الصراع المذهبي المفتعل على الساحة العربية والاسلامية (العــراق إنموذجـــاً)
الصراع المذهبي المفتعل على الساحة العربية والاسلامية
(العــراق إنموذجـــاً)
الدكتور ماجد سليمان الفهداوي
ديوان الوقف السني العراقي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لما عنونت بحثي بــ(الصراع المذهبي المفتعل على الساحة العربية والاسلامية) (العراق إنموذجاً) أقصد وأعني ان الصراع في المنطقة وخاصة في العراق كان صراعا ذا بعد سياسي اكثر مما هو ديني بحت، وقد تدخلت السياسة على خط الدين ايما تدخل، فحاولت ان تلوي اعناق النصوص وتخفي حقيقة الاعتدال والوسطية التي امرنا بها رب العزة عندما قال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ}([1]) .
ولما كانت امة الأخوة وأمة العدل وأمة الشورى هي التي تجمع كل المذاهب والاديان لابد للقيادات والسياسات التي تريد المناصب واحتكار السلطة ان تضرب تلك المبادئ التي اكد عليها نبي الرحمة محمد المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عرض الحائط فلا عدل ولا تقارب لان بالعدل والتقارب ضرب للدكتاتورية التي لا تريد الحرية للشعوب وذلك ما جعل الحسين عليه السلام ينتفض فيصارع الظلمة وطلاب السلطة ليلقى الله هو واهله شهداء على طريق الحرية والكرامة مقبلين غير مدبرين وكذلك التاريخ اعاد نفسه عندما حاول النظام الدكتاتوري البغيض في العراق اللعب على وتر المذهبية والطائفية فأدخل العراق في حرب مع الجارة الحبيبة دولة ايران المسلمة والتي دعمت كل الانظمة الاسلامية في العالم وهو مالا يرغب به العلمانيون وربيبي الالحاد.
وقام ذلك النظام الدكتاتوري المجرم بتصفية خيرة المراجع في العراق وما المرجع الصدر (قدس سره) عنكم ببعيد، ولم يكتفي بذلك فقام باحتلال الجارة (الكويت) لتدخل المنطقة في صراع مناطقي وطائفي كبير كانت من نتائجه الاحتلال الامريكي الغاشم والذي فتح الصراع المذهبي والطائفي على مصراعيه، كل تلك الافعال التي قامت بها الدكتاتورية التي حطمت العراق ارادت من خلالها ان تشق عصا المسلمين، ولكنها في نهاية المطاف لم ولن تفلح، وهو نهاية الباطل والظلم في كل وقت وحين.
أين قتلة الحسين (عليه السلام)، أين قتلة الصدر (قدس سره) اين قتلة الشيخ عبد العزيز البدري (رحمه الله)، اين من سَجَنَ وشرّد العلماء الابرار، لقد ماتوا ومات خبرهم وبقي صوت (وا حسيناه) خالداً ما بقي الدهر، ذهب الظلمة والعتاة وحكمهم السلطوي الدكتاتوري وبقي صوت الحق والمظلومين ليرثوا الارض .
قال تعالى {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([2]) .
المبحث الاول: التركيبـة المـذهبيــة في العراق:
ينقسم العراق من الناحية الاسلامية الى طائفتين هما الشيعة والسنة، وامتازت العلاقة بين الجانبين بمعادلة تكون غريبة مفادها هيمنة الاقلية على الاكثرية طول تاريخ الاسلام في هذا البلد، وان هذه الهيمنة رافقتها عمليات عنف وتحجيم لدور الشيعة السياسي ومحاصرة للنتاج الثقافي والديني، واحيانا الاعتداء على المقدسات الاسلامية لاسيما ضريح الامام الحسين(ع) باعتباره عنوان الرفض للهيمنة اولاً ونبراس العدل والتوازن الاجتماعي ثانياً([3]) .
وليس غريباً ان تتعرض الشعائر الحسينية للمنع والمضايقات من قبل الانظمة السياسية التي حكمت العراق باسم الدولة الاسلامية او الدولة القومية، كما انه من غير المستغرب ان تنسج الاكاذيب حول معتقدات الشيعة من قبل بعض الكتاب المغرضين.
وازدادت هذه الزوابع والاتهامات بعد نجاح الثورة الايرانية اذ تحمّل الشيعة القتل والتشريد والنفي ودخل بعض المحسوبين على الوسط الديني الشيعي في معترك المواجهة بإيحاء من النظام العراقي السابق وذلك بهدف خبيث غايته خلط الاوراق وإقحام كل ما هو خبيث في مسالك الخير والدين والوطن([4]) .
اما على الصعيد الاجتماعي فقد اخذت العلاقة بين الجانبين اتجاها ايجابياً تمثل بالمصاهرة المختلطة مما عمقت من وسائل الاتصال وخففت مما يولده الاحتقان الديني، حتى ان اغلب الباحثين يشيرون الى عدم وجود طائفية اجتماعية في العراق خلافا للطائفية السياسية وربما ساهم الانحسار الديني عن السياسة في ظل الدولة العراقية الحديثة في هذا التوجه، لكن ملامح الاستقطاب السياسي الطائفي أخذت منحىً خطيراً بعد غزو العراق للكويت لاسيما بعد تبني النظام للحملة الايمانية، وكان لهذه الحملة مجموعة من الدوافع والأهداف منها تحجيم النشاط الديني الشيعي الذي كان المعارض الاساس لوجود النظام والذي كان وراء الانتفاضة الشعبانية التي كادت ان تسقط النظام([5]) .
وقد برز في تلك الايام اصوات سنية معتدلة امثال الدكتور احمد عبيد الكبيسي والدكتور محسن عبد الحميد والذين كان لهم دور كبير قبل وبعد الاحتلال في العمل على التقريب مابين اختلاف الاراء والتوجهات وهو ما ازعج الكثير من المفكرين واصحاب الافكار المتعصبة([6]) .
ان سقوط النظام في عام 2003م كان صدمة للطائفة السنية اذ فقدت السيطرة على ذهنية الكثير منهم وعاشوا حالة ذهول لمدة اكثر من ستة اشهر بعدها استعادت وعيها، ولكن خسارتها للامتيازات التي تمتعت بها طيلة حكم النظام السابق قد فاقم مأساتها، بل ان بعض القوى وجدت ان مشروعها قد تهاوى، اذ ان ملامح النظام السياسي الجديد بدأت بالظهور لتؤشر حالة التوازن في المكونات الوطنية، وذلك ما لا تريده الانظمة والافكار الدكتاتورية والتسلطية والتي لا تقبل بان يشاركها احد في الفكر والحكم([7]) .
وقد انهمك الشيعة بالتعاون مع الاخرين في بناء نظام تعددي ديمقراطي يقوم على اساس المواطنة والعيش المشترك. والسماح للكل بالمشاركة في صنع القرار، وأصبحت قضية تبادل الادوار بين المعارضة والسلطة هي التي تحكم العلاقة بين الجانبين. اذ أنَّ السنة حتى الذين انضموا الى العملية السياسية يعتقدون ان هناك ظلماً وقع عليهم نتيجة الوضع الجديد، في حين لا زال الشيعة يؤمنون بأنَّ الوضع الجديد لم يكن بمستوى الطموح([8]) . إذ أنَّ الاخرين ظلوا يستغلون الفرص لإيقاع الاذى السياسي بهم، ومما يعكس هذا الامر ان السنة بمجرد السقوط تداعوا الى هيئة اطلق عليها (هيئة علماء المسلمين) ضمت في صفوفها خطباء الجوامع وبعض اساتذة الجامعات واختاروا لها اميناً عاماً يجمع بين العشائرية والاكاديمية وان كانت العشائرية هي الغالبة عليه عند التعامل مع القضايا الوطنية والسياسية([9]) .
ومن الواضح ان الهيئات المؤثرة في الوسط السني العراقي توزعت مواقفها من الشيعة على ثلاث اتجاهات:
الاول: الاتجاه الذي يحاول تحميل الشيعة مسؤولية ما آل اليه وضع العراق، اذ كثيراً ما نجد خطاب هذا التيار خطاباً انفعالياً يقفز على الحقائق ويحاول ان يجعل من المذنب بريئاً ومن المظلوم ظالماً وتستثمر منظومة المقولات الاعلامية (الاحتلال- المقاومة- الخيانة- العمالة) وعادةً ما تشير في اعلامها وقنواتها التأثيرية الى المؤامرة الصفوية على الاسلام لتحشر نفسها في زاوية الإتهام بانها تمثل الاستبداد والقهر الذي طال الشيعة خلال مدة حكم صدام حسين.
ولعل المتابع لخطاب هيئة علماء المسلمين منذ تشكيلها حتى الوقت الحاضر يكشف بوضوح مدى التشنج والاضطراب واللامبالاة بما يجري من افعال تمس الشيعة بحيث أصبحت ظاهرة للعيان، الا ان عين الطائفية ظلت غامضة عنها، وظل تيار الهيئة المتطرف ومن يساندهم يتخوف من اي تقارب شيعي عراقي مع ايران وحتى التقارب العراقي الايراني ظناً منه ان هذا التقارب يصب في إتجاه مغاير لما يريده من جعل العراق قلعة سنية([10]) .
اما الاتجاه الثاني: فهو المشارك في العملية السياسية والمتمثل (بالحزب الاسلامي) الذي هو اقرب الى الاعتدال من غيره، ولكن وبحكم التعامل مع الظروف الوطنية ينساقون بالضغط وراء مطالب قوى اخرى او وراء ضغط الشارع السني الذي يريد العودة الى الامتيازات السابقة، وهذا كالذي يريد ان يعيد عقارب الساعة الى الوراء.
واما الثالث: فهو تيار التكفير واستعمال القوة المسلحة وقد تغذى هذا التيار من الدعم الوهابي الذي أخذ بالتزايد بعد اسقاط حكومة طالبان عام 2001 وتزايد ايضاً بعد الاحتلال الامريكي للعراق لأسباب كثيرة منها رغبة الامريكان لمواجهة هذا التيار في العراق وعدم نقل المعركة الى الولايات المتحدة، وكذلك عدم وجود سلطة عراقية مركزية تستطيع الأمساك بالحدود مع دول الجوار وتسهيل هذه الدول دخول عناصر هذا التيار الى العراق تحت دعاوي السعي لمواجهة امريكا.
المبحث الثاني: الخلاف السياسي والاتفاق الديني بين الشيعة والسنة:
يحاول البعض ان يصور الخلاف بين الشيعة والسنة وكأنه خلاف عقدي مستعصي لا يمكن معالجته ولكنّنا نعتقد ان الخلاف سياسي تجاوزه الزمن، وهو ان كان يتضمن معنى من معاني الخلاف السياسي في التاريخ السحيق، فانه قد فقد مبرر وجوده اليوم بعد حدوث تطورات هائلة في حياة المسلمين، ولم تبقى منه سوى بعض الرواسب والمخلفات البسيطة التي لا تشكل مادة جدية للخلاف فضلا عن التناحر بين المسلمين.
وإذا كان ينبغي التخلص من تلك الرواسب التاريخية فانه يجدر ايضا مقارنة تلك الخلافات بعوامل الاختلاف العديدة الاخرى التي تحفل بها حياتنا اليومية، والتي يجب ان نعمل سوية من اجل التخلص منها ايضا، من اجل وحدة اسلامية متينة([11]) .
لم يكن الخلاف الطائفي الشيعي- السني هو الخلاف الوحيد في تأريخنا الاسلامي وواقعنا المعاصر، فقد كانت ولا تزال هنالك خلافات مريرة داخل كل طائفة، داخل الشيعة والسنة، إضافة الى الخلافات القومية والقبلية والطبقية والحزبية التي تفجرت عبر التاريخ وتتفجر هنا وهناك باستمرار.
بحيث نستطيع القول ان الخلاف الشيعي- السني يتراجع الى درجة كبيرة امام تلك الخلافات، وانه لا يوجد في الحقيقة خلاف جدي بين الطائفتين في الخارج، ماعدا بعض الحواجز النفسية والمسائل البسيطة، وما عدا بعض التوتر الطائفي الذي يعشعش في صدور المتطرفين والغلاة من الفريقين، وهم على اية حال فئات صغيرة ومعزولة([12]) .
واذا اردنا ان نعرف مصطلح الشيعة ومصطلح السنة فالمعنى البسيط لمصطلح السنة : هو إتباع الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو لا يمكن ان يتناقض مع التشيع لأهل البيت الذي يتضمن اتباع السنة، وبناءً على ذلك فان السنة هم شيعة لأهل البيت وان الشيعة هم جزء لا يتجزأ من السنة، وقد اعتبر ائمة اهل البيت ائمة لأهل السنة رغم الصراعات والتنافس بين المذاهب السنية نفسها وفي الحقيقة لا يوجد اليوم مذهب شيعي او سني متكامل وانما المذاهب عرضةً للزيادة والنقصان والآراء الفردية ولا يوجد احد ملزم بتبني جميع الآراء التي كتبها الرجال السابقون بالجملة في مختلف الأبواب العقدية والفقهية والتاريخية وانما هو حر بانتقاء ما يجتهد فيه ولذلك لا يجوز تكوين صورة كلية عن الطوائف والمذاهب وتطبيقها على اي انسان وانما يجب التعرف على آراء كل شخص بصورة ذاتية خاصة وان المجتمعات تتطور وتتغير ولا تبقى على حال واحدة.
وعموماً فان الدين قواعد لا يجوز ان يختلف عليها الناس واجتهادات مبنية على ادلة ظنية لا يجوز ان تكون سبباً لاختلاف الامة وانما مدعاة للحوار والنقاش والخلاف بين الشيعة والسنة لا يدور حول القواعد الثابتة وانما يتعلق بالقضايا الاجتهادية القائمة على اساس الادلة الظنية.
إنَّ المهم هي أرادة التعايش وبعدها تهون الامور، وهو طريق الله ودعوى النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وسلم) وخلاف ذلك دعوى الجاهلية ودعوى اعداء الانسانية والقتلة والمجرمين وشذاذ الآفاق([13]) .
ان الامة الاسلامية كانت واحدة ولم تكن طوائف ومذاهب وكانت الشورى كدستور للمسلمين ولم تكن النظريات الوراثية المختلفة وعندما انهار نظام الشورى في الفتنة الكبرى التي عصفت بالمسلمين وقام على أنقاضه النظام الوراثي الأموي كان من الطبيعي ان يولد رد فعل عند بني هاشم الذين أعتبروا أنفسهم أولى من الامويين بوراثة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وسلم) فولدت النظرية الشيعية حول أحقية اهل البيت بتوارث السلطة([14]) .
وبذهاب الدولة الاموية ثم الدولة العباسية والدولة العثمانية وقيام الانظمة الجديدة الملكية والديمقراطية وُضِعَ المسلمون من كل المذاهب امام مرحلة جديدة من الوحدة على اساس اسلامي او اقليمي وليس على اساس سياسي كلٌ يدعي وراثة النبوة وهو ابعد ما يكون عن ذلك المعنى السامي والعظيم، الا ان هذه الوحدة قد نغصها الانظمة الدكتاتورية والظالمة والتي حاولت ان تعيد الحياة الى الملك العضوض وتكميم الافواه ومحاربة ال بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبعد ذلك الحكم الظالم برز التكفيريين وسليلي الخوارج ليعلنوها حرباً على الاسلام ورجالاته فاستهدفوا خيرة العلماء واعظم المقدسات ومهبط الانبياء والصالحين ولكنهم ورغم كل ذلك الاعتداء الصارخ والاثم ورغم كل ذلك الهجوم وشراسته ارتدوا خائبين منكسرين وهو حظ الظلمة في كل وقت وفي كل زمان لابد لرايتهم ان تنكس وتاريخهم ان يطوى كما طوي تاريخ اتباعهم واسلافهم الذين ارادوا ان يخفوا قيمة الدم الحسيني بظلم الطغاة، وقد التقى اولئك التكفيريين مع السياسيين الدواعش ليثبتوا وبصورة لا تقبل الشك ان الفتنة العمياء سياسية وليست عقائدية اصيلة، اذن فالشيعة والسنة متفقون في العقيدة ومختلفون في التاريخ والسياسة وان الازمة الطائفية التي نشاهدها احيانا هنا وهناك هي وليدة الديكتاتورية وثمرة من ثمارها المرة، وليست الخلافات بين الطائفتين بخلافات حيوية معاصرة او ذات مضمون اجتماعي راهن وانما هي خلافات اسمية وهمية تاريخية([15]) .
إنَّ الطريق الى الوحدة الاسلامية يبدأ من الديمقراطية، والديمقراطية تبدأ من العقل والنفس، إنها تبدأ من الزهد في الدنيا والتواضع للأخرين وعدم التكبر عليهم والاستئثار بأموالهم وحقوقهم ومصالحهم وتنتهي بالالتزام بالنظام الديمقراطي الذي يحترم التعددية ويقبل الاخر ويعترف بحق الاختلاف للآخرين ويحترم مشاعرهم.
ولقد أخطأ الكثير حينما اعتقد كل منهم انه فقط يشكل الفرقة الناجية، وذهب الى تكفير الفرق الاخرى او تضليلها في امور خلافية جزئية بسيطة لا تصل الى درجة الكفر بالله تعالى([16]) .
ومن هنا لابد من الحذر من الانخداع بتضليل الاسماء وضرورة النظر الى واقع كل انسان على حدة وتقييمه بصورة خاصة وعدم الخلط او التعميم او النظر الى الجميع نظرة واحدة وأنَّ من الخطأ الكبير التقاط صورة فوتوغرافية جامدة لفئة معينة في حقبة معينة والاعتقاد باستمرار تلك الصورة عبر التاريخ او انتماء جميع الناس اليها الى يوم القيامة.
لقد قسم القرآن الكريم المجتمعات الإنسانية في اول سورة البقرة الى ثلاثة اقسام هي: المؤمنون والمنافقون والكفار وأوضح صفات المؤمنين المفلحين وهي الايمان بالله والغيب والملائكة والنبيين واليوم الاخر واقامة الصلاة والزكاة، تلك الصفات التي نجدها لدى عامة اتباع المذاهب الاسلامية.
وحذر من صفات المنافقين التي قد نجدها بين فئات تندس بين صفوف مختلف الطوائف ولم يقسم المسلمين الى سنة وشيعة، فلماذا لا نبحث عن الخارطة الحقيقية التي يرسمها الله تعالى، ونتحد في مواجهة المنافقين الذين يعتبر الظلم والاستبداد والاعتداء على حقوق الاخرين وحرياتهم ومصالحهم اهم صفاتهم وهم الذين يعاني منهم جميع المسلمين من مختلف الطوائف([17]) .
المبحث الثالــث: المدرســـة العراقيــة المعتدلــــة فقهـــاً وفكـــراً
لقد بنيت المدرسة العراقية التي علمت العالم ولا فخر على العلمية والفقه الراسخ وتوخي الدقة في الفتيا، والحفاظ على الدم المسلم وتقديم القيم العليا التي اوصانا بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على العلم المتطرف والعلم الخالي من الربانية واحترام الانسانية، التي جاء المصطفى لكي يرحمها لا أن يهددها ويستعلي عليها ويستهدفها بكل انواع المآسي والكوارث.
يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) (إنَّما انا الرحمة المهداة) ([18]) . وعندما تتكلم عن المذاهب العراقية ومدارسها فلابد أنَّ نبدأ من اصل المذاهب، كان ابو حنيفة (رحمه الله) ضابطاً لنفسه مستولياً على مشاعره، لاتعبث به الكلمات العارضة، ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، وكان يقول: (اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له) ويروى انه قال له بعض مناظريه: (يامبتدع يازنديق) فقال (غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، واني ما عدلتُ به مذ عرفته، ولا ارجو الا عفوه، ولا اخاف الا عقابه).
ثم بكى عند ذكر العقاب، فقال له الرجل (اجعلني في حل وكل من قال فيَّ شيئاً مما ليس فيَّ من اهل العلم فهو في حرج فان غيبة العلماء تبقي شيئاً بعدهم).
اما الشافعي فيقول يونس الصدفي: ما رأيت اعقل من الشافعي ناظرته يوما في مسألةٍ ثم افترقنا ولقيني فاخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى الا يستقيم ان نكون اخوانا وان لم نتفق في مسألة. قلت: هذا يدل على كمال عقل هذا الامام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون([19]) .
هؤلاء هم أصولنا وسادة القوم والذين اخذوا علمهم من الامام جعفر الصادق عليه السلام فهو شيخ المذاهب وزعيمهم، فهي سلسلة طيبة وتداخل ما بين ال البيت واصحاب المذاهب لا يُبقي حجةً لأصحاب النوايا السيئة ودلالةً على ان الافكار والسلطات الطارئة هي التي اوجدت المشكلة وهي التي أثارت الفتنة وأحدثت الخلاف الذي لاوجود له بالأصل.
وقد عَرَفَ مراجعنا العظام في العراق اللعبة مبكراً وتصدوا للصراع المذهبي بكل قوة وذكاء أدهش العالم واغاض الأعداء المتربصين، حيث تبنى المرجع الشهيد محمد صادق الصدر (قدس سره) الحركة الشعبية ومشروع التصدي والذي حمل في طياته روح الوحدة الاسلامية والهوية الوطنية بعيداً عن أي توجه طائفي.
اذ كان الصدر (قدس سره) يوجه بالذهاب لأداء صلاة الجمعة في أي مسجد من مساجد السنة حين تغلق المساجد الشيعية من قبل أجهزة النظام فكانت الجموع تزحف بالمئات للصلاة في جامع الامام الاعظم ابي حنيفة النعمان في الاعظمية. عرف الصدر(قدس سره) بزهده وتواضعه واخلاقه الكبيرة واحتفظ لنفسه بسلوكية خاصة، اذ رفض طيلة حياته ان يقبل يده احد وقد حرَّم تقبيل اليد بعدما تصدى للمرجعية، كان مجلسه بسيطاً عكس بقية الفقهاء، اذ تستطيع ان تقابله متى شئت بدون بروتوكولات او مواعيد، أعتمد منهجاً تربوياً استطاع من خلال ان يعيد للمجتمع ثقته بنفسه وبقوته وامكانية المواجهة فبعث في النفوس الشجاعة، وحَزَمَ الشباب بأنطقة الثقة وكانت كلماته كأنها أسلحة فتاكة تتحدى آلة النظام القاهرة.
كان ابناء المدن العراقية يستقوون به وكأنَّه يملك جيوشاً جرارة، وهكذا أثبتت امكانية تحدي النظام وأثبتت هشاشته وخواءه، ولأنَّه كان يردد مقولة (لا تقولوا أنَّ السنة اخواننا، ولكن قولوا هم انفسنا) تلك العقلية الفذة والمشروع الوحدوي العظيم لابُدّ ان يقظ مضاجع الظلمة والدكتاتورية السلطوية فكان الاستهداف الاليم وهو ديدن الظلمة واهل الاستبداد على مر الزمن وبالمقابل أُستهدف من مراجع السنة الوحدويون عبد العزيز البدري والصواف وغيرهم.
وحسبي ما قاله جرير:
أُولئك آبائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
الخاتمــة
وهكذا يبين لنا الوجه الحقيقي للمؤامرة الكبرى والمعركة الازلية التي يسعى لها عشاق الدكتاتورية وخوارج العصر للإيقاع بالشيعة والسنة وجرهم الى فتنة عمياء، تنبّه لها العلماء العاملين واهل التقوى والصلاح وأنجرّ لها انصاف العلماء والجريئين على الفتيا، والذي حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال (أجرؤكم على الفتيا، اجرؤكم على النار)([20])، والمتتبع للواقع الاسلامي والعربي المعاصر يجد ان التكفيريين والمتطرفين يبحثون بكل الوسائل للعب على وتر المذهبية والطائفية يساعدهم ويساندهم تيارات العلمانية وكل القوى التي تبحث عن القشور والهامش من القضايا.
ان ما فعله المجرمين القتلة والمتأسلمين بالعالم ليندى له جبين الانسانية وهو تشويه حقيقي للدين الذي جاء به المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وهو تشويه لفقه وفكر جعفر الصادق عليه السلام، وفقه الامام الاعظم والشافعي ومالك واحمد، وما الضربات التي استهدفت فرنسا والعالم الغربي منكم ببعيد، وما بشاعة تلك الضربات الا هي دلالة قاطعة على بشاعة الفكر والعقيد التي تحملها العقول الخارجية والاثمة.
ان الله سبحانه وتعالى امر موسى ان يخاطب فرعون بالقول اللين عندما قال (فقولا قولاً ليناً لعله يتذكر او يخشى) ([21]) . فما هي حجة من يضرب هذا العالم المتسامح والمتعايش. ان التكفيريين وأعداء الانسانية والاسلام أمامهم حلاًّ واحداً لا ثاني له وهو ان يتركوا الساحة لفرسانها وأولي النهى، الذين عناهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما قال (ليليني منكم اولي الاحلام والنهى) فقد سأم منهم العالم ووصل معهم الى طريق مسدود وهذا ما أثبته التاريخ والواقع.
إن الحاجة ماسة وكبيرة لمساهمة جميع المتنورين في كل الديانات والمذاهب من اجل التنادي لوضع خطط ومشاريع عملية لمواجهة هذه الكارثة التي تواجه الانسانية جمعاء، وهي كارثة العنف والقتل والارهاب حيث يقتل الانسان الذي كرَّمهُ الله تعالى في وقتٍ نزلت جميع الشرائع ببيان حقوق الحيوان فضلاً عن حقوق الانسان الذي وهبه الله تعالى العقل وجعله الكائن المستخلف (ولقد كرّمنا بني ادم) ([22]) . وهكذا جاء القران الكريم كما ان الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قد جاء عنه وهو يخاطب الكعبة قائلا: (ما أعظمك واعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك ان الله حرم منكِ واحدة، وحرم من المؤمن ثلاثا: دمه وماله، وأن يُظنَّ به ظن السوء) ([23]) .
المصادر
1- القرآن الكريم.
2- الحجج القطعية لاتفاق الفرق الاسلامية: السويدي، طباعة القاهرة، سنة 1324.
3- السنة والشيعة، وحدة الدين خلاف التاريخ والسياسة: احمد الكاتب.
4- الطائفية والسياسة في العالم العربي، نموذج الشيعة في العراق: فرهاد ابراهيم. ط1، القاهرة، مكتبة مدبولي 1996.
5- الطبقات الكبرى: ابن سعد، بيروت – لبنان.
6- سير اعلام النبلاء: الذهبي، تحقيق شعيب الارنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط11، 1417هـ - 1996 م.
7- سنن الدارمي: الدارمي، تحقيق حسين سليم الداراني ، دار المغني للنشر والتوزيع 1421- 2000.
8- شعب الايمان: البيهقي، مكتبة الرشد 1423- 2003.
9- شرح اصول اعتقاد اهل السنة: اللالكائي، تحقيق د. احمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، الطبعة الرابعة 1416هـ - 1995م.
10- صدى الحرب العاصفة: د. علاء الدين المدرس، دار الرقيم للنشر والتوزيع بغداد– العراق 1425هـ- 2004م.
11- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: الدكتور علي الوردي، الطبعة الاولى الناشر: انتشارات الشريف الرضي.
12- مستقبل العراق والعالم الاسلامي: د. خالد سليمان الفهداوي، مطبعة ديوان الوقف السني، بغداد- العراق.
ينابيع المودة: القندوزي الحنفي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان.
[1]- سورة البقرة : الآية 143.
[2]- سورة القصص: الآية 5.
[3]- الدكتور علي الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج1، ص103.
[4]- المصدر نفسه، ص133 .
[5]- احمد الكاتب: السنة والشيعة، وحدة الدين خلاف التاريخ والسياسة.
[6]- د. خالد سليمان: مستقبل العراق والعالم الاسلامي، ص93-94.
[7]- د. خالد سليمان: مستقبل العراق والعالم الاسلامي، ص115.
[8]- د. علاء الدين المدرس: صدى الحرب بالعاصفة، ص225.
[9]- د. خالد سليمان: مستقبل العراق والعالم الاسلامي، ص82.
[10]- د. علاء الدين المدرس : صدى الحرب العاصفة ، ص156.
[11]- اللالكائي : شرح اصول اعتقاد اهل السنة فقرة رقم : 450.
[12]- الدكتور علي الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج1، ص112.
[13]- القندوزي الحنفي: ينابيع المودة، ج3، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ، بيروت لبنان ، ص409-410.
[14]- المصدر نفسه، ج3، ص410.
[15]- فرهاد ابراهيم: الطائفية والسياسة في العالم العربي، نموذج الشيعة في العراق، ط1، القاهرة، مكتبة مدبولي 1996.
[16]- المصدر نفسة، ص375.
[17]- احمد الكاتب: السنة والشيعة، وحدة الدين، خلاف السياسة والتاريخ، ص247.
[18]- ابن سعد: الطبقات 1/192، بيروت – لبنان.
[19]- الذهبي: سير اعلام النبلاء: 16/ 10. تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط11، 1417هـ- 1996م.
[20]- الدارمي: سنن الدارمي 1/57، تحقيق حسين سليم الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، 1421-2000.
[21]- سورة طه: الآية 44.
[22]- سورة الاسراء : الآية 70.
[23]- البيهقي: شعب الايمان، 296/5، 6706/ 297، مكتبة الرشد ، 1423-2003.