الصحوة الإسلامية بين معالم الترشيد ومظاهر التضليل
الصحوة الإسلامية بين معالم الترشيد ومظاهر التضليل
دراسة وتحليل حول أبعاد الصحوة الإسلامية وحقيقتها
بحث معدّل بعنوان:"الصحوة الإسلامي تحت المجهر" تقدمت به إلى مؤتمر الصحوة قبل هذا المؤتمر
الأستاذ عثمان محمد جاه
الأمين العام للمركز الإسلامي للتقريب بين المذاهب- غامبيا
قاض في المحكمة العليا للاستئناف الشرعي
تمهيد
تتشوه المفاهيم بضياع الفهم الصحيح، والفهم الصحيح قد يضيع لمختلف الأسباب:إمّا لأن حامل الفقه غير فقيه، وذلك قد يطلىء المفهوم الأصلي بلون مغاير، أو يخفف من درجة لونه الأصلي، فتختلط الأمور من أساسها، ويتشكل الأصل بشكل الفرع أو العكس.
والصحوة الإسلامية مثلها مثل أيّ تطوّر في حياة البشرية، يمكن أن يكون سلاحا ذا حدّين بالنسبة إلى المستفيد أو إلى المتضرر منه. لم يكن الدين الصحيح في يوم من الأيّام مقبولا لدى المستفيدين من عدمه، ولا مرفوضا لدى المتضررين من علّته، وقد أثبت التاريخ واقعية:" كلّ حزب بما لديهم فرحون"[1]، هنا ترد فكرة الترشيد والتضليل، فالصحوة تعني الخروج من عالم لاوعيٍ كليّ إلى عالم وعي كليّ، إذ الإسلام كلّ لا يتجزأ، وكلية الإسلام أساسية البناء والتطبيق العملي معا، فهو عقيدة وشريعة، ودين ودولة، وهو اجتماعي، ثقافيّ، سياسي وعسكري.
فمسمى الدين يشمل كل هذه العناصر وغيرها، ويفقد الدين ديناميكيته، ويتغيّر وجهه بتخلف أيّ عنصر من العناصر التكوينية هذه، فهي بكليتها الدين، وبغياب أيّ جزء منه يمكن تسميته أيّ شيء ماعدا الدين الذي أتى به سيّد البشر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
لم يرد في أيّ حقبة من تاريخ الأمة الصحيح زمن اعتبر فيه أيّ من مكوّنات الدين هذه دينا لوحده، لم تكن أركان الإيمان والعناية بها هي كلية الدين، ولا أركان الإسلام لوحدها دينا. لم تكن كثرة الشباب وملؤهم لفراغ صفوف المساجد هو الدين كلّه، أو كانت إطالة اللّحية أو تقصير الثياب- بالرغم من سنيّتهما- هما الدين كلّه، ولم يكن حمل السلاح لقتال العدوّ يشمل الدين كلّه، ولم يصح تسميته دينا، خاصة إذا حمل لقتال المسلمين، ولم يكن الولاء والبراء بحدّ ذاته هو كليّة الدين.
أمّا اليوم فما من ُبعد من هذه الأبعاد إلاّ اتخذه قوم دينا، واعتبار غيره خارجا عن حظيرة الإسلام، وهم بتمسكهم بتلك المبادئ بقوة، يحسبون أنهم بهذا الصنع قد أعادوا المياه إلى مجاريها الطبيعية، وأنهم على درجة كبيرة من الصّحوة واليقظة وإعادة بناء الإسلام الصحيح من أساسه.
وفي هذه العجالة سنستعرض بعضا من أبعاد الصحوة الإسلامية وكيف هي سلاح ذو حدّين بحيث يمكن أن يستخدمها أعداء الدين والحريّة بالتضليل والهدم، ويستخدمها المؤمن بالبناء والترشيد. ولبلورة الموضوع أكثر، يحسن بنا قبل ذلك أن نناقش المفهوم الصحيح للصحوة الإسلامية من خلال مناقشة أبعادها.
الأبعاد الفكرية والتطبيقية للصحوة الإسلامية
وصل الأمر ببعض الكتاب والمفكرين إلى أن يعتبروا جهود الأفراد الإصلاحية، أو ما يُحدثه بعض الجماعات من تغيير منذ فجر التاريخ حتى اليوم صحوة، بل الأمر وصل بهم إلى تسمية ما تكون عليه الطائفة المنصورة الملازمة لكل زمان ومكان من هدي صحوةً، فهم بذلك يرون أن الصحوة يمكن أن تكون ظاهرة فردية أو تنظيما حزبيا أو جماعيا، وبهذا الكيف تفقد الصحوة حيويتها ومفهومها الصحيح.
نعم توجد تنبؤات تصف بعضا من قراءات الصحوة التي سنشير إلي بعضها على أنّها عودة إلى أصل متروك، أو يقظة بعد غفوة، أو إصلاح بعد فساد، أو بقاء الأصل وديمومته في مجموعة قليلة من الأمة، ولكن تلك الإشارات النبوية كلها- بالرغم من كونها محل أمل- لا ترقى إلى درجة وصفها صحوة بالمفهوم الشامل. ولنضع مثلا بعض تلك الأمثلة على الميزان، ونبدأ بـ:
البعد الأول: تفسير جهود الأفراد صحوة.
فحين توصف ظاهرة دينية بأنها صحوة، إنّما لأنها ظاهرة، ولا يطلق هذا الوصف إلاّ لأمر عمّ به البلوى وكان الشعور به جماعيّا، ثمّ يتعاظم شأنها كلما غطت مساحة جغرافية أوسع، وعليه فاعتبار جهود الأفراد صحوة تضييقٌ وحصرٌ مجحف للمفهوم الشامل للصحوة.
نعم، لسنا ننكر أنّ لجهود الأفراد أثرها في إيقاظ النائمين، وبالتالي في انطلاقة الصّحوة الصّحيحة، ولكن ليست هي الصّحوة التي نعنيها في هذه العجالة، فذكر الشيخ رشيد رضا في مجال الصحوة مثلا، لا يمكن أ ن يحتمل من المعنى أكثر من أنّه ساهم في إقامة مشروع علمي فكري استفادت أو يمكن أن تستفيد منه الصحوة الإسلامية، فكثرة تأثر أهل الصّحوة الصحيحة من مشروعه الفكري تُكسبه صفة قائد من قواد الصحوة، لا أن يوصف مجهوده الشخصي- مهما تعاظم أثره في مسير التغيير- صحوةً.
فكم من أفراد أو جماعات توقدت في نفوسهم نار التغيير والإصلاح بسبب خطب أو مواعيظ كان المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله يطلقها من على منابره، وكم من نائم أيقظه، ومن شيطان مارد كسّر شوكته وردّه إلى نصابه، وكم من أناس كان هذا الخطيب البليغ سببا في انخراطهم إلى سلك حراكات إسلامية تجديدية في العالم!؟ ومع ذلك فجهوده فرديّة، لا يصح أن توصف بالصحوة التي نعنيها.
هؤلاء وأمثالهم من الرموز الإصلاحيين كثيرون ولله الحمد، ولكن لا تنطبق عليهم إلاّ وصف " رموز إصلاحيون".
ونضيف إلى هؤلاء الرموز الإصلاحيين كلّ من يصحّ وصفهم روادا للصحوة الحالية، ذلك لوضوح تأثيرهم المباشر في نشوب ثورات إسلامية وحركات إصلاحية جماهيرية كانت من نتائجها هذه الصحوة التي نناقش أبعادها اليوم، ومن هؤلاء:
لسادة جمال الدين الأسد آبادي، وإقبال لا هوري، ومحمد عبده، وحسن البناء، وعبد القادر الجزائري، ومحمد السنوسي، وسعيد النورسي، وآية الله الكاشاني، والإمام موسى الصدر، ومحمد باقر الصدر، والإمام الخميني قدّس يره، وعزالدين القسام، والسيّد إسماعيل البلخي، ونواب الصفوي، وآية الله الخامنئي وغيرهم.
هؤلاء السادة يمكن إطلاق صفة القيادة لهم، بحركاتهم الإصلاحية، وثوراتهم الإسلامية، وتأثيرهم في نفوس السواد الأعظم من أفراد وجماعات هذه الأمة، ولكن لا يكفي أن توصف جهودهم بالصحوة التي نتحدث عنها اليوم، لأن ذلك حصر للصحوة الإسلامية في فرد أو جماعة أو حزب أو مذهب أو منطقة، ولكن يصح فيهم وفي أمثالهم وصف "صناع الصحوة الإسلامية"، علما بأنّ هذا الوصف لا تنطبق على الأفراد فقط بل يسري إلى بعض الجماعات وإلى نظم سياسية في العالم.
البعد الثاني: تفسير تنبؤات النبيّ صلى الله عليه وسلم صحوة.
أُثِرت من أقوال النبوة ما يدل على طبيعيّة الصحوة الإسلامية، وذلك في أكثر من موضع:
الموضع الأول:
ما أورده أبو داود وغيره أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: " إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". [2]لقد أكّد علماء التاريخ الإسلامي وقوع هذا التنبؤ النبوي، ولكن ما مفهوم هذا التجديد؟ هل هو تجديد جزئي أم كليّ؟.
الكلّ يوافق أن المفهوم الشامل للدين لم يتكرر بعد العهد النبوي وجزءا يسيرا من عهد خلفائه، وبعدئذ أصيب الدين بنكبة التجزئة وفصله عن الدولة، ولم يشهد التاريخ الإسلامي تكرارا لمثل ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
لسنا ننكر ما سجّلته حروب الردة من تصحيح- وإن كان البعض يطلق عليه تجديدا- وردّ قبائل العرب المرتدة بُعيد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم إلى نصابها، نعم هو تصحيح ولكنه لم يأت على رأس مائة سنة، ولم يكن التصحيح نتيجة صحوة بالمفهوم الذي نعنيه، وإن كان وصف عمل المرتدين بغفوة أو نومة صحيحا، وإنّما الحاصل هو انفلاتٌ نظاميّ واضطرابٌ عقديّ ظهرت في سلوك المنافقين وفي نفوس ضعاف المسلمين، أو أنه شبهة في تفسير المواقف، فهم مجموعة من أعراب قالت من قبل: آمنّا، فردّ عليهم القرآن بقوله: " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم"[3] لم يكن الإيمان متمكنا من نفوسهم فانحرفوا وبدّلوا، فقام فريق من المسلمين الذين تمكن الإيمان من نفوسهم بإجبارهم على الرجوع إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فتلك هي حروب الرّدة، وهذا العمل لا يصح وصفه صحوة.
وبعض علماء التاريخ الإسلامي يرون في تولّي عمر بن عبد العزيز بن مروان خلافة الأمويين سنة 99 هجرية بعد وفاة سليمان بن عبد الملك الخليفة السابع من خلفاء بني أمية تفسيرا مباشرا لما تنبأ به المصطفى في رواية أبي داود المذكورة آنفا، وذلك بالنظر إلى الاختلاف الشديد بينه وبين بقية حكام بني أمية من حيث العدالة والاستقامة في الحكم، ومع ذلك فلم تكن إدارته تكرارا لما كان عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وعليه فأقلّ ما أكّد أن هنالك فروقا واضحة نحو الأفضل بين إدارات ملوك بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز وإدارة عمر، وذلك مقبول ولكن لا يصح وصفه صحوة.
الموضع الثاني:
قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم:" لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" [4] وجاء في رواية أخرى:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مـن خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة".
أورد الحافظ بن كثير هذين الخبرين في تفسيره لقوله تعالى: " وممن خلقنا أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون" [5] ثمّ ذكـر أنهما بيان لمعنى الآية، ولكن الخبرين كثيرا ما يردان في كتابات بعض المفكرين الإسلاميين، ويستدلون بهما على صحوة تنبّأ بها المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكنّ استدلالهم هذا ينتفي تماما لأمرين:
الأمر الأول: أنّ ديمومة طائفة قليلة من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الحق وعلى الدين الذي أتى به، لم تكن تصح أن توصف بالصحوة، إذ الصحوة تأتي بعد غفوة، إلاّ إذا أتي بهذا التفسير مقابلة بديمومة السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم على الغفوة، وإلاّ كان تفسيرا خاطئا.
الأمر الثاني: أنّ الحافظ بن كثير، قبل إيراده للخبرين قال: عن سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغنا أنّ نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها: "ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون"[6]
ثم أورد ابن كثيرا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: " إنّ من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل". وعليه فالتفسير المعتمد عندي هو:
لا تزال طائفة من أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم- مهما بعد الناس عن أصل الدين- باقية على أصل الدين إلى أن تقوم الساعة.
ويعني ذلك أنّ المعنيّ بخطاب الآية بالدرجة الأولى هي أمة محمد بكاملها أو على الأقل مجموعة منها، وأيّ من الاحتمالين لا يفي بالغرض المطلوب، فلا يصح تفسيره صحوة، إذ الصحوة التي نحن بصدد البحث عن حقيقتها أكبر وأوسع مما تعنيه تلك النصوص.
البعد الثالث: القراءة الجزئية لحركة الصحوة الإسلامية
إنّ القراءات المتباينة لحقيقة الصحوة الإسلامية تشكل أكبر إشكالات العصر، فالأمّة في هذا العصر تعاني أكثر من أيّ وقت مضى من اختلاف كبير على أغلب الصعد، وخاصة على الصعيد الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والعسكري والتحالفات الأمنية. فتفسير الصحوة إذن مثله مثل تفسير القرآن الكريم أو تفسير أيّ موضوع آخر، فقد يتأثر كلّ تفسير بميول المفسر وتخصصاته العلمية أو السلوكية، وكذلك الصحوة، فما يراه بعض المجتمعات صحوة قد يراه البعض الآخر غفوة، وما يراه بعض النظم السياسية والتحالفات العسكرية قد يراه البعض الآخر تطرّفا أو إرهابا، وما يراه بعض العلماء صحوة فقد يعتبره البعض الآخر جهلا وهلمّ جرّا. وعليه فالقراءة الجزئية للصحوة جعلت مفهوم الصحوة أكثر تعقيدا، ولنا في ذلك أمثلة:
المثال الأول: ظاهرة التديّن المبكر في كثير من مناطق العالم.
لا أظن أنّ أحدا ينكر إيجابية هذه الظاهرة، فأغلب من يملؤون الصفوف في مساجدنا اليوم شباب، وأما حجاب الشابات فحدّث ولا حرج، فمظهر الشباب والشابات أميل في هذا الوقت إلى المظهر الإسلامي أكثر من ذي قبل- وإن كان النقص جليّا في الشكل المطلوب لكل مظهر-، وهذا المظهر كثيرا ما يكون مصحوبا بحماس زائد أو بتطرف في غالب الأحيان، فقد لا يعتبر مُطلق لحيته أو مقّصر ثوبه من الشباب إسلامَ مخالفه، وقد يحكم عليه بالابتداع، ومثله المتنقّبة من الشابات، فقد ترى في شقيقتها الغير المتنقّبة- وإن كانت متحجبة- نقصا كبيرا في دينها بل قد تحكم عليها هي أيضا بالابتداع، وكلاهما يرى في سلوكه كمالا، وفي إسلامه شمولا، ويرى الدين كلّه- وإن كان فعلا مهمّا ومطلوبا- في التواجد في المساجد، وفي إعفاء اللّحية، وقصر الثوب، تاركا المجال الجهادي ومقاومة الأعداء وجميع مجالات الحياة، وخاصة السياسية منها خارجة عن نطاق الدّين، ففلسفتهم تعتمد على أساس تفريق الدين عن الدولة، وهذا الفكر يجعل الدين محصورا في مجال ضيّق جدا، ويجعل الدّين عاجزا عن حلّ مشاكل المجتمع. وأمثال هؤلاء لا يرون في موالاة أعداء الدين بأسا، ولا في معادات المسلمين عيبا، بل قد يراه البعض واجبا دينيّا وتجوز قتالهم باسم الجهاد في سبيل الله.
وهذه الظاهرة غطت جزءا كبيرا من عالمنا اليوم، وهي من أكثر ما يتبادر إلى الذهن حين تطلق كلمة " الصحوة الإسلامية"، وبها يضرب أغلب الناس في منطقتنا مثلا بانفلاق فجر جديد للإسلام، وصحوة عارمة، وتجديد شامل، عن حالة الرّكود والغفلة التي أصابت الأمة، وعاشت عليها منذ قرون.
المثال الثاني: ظاهرة الحركات الجهادية (التدين المطور)
ففي قراءة بعض المفكرين والكُتّاب لنشوء الصحوة الإسلامية وتطوّرها تعتبر فقرة(أ) منشأ ومنطلقا لما يحدث اليوم من صحوة، وبذلك تكون فقرة (ب) هي المرحلة الثانية لتدرج حركة الصحوة الإسلامية في هذا العصر.
لقد تنامت فكرة التغيير في نفوس بعض الشباب، وتولّد من تلك الفكرة حماس زائد خلق في مخيلتهم لزوم التّحرك السريع والتغيير الجذري لما كانت عليه حالة الأمة من ضعف وتبعيّة.
فظاهرة الحركات الجهادية إذًن نتاج لظاهرة التديّن المبكر، فهذا الفريق من المتحمسين المندفعين شكّلوا حركات جهاديّة، وتبنّوا فكرة دولة تكون السّيادة فيها للإسلام، وأغلب هؤلاء القوم ينتمون إلى حركات "السلفية الجهادية"، ولكن السؤال هنا يكمن في مفهوم ما يسمونها " دولة إسلامية" ومن هم " المسلمون"، وهل قراءتهم للصحوة شاملة أم جزئية؟
كلّ هذه التساؤلات واردة عليهم، تحيط بجهادهم إشكالات تنبع من تطبيقاتهم لنظرية الجهاد وآلياتهم في المجال العملي.
فنتائج الاستقراء توحي بأنّ قراءة بعض الحركات الجهادية لمفهوم " الدولة الإسلامية" لم تكن شاملة، فالأمة لم تجن حتى الآن أيّ ثمار من جهود الثوار الإسلاميين الذين قاتلوا في الصّومال من أجل إقامة دولة إسلامية. تشكلت في الصّومال حكومات إسلامية متعاقبة لم نلمس من آثارها حتى الآن إلاّ دمارا شاملاً وهدما للبنية التحتية لتلك الدولة المسكينة، فهي ضحيّة شعارات دُنّس الإسلام بها، وهو بها بريء.
ودولة الصومال خير مثال لظاهرة التدين المطوّر، فالجهاد الإسلامي عند الثوار الصوماليين تعني بكل بساطة الانتماء إلى حركات أو أحزاب تجعل الإسلام شعارا لها، أو حمل السلاح ضد المخالف في الرأي، فهذا هو الجهاد عندهم، وعلى هذا المفهوم أرادوا أن يقيموا ما يسمونها دولة إسلامية، وكلاهما حصر للإسلام كلّه. وحصر الإسلام كلِّه في هذا النطاق الضيق يعتبر تعدّيا على الإسلام وظلما له.
والحركة الجهادية في الصومال بل وغيرها من الحركات المشابهة لها والتي تتبع الجماعات السلفية والوهابية غالبا، لا تعطي لقضية الولاء والبراء أي اهتمام، فهي قاعدة أساسها عندهم الانتماء الحزبي، وليس لمثل هذه المبادئ الإسلامية وتعاليمه محل في نظرية أفكارهم الجهادية.
وما حدث في الصومال يمكن أن يعطى في لغة العصر لقب" العنف السياسي" أو" الصراع على السلطة" لا أقلّ ولا أكثر، والعنف السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر لا ينبغي أن يكون ضروريّا إلاّ في حال الدفاع، ومع الأعداء، وكلتا الحالتين منتفية تماما في مسألة الصومال، فلم يكن قتالهم دفاعا، ولم يكن ضد عدوّ، إذا وضعنا مفهوم العداوة في الميزان الشرعي، وإنّما كان القتال بين جنديين يشهدان أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله، وكلاهما يهدف إلى إقامة ما يسميه دولة إسلامية على أنقاض الآخر، فيطلق المقاتل رشاشته وهو مكبّر الله تعالى، وتضرب الرشاشة صدر هدفه وهو يهلل ويكبّر نفس الإله تعالى!.
فكيف تتأسس دولة تحمل وصف " الإسلام" على هذه الدماء!؟ أساس هشّ، والأمور بمقاصدها، ومن هم المسلمون عند هؤلاء؟ أهم الذين شهدوا لله بالوحدانية، وبرسالة نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ أم هم الذين يتقاسمونهم رأيا فرعيا، فقهيا، ورغبة أكيدة في السلطة التي لا تتحقق إلاّ بسفك دماء من شهدوا لله ربّا، عدوانا وظلما!؟. وأين عملهم هذا ومن يصفه بصحوة إسلامية!؟ فما معنى الصحوة إذن ؟
لست أشارك الرأي ذلك الذي يصف هذا العمل بأنه نتاج صحوة إسلامية، وإلاّ فالصحوة صفة ممقوتة تؤدي في النهاية إلى هدم البنية التحتية لمشروع وحدة الأمة وقوتها.
المثال الثالث: حركة بوكو حرام Boko Haram
ما يحدث في شمال نيجيريا من فوضى عارمة، وانفلات أمني، وقتل ودمار شامل، مـــن
قبل جماعة بوكو حرام Boko Haram الذين ينتسبون إلى هذا الدين الحنيف أخشى أن تنسب إلى الصحوة الإسلامية، حاشا وكلا، فالإسلام من عملهم هذا بريء براءة الذئب من دم يعقوب، فأقرب وصف يمكن أن يوصف عملهم هذا هو التطرف والإرهاب الديني، وتنفير غير المسلمين، وبث الكراهية، فمنهجهم يخالف منهج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الدعوة إلى الله تعالى.
المثال الرابع: قضية مالي وفكر"التدين المطور"
فالأمة بحاجة إلى الوحدة أكثر من حاجتها إلى إقامة دولة جديدة مالم تكن على أنقاض دولة كافرة، وبحاجة إلى تغيير المنكر بأساليب الهدوء والحكمة أشدّ من ميلها إلى العنف السياسي والطائفي وسفك الدماء.
فالإسلام دين رحمة، وحكمة، ونظام، بنى أول دولته على أنقاض دولة كافرة، ولكن الدولة الإسلامية المزمع بناؤها في مالي كسابقتها في الصومال، قد لا تعترف بالتعدد المذهبي والفكري، بل حتى التعدد في الرأي قد لا يكون مقبولا لدى مقاتليهم، وسيكون مصيرهم مصير الفرقاء من الصوماليين المتناحرين، فهم جميعا ينتمون إلى مذهب واحد ومع ذلك افترقوا وتقاتلوا بسبب آراء فرعية.
فالمساحة المراد إحتلالها، واتخذها حركة أنصار الدين وغيرها مقرا لدولتها المزمع إقامتها بالقوة والبلبلة وسفك الدماء، تابعة لدولة مسلمة، ومنهجهم في إقامة تلك الدولة يعتمد على العنف السياسي والقسوة في المعاملات، والمتضررة من هذا العنف هي دولة مالي المسلمة التي يشهد لها العالم بعراقة الإسلام ورسوخه فيها. ألم يكن من الحكمة استخدام سياسة هادئة وبثّ روح الأخوة الدينيّة بشكلها الأصيل لتسود المحبّة والإخاء، وبالتالي يمكن تصحيح بعض الأخطاء الإدارية أو السلوكيّة لدى بعض المسلمين، تماما مثل ما فعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم حين أراد إقامة أولى دولة إسلامية بالمدينة المنورة. فجمهورية مالي دولة مسلمة ذات سيادة، وعليه فلا الإسلام، ولا النظام العالمي الجديد يتصور إقامة دولة في دولة، فالصّحيح هو محاولة تغيير المجتمع وتجديد سلوكياته بأساليب سلميّة وسياسة هادئة تتبعها ثورة جماهيريّة سلميّة تنطلق من عمق إرادة الشعب وتسترشد بالروية والتخطيط والحكمة في التصرف ووضوح الهدف وشرف الغاية، فيشمل التغيير والتجديد جميع الصعد الدينية والحياتية، فتقام الدولة على أساس الدين والحياة بشموليتهما وبأسلوب الديموقرطية الدينية.
فما تشهده منطقتنا اليوم من أعلى درجة العنف السياسي والطائفي والفتنة، لم يكن يبرره إلاّ الدفاع عن النفس والدين، وما كان ينبغي أن يكون السّلفيون الجهاديون في موقف الهجوم في هذه القضية، فسكان المنطقة مسلمون أصلا، وكان تصحيح السلوك وإصلاح الأخلاق من غير إزهاق الأرواح في هذه الحالة أسهل وأرخص وأكثر أجرا من أسلوب العنف الذي انتهجوه.
هنا يطرح السؤال نفسه عن طبيعة الدولة التي تريد جماعة أنصار الدين ومن معهم أن يؤسسوها في المنطقة؟ فإذا كان الجواب أنها دولة إسلامية بمفهومها الصحيح، قلنا: لم تظهر بعد بادرةٌ تطيب بها خواطر الأمة على إقامة مثل تلك الدولة، ولم تقم بعد عوامل نجاحها. وأمّا إذا كان الجواب أنها دولة مسلمة، كان عملهم هذا جهدا مكررا، وحينئذ لا جديد في الأمر إلاّ محاولة إشباع طباعهم العنفي.
إن تصرفات بعض الجماعات باسم الإسلام تُدنس عرض الدين، وتنشىء في نفوس الناس الكراهية. نعم إنّ كثيرا من التّهم الموجهة إلى الإسلام من قبل الأعداء، لا يمكن قبولها جذافا، ولكن في الوقت نفسه، لا يستقيم الدين ما لم ينقده أهله أو يقبلوا الانتقاد البناّء من قبل الأعداء.
فالملاحظ من كثير من الجماعات الإسلامية، والمنسوبة إلى حركات الصحوة في منطقتنا، وخاصة السّلفية منها، أنها تعادي السكان المسلمين الذين مارسوا هذا الدين منذ دخوله المنطقة، وبنوا مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، وشيّدوا زواياها وجوامعها، وأقاموا منارات الحق تنطلق منها كلّ ساعة كلمة لا إله إلاّ الله، تعاديهم لأتفه الأسباب، خلافات حول آراء فقهية فرعية أو حتى أصولية، فهذه الجماعات لا تترك أي مجال للحوار مع المسلمين، في وقت لا ترى بأسا في مصادقة أتباع ملل أخرى أو محاورتهم أو التعايش معها سلما!.
وياليت الخلاف المسبب للتناحر فيما بينهم وقع بين أتباع مذهبين مختلفين مثل السنة والشيعة على الأقل- وإن كان ذلك ذاته تهورا في التصرف- ولكن الخلاف يقع بين أتباع مدرسة واحدة، تفككت إلى حركات وجماعات متطرفة، متناحرة، وكلها تحمل شعارات ومبادئ فكرية، تجعل الدين كلّه في الرأي الذي تتبناه تلك الجماعة، وتعتبر المخالف عدوا لدودا يجب قتاله.
وقد يكون الخلاف حول القبض والسدل، أو حول طول الثوب وقصره، أو حول إعفاء اللّحية وقصرها، أو حول حكم بناء القبور وعدمه، أو إقامة مولد الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، أو الصلاة علي النبيّ وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين.
نعم لم أكن لأنكر أهمية قد تكمن في تحديد درجات الأمر والنهي، وترتيب الأولويات، ومعرفة الصوارف، فلا أحد ينكر سنيّة إعفاء اللّحية مثلا، ولكن في الوقت نفسه لا أحد يجيز قتال مقصّرها، ومثله الثوب القصير....و،و،و.
وأغلب الجماعات الإسلامية وخاصة " السّلفية الجهادية" تتخذ من هذه المسائل ميزانا لتصنيف المسلمين وإخراج المخالف من حظيرة الإسلام. وأصحاب هذا الاتجاه، وإن كانت دولتهم المعلنة إسلامية الصفة، إلاّ أن قراءتهم للإسلام كانت جزئية، ينقصهم الفقه حيث حصروا الإسلام كلّه في دائرة الأخلاقيات والتشريعات الفردية. والإسلام حين يتحدث عن دولة إنّما يقصد مفهومها الشامل، وهو ما نفتقده في قراءة هذا الفريق.
المثال الخامس: الربيع العربي أو " الصحوة الإسلامية"
الثورات المتتالية في العالم العربي، والتي اكتسبت لقب "الربيع العربي"، من أكثر القضايا تعقيدا، من حيث تحديد هويتها.
لقد ذاق أغلب الشعوب العربية مرارة الجور في الحكم والاستبداد، وأحادية السلطة، والتجهيل، والتبعية المطلقة للعالم الغربي قبل هذه الثورات عقودا من الزمن، نضجت فكرة التغيير لتلك الحكومات الجائرة قبل حلول ما يسمى بالربيع العربي، وكان من بين المجالات التي تعتبر تلك الدول متخلفة فيها، المجال الديني، فعلمانية بعض حكام تلك الدول دفعتهم إلى تضييق الخناق على المسلمين، فمنعوهم من ممارسة حقوقهم الدينية، وأباحوا جميع المحرمات كالخمر وبيوت الدعارة وغيرهما من المحرمات.
هذا التوجه المشين للحكام ولّد في الساحة العربية ردّة فعل مضاد على الصعيد السلوكي والفكري لشعوب تلك الدول، وجدوا أنفسهم شعوبا بلا هويّة، لا هم غربيون كفار، ولا هم مسلمون حقا، وفي خضم هذا التفكير والتحسّر الأليم تفجرت الثورة وانطلقت شرارتها الأولى من تونس ثم تلتها تلك التي في مصر وليبيا وغيرهما. هوية هذه الثورات وعلاقتها بالصحوة الإسلامية تحتاج إلى دراسة وتأمل.
نعم يمكن إعطاؤها صفة الصحوة، ولكن السؤال يكمن في نسبة تلك الصحوة ذاتها، هل إلى الإسلام أم إلى غيره؟!.
فلننظر جميعا إلى أولى شعلة أشعلت نار ما يسمى اليوم بالربيع العربي، فهي كانت نتيجة تظلّم من عامل فقير في تونس، حُرم هذا العامل من حقه في كسب رزق حلال له ظلما وعدوانا، فكانت ردّة فعله المتمثل في إشعال النار على نفسه، تعبيرا عمليا وإظهارا للشعور بالظلم من قبل الحاكم، حينها بدأت أصوات الاحتجاج ترتفع هنا وهناك، وانقلب الاحتجاج إلى أعمال شغب انطلقت الثورة إثرها، فنجاح هذه الثورة جعل ما كان مستحيلا في نظر الشعوب العربية ممكنا، فتشجّع الشباب في بقية الدول العربية، ونشأت في نفوس شعوبها جرأة على حكامها، فقاموا بمثل ما قام به التونسيون. وعليه فلو أنّنا اليوم أردنا أن نأصّل ولادة الربيع العربي لأمكن القول بأنه اقتصادي.
وبما أنّ شعوب تلك الدول كانوا يعانون من تخلف في كثير من المجالات، وخاصة في المجال الديني والحياتي والسياسي والاقتصادي، أصبح كلّ أصحاب مجال يسعون إلى إشباع رغباتهم من خلال هذا التغيير، ومن بين أولائك من اكتووا بنار التهميش الديني، فهؤلاء هم الذين يُروّجون فكرة إقامة دولة إسلامية ذات قاعدة عريضة.
وإذا صحّ وصف الربيع العربي بصحوة، فمن هذا الباب، وإلاّ، فما يحدث في العالم العربي أقرب إلى صحوة سياسية أو حريّة منهما إلى صحوة إسلامية بمفهومها الشامل، وإن كان الحق لا يتلوّن.
فمنذ أن أسست ثورات الربيع العربي دولا جديدة بقيت الأمة تنتظر حظ الإسلام منها، ولكن أرفع صوت نسمعه ينطلق من حكام تلك الدول حتى الآن هو صوت ما يسمى بـ "الديمقراطية"، وياليتها كانت ديمقراطيتهم دينية.
وخلاصة القول في الربيع العربي، هي أنه خلق فعلا أرضا خصبة لتحقيق رغبات: دينية كانت أو سياسية، أو علمانية أو غيرها. وهنا تنطبق فكرة الترشيد والتضليل، فالدول والحركات الراعية للصحوات الإسلامية الصحيحة، بل وحتى الأفراد يتبادرون إلى ترشيدها وتوجيهها الوجهة التي تخدم الدين والدنيا معا، وذلك برفع مستواها من الشكليات والمظاهر القلابة إلى الجواهر والعمل والتخطيط، فتلهمها حقيقة الدين وأنّها عقيدة وعبادة وسياسة واقتصادية وثقافية وأمنية، وتحاول إزالة كلّ عقبة قد تحول دون تحقيق هذا الهدف النبيل، فتشجع تآلف القلوب والتضامن وتضافر الجهود بدلا من التشاحن والعدوات، وترفعها إلى العقلانية بدلا من العاطفية، وتبني الأخوة الدينية على أركان الإيمان والإسلام، وتشجع الحوار المذهبي والتسامح الديني.
وفي الوقت نفسه، يقوم أعداء الدين والصحوة الصحيحة إلى توظيفها لتحقيق أغراضهم الشيطانية وطموحاتهم الاستعمارية، وهذا الفريق يقوم بتبديل شعارات الصحوة من الإسلامية إلى شعارات ديمقراطية وعلمانية، ويبث روح العاطفيّة والقبلية والعشائرية والمذهبية والغلو والانحلال الخلقي والمظاهر والشكليات وغير ذلك من إستراتيجيتهم التضليلية لسرقة الصحوة وانتزاعها من أيدي أصحابها.
ولنا مثل بما يحدث في مصر الآن، أصبحت قضية مصر معقدة بعد أن حققت الثورة ما كان يعتقد أنّها أكبر تحد في تاريخها، ولما كانت الصبغة الغالبة للصحوة في مصر إسلامية، قام عملاء عالم الاستكبار والصهيونية العالمية وأذيالهما بزرع قنابل مدمرة لجميع ما حققته الثورة، بالرغم من ديمقراطية أسلوب الانتخابات والحكم، فيتستر أعداء الحرية والدين بذرائع واهية لتقويض جهود جبارة حققتها شباب الثورة.
البعد الرابع: القراءة الشمولية للصحوة الإسلامية.
سبق أن قلت: إن الإسلام كلّ لا يتجزأ، وأنّ كلية الإسلام أساسية البناء والتطبيق العملي معا، فهو عقيدة وشريعة، ودين ودولة، وهو اجتماعي، ثقافيّ، أخلاقي، سياسي وعسكري. فمسمى الدين يشمل كل ذلك، وبالإيجاز، فالإسلام دين وحياة، أو بعبارة أخرى" منهج حياة متكامل" والحياة هنا تعني جميع حركات المخلوق وسكناته، ولا يمكن استثناء شيء منها" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره"[7] فخيريّة العمل وشرّيته يعرفهما الشرع، والله تعالى هو المشرّع، ونفهم من ذلك أن حياة المسلم كلها دين، وأنّ الدين كله حياة المسلم.
ولنا مثل بحياة سيّد الخلق محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسيرته المطهّرة، فإنّهما يترجمان لنا حقيقة الدين المتكامل، فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دينا ودولة، كان مفتيا وقاضيا، وكان إماما وقائد جيش، وزوجا وأبا في آن واحد. وحياة أصحابه الكرام رضي الله عنهم وحياة آل بيته الطيبين الطاهرين مملوءة بالأمثلة، فلم يكن جانبا من جوانب الدين أو الحياة يقل شأنا في ما وضع له من الجانب الآخر.
فالفرق إذن واضح وجاـيّ، فرق بين من حصر الدين كلّه في لبّ العبادات تارة والأخلاقيات والتشريعات الفردية تارة أخرى، وبين من حصره في جهاد مسلّح وإقامة دولة إسلامية تقوم على بث روح الخلاف المذهبي وتبديع المسلمين أو تكفيرهم، وبينهما
وبين من يفهم شمولية الدين ويهدف إلى إقامة دولة إسلامية ذات سيادة واستقلال سياسي واقتصادي وأمني تجعل الحاكمية كلّها لله تعالى وحده، وتهدف إلى توحيد صفوف المؤمنين، وتسعى إلى تحقيق قواعد التسامح الديني والحوار المذهبي، بين هذين المثلين بون شاسع، دولة تعتبر المسلمين جميعا إخوة، ولا ترى العزة ولا الكرامة جميعا إلاّ لله تعالى، دولة توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عاداهما، تحقيقا لقوله تعالى:" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله"[8] دولة تستمدّ قوتها وهيبتها من قوله تعالى:" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون"[9]، ومن قوله تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين[10]، ودولة تتحصن من قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"[11] ودولة تعتبر الصهيونية العالمية ومن يواليها عدو الإسلام والمسلمين.
إنّ البعد الشمولي للصحوة الإسلامية لا يمكن فهمه في غياب قراءة متأنية لقواعد الدولة الإيرانية الجديدة، فالصحوات الإسلامية كثيرة ومتعددة الأبعاد- ولله الحمد والمنّة في كلّها مادامت النيّة صالحة- ولكن الصحوة الإسلامية التي أنتجت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقيادة روح الله الموسوي الإمام الخميني "قدس سره"، لم تنتج صحوة مثلها بعد، كانت حركة الثورة الإسلامية حركة تجديد وإصلاح، وتغيير جذري على جميع الأصعدة، فقد مهّدت صراعها السياسي لإقامة دولة إسلامية متكاملة بإصلاح النفوس أولا ثمّ بغرس مفهوم الحاكمية، وأنّها لله تعالى وحده.
كانت النفوس قبل السعي إلى إقامة دولة إسلامية ذات سيادة مهيّأة تماما، وتفهم أنّ الدين لا يمكن حصره في دائرة العباديات، بعيدا عن الحياة العامة، وأنّ الإسلام لا يستقيم أمره في غياب دولة تحتضنه، وأنّ الدولة لا تكتسب صفة الإسلام ما لم تكن العباديات تمارس بالشكل الذي رسمه لنا الشارع تعالى.
فهم سماحة آية الله الخميني مفجّر الثورة الإسلامية حقيقة "الحاكمية"، وفهم أيضا أن حاكمية الله تعالى لا تتم في ظلّ دولة أو مجتمع يخضع لسيطرة ولجبروت من حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم، و لا تركع لتهديدات الصهيونية العالمية ولا لعالم الاستكبار أذيال الصهاينة البغيضة.
فهم السيّد روح الله الموسوي "قدس سره" شمولية الدين ومطابقته لمفهوم قوله تعالى" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" أي ما من عمل يقدم عليه المسلم في أي مجال كان، و مهما كان حجمه إلاّ كان لله فيه شأن، وأنّ مجمل الأعمال كلها هيّ الدين كلّه، وأنّ إسلام المرء لا يكمل في غياب العبادات، كما لا يتم في غياب الحياة السياسية والاستعداد العسكري أيضا، أي لا يكون المرء مسلما في العبادات وكافرا في غيرها، والعكس غير صحيح، فالإسلام كلّ لا يتجزأ، قال تعالى:" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" [12]
بهذا المفهوم الشامل صنع مؤسس الجمهورية الإسلامية ومفجر ثورتها الصحوة الإسلامية في إيران، فتأسست دولتها على قاعدة " الإسلام دين ودولة"، فما ينقص من الصحوات الأخرى أكملته هذه الصحوة، بل ما نشاهده من ثورات في عالمنا اليوم- وإن لم ترق بعدُ إلى المستوى المطلوب- يمكن اعتبارها راسبا من رواسب الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، لم ينجح الثوار المسلمون قبل الثورة الإسلامية في إيران في إقامة دولة إسلامية شاملة كما هي الحال في الجمهورية الإيرانية.
نعم ليست صفة "الإسلامية" محتكرة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فقد سبقتها دول تنتسب إليها، وتعنى بالإسلام وقضاياه، ولكن بجزئية لم يظهر قصورها إلاّ بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فقاعدة الولاء والبراء من القواعد الثابتة لهذا الدين، والاستقلال السياسي والأمني والعسكري من أهم أركان الدولة الإسلامية ذات السيادة، وأعلى سلطة في الدولة الإسلامية هو الإمام القائد، وهذه القواعد والأسس والمبادئ كلها مفقودة في جميع الدول التي قامت من قبل وتنتسب إلى الإسلام ماعدا إيران.
إن انهيار الإمبراطور الفارسي الذي يرجع تاريخه إلى مئات السنين، وإقامة دولة إسلامية مستقلة استقلالا شبه تام على أنقاضها، يعتبر من أكبر الإنجازات التاريخية للصحوة الإسلامية، وهذا الإنجاز هو الذي شجّع جميع الحركات التحررية في الساحة، وخلق في نفوس أصحابها ثقة بأنّ تغيير الأنظمة الفاسدة والموالية للكفار وأعداء الدين من الصهاينة والاستكبار العالمي لم يعد مستحيلا كما كانوا يعتقدون.
لم يكن المرء يتصور إمكانية إسقاط دولة كانت مرتعا لمخططي السياسات العالمية واقتصادياتها وقواتها العسكرية وغيرها من مقومات الدول والشعوب، إلاّ أنّ الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني "قدس سره"حققت ما عجز عن تحقيقه دول وقوات قبلها، أسقطت ثورة الإمام بعون الله تعالى وقوته ملك الشاه وسقطت معه إمبراطوريته إلى الأبد.
الخاتمة
إنّ هذه الشهرة الكبيرة التي حظيت بها الصّحوة الإسلامية اليوم لم تنلها قبل انفجار ثورة الربيع العربي، ولكن ثورة الربيع العربي أيضا لم تكن لتنفجر لو لم تسبقها جهود مضنية بذلها أفراد وجماعات ومؤسسات ودول، فهؤلاء هم صنّاع الصّحوة الإسلامية التي نحن بصدد جني ثمارها.
لقد تأسست في الشرق الأوسط حكومات جديدة أعطت لشعوبها حرية الاختيار والتدين، وتحالف متكافئ مع من شاءوا من شعوب وحكومات أخرى بجهود الثورات، وبدأ الزعيم المسلم يرى لنفسه ولدينه ودولته قيمة أمام نظرائه من غير المسلمين، وبدأت عزة الإسلام وكرامته تظهران جليّا حين تمتلك دولة إسلامية تقنية نوويّة، وبدأ الاستقلال السياسي يلوح في الأفق حين يفتح معبر رفح ويزور زعماء مسلمون غزة، وبدأت قوة الإسلام ومنعته تظهران حين تتراجع الصهاينة قهقرى في حربها على دولة إسلامية وهي خاسرة طريدة وذليلة. حينها تكون شمولية الصحوة الإسلامية تطبيقا عمليا بعيدا عن نظريات وأمنيات عاشت عليها الأمة دهورا طويلة.
التوصيات
إن عوامل الديمونة مبنية على أسس الإنشاء والبناء. قامت الصحوة الإسلامية على أكتاف أفراد من الدعاة، وجماعات ومؤسسات ودول، وعلى نفس الأكتاف تحمّل مسؤولية ديمومتها، وعليه فإن الصحوة تبقى وتدوم إسلامية بترشيدها وتوجيهها وجهة تخدم مصالح الأمة، وهذا الهدف لا يتحقق إلاّ عند توفر الأمور الآتية:
1. إستمرار العناصرالجيدة من الدعاة في نشاطاتها التوعية، وخلق الشعور لعزة الإسلام وعظمته في نفوس النشء.
2. اصطياد تلك العناصر الجيدة واستقطابهم من قبل مؤسسات توجيهية ودعمهم ماديا ومعنويا تمكنهم من مواصلة المسيرة.
3. وعلى المؤسسات الإسلامية خلق برامج ثقافية واجتماعية مثل: مخيّمات الشباب والشابات، ومؤتمرات كهذا لضمان ديمومة الصحوة الإسلامية الشاملة.
4. وعلى الحكومات الإسلامية الحرّة مساندة حركات الحريّة والعدالة وتوجيهها توجيها يخدم مصالح الصحوة ويعين على بقائها وديمومتها.
5. خلق أو إنشاء مزيد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في مختلف بقاع المعمورة، واختيار برامج تخلق أو تُشجع روح الثورة الإسلامية في نفوس النشء.
6. محاربة التطرف الديني والتعصب المذهبي، بصفتهما من أكبر عوامل التدمير لكل ما بنته أو ستبنيه الصحوة الإسلامية في المستقبل.
7. عقد دورات تدريبية لتوعية الشباب عن خطر الصهاينة ومخططات أعوانها من دول عالم الاستكبار، وتعليمهم فلسفة الرفض والعزّة والاعتماد على النفس.
8. توفير دعم لازم: مادي، معنوي، إعلامي، ومخابراتي مستمر للحركات التحررية في العالم أجمع وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة.
9. دعم الحكومات والحركات الصاحية أصلا والمدافعة عن عزة شعوبهم الإسلامية وكرامتهم، والواقفة أمام المدّ الصهيوني الغاصب، والسيطرة الأجنبية، مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس والجهاد في غزة بفلسطين.
وأخيرا أحيّي بجهود جميع الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات التي سعت ومازالت تسعى لتحرير المسلمين من قبضة أعدائهم أعداء الدين عامة والحرية والعدالة خاصة، وأخص الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمواقفها المساندة لجميع حركات التحرر ذوات الاتجاه الإسلامي.
وأخيرا أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يكلل جهود المقاومة الفلسطينية في تحرير أرضها المقدسة ويسحب البساط من تحت أقدام الصهاينة، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] سورة الروم53 .
[2] سورة الحجرات آية 12.
[3] أخرجه أبو داود كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة. حديث رقم 4291.
[4] أخرجه أبو داود في الملاحم رقم 4252، و البخاري رقم 3641، ومسلم رقم 1037 .
[5] سورة الأعراف آية 181 .
[6] سورة الأعراف آية 159.
[7] سورة الزلزلة آية.
[8] سورة المجادلة آية 22 .
[9] سورة النساء آية 104.
[10] سورة آل عمران آية 139.
[11] سورة الأنفال آية 60.
[12] سورة البقرة آية 85.