الاجتهاد المتنوّع في الدولة الإسلامية في فكر الإمام الخميني قدس سره
الاجتهاد المتنوّع في الدولة الإسلامية في فكر الإمام الخميني قدس سره
العلامة السيد محمد حسين فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف يطرح الإسلام مسألة التنوع في الرأي السياسي في داخل الدولة الإسلامية، وهل يملك أصحاب الآراء المتنوعة الحرية في الإعلان عنها، وهل يسمح ولي الأمر للساحة الجماهيرية العامة في الأمة أن تأخذ حريتها في التحرك على أساس التزام هذا الرأي أو ذاك، ليختلف الناس في الانفتاح على الاجتهادات المختلفة في القضايا العامة، ليكون لكل اجتهاد فريق يؤيده ويلتزم به، وما هي الضوابط العملية التي تحفظ الأمة من الاهتزاز أمام هذا الواقع المتحرك؟
هذه علامات استفهام لابد من التوقف على الإجابة عليها من خلال فكر الإمام v، فيما نريد ان نستوحيه من نظريته الإسلامية في مسألة تنوع الاجتهادات السياسية في حركة الدولة الإسلامية، من خلال حركة الولي الفقيه في إدارة الأمر في هذا المجال.
وإننا إذ نثير هذه المسألة أمام الباحثين الإسلاميين، فإننا نستهدف توجيه الفكر إلى مسألة حرية الرأي في داخل الدولة الإسلامية أو في داخل المجتمع الإسلامي، باعتبارها من المسائل المهمة التي تنفتح على العنوان الكبير في مفهوم الإسلام لقضية الحرية.
ـ(14)ـ
قد يطرح البعض المسألة على أساس مسؤولية «ولي الأمر» في نطاق الدولة، في طرح الرأي الإسلامي الاجتهادي في كل المسائل المتحركة في الواقع، فيما يتفرع عنها من المفردات المتصلة بالشؤون الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية أو العسكرية.. ثم تكون المسألة في عهدة الأمة من خلال قواعدها المثقفة أو العاملة. لتلتزم بهذا الرأي في خط الطاعة للولي، انسجاما مع الأمر الإلهي في طاعة ولي الأمر الذي يمثل رأيه فيما يأمر به أو ينهي عنه قول الله والرسول، باعتبار انه الحجة الشرعية على ذلك، فيكون قضاؤه وقراره قضاء الله ورسوله وقرارهما، فيندرج تحت قولـه تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ ويرى هذا البعض أن إتاحة الفرصة لأصحاب الرأي الآخر في إعلانه وفي الدعوة إليه، قد يؤدي إلى لون من ألوان الإرباك للخط الفكري في الدولة، وإلى اهتزاز داخلي في القاعدة الشعبية التي تتوزع بين الانتماء إلى الفكر الشرعي الذي تتبناه الدولة، وبين الانتماء إلى الفكر الآخر الذي يتبناه هذا المجتهد أو ذاك، الأمر الذي قد يترك تأثيراً سلبياً على النظام العام الذي يحفظ قوة الأمة واستمرارها.
في ضوء ذلك فلابد من وحدة الرأي في خط القيادة، ووحدة الأمة في الانتماء والالتزام والطاعة على أساس ذلك.
الاجتهاد المعارض لولي الأمر
ويطرح بعض آخر رأيا آخر فيؤكد أن هناك مسألتين تختلفان في طبيعتهما، كما تختلفان في نتائجهما، فهناك الاجتهاد الذي يخالف القرار الرسمي للدولة، فيكون معارضاً لولي الأمر، ويتحول ـ بالتالي ـ إلى حركة في اتجاه المعارضة الحركية التي تثير الغبار في وجه القرار الشرعي، ممّا يؤدي إلى لون من ألوان التمرد الذي يقود إلى
ـ(15)ـ
حالة الاهتزاز السياسي... وهناك الاجتهاد الذي يتحرك في الساحة الفكرية أو السياسية في مواجهة الاجتهاد الآخر الذي يتبناه فريق آخر من الأمة، فيما يراد منه الوصول إلى نتيجة حاسمة في اكتشاف المصلحة الأهم والأقوى في القضايا المطروحة في ساحة البحث، ليستهدي بها الولي الفقيه في اتخاذ قراراته، أو للتعرف على ما هو الخطأ والصواب فيما اتخذ من القرارات ليؤكدها في حالة اكتشاف الصواب، أو ليغيرها في حالة اكتشاف الخطأ. فليس في الأمر أي تمرد أو عصيان، بل كل ما في الأمر ان هناك حركة في اتجاه تحقيق الرشد الفكري أو السياسي للقيادة وللأمة، في إصدار القرار أو في التصويت عليه، فيما يرجع الأمر إليها في طبيعة القرار.
وفي ضوء ذلك فلا مشكلة في حركة التنوع الاجتهادي في الأمة، بل ربما كان في ذلك نوع من الغنى الفكري الذي يتيح للمسألة أن تتخذ مواقعها في دائرة التطبيق في أكثر من احتمال، حيث تتسع دائرة الاختيار في احتمالات المسألة لمن يملك أمر الاختيار في ذلك.
وقد نستطيع أن نستجيب في مسألة الحرية، حتى للرأي المعارض للقرار الرسمي، فإن هناك فرقاً بين فكر مضاد يطرحه المفكرون على أساس الشعب الذي يعمل على إرباك الواقع من موقع الاهتزاز، لا على أساس الترشيد والتسديد من خلال التنبيه، وبين فكر معارض يطرحه المعارضون على أساس إثارة المسألة لدى المعنيين في الاتجاه الآخر، لأن هناك خللاً يراد لهم أن يكتشفوه، أو لان هناك خطأ لابد أن يصححوه، فلا مانع من الانفتاح على المعارضة في الخط الثاني، في الوقت الذي نتحفظ فيه في الخط الأول، تبعا لما هي المصلحة العليا في الواقع. ولعل الذين يسجلون تحفاظتهم على المعارضة الفكرية في داخل الدولة الشرعية، يتصورون ان الإسلام يغلق على المفكرين أبواب الاعتراض على فكر الدولة، حتى في اكتشاف الخطأ لديهم في ذلك كله.
ـ(16)ـ
وهذا أمر خاطئ ـ من حيث المبدأ ـ لأن الدولة التي تقوم على قاعدة الحق في مواجهة الباطل، لابد ان تبحث قيادتها عن مواقع الحق حتى في مستوى الاحتمال. عندما تختزن في داخلها الفكرة التي ترفض العصمة للقيادة حتى ولو كانت بدرجة الولي الفقيه.
ان هناك حديثا عن الطاعة العامة للدولة. وهذا حق لا ريب فيه، لأن إفساح المجال للتمرد من خلال الاعتراض على طبيعة القرار، قد يسيء إلى النظام العام، إذا كانت هناك فرصة معينة لكل معارض ان يأخذ حريته في عدم الطاعة للأمور التي لا يقتنع بها.
ولكن لا مانع من الاعتراض الذي يرشد القيادة إلى التحفظات التي تسجلها الأمة، أو بعض أفرادها على القرار على طريقة نفّذ ثم ناقش.
«الأنصاري» يسأل والإمام يجيب
وقد أثار بعض الفضلاء هذه المسالة مع الإمام في أسلوب اعتراضي على طريقته في رعايته الاختلافات السياسية ونحوها، فيما تتمثل في الخطوط المتنوعة للقياديين في خط الدولة وللمفكرين في خط الفكرة التي تتبناها القيادات في خلافاتهم الفكرية، فقد كان الإمام «رحمه الله» قريباً إلى المجتهدين المختلفين رفيقاً بهم، ممّا يجعل كل واحد منهم يشعر بأن الإمام يرعى اجتهاده وفكره ويؤكد خطه، الأمر الذي يفسح المجال للكثير من القلق في تأكيد المواقف، وذلك من خلال المعنى الإيجابي في موافقة الإمام على هذا الخط أو ذاك، فيما يتمثل فيها من محور سياسي أو اقتصادي مميز.
وهذا ما عبّر عنه الشيخ محمد علي الأنصاري في رسالته للإمام الخميني «قدس سره» حول هذا الموضوع.
قال، «ما ترجمته»:
ـ(17)ـ
منذ انتصار الثورة الإسلامية والى الآن، وأنا في خدمتكم حيث شهدت ظهور وافول خطوط فكرية وسياسية وعقائدية كثيرة ومتنوعة، وبحمد الله كثير من الخطوط المنحرفة والالحادية تلاشت، ولكن الآن هناك جناحان في الجمهورية الإسلامية، وكلا الجناحين اسلامي ومؤيد ومدافع عن الثورة، ولكلا الجناحين مؤيدون ومريدون ولهما شخصيات معتبرة.
ونحن نشهد الآن في الساحة صراعاً حقيقياً بين الجناحين على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، قد برز للعيان.
وفي الحقيقة ان هناك مواجهة بين الطرفين أرادوا أم أبوا، وهي آخذة بالازدياد، وقد أخذت تبرز بعض الأخطار والتبعات لهذا التضاد وتترك تأثيرها الظاهر على البلاد.
والأمر الذي يزيدني حيرة ان هذا الخلاف وصل إلى حد ان كل طرف لا يرضى بوجهة نظر الطرف الآخر في كافة المجالات، ويرى كل طرف أن عمل الطرف الثاني لا يخدم المصلحة العامة.. وبهذه الحجة أخذت المواجهة بين الطرفين الطابع الحاد في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن كلا الطرفين يدعي الدفاع عن المستضعفين والمحرومين والعداء للشرق والغرب، مما يقرّب من وجهات نظريهما إلى الحدّ الذي لا يبقى شيء اسمه الاختلاف بين الطرفين.. ويزيد على ذلك ان لكل من الطرفين ارتباطا طويلا وتاريخيا بسماحتكم، وقد نهلوا من الفيض العلمي والأخلاقي والسياسي لحضرتكم، ولكل منهما دور في نجاح الثورة الإسلامية.
ولعل الأكثر من ذلك ان الطرفين يحظيان بتأييدكم، ولم نر حتى الآن تأييداً لطرف منهما، بل نلاحظ أنكم قد تؤيدون طرفاً في مناسبة، تؤيدون طرفاً آخر في مناسبة أخرى.
ـ(18)ـ
والشواهد على ذلك كثيرة، مثلاً أنكم دافعتم عن أفراد جماعة المدرسين أو مؤسسة الإعلام الإسلامي، في الوقت الذي دافعتم فيه عن أفراد مكتب الإعلام الإسلامي، وإذا دافعتم عن شورى المحافظة على الدستور، فإنكم دافعتم عن شورى تشخيص المصلحة.
ويخلص الشيخ الأنصاري ـ في نهاية رسالته ـ إلى القول: ان هذه المسألة من الحوادث الواقعة، وهي محل ابتلاء الكثير من المؤمنين الثوريين وطلاب الحوزة والجامعات، وحلها لن يكون إلاّ بإبداء وجهة نظركم وتوجيهاتكم التي لا نقبل غيرها.
ونلاحظ أن مثل هذه الحيرة الفكرية والشعورية التي عبرت عنها هذه الرسالة، تحمل أكثر من دلالة على الذهنية العامة الموجودة لدى الكثيرين من المؤمنين الثوريين وطلاب الحوزة والجامعات في رفضها للرأي المتنوع المتحرك بحرية، تحت نظر القيادة التي تمنح الرعاية لحركة الصراع في ساحته، من دون ان تتدخل بقوة لتحسم المسألة لحساب أحد الفريقين، إذا كان الحق في جانبه ـ من خلال وجهة نظرها ـ أو لحساب الرأي الثالث، إذا كان الفريقان على خطأ.. وذلك لأن القضية في رأي هؤلاء تتحرك بين الحق والباطل، أو بين باطلين. فكيف تسمح القيادة للباطل ان يبقى غامضا في حدود المسألة، أو يتحرك بحرية في ساحة الصراع من دون حسم قوي من قبل القيادة الأمينة على الحق من حيث المبدأ والتفاصيل؟
رأي الإمام في اختلاف الفقهاء وإجماعهم
لنقرأ ترجمة جواب الإمام(رضوان الله عليه) على رسالة الشيخ الأنصاري:
ـ(19)ـ
«إني أنصحك وأمثالك الكثيرين وأذكركم بايلي:
إن كتب فقهاء الإسلام العظام مملوءة باختلاف وجهات النظر، وكل منهم له رأي في المجالات العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعبادية.
ففي بعض المسائل هناك إجماع للفقهاء ـ وحتى في المسائل التي فيها إجماع ـ هناك قول أو أقوال تخالف الإجماع. وفي الماضي فإن هذه الاختلافات والتي كتبت باللغة العربية ممّا جعل إطلاع أكثر الناس عليها قليلاً، والذي يعلم بها فإنه لا يتابع إلاّ المسائل التي تهمه.
والآن هل نستطيع أن نتصور بأن هؤلاء الفقهاء عندما اختلفت وجهات نظرهم، كانوا يعملون خلافاً لما يريد الله سبحانه وتعالى، وخلافاً للدين الإسلامي وللحق؟
أبداً !
واليوم، والحمد لله، فإن كلام الفقهاء وأصحاب النظر يُبثّ في الراديو والتلفزيون، أو يكتب في الصحف، لأن الناس يحتاجون إليه في حياتهم العملية.
مثلا، في مسألة تحديد الملكية وفي تقسيم الأراضي، وفي الثروات العامة والأنفال، وفي المسائل المعقدة للأموال والعملة الصعبة في البنوك، وفي الأمور المالية والتجارة الداخلية والخارجية والمزارعة والمضاربة والاجرة والرهن وإقامة الحدود والديات، والقوانين المدنية والمسائل الثقافية والمسائل الفنية، أمثال الرسم والتصوير والنحت والموسيقى والسينما والمسرح والخط وغيره، وفي حفظ الطبيعة سالمة من التلوث ومنع قطع الأشجار، حتى الموجودة في البيوت والممتلكات الخاصة، وفي مسائل الأطعمة والألبسة والأشربة، وفي مسألة تحديد النسل في حالات الضرورة، أو تعيين فواصل بين وليد وآخر؛ وفي حل المشاكل الطبية أمثال زرع أعضاء جسم إنسان لإنسان آخر، وفي مسالة المعادن داخل طبقات الأرض وفوقها، وفي تغير موضوعات الحلال والحرام، وتوسيع وتضييق دائرة بعض الأحكام في الأزمنة والأمكنة المختلفة،
ـ(20)ـ
وفي المسائل الحقوقية حسب نظر الشريعة الإسلامية، ودور المرأة في المجتمع الإسلامي، وحدود حرية الفرد داخل المجتمع، والتعامل مع الكفار والمشركين والأفكار الالتقاطية والمعسكرات التابعة لها، وكيفية إنجاز الفرائض في الرحلات الهوائية والفضائية. والاهم من ذلك حاكمية ولاية الفقيه في الحكومة والمجتمع؛ وكل هذه المسائل جزء من آلاف المسائل التي هي محل ابتلاء الناس والحكومة، والتي كانت مورد بحث الفقهاء واختلاف وجهات نظرهم.
وإذا كانت بعض المسائل في ذلك الوقت غير مطروحة، أو ليس لها موضوع، فيجب على فقهاء اليوم ان يفكروا بها.
لذا ففي الحكومة الإسلامية، يجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحا دائماً، لأن طبيعة الثورة تقتضي أن تطرح وجهات النظر الفقهية في مختلف المجالات، ولا يحق لأحد الحيلولة دون ذلك، ولكن بشرط أن يكون الطرح بصورة صحيحة على الأمور في نطاق الحكومة والمجتمع، من أجل بناء مجتمع إسلامي يمكنه أن يخطط لصالح المسلمين، ويدعو إلى الوحدة والاتحاد.
وهنا، فإن الاجتهاد في الاصطلاح الحوزوي وحده لا يكفي، وإذا كان هناك شخص أعلم في علوم الحوزة، ولكن لا يستطيع تشخيص المصلحة العامة، أو لا يستطيع تشخيص الأفراد من الصالح والطالح، والمفيد من غير المفيد، وبشكل عام، فإنه فاقد التشخيص في المجالات السياسية والاجتماعية وفاقد القدرة في اتخاذ القرار.
إنّ هذا الشخص لا يعتبر مجتهداً في المسائل الحكومية والاجتماعية، ولا يستطيع أن يمسك زمام المجتمع بيده.
ان الاختلاف في المسائل المذكورة آنفاً، وفي التصميم والتخطيط إذا كان منحصراً في وجهات النظر فإنه لا يهدد الثورة وليس فيه خطر.. وإذا كان الاختلاف أساسياً فإنه يؤدي إلى زعزعة النظام. إن الاختلاف في وجهات النظر بين مختلف
ـ(21)ـ
الأجنحة هو اختلاف سياسي، لأن الجميع يشتركون في أصول وعقائد مشتركة».
تأملات في رسالة الإمام
اننا نلاحظ في هذه الأطروحة الجوابية، أن المسألة هي ضرورة إفساح المجال للاجتهادات المتنوعة أن تملك حريتها في ساحة الفكر الإسلامي على مستوى الساحة الفقهية، وعلى مستوى الساحة السياسية، أو فيما تختلف فيه المسألة السياسية أو الفقهية في قضايا الحكم، من حيث المبدأ ومن حيث التفاصيل لأن هناك الكثير من الأمور التي لابد من ان تطرح للتفكير من قبل أصحاب الاختصاص، ليتوفر الناس على الاطلاع على هذه المسائل فيما استحدثته التطورات العامة للحياة من المسائل التي يبتلي بها الناس في أوضاعهم الخاصة مما لا عهد للفقهاء به، لأنهم لم يتوفروا على دورة الرأي فيه، الأمر الذي قد يبعدهم عن تصور خصوصياته بدقة من حيث الموضوع والحكم.
فإذا فرضت الدولة، أو قرر ولي الأمر رأياً محدوداً بالطريقة الرسمية، ومنعت الناس من مواجهة القضايا بطريقة علمية دقيقة، بشكل شمولي واسع فإن من الممكن أن لا يصل الواقع الإسلامي إلى عقدة شاملة للمسألة، بينما تتحرك حرية الفكر الاجتهادي في إعطاء الفكر المتنوع لتكفل للفقه تطوره في حركة الاجتهاد، كما تمنح القيادات المستقبلية في عملية النمو العلمي الإمكانات الواسعة للنظرة الدقيقة الصائبة، من خلال المفردات المتنوعة التي تحقق للفكر ثراءً واسعاً في الموضوع. «ان طبيعة الحكومة الإسلامية تفرض ان يكون باب الاجتهاد مفتوحاً دائماً كما أن طبيعة الثورة تقتضي أن تطرح وجهات النظر الفقهية في مختلف المجالات، ولا يحق لأحد الحيلولة دون ذلك.
وفي ضوء ذلك لا يكون التنوع مصدر ضعف واهتزاز، بل مصدر قوة وثبات، بشرط أن يتحرك الخط الاجتهاد في الحدود المرسومة له في دائرة الفكر، بعيداً عن النزوات الذاتية والنوازع المعقدة، التي تتخذ من الخلاف أساسا للفوضى وللتخريب،
ـ(22)ـ
ولاثارة المشاكل للدولة الإسلامية. إن هناك فرقاً بين أن تبدع الرأي الفقهي أو السياسي لإغناء التجربة الفكرية فيما تحتاجه الأمة من تجارب الفكر في دائرة الحرية التي تتسع لك ولغيرك، ما دام الهدف خدمة الإسلام والمسلمين، وبين أن تحرك رأيك لتؤكد ذلك فيه، ولتثير الضوضاء من حولك على أساسه، ولتبعد الأنظار عن التفكير فيما هو الأصلح للأُمة فيها.
ولعل هذا الاتجاه في إدارة المسألة الاجتهادية في القضايا السياسية بالمعنى الواسع للسياسة، على طريقة حركة الاجتهاد في القضايا الفقهية، كما كان الأمر في العهود الماضية لدى الفقهاء السابقين. لعل هذا الاتجاه الذي يتحرك برعاية الولاية الفقهية الواعية يترك تأثيراته الإيجابية على مستوى الذهنية الإسلامية العامة للأُمة، عندما تختزن في داخلها الفكرة التي تنفتح على أكثر من رأي في المسالة الواحدة لتختار الأصوب، أو تتحمل الرأي المضاد للرأي الذي تختاره، لتعيد النظر من جديد فيما اختارته، أو لتدخل في حوار دقيق للوصول بأصحاب الرأي الآخر إلى ما هو الحق بعيداً عن كل الحساسيات الذاتية والانفعالات المرضية.. وبذلك تستطيع هذه التربية العلمية الإسلامية التي ترتفع إلى مستوى المسؤولية العلمية عن الفكر، أن تحفظ المجتمع الإسلامي من الاهتزاز أمام الحالات الطارئة التي تختلف فيها الأفكار، فيهتز الناس في أوضاعهم العامة من خلال ذلك، لأن المجتمع إذا اعتاد على اختلاف الفكر في دائرة المصلحة العامة على أساس البحث عما هو الأصلح، فلا تكون النظر إلى هذه الظاهرة كحالة سلبية، بل تكون النظرة إليها كمناهض إيجابي للمستوى الرفيع الذي يرتفع إليه المجتمع في وعيه لحركة التطور في الحاضر والمستقبل.
وهذا هو الذي يمكن أن يطرح لدى الإسلاميين قضية الحرية في الدائرة الإسلامية، ليتناقشوا فيما هي قضية الحرية في الدائرة العامة، بعيداً عن الهواجس النفسية التي ترفض مجرد المناقشة في إعطاء أية فرصة للباطل حتى على صعيد
ـ(23)ـ
الاحتمال، لأن ذلك لا يتناسب مع الإخلاص للحق والتحرك من أجل إيجاد قاعدة ثابتة لوجوده واستمراره، لأن هذه المسألة تمثل المسألة المهمة في إعطاء الصورة المنفتحة على كل قضايا التطور الفكري في الحياة، في النظرة الإسلامية العامة لأن الانفتاح المرتكز على أساس القوة في الموقف والموقع يوحي بالثقة بالثبات، بينما قد يجد الناس في الانغلاق المتمثل بقهر الرأي المضاد، لونا من ألوان الشعور بالخوف الذي يوحي بالضعف.
وإذا كان الإمام الخميني(قدس سره) يقرر أنه لا يحق لأحد الحيلولة دون الانفتاح في الاجتهاد المتنوع، فإن معنى ذلك ان القضية تستحق المزيد من البحث الجدي من موقع الشعور الهادئ العميق بأن ذلك لا يمثل استهانة بالإسلام في مواقع قوته وثباته.
ويتابع الإمام شرح موقفه في رسالته الجوابية فيقول ـ كما جاء في ترجمتها العربية ـ ليؤكد إمكانية تأييد القيادة للفريقين اللذين يتحدثان بالرأي المتنوع من دون ان يمثل ذلك لونا من ألوان الابتعاد عن أمانة المسؤولية. «أني أؤيد الطرفين وادعمهما.. وهذان الجناحان ملتزمان بالإسلام والقرآن والثورة، ويريدان خير البلاد والشعب، ولهما وجهات نظر من اجل نشر الإسلام وخدمة المسلمين وانهما يريدان ان تكون البلاد مستقلة ويرغبان في ان تتخلص إيران والشعب الإيراني من الجشعين والناهبين، ويريدان ازدهار الاقتصاد في إيران الإسلام وتحسين الأوضاع الثقافية والعلمية، لكي يتمكن الطلبة والباحثون من التوجه والخدمة في المراكز التربوية والعلمية والفنية، ويريدان تعاظم قدرة الإسلام في العالم.
وعلى هذا الأساس فلا يوجد هناك اختلاف».
وتلاحظ ـ في هذا النص ـ أن الإمام «قدس سره» يؤكد في نظرته الإيجابية إلى
ـ(24)ـ
الرأي المختلف في الفريقين المختلفين اللذين تحولا إلى محورين فكريين ومنطلقين سياسيين، على طبيعة الالتزام الإسلامي للفريقين وعلى روحيتهما المنفتحة على خدمة الإسلام والمسلمين في مواجهة الاستكبار والمستكبرين.. ولذلك فلا مشكلة للتنوع الفكري في تحديد المصلحة الأهم، لأن ذلك لن يؤدي إلى اختلاف، فيما تحمله الكلمة من سلبيات النتائج العملية على مستوى الأوضاع العامة للأُمة في قضاياها المصيرية المستقبلية.
ولذلك فإن تأييد القيادة الإسلامية ودعمها لهما لا يمثل سلبية، فيما هي مسؤولية القيادة عن سلامة الخط والهدف معاً.
الاختلاف الفكري المرضي
ويختم الإمام «رضوان الله عليه» رسالته بالحديث عن العمق السلبي للانحراف في الاختلاف الفكري عن الخط السليم، ليوجه المختلفين نحو معالجة ذلك بالطريقة الإسلامية، فيقول:
«هناك شيء يؤدي إلى الاختلاف ـ ونعوذ كلنا بالله منه ـ وهو حب النفس، وهذا المرض لا يعرف هذا الاتجاه، ولا يميز بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء أو المحامي أو القاضي أو شورى القضاء الأعلى ومكتب التبليغات ولا يميز بين المرأة والرجل.
ويوجد طريق واحد للخلاص من هذا المرض وهو الرياضة الروحية. وإذا أراد الاخوة من الجناحين المحافظة على نظام الجمهورية الإسلامية، فيجب عليهم تجاوز ظاهرة الانتقاد الهدام، وضرورة الانتقاد البّناء، لأن ذلك هو الذي يطور المجتمع ويبنيه.. وعلى الجميع ان لا يتصوروا أنفسهم معصومين عن الخطأ.
وإذا كان هناك شخص أو مجموعة ـ والعياذ بالله ـ تفكر في ضرب الآخرين
ـ(25)ـ
لتقديم مصلحته أو مصلحة مجموعته، فإنه يجب أن يعلم بأنه قبل أن يضرب مناوئيه سوف يضرب الثورة الإسلامية المباركة.
وعلى كل حال فإن تأليف القلوب والتخلي عن الأحقاد والضغينة والتقارب، من الأعمال التي توجب رضى الله سبحانه وتعالى ويجب أن تحذروا الذين يريدون إبقاء الفتنة بينكم».
إنّ هذه الوصية ـ الموعظة في نهاية الرسالة توحي بأن على القيادة أن تبقى في حالة وعي دائم، وملاحقة سريعة لكل الانحرافات الطارئة التي تتدخل في الواقع الإسلامي من خلال الخصوصيات الذاتية للمجتهدين المختلفين أو للفريقين المتنوعين، لتثير المسألة الأخلاقية الروحية في ساحة المسألة العلمية والسياسية، لتستقيم الشخصية الإسلامية في الخط الصحيح، لتتعمق في دراسة مواقعها الفكرية أو العملية على أساس سلامة المواقع المصيرية للأُمة الإسلامية كلها... وبذلك تبتعد عن العنصر الذاتي الذي قد يزحف إلى المشاعر الخاصة، ليثير فيها الكثير من الانفعالات المعقّدة، ويحرك في داخلها الحقد والبغضاء تحت عناوين مختلفة، فيما قد يخيل للإنسان ـ معها ـ أن يتحرك في خط الإصلاح، فيما هو أسلوب العنف والمواجهة، في الوقت الذي يكون فيه غارقاً في وحول الذات ومواقع الفساد.
وهذا ما ينبغي للحركة الإسلامية أن تنتبه إليه في حركتها الفكرية والعملية في الخط السياسي فيما تتنوع فيه المواقف وتتعدد فيه الآراء ويختلف من خلاله الأشخاص.
عصمنا الله من الزلل ورزقنا السداد في السير على الخط المستقيم.
مـلاحـظـة
النصوص المذكورة في رسالة الشيخ الأنصاري وجواب الإمام عليها مأخوذة عن جريدة(اطلاعات) الصادرة في طهران عدد 18799 بتاريخ 9 ذي الحجة 1409 هـ(مترجمة بقلم أحد طلاب العلوم الدينية في قم».