقع، أي الواقعة بالفعل أو بالقوة، وفي مختلف المجالات، ومن ثم اصدار الأحكام الشرعية المناسبة لها، بصورة اجابات متناثرة أو منظومات فقهية، مع الأخذ بنظر الاعتبار مقاصد الشريعة وما تطلبه ذلك من وعي فقهي شمولي واجتماعي بالواقع يستدعي اضافات نوعية لآليات الوصول إلى الحكم الشرعي، وأبرزها آلية الاجتهاد، بهدف تحقيق مقولة (الاجتهاد الجديد)، ليس بمعنى استعارة مناهج جديدة غريبة عن بنية الفقه، وانما بمعنى تطوير هذه الآلية فنيا ومنهجيا بما يتلاءم وحركة الحياة المتجددة ويمكن في هذا المجال استعراض أهم الأفكار التي يرددها بعض الفقهاء والمفكرين؛ باعتبارها عينات مطروحة على طاولة البحث والحوار بين أصحاب الاختصاص:

 

1- تفعيل دور الزمان والمكان في تغيير موضوعات الاحكام، وفهم هذه الموضوعات وفهم الفقيه الدليل، ووعي مقصد الشريعة حيال الموضوعات الجديدة. ويتدخل هذا الدور في وعي الفقيه، من خلال الانفتاح على علوم العصر وثقافاته وحقائقه ومتغيراته ؛ ليكون فهمه لموضوعات الأحكام فهماً واقعياً وميدانياً وحسّيا، ووعيه لآلية الاجتهاد المناسبة وللدليل أكثر التصاقا بالحقيقة الدينية وبمقصد الشريعة ولعل الامام الخميني في مقولته: (المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول – الذي لم يتغيّر في الظاهر – إلى موضوع يلتزم حكما جديدا بالضرورة) يعبّر بوضوح عن هذا الاتجاه. كما انه – في مقولة أخرى سيتشرف ضغط عامل الزمان والمكان في بروز الحاجات الجديدة، ويؤكد ضرورة استعداد الفقه للتعاطي المباشر مع هذا العامل: (سيتغيّر الكثير من الطرق السائدة في ادارة أمور الناس في السنوات القادمة، ستحتاج المجتمعات الإنسانية إلى المسائل الإسلامية الجديدة لحل مشاكلها، ويجب على علماء الإسلام التفكير بهذا الموضوع من الآن).

 

وبذلك فان عدم معالجة الفقهاء لدور عامل الزمان والمكان في اعادة تشكيل وعي المجتمعات الإسلامية وحاجاتها سيؤدي إلى تطفل غير المتخصصين، بدعوى ملء هذا الفراغ، ليس باصدار الفتاوى والأَحكام، وانما للمطالبة بآليات ومناهج جديدة للتفقه و(قراءة الشريعة)!، ومحاولة العبور على ثوابت الشريعة، ولعل من أخطر المناهج منهج (القراءة التاريخية للنص الديني)، الذي يدعو إلى حصر دلالة النص في زمنه.

 

2- الانفتاح الفقهي بين المذاهب الإسلامية، والوقوف على امكانية الاستفادة من بعض آليات الاجتهاد وقواعده وأدلته لديها، بهدف تكييف المعضلات التي يجد الفقيه نفسه محرجا أمامها، ولاسيما المعضلات المستحدثة. ويستدعي هذا عودة أخرى للأصول المقدسة ومحاولة اعادة اكتشاف للأدوات والقواعد والامارات الفقهية والاصولية، فضلا عن التأصيل المذهبي لبعض الادوات التي تستخدمها المذاهب الأخرى.

 

3- الاجتهاد الجماعي أو ما يسميه بعض الفقهاء بالاجتهاد المجمعي، وهو الاجتهاد الذي يمارسه مجموعة من الفقهاء بصوت عالي وهم مجتمعين حول طاولة واحدة، سواء بهدف الخروج بحكم شرعي أو التأسيس لمنظومة فقهية في أحد المجالات. وهذا اللون من الاجتهاد ضروري جدا في الموضوعات التي تستدعي احاطة واسعة ومعمقة بها وبالأدلة الشرعية وقواعدها، ولا تكتفي بالحكم بل بالمعالجة الموسعة التي قد ينتج عنها باب فقهي جديد، وهي موضوعات تتوالد بشكل يومي، وتتمثل آليته في البحوث التي يطرحها الفقهاء، والتي يكمّل بعضها الآخر موضوعيا ومنهجيا، ثم مناقشتها مناقشة وافية من خلال الحوار المباشر، ثم تدوين المحصلة أو النتائج التي يخرجون بها، سواء اتفقوا على نتائج موحّدة أو متقاربة، أو نتائج مختلفة تمثل عدداً من الاحتمالات (الاجتهادات). وقد يستدعي الحوار الفقهي الجماعي هذا حضور متخصصين بالموضوع من غير الفقهاء (أطباء – مثلا – أو علماء فيزياء أو كيمياء... الخ) أو مفكرين ومثقفين محيطين بأبعاد الموضوع وخلفياته وآفاقه فكريا وثقافيا.

 

وفي الاتجاه نفسه تبرز ضرورة التخصص الفقهي الموضوعي، فتشعب العلوم وتراكم الموضوعات يتطلب فقهاء متخصصين في مجال أوباب محددين، مع استيعاب عام – بالطبع – للمسائل الفقهية الأخرى. هذا التخصص سيخلق عمقا في فهم الموضوع والدليل والمنهج ومقصد الشريعة، ووعيا كافيا بالواقع ومقتضياته. وإذا وضعنا آلية الاجتهاد الجماعي أو البحث الفقهي المجمعي واسلوب الاستعانة بالمتخصصين إلى جانب آلية التخصص الفقهي الموضوعي، فستكون النتائج منسجمة مع نوعية الموضوعات الجديدة وحجمها.

 

4- اكتشاف مساحات الفراغ التشريعي أو التفويض التشريعي القائمة أو التي ستطرأ، في اطار ما يقدمه الامام محمّد باقر الصدر من تفسير متكامل لاستراتيجية الشريعة في استيعاب تطورات العصر، فيقول:

 

(الإسلام لايقدم مبادءه التشريعية.. بوصفها علاجا مؤقتا، وانما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية لصالحة لجميع العصور. فكان لابد لاعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك يمد الصورة بالقدرة على التكيّف وفقا لظروف مختلفة. ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة).

 

ويعني ذلك امكانية الشريعة على تكييف تلك المساحات بالصورة التي تستوعب التطور في الواقع، وتعني أيضاً اعطاء الإنسان، في أي زمن عاش أو مكان، الفرصة لتكييف واقعه الجديد وفقا للعناصر المتحركة في الشريعة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه (التفويض التشريعي). ولاشك ان كلا التكييفين لا يخرجان عن اطار آلية الاجتهاد الشرعي، وفي حدود الموضوعات الجديدة التي ليس فيها نص أو قاعدة فقهية أو اصولية، وكذلك الموضوعات المتغيرة التي تستدعي حكما جديدا، أو الموضوعات التي تتسبب الظروف الطارئة في اصدار أحكام ثانوية لها. وهي لاشك مساحات تتسع باطراد، ويتطلب اكتشافها وملئها جهودا فقهية استثنائية.

 

والحقيقة ان سماح الشريعة بوجود هذه المساحات يعدّ أهم عنصر من عناصر المرونة في الشريعة، بل الدليل العقلي الأبرز على خلودها. وتمتد المرونة في الشريعة إلى المساحات التي فيها نص أيضاً، ولكن في اطار القواعد الفقهية التي تنظر إلى (العناوين الثانوية)، وهي عناوين طارئة تؤثر على الأحكام الأولية، أو في اطار المصلحة (الشرعية) التي تستوجب أحكاما ولائية تتجاوز - في الحالات الضرورية والطارئة - الاحكام الأولية أيضاً. والمهم ان عناصر المرونة هذه، إذا ما أحسن استثمارها، هي الرهان الأساس الذي يحفّز الفقه على الاستجابة لكل التطورات الزمكانية ولكل المؤشرات على ظهور واقع جديد.

 

5- الفكر الفقهي الاجتماعي يمنح الرؤية الفقهية بعداً شموليا يستوعب الواقع الاجتماعي والفردي المتشابك وينفتح على المدلول الاجتماعي للنص وللدليل الشرعي، بينما تحجر الرؤية التجزيئية نفسها في زاوية النظر اللفظية للنص والفهم ذي البعد الواحد للدليل الشرعي، وتؤكد على معالجة واقع الفرد، وتنظر إلى حاجاته وكأنها منفصلة عن مجمل حركة المجتمع الإسلامي، أي انها لا تنظر إلى الابعاد الأخرى للموضوع وتأثيراته وشكل العلاقات التي تربطه بالموضوعات الأخرى، وهو ما اعتاد فقه الأفراد على ممارسته.

 

ولاشك ان مشكلة الفرد لا يمكن معالجتها بمعزل عن حل المشكلة الاجتماعية برمتها، الأمر الذي يستدعي طرح المشكلة الاجتماعية بكل أبعاده على طاولة البحث الفقهي، للخروج بمنظومة فقهية اجتماعية تستوعب حاجات الفرد أيضاً، إذ ان معظم الأحكام الفردية – ومن بينها العبادات بالمعنى الأخص – لايمكن تجريدها من بعدها الاجتماعي.

 

واستخدام هذه الرؤية الاجتماعية الشمولية يتطلب وعيا تكامليا لدى الفقهاء يشد كل مجالات الحياة ببعضها، كالسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، وهو ما يعبّر عنه الامام الصدر بالفهم الاجتماعي للدليل الشرعي وتضاف إليه ضرورة أخرى تتمثل تجسير العلاقة بين علم الكلام وعلم الفقه، أو العلاقة بين الشريعة والرؤية الكونية الإسلامية بأبعادها الفلسفية والكلامية والايديولوجية، أو بين أُصول العقيدة والأحكام الفقهية، وبالتالي توحيد الرؤية العقيدية والرؤية الفقهية، وهو مايؤكد عليه – بشكل وآخر – فقه المقاصد ومنهج فلسفة الفقه.

 

فالفكر الفقهي الاجتماعي – اذن – يتحرك افقيا من خلال شد عناصر الحياة ببعضها، ويتحرك عموديا من خلال توحيد الرؤية الكونية الإسلامية والرؤية الفقهية.

 

6- يمكن لفقه المقاصد أو مقاصد الشريعة، إذا تم تطويره وتحريره من الطابع الخطابي وتحويله إلى خطاب علمي متكامل ثم توظيفه في القضايا الفقهية، أن يقدم فهما أشمل للشريعة، ويتجاوز النظرة التجزيئية والفهم الحرفي لها، من خلال تعمقه في معرفة مراد الشارع وقصد الشارع من الحكم أو الدليل، اضافة إلى شد الأحكام ببعضها لاستقراء كليات الشريعة ومقاصدها العامة، في اطار منهج يمزج بين العقل والنقل. ومن ثم يتم عرض كل دليل أو حكم على هذه المقاصد للوقوف على حقيقة تطابقها مع حكمة الشارع ومراده.

 

وهناك مقاصد عامة لكل الشريعة ومقاصد خاصة لكل باب فقهي ومقاصد شرعية لكل حكم، والمقاصد الخاصة والجزئية تلتقي … باطار المقاصد العامة لكل الشريعة وقد لاحظ الشاطبي (وهو الذي بلور الخطوط العامة لهذا الحقل) من خلال استقرائة للشريعة، انها وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وان كل الأحكام الفقهية لابد أن تراعي هذه الضرورة وهو ما قرره الفاضل المقداد أيضاً (وهو معاصر للشاطبي). وهذا يعني وحدة الموقف بين العقيدة والفقه، وتوقف الحكم الفقهي على استيعاب أُصول العقيدة وفلسفتها، وبكلمة أخرى ارجاع الفروع إلى الأُصول، وفهم الأدلة الجزئية وغاياتها على أساس الكليات التشريعية ولاشك ان مقاصد الشريعة لا تقتصر على الضروريات التي استنبطتها تجربة الشاطبي أو تجربة المقداد، بل تتسع لضروريات أخرى، كما قرر ذلك الفقهاء والاصوليون الذين جاءوا بعدهما، ولاسيما المعاصرين منهم، وأبرزهم الطاهر بن عاشور، الذي ذكر بأن المقاصد العامة للشريعة تتمثل في: حفظ النظام، جلب المصالح، درء المفاسد، اقامة المساواة بين الناس، جعل الشريعة مهابة مطاعة نافذة، جعل الأُمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال وغيرها. اما المقاصد الخاصة للشريعة فتتمثل في: تحقيق مقاصد الناس النافعة وحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة.

وتطرح اليوم مناهج أخرى مكلمة لفقه المقاصد أو تهدف إلى تطوير فقهي مواكب للتطور الهائل الذي يشهده الواقع، مثل فقه الاولويات وفلسفة الفقه، ففقه الأولويات يعنى بفهم الواقع وتكييفه مع مراد الشارع، أي انه يجمع بين مقاصد الشريعة واولويات الواقع عبر فهم وظيفة التدين وفلسفته والتفريق بين الدين والتدين. ومنهج فقه الاولويات منهج مركّب، أي انه يجمع بين استثمار بعض القواعد والامارات الفقهية والاصولية ذات العلاقة (التعارض، التزاحم، التيسير، الضرورات، المصلحة وغيرها) واستثمار العقل ومستقلاته والعرف والخبرة والتجربة العلمية الإنسانية. وتنقسم الاولويات إلى اولويات الفرد واولويات المجتمع واولويات الأُمة واولويات الدولة واولويات البشرية، وهي اولويات واقعية يحددها منهج فقه الاولويات عبر عرضها على فقه المقاصد ليتعرف على رأي الشريعة فيها وعندها تتم الاجابة في وقت واحد علي سؤال: ماذا يريد الواقع وماذا تريد الشريعة؟

 

أما فلسفة الفقه فهو أحدث فكرة تطرح على صعيد تطوير آليات الاجتهاد والنظام الفقهي انتاجا ومنهجا وأصولا وأفقا، ولاتزال في طور التشكل الذي تتخلله تجاذبات وآراء تنقله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس. ولكن عموما يمكن لهذا الحقل، بعد تبلوره وتحوله إلى حقل علمي متكامل، أن يساهم في اكتشاف غايات الفقه ومقاصده ومساحة حركته وعلاقته بتطور الخبرة الإنسانية والعلوم البشرية، وأساليب فهم النص واستظهار الدليل الشرعي، وتأثير الرؤية الكونية والقبليات العقيدية والفلسفية والفكرية والثقافية على هذا الفهم والاستظهار. أي أن فلسفة الفقه تتحرك على ثلاثة محاور: غايات (الفقه) ومصادره ومساحاته، وعي (الفقيه) وقبلياته، وتأثير (الواقع) وحاجاته. وبذلك تشترك فلسفة الفقه مع فقه المقاصد وفقه الأولويات والفكر الفقهي الاجتماعي في معظم المساحات، ولكنه يعتمد منهجا آخر يقترب من فلسفة الدين.

وفي الخاتمة:

فان الموضوعات التي أشارت إليها الدراسة، وكذلك العناوين التي طرحها المؤتمر هنا، والتي حاولت استيعاب الجديد في مقولات الفكر الإسلامي المعاصر، هذه الموضوعات والعناوين تبقى – دون شك – مطروحة أمام جميع أصحاب الاختصاص على مختلف اتجاهاتهم الفكرية والمذهبية الإسلامية؛ لتدارسها وبلورتها؛ بهدف دعم بنى الفكر الإسلامي وعلوم الشريعة ومضاعفة قوتها وحيويتها وقابليتها على اخضاع الواقع الفعلي أو المستقبلي بأدوات شفافة وخطاب اقناعي يجتذب الإنسان عن قناعة ورضا وايمان راسخ؛ ليسدّ كل منافذ القلق والحيرة واللامبالاة والانحراف في روحه وفكره وسلوكه. والحمد لله رب العالمين.

مصادر البحث

الكتب:

- الترابي، د. حسن، قضايا التجديد، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، الخرطوم – 1995

- الصدر، السيد محمّد باقر، اقتصادنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

- العلواني، د. طه جابر، مقاصد الشريعة، كتاب قضايا اسلامية معاصرة، قم – 2000

- مطهري، الشيخ مرتضى، الإسلام ومتطلبات العصر، ترجمة: علي هاشم، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد – 1411

- المؤمن، علي، الإسلام والتجديد.. رؤى في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الروضة، بيروت – 2000.

- مهريزي، مهدي، مدخل إلى فلسفة الفقه، ترجمة خالد توفيق، كتاب قضايا اسلامية معاصرة، قم – 1998.

الدراسات والمقالات:

- بهشتي، احمد، علم الكلام والكلام الجديد، مجله ميراث جاويدان (طهران)، العدد 3، خريف 1993.

- الصدر، السيد محمّد باقر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، من كتاب الاجتهاد والحياة، مركز الغدير، بيروت – 1997.

- الصدر، السيد محمّد باقر، الفهم الاجتماعي للنص.

- مجتهد شبستري، المدخل إلى علم الكلام الجديد، مجله كيهان انديشه (قم)، العدد 46، 1998.

- مجموعة كتاب، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام (1)، ملف مجلة قضايا الإسلامية معاصرة، العدد 14، 2001.

- مجموعة كتاب، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام (2)، ملف مجلة قضايا الإسلامية معاصرة، العدد 15، 2001.

- مجموعة كتاب، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام (3-4)، ملف مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العددان 16و17،2001.

- مجموعة كتاب، فلسفة الفقه (1) ملف مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد7، 1999.

- مجموعة كتاب، فلسفة الفقه (2)، ملف مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد 13، 2000.

- مجموعة كتاب، مقاصد الشريعة (1)، ملف مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد 8، 1999.

- مجموعة كتاب، مقاصد الشريعة (2-3)، ملف مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العددان 9و10، 2000.

- مجموعة كتاب، الفكر الإسلامي واستدعاءات المستقبل، محور مجلة المستقبلية، العدد الثالث شتاء 2001.

- المؤمن، علي، المستقبلية ورهات التحكم بعالم الغد، مجلة المستبقلية، العدد الأول، ربيع 2000.

- المؤمن، علي، مراجعة الفكر الإسلامي في ضوء متطلبات المستقبل، مجلة المستقبلية، العدد الثالث، شتاء 2001.

([1]).

 

الهوامش:

([1]).