الفقه الإسلامي النظرية الشرعية العمل الفقهي والقواعد الفقهية

الفقه الإسلامي النظرية الشرعية العمل الفقهي والقواعد الفقهية

 

 

الفقه الإسلامي النظرية الشرعية العمل الفقهي والقواعد الفقهية

 

الشيخ محمّد الحبيب بن الخوجة

الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً. اختارنا من بين من اصطفى من خلقه لنكون إن شاء الله من عباده الصالحين، وحمّلنا الأمانة، وإنها لثقيلة، وأمرنا أن نؤديها إلى أصحابها، ووفّقنا إلى العقيدة السمحة التي ملأ بها عقولنا وأفكارنا وقلوبنا فلا زلنا متمتعين بلطفه وهدايته وتقواه. ومنحنا الشريعة التي هي التكاليف الربانية المطلوبة من عباده، والصلة الدائمة بين الإله العظيم وخلقه، وحرّضنا على الاستماع إلى نداءاته، واتباع دعاته، والإعراض عن أعدائه وخصومه، المهاجرين للحق، المتردّين في الضلالة والغواية. نحمد الله جلّ وعلا على كريم عطائه، وبالغ نعمائه. وصلى الله على سيد الخلق أجمعين، إمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، تالياً على الناس قرآنه، منبّهاً إلى ما وعده به سبحانه من هداياته وأحكامه. جازى الله نبينا وإمامنا وقائدنا خير الجزاء، وألحقنا به في جنات النعيم ومنازل الغرّ المقرّبين.

 

سماحة آية الله الشيخ محمّد علي التسخيري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية رفع الله ذكره وكلأه برعايته وحفظه.

حضرات السادة العلماء الاجلاء، الأخوة المؤمنون.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد،

انه ليشرفني ان ارفع عقيرتي في رحاب هذه المؤسسة الإسلامية الدعوية العتيدة لأحيّيها من قريب، واحيي القائمين فيها من علماء راسخين متمكنين، وشباب يقظ يتقد حزما وعزما في هذه الديار. نرجو لهم ولنا الهداية والتوفيق، تبارك الله رب العالمين وباركهم وباركنا انه هو الرحمن الرحيم.

 

ما من شك في أن الثروة العظيمة التي تكونت لدينا عبر العصور وتميز بها الفقه الإسلامي على ما دونه من قوانين، كان أساسها ذلك الاجتهاد العلمي الدقيق، الذي لمسنا آثاره عند الأئمة وكبار فقهاء المذاهب، في المصطلحات يحدّدونها وافتراض الحوادث قبل وقوعها، يقررون أحكامها ويبحثون عن وجوه حلّها وفي صياغة النظريات الفقهية والقواعد الكلّية يتدبرون حقائقها ويفصّلون القول في أجزائها ويذكّرون بما ينبغي أن يتوافر في بعضها من شروط. كل ذلك مع تداول النظر والتحوير والتحرير والصقل والضبط.

 

وقد اختلفت هذه الشريعة عن الشرائع الأخرى بما ورد بها من صفة التصديق لما قبلها والهيمنة عليه، كما اختلفت عن القوانين الوضعية التي جاءت تنازعها أمرها، وأنّى لها ذلك! والإسلام هو الذي ضبط لنا الدين عقيدة وأحكاماً ووضع الناس أُصول الأخلاق ومناهج السلوك، توجيهاً لمعتنقيه وحماية لهم من أسباب التفرق والخصومة والعداوة. وكفى العالمين أن يجدوا له تأثيراً، ونحوه انجذاباً. والشريعة وحي الله يبني لهم بها الحياة، ويهديهم إلى الرشد، وإلى صراط مستقيم. وهي الصادرة عن الخلاق العظيم الرحمن الرحيم الخبير العليم. دينه الصدق، وشريعته الحق، يهديان إلى البر والتقوى، ويدعوان إلى الهدى والعدل.

 

والقوانين الوضعية من عمل الإنسان يعتريها النقصان كما يعتريه، ويلتبس فيها الحق بالباطل، وتحتاج باطراد إلى التطوير والتغيير وقاية لجوهرها من الجور والظلم، ومن الهوى والشهوة ومن الضعف الإنساني.

 

وإن شريعتنا لتعنى بأحوالنا كلها في الدارين، وتدعونا إلى الوحدانية، وإلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره والتصديق بالبعث يوم الحساب ليجزى كل امرء منّا بما فعل من خير وشر (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) ([1]).

 

كما أن التشريع الإسلامي الذي حكم حياة الناس قروناً طويلة لم يضق بشيء من طلباتهم، رغم الغزوات والفتوحات الكثيرة وما نجم عنها، وساعدهم في عصور الازدهار على بناء حضارتهم الشامخة، واتسع فشمل كل التطورات والمتغيرات. فاستوعبها بحكمته ومرونته في كل الأصقاع التي دخلها، ومع كل الشعوب التي انتسبت إليه أو خضعت له. لم ين أبداً في التوجيه إلى الطريق الأقوم والمسلك الأرشد، كما أنه لم يتأخّر عن الاستجابة لمقتضيات التقدم الفكري والعلمي الذي اختاره الله لعباده، محققاً بذلك التوازن المثالي في المجتمعات، وقاضياً القضاء التام على كل ألوان الميز العنصري، وعلى الفوارق الجنسية والطبقية، حارساً حقوق الأُمة، وحريصاً على حسن سياستها بضمان الحق وإقامة العدل.

 

وهذه الحقائق يتم الاهتداء إليها بعد خلوص العقيدة، والتمسك بأحكام الشريعة الغراء، بما يأمر به الكتاب، وتوجّه إليه السنة من مبادئ وأصول تبني عليها حياة الأفراد والناس جميعاً، وتقوم بها حضارتهم.

 

وإنها في تقديري لنوعان: منها ما يرجع إلى ذات المؤمن وشخصيته، ومنها ما يمتد أثره، ويبلغ شأوه، بمراعاة التعاون والتعايش، وما يقضيان به من تساند وترابط وتكامل بين الناس.

 

فمن النوع الأول:

1ـ التوحيد وإخلاص الدين لله

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) ([2])، (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) ([3]).

 

2ـ تمام الاتصال بالله سبحانه

(قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)([4]).

(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) ([5])، (وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ([6]).

 

3ـ استخدام العقل

فقد جعل الله للعقل مقاماً، وخصّه بأن جعله مناط التكاليف ومعرفة الخالق. قال تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) ([7])، وقال عز وجل: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) ([8])، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (إنّما يرتفع العباد غداً، في الدرجات الزلفى من ربهم، على قدر عقولهم)، (والعلم دعامة العقل يزيده نوراً، ويحثّ الناس على التزود منه)، (وقل رب زدني علماً) ([9]).

 

4ـ الالتزام بالأخلاق الحميدة بتحكيم العقيدة، وجعلها طريقاً إلى تهدئة النفس

(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) ([10]).

 

5ـ اتخاذ التكاليف الشرعية التي أفاء بها الله علينا طهرة للنفس وتزكية لها:

(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهرّكم وليتم نعمته عليكم لعلّكم تشكرون) ([11])، (خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها) ([12]).

 

6ـ الاستجابة لما تقتضيه تكاليف الدين وتكاليف الدنيا جميعاً:

قال تعالى: (وابتـغ فيما آتاك الله الدار الآخـرة ولا تنس نصيبك من الدنيـا) ([13]).

 

ومن النوع الثاني من المبادئ:

1ـ ما يكون القيام به، من أجل غيره من أصحابه وأفراد مجتمعه

(وهذا كمبدأ المساواة والعدالة). قال تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) ([14]).

2ـ ومنه مبدأ المسلمين كافة وسبب خيرتهم:

وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال عز وجل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ([15]).

3ـ اعتماد الشورى في الحكم وفي عظيم الأمور:

قال سبحانه: (وشاورهم في الأمر) ([16]). وقال: (وأمرهم شورى بينهم) ([17]).

4ـ التسامح وهو أعظم مقاصد الشريعة المتولد عن الفطرة:

قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين * إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم) ([18]).

5ـ مبدأ الحرية:

(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) ([19]). (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ([20]).

 

ومن أمثلة هذا المبدأ العظيم والخلق الرفيع أن أحد الأعراب قال لعمر بن الخطاب عند توليته الخلافة: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بسيوفنا، وقالت امرأة والإمام يدعو إلى عدم التغالي في المهور: أيعطينا الله ويمنعنا عمر!. وهو في كل ذلك لم يغضب ولم يعنّف أحداً.

 

6ـ ومن المبادئ الأصيلة بين المسلمين وجوب قيام التكافل الاجتماعي بفرض الزكاة على أصحاب الأنصبة، وجعل نفقة الفقير العاجز عن الكسب في بيت مال المسلمين.

 

وقد كان الطريق إلى الأحكام الشرعية متمثلاً في الأخذ بالنص من قرآن أو سنة وبالعمل بالإجماع أو القياس. فإن لم يكن شيء من هذه المصادر موفياً بغرضه، انتقل الفقيه إلى أحد المصادر الأخرى كقول الصحابي والعرف والاستحسان والذرائع والاستصحاب والمصالح الإنسانية.

 

وقد فرّق الإمام الأكبر سماحة الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور، وهو يضع كتابه النفيس (مقاصد الشريعة الإسلامية) بين ما ينبغي ان يعتمده المجتهد حين يطلب الحكم الشرعي: أهو أُصول الفقه، أم هو القواعد الفقهية، أم هو المقاصد الشرعية. وهو في التفاتته هذه يميز بين علم أُصول الفقه وعلم المقاصد لدوران أُصول الفقه حول استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكّن العارف بها من انتزاع أحكام الفروع منها.

 

ودور علم أُصول الفقه هام جداً كما أومأنا إلى هذا من قبل. وإن الاهتمام البالغ بطرق استنباط الأحكام، وبوقوف المجتهد عند خطاب الشارع، يتوسع الفقيه نظراً وتدبراً، ويرعاه حفظاً وتثبيتاً، ويتأوله تأويلاً.

وهكذا يكون الفقيه قادراً على تصوّر محامل ألفاظ الشريعة، في انفرادها واجتماعها، وافتراقها وقربها من أصحاب اللسان العربي القح. فلا يعزب شيء منها عن إدراكه، ويبلغ به في استنباط النصوص فهماً دقيقاً، والوقوف على مقتضيات الألفاظ وفروقها من عموم وإطلاق ونص وظهور وحقيقة وأضداد ذلك كمسائل تعارض الأدلة الشرعية من تخصيص وتقييد وتأويل وجمع وترجيح ونحو ذلك. وهي كلها في تصاريف مباحثها مقصورة على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت عليها الألفاظ. وهي علل الأحكام القياسية.

 

وبناء على هذا الأساس نجد أئمتنا وفقهاءنا ينطلقون إلى ضبط أحكام الفروع والمسائل، حسب اجتهاداتهم وأفهامهم للمصدرين الأساسيين، ملحقين بهذا ما هم في حاجة إلى ضبط أحكامه من قضايا مستجدة. ثم هم كما ذكرنا لم ينحصر اجتهادهم في اعتماد المصادر الأصلية، بل أضافوا إليها المصادر التبعية التي أشرنا إلى بعضها قبل.

 

فهذا الإمام أبو حنيفة تتضح طريقته الاجتهادية فيما حددناه، تاركاً لمن جاء بعده من الأئمة المبرزّين في المذهب الرجوع إلى مجموعة دقيقة جامعة شاملة من مدوّنات وضعوها مثل كتب ظاهر الرواية، والنوادر مثل كتاب الحيل والوقف للخصاف، والنوازل للسمرقندي.

 

وجاءت المذاهب الأخرى كالمالكية سالكة نفس المنهج في تعاملها مع المصدرين الأساسيين، مضيفة إليهما عمل أهل المدينة، والعمل بالمصلحة المرسلة، والأخذ بقول الصحابي. كما أخذوا بالاستحسان في مسائل كثيرة. ومن أبرز كتبهم المعدودة عندهم في الأمهات: الموطأ والمدونة.

 

وجاء الإمام الشافعي فنحا نحو سابقيه. فجعل القرآن قبلته الأولى وأساس التشريع عنده العمل بالسنة. ولا يعتد بخبر الواحد إلا بشرط ثبوته عن ثقة عنده. في هذه الحال يقدّمه على القياس وعلى رأي الصحابي والتابعي ويعمل بالإجماع والقياس ويعتد بالمصالح المرسلة ولا يقرّ الاستحسان ولا يأخذ به. من أهم كتب المذهب عند الشافعية (الأم) و(الرسالة).

 

وجاء من بعده الإمام صاحب (المسند). وأصول الاستنباط عنده، كما قال ابن القيم: الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة إن لم يُعلم عنهم خلاف فيها، والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه كما اعتمد القياس عند الضرورة بجانب النص، وأخذ أيضاً بقول الصحابي وبالمرسل.

 

ووافانا الإمام أبو عبدالله جعفر الصادق أكبر أئمة الشيعة الإمامية الأثني عشرية. فكانت له اجتهادات ومنهج خاص في الأُصول والفقه، وكانت في مذهبه مدوّنات وكتب ومراجع هامة، في مقدمتها (الكافي) للكليني، و(من لا يحضره الفقهيه) لابن بابويه القمي، وموسوعات ضخمة كبحار الأنوار للمجلسي.

 

أما مصادر الفقه لديهم فهي القرآن الكريم أولاً، والسنة النبوية المطهّرة. وهي أوامر المعصوم ونواهيه وأفعاله وأقواله وتقريراته. يشمل ذلك ما صدر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة المعصومين أيضاً، ويأخذون بالإجماع متى كشف عن رأي الإمام المعصوم، ويثوبون إلى العقل الذي حكّموه وجعلوه من أهم مصادرهم خصوصاً إذا فقد الإجماع.

 

وكان الإمام زيد من الشيعة، عاصر أبا حنيفة وابن أبي ليلى، وكان يجمع في فقهه بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث. وكانت الزيدية مرتبطة بالمعتزلة. وتأثر الفقه الزيدي بالحركة الاجتهادية الواسعة. ومزجوا فيه بين المذاهب الإسلامية، وعملوا بما يتفق منها مع أُصول مذهبهم، ومن أهم مصنفاتهم (البحر الزخار) لابن المرتضى.

 

وظهرت الخوارج. وهي فرقة سياسية. وآخر من يمثّلها الإباضية أتباع عبد الله بن إباض. لهم أُصول عقدية، وفقه خاص، وأدب متميز، وتراث مستقل. لا يختلف منهجه في الاستنباط عن مناهج المدارس المتقدمة. ومؤسس مذهبهم هو جابر بن زيد. وقد نشروا كثيراً من الكتب والموسوعات اهمها (شرح النيل) لمحمد بن يوسف بن إطفيش، ودراسات كثيرة أخرى في التفسير والحديث وأصول الفقه وعلم الكلام والأقضية والنوازل والأحكام.

 

ويمكن أن نضيف إلى ما ذكرناه هنا المذهب الظاهري. ورأسه داود بن علي الظاهري، ومجدد أُصول المذهب ومنهجه هو الإمام الثاني التالي له، أبو محمّد علي بن أحمد بن غالب بن حزم الأندلسي صاحب كتاب (الإحكام في أُصول الأحكام) وكتاب (المحلّى). وهو أشد تعصباً من صاحب المذهب في اعتماده ظواهر النصوص وتركه القياس ورد العمل به. والظاهرية تقول بالتعليل: ولابن حزم في هذا كتاب يبطل فيه القياس ويرد على القائلين به.

 

والظاهرية لا ترى الإجماع ملزماً إلا إجماع الصحابة وما كان منه في مورد النص. والإجماع على حكم لا نصّ فيه، ولكن برأي منهم، أو قياس على منصوص، باطل لا يعتبر حجّة.

النظرية الفقهية

وحقيقة العلم الديني الإسلامي جليّة، تظهر في مصادر الفقه وبخاصة في القرآن والحديث. فهما أساس العلوم الشرعية. ومن يتتبع المصادر الأصلية والتبعية للفقه الإسلامي يتمكن من الوقوف في يسر على معنى النظرية في مختلف وجوهها وأشكالها، وإن كان هذا المصطلح حديثاً، ظهر أخيراً في مجالات الدراسات الإسلامية.

 

وقد تعاون رجال الفقه والقانون، وكشفت دراساتهم عن وجود صنفين: الصنف الأول الذي يهتم بالنظرية ذاتها، والثاني الذي يُعنى بتمييزها اجراءاً وحكماً.

 

هذا وإن عزّ قبل إدراك حقيقة النظريات من مصطلحات قانونية وفقهية، فقد أصبح من الممكن أن نتوصل إلى ذلك عن طريق كتب اللغة والمعاجم أو كتب مصطلحات العلوم والفنون.

 

النظرية من النظر. ويطلق النظر على ما تقوم به جارحة البصر من وظيفة، كما يطلق على الفكر والتأمل والاعتبار. والنظر كما حدّه التهانوي بالنقل عن الباقلاني: هو الفكر الذي يطلب به العلم أو غلبة ظن. والمراد بالفكر انتقال النفس في المعاني انتقالاً مقصوداً، وما لا يكون الانتقال فيه بقصد فهو حدس. وأجود من هذا القول تعريف التهانوي للنظر: والتحقيق الذي يرفع النزاع هو أن الاتفاق واقع على أن النظر والفكر فعل صادر عن النفس لاستحصال المجهولات من المعلومات. ولاشك أن كل مجهول لا يمكن اكتسابه من أي معلوم اتفق، بل لابد من تحرّك الذهن فيه بين معلومات مناسبة لذلك المطلوب. وتلك هي التي تسمى المبادئ. وكذلك لابد من أن تتحرك تلك المبادئ سريعاً وعلى ترتيب خاص لآراء تؤدي إلى المقصود وهو النظرية([21]).

وصال خصوم الشريعة وهاجموا فقهاء الإسلام، وادعوا أن الأحكام في الفقه الإسلامي مأخوذة بالاجتهاد من المصادر التي تبنى عليه، أو بالتخريج على طريق الأئمة. فما هي إذن إلا حلول جزئية للأحكام، لا تضيء الطريق للباحثين حتى توضع لهم النظريات العامة والقواعد الكلية. فهم يقارنون ما عندهم من ذلك بما فرغ منه علماء القانون من بناء الجزئيات والحقوق والأحكام على قواعد ونظريات، تنتهي اليوم بالفقهاء إلى الالتحاق بالحقوقيين. فإن علماء الشريعة طوروا دراساتهم، ويسروا السبيل إلى تطبيقها واعتمادها حتى يفيد طلاب علم الحقوق منها.

 

وبدأت المحاولة بتعريف النظرية الفقهية، تحملنا قبل الشروع على الالتفات إلى جملة من التصورات والآراء، وكان بحكم قيامها إما الإمساك عن التعريف بالنظرية، وإما العمل على ذلك لكن مع ما يكتنف الأمر من صعوبة، أو على تفصيل القول تفصيلاً يجلّـي حقيقتها ويبرزها واضحة متميزة لدى الباحثين من الفقهاء. وهكذا نسير إلى الغرض المطلوب أربع خطوات، بين محاولة التعريف وبين الانتهاء منه. وهذه مراحل طلب حقيقية النظرية نوردها على النحو التالي:

 

1ـ عدم الالتفات إلى النظرية الفقهية ولا الاهتمام الكبير بها. وهذا رأي د. عبد الكريم زيدان الذي يعتبرها حقيقة غربية قانونية وافدة على الفقه الإسلامي. فهو يسميها في مدخله باسمها الأصلي. فيطلق عليها لفظ النظام القانوني في الفقه الإسلامي، ويعني بهذا كلمة (نظرية) ([22]).

ويمثّل لها بعد بقوله: نظام الملكية ونظرية العقد. وهو يودع كل واحد من الاستعمالين ما يتطلبه الموضوع من تحقيق وشمول وتفريغ، سواء في باب الملكية أو باب العقد.

 

2ـ ويأتي د. محمّد سلام مدكور. فيكون في الدرجة الثانية من التقسيم. وهو من له عناية بالنظرية الفقهية وإشادة بها. فيقول في تقديمه لرسالة الغرر، بحث د. الصديق محمّد الأمين الضرير: (إن في الفقه الإسلامي من النظريات ما لا يقل عن نظريات القانون الوضعي، إن لم يفقها في جودتها وسموّها). والمثال ناطق بذلك في نحو تحديد نظرية الشخصية المعنوية. وهو بعد ذلك يقول: (إن في الفقه الإسلامي من النظريات الكبرى ما تختلف به اختلافاً اساسياً عن القانون الوضعي) ([23]).

وهذا كنظرية الربا ونظرية الغرر. ولم يمنعه تفضيله للفقه الإسلامي وتقديمه له على القانون الوضعي من التعريف بلفظ نظرية. وقد يكون مرد ذلك جريان كلمة (النظرية) على ألسنة الناس فحمله هذا على استعماله في تعريفاته كقوله (بنظرية العقد) و(نظرية الحق) ([24]).

 

3ـ وما كان من انفتاح النظر على القواعد العامة في الفقه الإسلامي حمل بعض الباحثين على الجمع بين دلالة القاعدة ودلالة (النظرية) توسعاً منه في معنى النظريات.

 

وممن مال إلى هذا، د. محمّد كمال الدين إمام حين يقول: الفقه الإسلامي ليس مجرد فروع وجزئيات، ولكنه نسق متكامل من الأُصول والفروع، تقوم فيه القواعد الفقهية بدور (النظريات العامة)، وتستطيع مصادره الأصلية والفرعية والاحتياطية أن تلبي حاجات الناس ومطالب المجتمعات، وتستوعب في ذلك حدود الزمان والمكان([25]).

 

وهذا الاستعمال الذي افتتح به المؤلف كتابه نظرية الفقه في الإسلام جعله يفترض كبرى القواعد الفقهية (النظريات). ويعد من ذلك نظرية الضرر، ونظرية الضرورة، ونظرية الحق، ونظرية العقد. ويشهد لطريقته في تعريفه للنظرية قوله: نظرية الضرر تقوم على جملة من القواعد مثل (لا ضرر ولا ضرار)، و(الضرر يُدفع قدر الإمكان)، و(الضرر لا يزال بمثله)، و(يتحمل الضرر الخاص لرفع ضرر عام)، و(الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)، و(عند تعارض مفسدتين روعي أعظمهما ضرراً بتحمل احدهما)، و(اختيار اهون الشرين)، و(درء المفاسد مقدم على جلب المنافع)، و(القديم يترك على قدمه)، و(الضرر لا يكون قديماً) ([26]).

 

4ـ وهذا المعنى هو الذي تعقبه فقهاء الشريعة، مثل، د. احمد بن حميد في تحقيقه لقواعد المقري([27]).

ود. الندوي([28]). ود. محمّد بن عبدالله بن عابد الصوّاط([29]). يقول هذا الأخير : ومن هؤلاء من تطرّق إلى تعريف النظرية بضبط موضوعاتها. قال د. الندوي: هي موضوعات فقهية، أو موضوع يشتمل على مسائل فقهية، أو موضوع يشتمل على مسائل فقهية تجمعها وحدة موضوعية تحكم هذه العناصر جميعها.

 

ويفسر د. الصوّاط الضوابط النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية رغم جوانب الاتفاق أو الاختلاف بينهما بقوله: فهما يشتركان في أن كلاً منهما يشتمل على مسائل من أبواب متفرقة ويختلفان في ذلك على وجوه ثلاثة، هي:

 

أن النظرية الفقهية أوسع نطاقاُ من القاعدة الفقهية في الغالب. وتندرج القاعدة تحت النظرية الكبرى فتصير ضابطاً خاصاً لناحية معينة من نواحيها. وإنما حصل الالتباس بين النظرية والقاعدة بسريان هذين المصطلحين، واعتبارهما مترادفين([30]).

والرأي السائد كما قدمنا التفريق بين النظرية والقاعدة. فقاعدة (الأصل في العقود رضا المتعاقدين) تمثل ضابطاً خاصاً بناحية معينة من نظرية العقد.

 

ب ـ القاعدة الفقهية تتضمن حكماً فقهياً في حد ذاتها. وهذا الحكم ينتقل إلى الفروع المندرجة تحتها، بخلاف النظرية الفقهية، فإن لفظها لا يحمل حكماً فقهياً([31]).

 

ج ـ القاعدة الفقهية لا تشتمل غالباً على شروط وأركان. والأمر بخلاف ذلك في النظرية. فإنها لا تكون نظرية بدون ذلك([32]).

 

وآخر ما وصلنا من تعريفات النظرية ما أورده الشيخ مصطفى الزرقاء في مدخله بشأن النظريات الفقهية الأساسية في مباني الأحكام. وأنا لنعرض هذا التعريف بكامله وإن طال، لا لمعرفة حد النظرية في الفقه الإسلامي، ولكن لتقدير ما جاء به من إضافات عند تعريفه النظرية تجعلنا نقارن بين الاستعمال الأصلي لهذا المصطلح، وبين استعماله الجديد في الفقه الإسلامي.

 

قال الشيخ مصطفى الزرقاء في التعريف بالنظرية الفقهية: نريد من النظريات الفقهية الأساسية تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى التي يؤلف كل منها على حدة نظاماً حقوقياً موضوعياً منبثاً من الفقه كانبثاث أقسام الجملة العصبية في نواحي الجسم الإنساني.

 

وتحكم عناصر ذلك النظام في كل ما يتصل بموضوعه من شعب الأحكام. وذلك كفكرة الملكية وأسبابها، وفكرة العقد وقواعده ونتائجه، وفكرة الأهلية وأنواعها ومراحلها وعوارضها، وفكرة النيابة وأقسامها، وفكرة البطلان والفساد والتوقف، وفكرة التعليق والتقييد والإضافة في التصرف القولي، وفكرة الضمان وأسبابه وأنواعه، وفكرة العرف وسلطانه على تحديد الالتزامات، إلى غير ذلك من النظريات الكبرى التي يقوم على أساسها صرح الفقه بكامله، ويصادف الإنسان أثر سلطانها في حلول جميع المسائل والحوادث الفقهية.

 

وهذه النظريات بدون شك هي غير القواعد الكلية التسع والتسعين التي صدرت بها مجلة الأحكام الشرعية. وهذه القواعد هي دون شك ضوابط وأصول فقهية تراعى في تخريج أحكام الحوادث ضمن حدود النظريات الكبرى.

 

وإن الفقهاء المجتهدين ليتطلّعون إلى صياغة نظرية جامعة لقواعد الأحكام المدنية في الفقه الإسلامي كنظرية الالتزام العامة في الفقه القانوني الأجنبي.

 

ولعل الغرض من الجهد المطلوب في هذا المجال هو شحذ عقل الطالب بملكة فقهية عاجلة تؤهل فكره وتعينه على الإلمام بمدارك الفقه([33]).

وقد أنهى الشيخ الزرقاء كلامه عن النظرية الفقهية بذكر جملة أمثلة لها، زيادة في الدرس والنظر والبحث، وهو في ذلك يدعو بالخصوص إلى العناية بنظرية العقود وما إليها في الفقه الإسلامي، ونظرية الأحداث الشرعية في الفقه الإسلامي، ونظرية الأهلية، ونظرية الولاية، ونظرية الغرر.

 

وقد يكون من المفيد في هذا المقام التذكير بالعناصر الأربعة التي بنى عليها مصطفى الزرقاء تعريفه للنظريات الفقهية متخذاً من ذلك مطية للتنبيه إلى عناصر أخرى، لابد أن يشملها التعريف وإلا كان ضعيفاً ناقصاً، أو معتلاً مضطرباً.

 

ويمكننا بعد ذكر الإتجاهات الأربعة السابقة للتعريف بالصنف الأول من النظرية الفقهية من حيث جوهر دلالتها، وما توحي به من معلومات وأحكام، أن نشير هنا مجرد إشارة إلى الصنف الثاني منها المتمثل في القسم الإجرائي وما يتصل به من فقه وعمل.

 

وأبدأ عند تحليل موضوع النظرية وضبط عناصرها، وما يمكن أن تمتد إليه من أحكام، بالقول بأن هذا هو أهم مطلوب في الصنفين. وقد اخترت أن تكون هذه الأمثلة أو القواعد الكلية مختلفة متنوعة. وذكرنا من الصنف الأول نظرية الشخصية المعنوية، وجعلنا من الصنف الثاني نظرية الأخذ بما جرى به العمل عند فقهاء الأندلس والمغرب.

 

الشخصية المعنوية أو الاعتبارية في الفقه الإسلامي

أردنا أن نفتتح حديثنا بتعريف نظرية (الشخصية المعنوية). ذلك المصطلح القانوني المتداول بين الناس في البلاد الغربية. وهو وإن كان مهجوراً بين فقهاء الشريعة قديماً، إلا أن ما حصل من تقارب واحتكاك بين الحقوقيين والفقهاء في مجتمعاتنا جعل استعمال (الشخصية المعنوية) ينتشر بعد أن استعاره طلاب الدراسات القانونية في بلادنا لكونه أقرب إلى التعبير عن أغراض لم يألفوها، أو هي موجودة في نفوسهم لكنها كانت تعرف بمصطلحات أخرى لديهم هي أكثر شيوعاً بينهم لتعددها بتعدد الأمثلة والأنواع.

 

والألفاظ الاصطلاحية، وإن جاءت تعبّر عن معنى خاص أو محدود في الغالب، في كل عصر قائمة بوظيفتها، تجلّي للناس دلالاتها ومقاصدها حسبما يشهد بذلك العلماء ويقره اللغويون، وحسبما يطرد استعمالها ويستقر بين أهل المعرفة وبناة الحضارة طوال القرون. ومع هكذا تبدو تلك الألفاظ والمصطلحات اختلاف اللغات وتباين اللهجات، تلك الألفاظ أو المصطلحات، منتشرة في كل مكان. وهي الأساس الكاملة والتصور التام الذي يأتي إليهم بأجمل المقاصد وأصحّ الأفهام.

 

وإن ذلك المصطلح ليحمل إليهم المعارف الجديدة والتصورات الدقيقة فيفرقون لذلك بين الشخصية الطبيعية، والشخصية المعنوية أو الشخص المعنوي. وهم يعنون بالمصطلح الأول: من يستطيع اكتساب الحقوق، وتحمل الالتزامات لما له من ذمة مالية مستقلة عن ذمم الأعضاء والأفراد المشاركين له في المشروع، والتمتع بأهليتين هما أهلية الوجوب وأهلية الأداء.

 

وفي تفسير الأهليتين، وتعليله لهما يقول د. طموم:

1ـ أهلية الوجوب: لما كانت أهلية الوجوب هي مضمون الشخصية، كان للشخص المعنوي أهلية وجوب، ولكنها محددة بطبيعته، والغرض المقصود من وجوده. فمن حيث طبيعته يصلح لأن يكون له حق الملكية وتوابعها، وحق الرهن، وحق أن يكون له اسم، وحق صون سمعته، وهو صالح لأن يوصي، ولكن لا يرث إلا إذا كان الشخص المعنوي الدولة، لأنها وارثة من لا وارث له.

 

2ـ وأهلية الأداء للشخص المعنوي تثبت له كما ثبتت له أهلية الوجوب. وممثل الشخص المعنوي هو مجرد وسيلة لإظهار إرادة الشخص المعنوي، يباشر عنه التصرفات القانونية. فتصرفات ممثل الشخص المعنوي ليست ناتجة عن إرادة الممثل، وإنما تعبر في الحقيقة عن إرادة الشخص المعنوي([34]).

 

ويتعرض صاحب الشخصية المعنوية الاعتبارية إلى اختلاف آراء أساتذة القانون في صورة تحديد شخصيته. فمن ذلك قولهم: إن الإنسان وقد ثبتت له الحقوق، فهناك تنظيمات حقيقية صالحة لأن تكون لها بعض الحقوق.

 

وتتفرع على ذلك صور شتى للشخصية المعنوية تحقيقاً للمقارنة بينها وتكميلاً لها. فمن ذلك نظرية المجاز، ونظرية الذمة الشخصية، ونظرية الأشخاص المعنوية ومردها الإنسان، ونظرية الحيثية العضوية، ونظرية الإرادة المشتركة، ونظرية الحقيقة القانونية، ونظرية الشخصية المعنوية في الفقه الحديث([35]).

 

ومن صور الشخصية المعنوية المتخيّلة أحياناً، والتكنيكية أخرى، ما تصوره البحوث المتخصصة لبيان حقيقة الشخصية المعنوية أو الاعتبارية أو الحكمية. ويكون من المفيد أن نبحث عما يمكن أن نجده مماثلاً أو قريباً من الشخصية المعنوية في الفقه الإسلامي. وقد مثل لذلك د. طموم بذكره ستة أنواع. هي: حقوق الله تعالى، والدولة، وبيت المال، والمضاربة، وصورة عدم دخول العوض ثمناً أو مبيعاً في ملك من له خيار الشرط مع خروجه من ملك صاحبه، والوقف.

 

وقد أحدثوا بعد الاختلاط بين صور الشخصية المعنوية التي صورنا تعريفاً جديداً لها نصه: الشخص في نظر القانون هو كائن صالح لأن تكون له حقوق وعليه واجبات. فهو يشمل الإنسان، ويقال له الشخص الطبيعي، كما يشمل جماعة من الأفراد أو مجموعة من الأموال يسبغ عليها القانون الشخصية القانونية فتصبح شخصاً معنوياً أو اعتبارياً، وعليه فإن الشخص المعنوي ليس سوى جماعة من الأشخاص يضمهم تكوين يرمي إلى هدف معين، أو هو عبارة عن مجموعة من الأموال ترصد لتحقيق غرض معين يخلع عليها القانون الشخصية فتكون شخصاً مستقلاً ومتميزاً عن الأشخاص الذين يساهمون في نشاطها أو يفيدون منها كالدولة والجمعية والشركة والمؤسسة.

 

ويترتب على الاعتراف للشركة أو المؤسسة بالشخصية المعنوية تمتعها بكافة الحقوق التي يتمتع بها الشخص الطبيعي إلا ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية، كحقوق الأسرة. ومن ثم يكون للشركة ذمة مالية مستقلة، أو أهلية في حدود الغرض الذي أنشئت من أجله، واسم، وموطن، وممثل يعبر عن إرادتها، وجنسية تربطها بدولة معينة([36]).

 

وألحقوا الثاني بالأول على الصورة المجازية أو الحقيقية أو غيرهما. وجعلوا لهذه الشخصية المعنوية كل المعاني الملزمة وذات الأهمية في تحرير كثير من الأوضاع القانونية السائدة، وتقديم فوائد جمة في مجال صيانة الحقوق وتحديد المسؤولية.

 

لكن هذه النظرية لم تلبث أن عارضتها تيارات مناهضة لها كقول بعض الحقوقيين بسويسرا: إن الشخصية المعنوية ليست إلا وسيلة من أجل غاية، وأن الفرق بين الشخصية المعنوية والشخصية الطبيعية ليست فرقاً في الدرجة الأولى بل فرقاً في الطبيعة([37]).

 

واختلف الفقهاء المسلمين بإزاء الشخصية المعنوية فمنهم من لم يقتنع بوجود فكرة الشخصية المعنوية، ومنهم من سمّاها ذمة بلا صاحب، ومنهم من سكت ولم يسمّها، ومنهم من صرح بأنها ملك، ومنهم من تحايل وصرّح بملك المنفعة للمستحقين ولم يملّك الرقبة لأحد، أو سكت عن ملك الرقبة مع تصريحه بخروج الرقبة عن ملك صاحبها وعدم دخولها في ملك آخر. وكل هذا تتضمنه فكرة الشخصية المعنوية([38]).

 

وقد نكون في حاجة قبل إلقاء نظرة شاملة على المصطلحات الجديدة في كل فرع من فروع القانون إلى أن نلج إلى كلماته ناظرين إلى دلالاتها الشخصية على أغراضه، واقفين على دقة ملاحظاته وكوامن أسراره، متتبعين علم القانون في فروعه وأحكامه، محاولين في البدء التصور الكامل لما في القانون الجديد من معاني الشخصية الطبيعية والمعنوية.

 

ويمكن هنا في ختام هذه الفقرة، وإن كان الموضوع المطروح لا تتسع له هذه العجالة، أن ننبه إلى أنا وجدنا من صور الشخصية المعنوية في الفقه الإسلامي مما يفيد أن معرفة الإسلام بهذه الشخصية راسخة في نفوس الأُمة على مختلف أطوارها في العديد من مجالات النشاط. فهي تشمل:

 

1ـ حقوق الله. وهي ما ينجم عن التكاليف الشرعية مما له تعلق بالنفع العام. وحقوق الله تعإلى ثمانية: عبادات خالصة كالايمان، وعقوبات خالصة كالحدود، وعقوبات خاصة كالحرمان من الميراث، وحقوق دائرة بين الأمرين كالكفارات، وعبادات فيها معنى المؤونة كصدقة الفطر، أو مؤونة فيها معنى العبادة كالعشر، أو مؤونة فيها شبهة العقوبة كالخراج، أو حق قائم بنفسه كخمس الغنائم والمعادن يؤديه بطريق الطاعة. فهذه الأموال واجب على الأفراد أداؤها.

 

2ـ الدولة وهي شخصية مستقلة عن أفرادها. تملك وتملك وتكون مدّعية ومدعّى عليها. ولها حقوق وعليها واجبات، ويتحقق فيها الشخصية المعنوية. ولا تختلط هذه بشخصية الحاكم الأعلى في الدولة. فالإنفصال بين الشخصيتين لازم([39]).

 

3ـ بيت المال. وهو مؤسسة معنوية. فالأموال المملوكة لها كمؤسسة ليست ملكاً لأحد من الأفراد ولو كان رئيس الدولة. وبيت المال كيان مالي مستقل. له حقوق وعليه واجبات، ويقاضي فيكون مدّعياً ومدّعى عليه، ويكون وارث من لا وارث له. وله شخصيته المستقلة عن الدولة وإن كان منفرداً عنها ويتحقق فيه الشخصية المعنوية.

 

4ـ المضاربة. وهي عقد بين رب المال بماله والمضارب بعمله، على أن يكون الربح بينهما حسب النسبة المتفق عليها. وعقد المضاربة يعطي حقّ التصرف في مال المضاربة للمضارب، مع أنه لا يملك المال. وهو في الوقت نفسه يمنع رب المال من التصرف في مال المضاربة مع أنه ماله المشارك به في المضاربة. وللمضاربة شخصية اعتبارية معنوية تختلف عن شخصية المضارب وشخصية رب المال. ويبدو هذا واضحاً في صور كثيرة من المضاربة. نذكر بعضاً منها لتتضح صورة الشخصية المعنوية الاعتبارية في المضاربة وفي الفقه الإسلامي.

 

إذا اشترى رب المال من مال الضماربة شيئاً لنفسه صح في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة. ومبرّرة تـُعلّـق حق المضارب بالمال فجاز لرب المال شراؤه([40]).

 

ويجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد شراء رب المال من المضارب، وشراء المضارب من رب المال، وإن لم يكن في المضاربة ربح، لأن لرب المال في مال المضاربة ملك رقبة لا ملك تصرف. وللمضارب فيه ملك التصرف لا الرقبة، وكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، ولذلك جاز الشراء بينهما.

 

ثم من خلال فروع أخرى في المضاربة يبني د. طموم أن الشخص المعنوي موجود في المضاربة. وإن لم ينطق به الفقهاء، ويذكرونه بإسمه. وهذا لا يضير الفقهاء المسلمين، ولا ينقص من قدرهم لأنّ هذه التسمية اصطلاحية ولا مشاحة في الاصطلاح([41]).

 

5ـ عدم دخول العوض ثمناً أو مبيعاً في ملك من له خيار الشرط مع خروجه عن ملك صاحبه. وقد صوروا هذا بصور منها: أن الخيار إن كان للبائع فلا يخرج من ملكه، ويخرج الثمن من ملك المشتري بالإجماع، واختلفوا في دخول الثمن في ملك البائع. فذهب أبو حنيفة إلى عدم دخول الثمن في ملك البائع خلافاً للصاحبين.

 

6ـ الوقف نظام إسلامي. حدُّه حبس العين على حكم ملك لله والتصدق بالمنفعة. وقال الجمهور في تعريفه: إنه حبس العين عن أن تكون ملكاً لأحد من الناس، والتصدق بمنفعتها على جهة من جهات البر والخير، في الحال أو في المآل. وقد أعطاه القانون المدني صفة الشخصية المعنوية نزولاً على أحكام الضرورات العملية([42]).

 

وفي هذه الصور الستة تفصيل كبير وأحكام فقهية وردت في دواوين الفقه في كل مذهب([43]).

نظريـة العمــل

1ـ عمل أهل المدينة

2ـ عمل أهل المدائن وأصحاب الأقاليم

الناظر في هذا الأصل أو المصدر ناظر في صحّة نسبة العمل للآخذين به، ومقر أو منكر لحجيته وللقول باعتماده. وهذان جانبان لابد من مراعاتهما عند من يبحث عن الصحة أو يطلب الاطمئنان لما يلقي إليه من معرفة وعلم، يركز عليهما اتصاله بخالقه، وسلوكه مع عباده، والوفاء بالواجبات عليه، المترتبة على إيمانه ويقينه وإسلامه وإخلاصه الدين لربه.

 

وهذا أمر ثابت لا يختلف فيه اثنان لأنه مناط العبادة، وحسن المعاملة مع ما حول الإنسان من أكوان وأناس وأحوال وتصرفات تغمر الواحد منا بقدر إدراكه كنهها والانقياد إليها أو التسلل منها.

 

ثم إن لكل بيئة في نفس أهليها أثراً، ولكل حياة من مقومات سلطانها دافع إلى العيش والرضى به، قابل للتفاعل معه تفاعلاً يرفع ذكره ويملأ بالسعادة والرضى أقطار نفسه.

 

وأول ما ينجذب إليه من معاني الراحة والبهجة والشوق والأنس تلك المعالم التي تنطق بها أمجادها، وتشد صادق الوله إليها. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المدينة قبة الإسلام، ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبدأ الحلال والحرام([44]).

وأخبر محمّد ابن سلمة عن مالك قال: دخلت على المهدي فقال أوصني. فقلت: أوصيك بتقوى الله وحده، والعطف على أهل بلد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجيرانه. فإنه بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المدينة مهاجري، ومنها مبعثي، وبها قبري، وأهلها جيراني، وحقيق على أمتي حفظي في جيراني. فمن حفظهم في كنت له شهيداً أو شفيعاً إلى يوم القيامة، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال([45]).

 

وأخذاً بهذه المعاني، وتقديراً لها، وتمسكاً بها نبّه العلماء والفقهاء إلى أنه لا يخفى عن عاقل أن ما ليس فيه نص إذا كان محل اجتهاد واستنباط، ونقل لنا منه عمل أو قول لأهل المدينة، فإن ما ينقل لنا عنهم أقرب إلى النفس وأحبّ إليها مما ينقل عن غيرهم في الشام ومصر.

 

وطبيعي أن تكون دار الهجرة بهذه المثابة التي روينا عنها وشاهدناها بها. فهي العاصمة الأولى لديار الإسلام، بها جرت ينابيع المعرفة والهداية، وتلقى الناس بين حرّيتها تراث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فتدبروه وبرعوا فيه وكانوا دعاة توحيد وبناة أمجاد وناشري خير وعلم وهدى وتقى بين الناس. يدل على ذلك أن الأمراء أرسلوا العلماء من المدينة إلى سائر الأمصار يعلمونهم السنن والفرائض.

 

وهذه التي اكتملت لأهل المدينة. ولم يأت أحد قط آنذاك من تلك الأمصار إلى المدينة ليعلمهم شيئاً منها. وقد ضاعف من قداسة هذا الحرم الشريف. ولابدع في ذلك أن يرد في كلام الزهري وهو يفسر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تقوم الساعة حتى يأرز الإيمان في المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها). والله ما يأرز إلا إلى أهلها الذين يقومون به، ويشرّعون شرائعه، ويعرّفون تأويله، ويقومون بأحكامه.

 

ووصف ما عرضه الله على طلائع هذه الأُمة حين خاطبهم بقوله يذكرهم بنعمه السابغة عليهم: قد سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة إلاّ أن تضلوا بالناس شمالاً ويميناً. وكان الذين يقوّمون المعوج. ويدعون إلى الحق، وينصحون ويرشدون، ويعلمون في عهد مالك بن أنس هم الفقهاء السبعة أو العشرة، وتواتر بالمدينة، من المشاهير مائة وسبعون تابعياً. وجد الإمام في موطئه نحواً من ثلاث وثلاثمائة مسألة كانت من عمل أهل المدينة وأدرك ثلة من الصحابة. وكان يرجع في اجتهاداته إلى النقول الصحيحة لم يخالف ذلك إلا في مسائل ثلاثة.

 

وكان مالك مسبوقاً في العمل بأقوال أهل المدينة. سبقه عدد من الشيوخ الذين نذكر منهم القاسم بن محمّد وأبا بكر بن عبدالرحمن وابن شهاب وأبا الزناد وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمر بن أبي بكر بن حزم ويحيى بن سعيد الأنصاري وجعفر بن محمّد الصادق وعبدالله بن عمر بن حفص.

 

وممن كان له تاثير على منهجه الفقهي ربيعة الرأي وابن هرمز وابن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم. وقد ضمّن الإمام مالك كتابه (الموطأ) كثيراً مما كان يرويه من عمل أهل المدينة يحدد بهذا منهجه العلمي، ويؤكد بقوله عن نفسه: نسب الرأي إليّ بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الراشدين ومن لحق بهم من التابعين. فذلك رأيهم ما خرجت عنهم إلى غيرهم.

 

وقد رأينا الإمام مالكاً يقدم عمل أهل المدينة على خبر الواحد، ويضعه بعد الإجماع وقبل القياس.

 

وعمل أهل المدينة مقسم عند المالكية إلى قسمين: الأول من طريق النقل والحكاية. وهو الذي نقله الجمهور عن الجمهور، وآثرته الكافة من أحكامه، وعمل به عملاً لا يخفى، متواتراً من زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومتصلاً به.

 

والقسم الثاني ما كان ثبوته عن طريق الاجتهاد والاستدلال. وهو دون القسم الأول. ومن ثم نفى عنه بعض المالكية وصف الحجية وأثبتوا له القدرة على الترجيح([46]). وقد يكون من المفيد أيضاً أن ننبه إلى مذهب بعض المالكية في تنويع عمل أهل المدينة أنواعاً ثلاثة:

 

1ـ الأول أن يجمعوا على أمر لم يخالفهم فيه أحد من الفقهاء من أهل المذهب وغيره.

2ـ أن يجمعوا على أمر، ولكن لا يوجد لهم فيه مخالف من غيرهم.

3ـ ما فيه خلاف عند أهل المدينة أنفسهم([47]).

 

ولتأكيد العمل بما كان عليه أهل المدينة نذكر رأيهم في ذلك. وهو دون شك وجيه. فهم يقولون: إذا اتفق أهل المدينة على شيء نقلاً أو عملاً مثلاً، كان هذا متواتراً فيحصل به العلم، وينقطع به العذر، ويجب ترك أخبار الآحاد له.

 

وأكثر أهل العلم من غيرهم قائل به، غير متحمس له، وهو معمول به وليس بحجة. يبرهن به على عامة الناس ولا على المتقاضين والمستفتين من خاصتهم. ولا خطر مع ذلك فيما ذهب إليه المالكية قبل القرن الخامس.

 

نظرية الأخذ بما جرى به العمل عند فقهاء الأندلس والمغرب

هكذا عنون د. عبد السلام العسري الأستاذ بدار الحديث الحسنية بحثه القيم الذي نشره([48]). وهو في نظرنا يمكن أن يفك إلى محاور ثلاثة، هي كما دل عليه تفصيل الباحث:

 

ـ نظرية عمل أهل الأمصار.

ـ نظرية العمل الإقليمي.

ـ أنواع العمل بهذه النظرية عند الفقهاء المتأخرين.

 

هذا البحث بدون شك قمين بكل تقدير واعتبار لما يتناوله من قضايا هامة وعامة ترتبط بالأصول والفروع، والأدلة والأحكام، أو تتعلق بنظرية العمل بما أخذ به أهالي المدائن، أو أصحاب الأقاليم، أو بالمنهج التطبيقي لهذه النظرية في أقطار الأندلس والمغرب وإفريقية كما وقعت الإشارة إلى هذا في مثل أقوال الفقهاء وأصحاب التصانيف يحددون مراجعهم في فتاواهم وأحكامهم بما يعتمدونه في ذلك من عمل الأندلس، وعمل قرطبة. ومن عمل المغاربة كعمل أهل فاس، وعمل القيروان وعمل أهل تونس.

 

وهذا البحث رغم وجازته يتناول موضوعاً متسع الأطراف كمذهب عمل أهل المدينة نجده يشمل أبعاد اربعة هي التي نبه إليها الباحث حين يصرح بأن دراسته هذه تدرجت حسبما اقتضاه النظر في هذا الموضوع إلى مباحث كثيرة هي:

 

1ـ دراسة ونقد بعض أسباب الظهور. ظهور نظرية العمل الإقليمي.

2ـ أنواع العمل عند الفقهاء المتأخرين.

3ـ عمل قرطبة والأندلس.

4ـ عمل فاس والمغرب.

وإن نظرية العمل هذه لمعدودة في الأُصول كثيراً، مشفوعة بما ظهر ذكره منها في الفتاوى والأقضية والنوازل عند أهل المغرب في الماضي والحاضر. واستدلالاً على ذلك يورد د. العسري ما يشهد لرأيه قائلاً: إن ظهور نظرية العمل وتطبيقها كان من موجبات ازدهار الفقه، وبعث روح الحياة والشباب فيه. وهذا ما صرّح به من قبله د. حماد العراقي([49])، وتمسك به وارتآه الشيخ عبدالله كنون في كتابه (النبوغ المغربي في الأدب العربي) ([50]).

 

لكن هذا الرأي يتعارض مع مواقف القائلين بأن الفقه الإسلامي قد غاض ماؤه، وذهبت نظارته، حين أصابه الجمود بسبب ما كانت تمر به الدولة الإسلامية من أخطار وأحداث مثل هجوم المغول وقيام الحروب الصليبية في المشرق. وممن تمسك بهذه النظرة في الحياة الحضارية بالمغرب وأثبت أنها سجلت تدهوراً لا تقدماً وخمولاً لا انتعاشاً د.أبو بكر زنبير([51])، والشيخ محمّد الحجوي([52]).

 

ويضيف البا حث إلى المقارنة بين الرأيين عناصر ثلاثة، أقام عليها رأيه، هي:

 

1ـ اعتبار أن عمل أهل المدينة الذي قال به الإمام مالك ودعمه لا يرتبط به العمل الإقليمي أصلاً، وإن ما نحن فيه يعبر عن نظرة جديدة لأن العمل الإقليمي غير معمول به في المشرق. وربما لم يعرفه المالكية هناك. والدلائل على هذا أنه لا خطر من الاتجاهات الحكمية الجديدة، فإنها كما سنرى تساير المذهب عند المالكية ولم تحدث في الأول اضطراباً أو خلافاً لأن غالب شيوخ المالكية كان عارفاً بأصول المذهب، مدركاً لطريقة إمامه في الاجتهاد، وفي العمل بما جرى عليه أهل المدينة في فتاواهم وإجماعاتهم وكذلك في أقوالهم ومواقفهم رغبة منهم في الاتساء بشيوخ المذهب، محيطين بما قرروه من ضوابط وأحكام.

 

2ـ عمل أهل الأمصار وأصحاب الأقاليم: هذه نظرية جديدة اعتمدها فقهاء المالكية في بلاد الأندلس والمغرب وبتونس والقيروان. حقيقتها عند اختلاف الآراء وتعدد الأقوال وتعقد المسائل ان يستبدل الفقهاء بذلك الالتزام بالقضاء أو الفتوى بأقوال المالكية كمالك وابن القاسم، فيتجاوزون تلك الصعوبات ولا يقفون أمام المغلقات من الصور والأمثلة لأنهم في مثل هذه الحال لا يمكن أن يظفروا بشيء من الحلول للمسائل المطروحة عليهم. وقد رأينا فقهاء المغاربة والأندلس يطبقون منهجاً مختاراً لم يسبقوا إليه. وهكذا كانت طريقتهم تتمثل في أن يحكم أحد القضاة أو يفتي أحد المفتين، ممن ثبتت عدالته ونزاهته مع العلم والمعرفة بقول من أقوال علماء المذهب وإن كان ضعيفاً أو شاذاً مهجوراً.

 

أما الأغراض والموضوعات التي تناولتها نظرية الأخذ بما جرى به العمل، فإنها ستة أقسام:

1ـ قسم يجري وفق القول المشهور في المذهب.

2ـ قسم يجري وفق القول الضعيف في المذهب.

3ـ قسم يجري بخلاف النصوص القطعية.

4ـ قسم يجري في مسألة لم يرد فيها نص.

5ـ قسم يجري فيما لا يكون فيه دليل صريح ولكن فيه شبهة دليل.

6ـ قسم يجري وفق الدليل لكنه خارج المذهب([53]).

وتبرر عملهم هذا عدة اعتبارات كاختلاف الظروف، وأحوال المتداعين والمستفتين، وما يكونون عليه من عوائد وأعراف جديدة لم يلتفت إليها قبل. وهذه طريق تدعو القاضي أو المفتي إلى ترك العمل بما هو مثبت في كتب الفقه وأصول المذهب مكتفين باعتماد الآراء الضعيفة والأقوال الشاذة قصد الوصول إلى حلول معقولة تخرج الناس من الضيق إلى السعة ومن الحيرة إلى الاطمئنان. ويصبح بعد ذلك ما عمل الأندلسيون والمغاربة أصلاً معتبراً في مذهبهم وطريقة معدودة ومقبولة في مواجهة كل الصعاب.

 

وقد رأينا الدكتور العسري يبحث هذا الموضوع ويخرج فيه دراسة عميقة ناشراً لها في مجلة دار الحديث الحسنية. ومما أشار إليه في بحثه ذلك حركة رد الفعل لهذا التطوير. وجاء في الدرالمنثور أن أهل قرطبة كانوا ينازعون القضاة ويمنعونهم من الاحتجاج أو الأخذ بغير المشهور في أحكامهم.

 

وخوفاً من اضطراب مذهب القضاء وسدّاً للذريعة أمام القضاة لزم أولئك الفقهاء الالتزام بالمشهور إلا في حالات عدّ منها المتتبعون للمنهج القضائي بقرطبة ستة مسائل، ووضعوا لبلوغ هذه الغاية شروطاً منها أن يقضي الفقيه بغير مذهب إمامه كمالك اشترطوا عليه الأخذ بالمذهب الشافعي في أحكامه وهذا غير مقبول بل هو باطل لأن قضاء المقلد بغير مذهب إمامه قضاء بغير ما يراه.

 

وأجاز الجمهور للقاضي المقلد أن يشترط عليه الحكم بمذهب إمامه أي بمذهب الإمام مالك. فإن اشترط الوالي عليهم القضاء بأقوال غير أئمتهم اختلفت الأقوال في هذه الصورة، واعتبر الشرط باطلاً، وصح العقد عدد منهم. أورد ذلك الطرطوشي على صاحب الجواهر، ونقله الشيخ خليل وفرض المازري فيه الاجتهاد ولم يحرّم على الإمام أن يأمر بالقضاء بين الناس بمذهب مالك. وكان هذا الشرط الذي التزم به الفقهاء بالنسبة للقاضي المقلد قد أدخل الاضطراب في مذاهب القضاة في ثلاث صور:

 

الصورة الأولى: حكم الباجي على العقد بالصحة بعمل أهل قرطبة، وظاهر شرط سحنون، وذهب الطرطوشي إلى القول بالبطلان. ونصح بعضهم بالتولية، وببطلان الشرط تخريجاً على أحد الأقوال في الشرط الفاسد.

 

وتعرض الدكتور العسري إلى أن موجب هذا التطوير في القضاء في الإجراءات الشرعية يرجع إلى انبعاث روح القضاء والدراسات الفقهية إلى الوجه الذي يعين أصحاب هذا الأمر على الاجتهاد.

 

والواقع أن هذا النوع من العمل الإقليمي في القضاء، وكذلك في المدائن الواقعة في مختلف الأمصار غير ثابت في المشرق لا بالعراق ولا بمصر. وما كان من إشارات ابن فرحون إليه في التبصرة، وإيماءات الحطاب إليها في شرح المختصر لا تدل على ظهور العمل بذلك بين المالكية في بلاد المشرق، لأن هذين العالمين المالكيين كانا مشهورين بذلك في ديار المهجر. وقد اصطحبا معهما المنهج الفقهي المغربي إما قصداً وإما لشدة تعلّقهما به في دراستهما بالمغرب والأندلس قبل مفارقتهما لمربعهم الأول. وذهبت طائفة أخرى من المؤلفين إلى اعتبار أن هذا الانحراف عن أُصول الفقه المالكي كان سببه ضعف الملكات والجهل بالأحكام.

 

وظهور هذا الاتجاه في مخالفة أُصول المذهب وقواعده ترجع إلى أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الأموي، إذ أصدر منشوراً قرر فيه وجوب التمسك بمذهب مالك في الأقضية والشهادات والنوازل نظراً إلى إهمال هذه المناهج والمبادئ والاحتفاظ بالأقوال الشاذة والضعيفة عند عروض ما يقتضي ذلك في بعض الجزئيات.

 

وقد يكون لهذا وجهة نظر في بعض الحالات دون بعض كالذي اشار إليه الإمام عمر بن عبدالعزيز في قوله: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوه من فجور)، وأضاف سلطان العلماء الشيخ عزالدين بن عبدالسلام قائلاً: واحكموا بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات.

 

وذهب هذا الباحث في آخر دراسته إلى القول بأن الدولة الأموية قبل القرن الرابع كانت حريصة على متابعة الأقوال المشهورة والراجحة في المذهب المالكي. وأن شأن التشريعات لا تظهر فجواتها ولا الحاجة إلى تنقيحها أو تعديلها إلا بعد مرور فترة على دراستها وتطبيقها.

 

ويقال إن ابن الهندي الأندلسي أحد أهل الشورى في الأحكام نص على جريان العمل بالقول بإعطاء الخصم نسخة من حجج خصمه. ونازع الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور في هذا، واعتبره من التطور الحميد تعريفاً بالأحكام، والتزاماً بالصكوك التي أثبتت فيها لكونه من باب المتوفق للحقوق.

 

لم تغفل المصنفات التي كتبت في تلك الفترة ذكر العمل بالأقوال الضعيفة بالأندلس من القرن الرابع. وصدر في القرن السادس كتاب للفقيه الإمام أحمد بن هشام الغرناطي أسماه (مفيد الحكام في نوازل الأحكام). وقد احتوى هذا الكتاب على اثنتين وعشرين مسألة خولف فيها مذهب الإمام مالك في أربع مسائل كما خولف فيها مذهب ابن القاسم في ثمانية عشر مسألة. وختم الباحث دراسته بجدولة المسائل التي تغير بها العمل استناداً إلى ما حصل من تطوير بالمحاكم في ذلك الوقت.

 

وكان الذي حصل ببلاد المغرب شبيهاً بما جرى بالأندلس. فاعتمد فقهاء المغرب الاختيارت والترجيحات لبعض الأقوال الضعيفة استناداً للعرف والضرورة وغير ذلك من أُصول نظرية العمل.

 

وشهدت هذه الحقبة مؤلفات عديدة منها:

* كتاب، (نيل الأمل فيما بين الأئمة من جري العمل) لابن الزقاق.

* ورسالة (فيما جرى به العمل من شهادة اللفيف) تأليف الشيخ العربي الفارسي.

* وبعد ذلك ظهر كتاب الشيخ ميارة في مسألة بيع الصفقة.

* ونظم الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي كتاباً فيه نحو ثلاثمائة مسألة مما جرى به العمل بفاس وحدها.

* ألف الشيخ محمّد التماف الأندلسي كتاباً في الحكر أو الخلطة أسماه (إزالة الدلسة عن أحكام الجلسة).

 

ومثل هذا جرى بأكثر الأقاليم المغربية، وهو العمل عندهم. فقد كانوا يختلفون في تطبيق الكليات على الجزئيات اختلاف خصوصيات تتأثر بما هو موجود في كل مجتمع.

 

وفي إقليم سوس ظهر الشيخ أحمد بن محمّد السملالي، وكذلك الشيخ أبو زيد عبد الرحمن الجثتيمي. وله أعمال إقليم سوس نظماً.

تولى شرحه محمّد بن أبي بكر الشابي الأزراقي.

وتميّز من بين فقهاء تمكروت الشيخ ابن ناصر في أجوبته.

 

وكذلك العلّامة علي بن عيسى العلمي بنوازله التي صورت لنا العمل بأقاليم جبالة وعمارة. ومن أوسع كتب النوازل التي كان لها سلطان على الفقهاء والقضاة في المغرب (النوازل الكبرى) للشيخ المهدي الوزاني، والمعتبرة بذاتها موسوعة للفقهاء تجمع أعمال المتأخرين من فقهاء المغرب.

 

ومثل هذا التحرير التاريخي البين في ذكر أعمال المتأخرين من الفقهاء وما تشهد به كتبهم ومصنفاتهم ما أثبته د. عمر عبد الكريم الجيدي في كتابه العرف والعمل في المذهب المالكي.

القواعد

 

يعرض علماء الشريعة وأئمة الفقه الإسلامي، كلما أرادوا التأكيد على أمر، أو الزيادة في التوثـّق فيه، جملة من مصطلحاتهم تلقيناً أو تعليماً، شرحاً لدلالاتها وضبطاً لمعانيها وتقريراتها.

 

ومما يجدر بنا ذكره والتنبيه عليه من مثل هذه المصطلحات: الجمع والتفريق بين الشريعة والقانون فهما مختلفان من حيث المصدر والشمول والتعليل. فالشريعة أوامر إلهية وتشريعات ربانية تحدد للخلق تكاليفهم وترتب على ذلك جزاءهم وأجورهم. وهي كلها من وحي الله ثابتة لا تتغير.

 

وأما القوانين فهي تجارب ونظريات وأحكام مختلفة متعددة وهي غير ثابتة، قابلة للاستنتاج والتغيير.

 

والتقارب أو التباعد بين علم أُصول الفقه وعلم القواعد، والتمييز بين الاستعمالات المتعددة كالقاعدة والضابط، والكلية والجزئية، والأصلية والتابعة، والمطلقة والمقيدة والمستثناة.

 

وفي هذه التوطئة المعرّفة بقطعية القواعد أساسا لا يمكن أن نتعرض إلى كل هذه الموضوعات أو المسائل. فإن موضعها من موضع التعريف أو التحقيق، ولكنها فيما قصدنا إليه منها الإشارة إلى:

 

التفريق بين أُصول الفقه والقواعد. ويقتضي هذا منا التذكير بما حصل حتى الآن من العناية بالقواعد، تعريفاً وتقسيما، تصنيفا وتحقيقا. فقد رأينا شيخنا سماحة الإمام الأكبر محمّد الطاهر ابن عاشور يثبتها، معتبراً ظهور علم أُصول الفقه متأخرا عن استخدام القواعد. وأن بناء هذه القواعد كان على الاستقراء والاستنباط، من أجل ضبط الأحكام والقوانين.

 

وأصول الفقه يدل بصيغته هذه على ما ابتنى عليه غيره، أو هو النقل عرفاً إلى المعاني اللغوية، ولكنهم اختاروا إطلاقه على المعنى المراد وهو الدليل.

 

والفقه هو العلم مع الفهم. قال الجرجاني: هو فهم غرض المتكلم من كلامه. ومن هذه التعريفات يتضح لنا أن الفقه في اللغة هو العلم بالشيء وتفهمه والوصول بالنظر فيه إلى أعماقه.

 

وقال الغزالي: الفقه عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة.

 

والقواعد جمع قاعدة. وهي عبارة عن قضية كلية تشتمل على جزئيات كثيرة. ومنها القواعد اللغوية والشرعية. أما احتياج الناس إلى هذه القواعد فلكونها الأسس والمبادئ التي تـُبنى عليها الشرائع، ولكون الدليل لدى بعض الفقهاء هو ما يستفاد منه حكم قطعي، وأن ما هو بعكس ذلك لايستفاد منه إلا الحكم الظني. والدليل في الاصطلاح الإفادة من أصحاب التصانيف الشرعية.

 

ونحن من خلال ما منّ الله به علينا من كثرة التردد على المكتبات العلمية ببلادنا وبغيرها من البلاد وما وجدناه بها من كتب قيمة عرفنا بعضها ولم نعرف من بقيتها غير القليل، وما جعلنا نسعد ونفاخر به من أطر علمية جيدة تشدنا إليها روابط الفكر والعلم الشرعي من أساتذة مبرّزين وفقهاء متمكنين أرجو أن يكون بهم لمؤسستنا المجمعية مجمع الفقه الإسلامي الدولي دور طلائعي يجعلها خير مورد وأعذبه، وأبقى تراث وأخلده، خدمة للشريعة الإلهية الربانية، والعلوم والآداب الإسلامية.

 

ومن خلال تجولنا بين كتب كثيرة من القواعد، ووقوفنا على عدد كبير منها من أمهات كتب الفقه، ندرك تمام الإدراك مانبه إليه صاحب، (درر الأحكام في شرح مجلة الأحكام) من قوله: إن المحققين من الفقهاء قد أرجعوا المسائل الفقهية إلى قواعد كلية لكل منها ضابط وجامع لمسائل كثيرة. وتلك القواعد مسلمة معتبرة في الكتب الفقهية تتخذ أدلة لإثبات المسائل وتفهمها في بادئ الأمر. فذكرها يوجب الاستئناس، ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان([54]).

 

وحمل على هذا المهم ما بذله الفقهاء من جهود في تقسيم القواعد، وما ألحقوا بها من فروق، وصنفوا فيه من أشباه ونظائر لمّا رغب الناس في السعي إلى أعلى رتبة في العلم وناداهم العلماء: إن الفقه معرفة النظائر([55]).

 

وورد في الإغراء بهذا العمل المفيد الحميد نصيحة للزركشي يخاطب بها أهل العلم من معاصريه ومن بعدهم، قال: إن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أدعى لحفظها وضبطها. وإنك لتعجب حين تزج بنفسك في هذا المحيط من المعاني الشرعية ومن معارف سمعية وما في مصادرها وأثار أصحابها من تنويع في تناول الموضوعات، ونظر أو توسع في الكشف عن الخصائص والمهمات التي تكاد تنطق بها كل قاعدة. ولقد وضحها الشيخ مصطفى الزرقاء قائلا: إنها لثروة ذات بال من الفكر التشريعي والميزان القضائي والمبادئ القانونية وأسس النظام في حياة المجتمع.

 

ولما في هذا العمل المبارك من جمع للخيرات من الأصلين: الكتاب والسنة ومخالطةٍ دائمة لأئمة الفقه وأساطين العلم الذين يتحفوننا بجلائل أعمالهم ورفيع أذواقهم من أجل تحقيق هذا الغرض الشريف القائم على جمع أُصول النظر السديد، وطرق الإصلاح قاطبة، وموازين العدل العالية، وينابيع الحكم الجارية في دراساتنا الإسلامية، مما اجتمع منها وما تفرق بين المذاهب الفقهية والمصادر الحكمية والقوانين الفكرية من مصنفات الشريعة الإسلامية ما كان سبيله كتاب الله وسنة رسوله، وطريقه معرفة الاجتهاد والمجتهدين، وغاياته الحصول على أكبر مجموعة من فلسفة التشريع والأحكام، والكتب الفقهية عقيدة وتشريعاً، ونظراً سديداً، علمياً وفكرياً، منهجاً وتقريراً يواكب أصولها التشريعية الإلهية التي تكون قادرة على حل مشاكل الساعة، وعلى مواجهة كل التحديات ومواكبة جميع الأحوال الاجتماعية وغيرها.

 

وقد انتظمت هذه المفاخر فيما صنفه الفقهاء أو ألفه العلماء من كتب في علمي: التفسير والتأويل على مختلف المذاهب والطرق العلمية والمناهج الدقيقة العملية. ومن الكتب المعتمدة والمصنفات في الفقه والأصول الداعية إلى الحق والإرشاد إلى الآثار غير المحصورة ولا المعدودة لتدل دلالة قاطعة على خيرية هذه الأُمة، وبديع حضارتها، وانتشار أهميتها، وعلو شأنها. والتي ليس بينها وبين مانبحث عنه فيها من علوم وحقائق وفلسفات وحكم، وقواعد وتصورات وأحكام ونظريات وفرائد هي أساس ما ننشده من أنظار إلا أن نلجأ إلى الفهارس العلمية المفصلة الغرض والجامعة لكل طرفة وطلب. وتحقيقا لهذا الغرض الشريف الغالي الذي يتطلع إليه أصحاب الهمم العلمية والقدرات الكبيرة العملية أصدروا ما أصدروا من مصنفات ممتعة عامة وخاصة في فنون عديدة كالأصول والفقه والمقاصد ونحوها. وهذا وإن كان ممتعا ومفيداً يحتاج إلى طاقات فكرة ومنهجية أوسع، ووسائل مادية وفنية أكثر. فمن ذلك ما جمعنا من قواعد عامة في مختلف المذاهب الفقهية، وأخرى خاصة موزعة على المذاهب الفقهية الإسلامية مع التوثق في الكلام والاستقراء المتاح ويمكّن من إنجاز هذا لمشروع وخدمة الشريعة الإسلامية وإبراز مقومات نظرها الفاحص ومنهجها العدل في تشريعاتها.

 

وقد بدأنا بوضع خطة عمل، للقيام بهذا المشروع الفريد، وقمنا بحصر المصادر والمراجع المختلفة، الحديثية والفقهية والأصولية. وجمعنا مواد هذه المعلمة في حالتها التقديرية فبلغت 14000 قاعدة، صارت بعد استبعاد المكررات وما يلحق بها من تطورات وتفريعات 6844 قاعدة ومسألة مفصّلة كالتالي:

 

* 4610 جملة القواعد الكلية.

* 426 جملة القواعد الأصولية.

* 1781 جملة الضوابط الفقهية.

* 27 جملة المقاصد الشرعية.

وإننا لنقدر هذه الجهود العلمية وما يدعمها من صحيح العزم وقوي الإرادة ونثني على مشايخ مدينة العلم وأعلام نهضتها بمدينة قمّ لما تعاونوا به معنا وأسهموا به في معلمة القواعد الفقهية تدبيراً حكيما وعطاءً وبذلاً، كان أساسه دعوة مجمع الفقه الإسلامي الدولي وممثل دولة الجمهورية الإسلامية الإيرانية به آية الله سماحة الشيخ محمّد علي التسخيري. وما أعدوه من عمل جليل قدموه لمشروعنا وهو لا يحسن إلا أن يكون صادرا عن الأئمة الأماجد، مشرقا بإضاءات عقولهم، منوّراً بجميل اهتداءاتهم وصفاء أرواحهم. وهكذا تلقينا بتقدير مضاعف وإكبار يكشف عما تكوّن باللقاءات والدراسات المشتركة من تآخ وتعارف وتقارب على فهم مناهج الوحدة والتقريب.

 

وأنا لجامعون لهذا الغرض من قواعد الشريعة ما تضمنته مصادرها من آراء أئمتها ومن اختلاف اتجاهاتهم بما يضمن لنا إصدار موسوعة علمية بل معلمة فقهية تكون محاولة مجمعية جادة تضطلع بها مؤسسة متخصصة من مهامها الأساسية العناية بالشريعة والتشريع الإسلامي.

 

وأنا وإن خلنا أن العلم محصور فيما تيسر لنا الوقوف عليه في بلاد المشرق والمغرب فإن سوقه بحمد الله نافعة نافقة، وآثاره زاهرة متوافرة. وأكتفي هنا بالإشارة إلى جملة قصيرة من الكتب الشرعية الأصولية والفقهية تعنوّن بهذه الديار على جهاد أمتنا من أجل حماية دينها ونشر تراثها. فمن ذلك:

 

* كتاب (كفاية الأُصول) للعلامة محمّد كاظم الخراساني الآخوند. وهو مؤلّف خطي قدم له صاحبه بدراسة غاية في الجمال، وكتَب عليه حواشي وتنبيهات.

 

* (دروس في علم الأُصول) للشيخ العلّامة محمّد باقر الصدر يقع في مجلدين. وضع له مؤلفه مقدمة وافية وجملة من مقاصد علم الأُصول. وقد وقع تدريسه بالحوزة الدينية.

 

* كتاب الشيخ مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري. يقع في مجلدين يشتمل على خمس رسائل في القطع والظن، والبراءة والاحتياط والاستصحاب والتعادل، والترجيح.

 

* (قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام) للإمام الحلي آية الله الحسن بن جامع ابن علي. وهو في جزأين. وهو غبارة عن تلخيص لكتب الفتاوى خاصة، وتبين قواعد احكام الخاصة. وهو من أروع ما جادت به براعة العلّامة الحلي، وعليه شرح واسع للكركي أسماه (جامع المقاصد في شرح القواعد).

 

* الموسوعة الفقهية المتكاملة. وأكثرها عبارة عن شروح للبلاد والمنهل القانوني الذي كان يعتمده الاحكام بداية من القرن الثامن.

* كتاب (القواعد) للفقيه السيد ميرزا حسن الموسوي البجنوردي. وهو في سبع مجلدات. يذكر القاعدة الفقهية فيذيلها بشرح مستفيض.

 

وكتب ومؤلفات المذهب الجعفري أكثر من أن تحصى. وهي رغبة كل آمل وبغية كل طالب.

وأن في هذا الإنتاج العلمي والتراث الشرعي الفقهي ما يحملنا على التمسك بشريعتنا وآداب ملتنا.

فاللهم إنا نتوسل بك إليك، اللهم إنا نقسم بك عليك، اللهم كما كنت دليلنا عليك فكن شفيعنا لديك.

اللهم إن حسناتي من عطائك وسيئاتي من قضائك، فجد اللهم بما أعطيت على ما به قضيت حتى تحمو ذلك بذلك. لا لمن أطاعك فيما أطاعك فيه له الشكر، ولا لمن عصاك فيما عصاك فيه له العذر، لأنك قلت وقولك الحق لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

 

اللهم لولا عطاؤك لكنت من الهالكين، ولولا قضاؤك لكنت من الفائزين. وأنت أجل وأعظم وأعز وأكرم من أن تطاع إلا بإذنك ورضاك، أو أن تعصى إلا بحكمك وقضائك. إلهي ما أطعتك حتى رضيت ولا عصيتك حتى قضيت، أطعتك بإرادتك والمنة لك عليّ، وعصيتك بتقديرك والحجة لك عليّ، فبوجوب حجتك وانقطاع حجتي إلا ما رحمتني، وبفقري إليك وغناك عني إلا ما كفيتني يا أرحم الراحمين.

 

اللهم إني لم آت الذنوب جرأة منـّي عليك ولا استخفافاً بحقك ولكن جرى بذلك قلمك ونفذ به حكمك وأحاط به علمك، ولا حول ولا قوة إلا بك والعذر إليك وأنت أرحم الراحمين.

 

اللهم إن سمعي وبصري ولساني وقلبي وعقلي بيدك لم تملكني من ذلك شيئا، فإذا قضيت بشيء فكنت أنت وليّي وأهدني إلى أقوم السبيل لا خير

 

من سؤل، يا أكرم من أعطى، يا رحمن الدنيا والآخرة، ارحم عبداً لا يملك الدنيا ولا الآخرة إنك على كل شيء قدير.

 

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.

الهوامش:

([1]).  سورة آل عمران : 30.

([2]). سورة آل عمران: 64.

([3]). سورة البينة: 5.

([4]). سورة الأنعام: 162، 163.

([5]). سورة غافر: 60.

([6]). سورة البقرة: 186.

([7]). سورة الحشر: 2.

([8]). سورة البقرة: 44.

([9]). سورة طه: 114.

([10]). سورة الفرقان: 63.

([11]). المائدة: 6.

([12]). التوبة: 103.

([13]). القصص: 77.

([14]). الحجرات: 13.

([15]). آل عمران: 110.

([16]). سورة آل عمران: 159.

([17]). سورة الشورى: 38.

([18]). سورة الممتحنة: 8، 9.

([19]). سورة البقرة: 265.

([20]). سورة الكهف: 29.

([21]). التهانوي: 1387 ـ 1388.

([22]). المدخل الفقهي: 188.

([23]). د. الصديق الضرير. الغرر: ع.

([24]). د. محمّد سلام مذكور. المدخل للفقه الإسلامي، نظرية الحق: 423، نظرية العقد: 515.

([25]). نظرية الفقه في الإسلام: 318.

([26]). د. محمّد كمال الدين إمام: 353 ـ 358.

([27]). القسم الدراسي للكتاب: 1/109.

([28]). القواعد والضوابط الحاكمة للمعاملات المالية في الفقه الإسلامي.

([29]). القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية في فقه الأسرة.

([30]). محمّد أبو زهرة، أُصول الفقه: 10؛ احمد عبد طاهر الخطابي. مقدمة تحقيق كتاب إيضاح المسالك للونشريسي: 122.

([31]). د. أحمد بن حميد: 1/109 ـ 110؛ د. أحمد فهي أبو سنة. النظريات الفقهية؛ د. محمّد مصطفى الزحيلي: 202.

([32]). الضوابط الفقهية: 1/105 ـ 108.

([33]). المدخل الفقهي العام: 1/329 ـ 23/2، 23/3.

([34]). د. طموم: 27 ـ 29.

([35]). القانون الإداري الليبي: 174 ـ 182.

([36]). معجم المصطلحات الاقتصادية والإسلامية.

([37]). د. طموم: 43.

([38]). د. طموم: 47.

([39]). د. طموم: 25.

([40]). ابن قدامة: المغني: (1) 5/72.

([41]). د. طموم: 58؛ يراجع هذا الفصل بطوله. انظر: 53 ـ 73.

([42]). د. محمّد طموم: 86.

([43]). د. محمّد طموم. الشخصية المعنوية الاعتبارية في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، جامعة الكويت، والأزهر. ط، م. 1407 /1487.

([44]). المدارك: 1/37.

([45]). المدارك: 1/36.

([46]). المدارك: 1/51.

([47]). الفكر السامي: 2/166.

([48]). مجلة دار الحديث سنة 1402 / 1982. 40 :3/321 ـ 340.

([49]). تاريخ التشريع الإسلامي: 226.

([50]). النبوغ المغربي في الأدب العربي: 1/ 188.

([51]). ملحق جريدة المغرب للثقافة المغربية. عدد 2/19 ـ 20.

([52]). الفكر الإسلامي في تاريخ الفقه الإسلامي: 4/227.

([53]). الجيدي: 427.

([54]). درر الأحكام: 1/15.

([55]). مقدمة قواعد الزركشي؛ مقدمة الأشباه والنظائر للسيوطي.