الابتلاء بالاتجاهات العلمانية المتغربة

الابتلاء بالاتجاهات العلمانية المتغربة

 

 

الابتلاء بالاتجاهات العلمانية المتغربة

 

الشيخ عبدالهادي بن الحاج أوانج محمد

رئيس الحزب الإسلامي في ماليزيا

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده .

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، البدر الدجى والسراج المنير.

والصلاة والسلام على حبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمد نبي الرحمة وشفيع الأمة، وعلى آله وصحبه ومن والاه.وبعد.

هذا بحث موجز في موضوع يمس التحديات التي تهدد مسيرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، عقبات وضعت في داخل المجتمع المسلم نفسه، أعداء الأمة من داخل أنفسها ، حملة راية الأعداء الأجانب الذين خرجوا من ديارنا بعد نهاية فترة الاستعمار الخارجي  وبدلوها بالاستعمار الداخلي، بوسيلة الغزو الفكري, وهنا ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا.

ومن أسلحته بث النظرية العلمانية، وفي هذه الفترة ظهرت التداعيات منها تهدد كيان الشخصية المؤمنة.  

 

مقدمة

كانت الأمة الإسلامية وحدة لا تتجزأ قبل الغزو الاستعماري الغربي رغم تنوع القوميات والمذاهب الفقهية والسياسية في داخلها. وقد تجمعها وحدة عقيدة وأخوة إيمان قبل وحدة القبلة. ولقد مرت بمرحلة الضعف وتخلف شأنها فى ذلك شأن كل أمة وكل حضارة، حين تمر مرحلة بعد مرحلة، قوة بعد ضعف، وضعف بعد قوة، هذه سنة العالم المتغيرة، وناموس الحياة البشرية، ودستور المجتمع الإنساني.

ولقد ثبت أن عزة الأمة بإسلامها، وإذا ضعفت علاقتها بالإسلام اضمحلت العزة، وتداعت عليها الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها، رغم كثرة تعدادها، وخصبة أراضيها بمواردها الطبيعية، و استراتيجية مواقعها الجغرافية في خريطة العالم. وهذا الدين الكامل وحد الأمة الإسلامية لكمال تعاليمه التي تقوم الحياة البشرية على حسب غرائز الإنسان الجسدية والروحية والأنانية والمدنية، ومن حيث وظائفه في الأرض للعبادة والخلافة والأمانة، ما لم تبلغها الأديان المنحرفة والنظريات الوضعية. فالإسلام يؤلف الأمة بالهداية الشاملة من عند الله ولم تقدر الإيديولوجيات والنظريات الوضعية تأليفها، (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم).

والعالم الإسلامي يضم عديدا من القوميات، وليست القوميات معارضة لوحدة الأمة الإسلامية ما دامت الأمة على إيمانها، وليس الإسلام في مواجهة القوميات، وإنما يتقبل الإسلام القوميات كعامل قوة، وإنما يدفع عنها التعصب والعنصرية. ويجعلها مفتوحة للألتقاء مع وحدة الفكر التي تربط القوميات على صعيد الإسلام، ولن يحول اختلاف المسلمين في المذاهب عن الوحدة والأخوة ماداموا  صامدين على أركان الإيمان الثابتة وعلى مباديء الشريعة القطعية وتسامحوا في الفروع والاجتهاد, بل الاختلاف في الفروع يوفر الحلول لقضايا الأمة على تنوع الظروف واختلاف الأوضاع وتعدد الواقعيات. والأئمة المجتهدون علموا وتعلموا بينهم وتبادلوا في الروايات والدرايات. والأخوة التي تربط بالإيمان تجعل الأمة الإسلامية كمثل الجسد الواحد إذا  اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ونظم الحياة التي تعتمد على مباديء الإيمان والشريعة والأخلاق تقود الأمة إلى انتصارها وتقدمها أمام الأمم وتغير وجه العالم في العلوم والحضارة.

ولقد فشلت الحروب التتارية والصليبية بالأسلحة والقتل لتدمير الأمة بكاملها رغم سيطرتها على الأراضي الإسلامية، والعالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه لا يزال على قوته الذاتية التي تعطى القوة بعد الضعف مستمدا من المقومات النابعة من هذا الدين.و لقد فرض الإسلام على الأمة كقوة إيمانية وسياسية واجتماعية على المناطق الإسلامية  مهما تغيرت الحكومات في العالم الإسلامي، فالشريعة الإسلامية مطبقة، والمعاملات الإسلامية جارية بين المجتمع، والدعوة الإسلامية متقدمة لنشر الإسلام بين الأمم مع  الدعاة والتجار في خارج حدود العالم الإسلامي. رغم أن الحروب المتتالية تطيح بكيان العالم الإسلامي فترات من الزمن وتجتث الأمة من بعض الأراضي الإسلامية, ولكن جذوة العقيدة لاتزال حية في النفوس وحركات الدعوة متقدمة في مشارق الأرض ومغاربها.

وبعد فشل الحملات العدوانية على العالم الإسلامي بالحروب وانتهاز ضعف المسلمين بالاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، فكرت الأحزاب المعادية للإسلام بمخططات جديدة بإزالة مصادر القوة الراسخة في قلوب الأمة، عن طريق الغزو الفكري، لرد المسلمين عن دينهم كله أو بعضه. انتهازا من فرصة جهل الأمة، وانحراف حكامها وعجز علمائها. ومن أسلحته الخطيرة فكرة العلمانية التي تزيل العقيدة والشريعة والأخلاق. بوسائل نظم التربية والتعليم والسياسة والإدارة والاقتصاد والإعلام. فهنا فتن المؤمنون في دينهم، فاستقام من استقام على بينة وانحرف من انحرف عن بينة.

ولا تزال طائفة من الأمة  الإسلامية ظاهرين على الحق في غياب الدولة الإسلامية لا يضرهم من خذلهم وخالفهم وحاربهم. فهناك طوائف ظهرت في صفوف الأمة تواصل برامج الأحزاب العلمانية لتحكم المسلمين بعد خروج الاستعمار الأجنبي، ودعت إلى تدخله لحل قضايا الأمة لمنع بعثها على نهجها الصحيح وتحويل الصحوة الإسلامية من مسيرتها المستقيمة. ونحن على يقين أن الأمة لا تلدغ مرتين من جحر واحد.

 

تصور العلمانية

العلمانية مصطلح غربي على سبيل التلبيس والتمويه، حيث يظن البعض أن مصدرها العلم، بينما هي فصل الدين عن شئون الحياة ونظمها، وهي نظرية ظهرت في المجتمع الغربي لحل النزاع بين رجال الدين والحكام من ناحية وبين رجال الدين والعلماء في العلوم الدنيوية من ناحية أخرى. وذلك لعجز المسيحية المنحرف عن ملة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.

ولقد هدانا القرآن الكريم إلى أن الدين عند الله الإسلام،  اصطفاه للرسل والأنبياء منذ آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ، فِي الآخِرَةِ لَمِنَا الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ، تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)

فهذا الدين الذي ختم به نبينا صلى الله عليه واله وسلم دين كامل متكامل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يضم فيه جميع الأمور البشرية على حسب وظائفها منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، من العبادة لله وحده، وخلافة الأرض في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وأداء الأمانة وكبراها أمانة أمور المسلمين، فإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.

  وجميع الرسل قاموا بدعوة  الناس والحكام في زمانهم إلى دين الله بكماله وتكامله في العقيدة والعبادة والشريعة والأخلاق، ومنهم من توفي قبل قيام الدولة ولكن دعوته مستمرة بعد وفاته ومنهم من قاد الدولة وطبق فيها هذا الدين كما أنزله الله على عباده. فنبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم ختم هذه الدعوة إلى دين الله من المرحلة المكية في تكوين شخصية الأمة المؤمنة بتركيز الإيمان إلى المرحلة المدنية في تكوين المجتمع وإقامة الدولة وهما تفسير حي للعمل بالوحي، وتطبيق القران في الحياة البشرية بكاملها.

   (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ،لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)

والإسلام لا ينتهي بوفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم الذي أتم الرسالة الربانية وخاتمها

فالعلمانية التي فصلت شؤون الحياة ونظمها من الدين وإنما هي من عملية الصهيونية ثم الصليبية المنحرفتان والمرتدتان عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فأما الصهيونية من اليهود الذين زلوا من التوراة الصحيحة فأزل الله قلوبهم، وحرفوا كتاب الله وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، وغيروا حكم الله, على حسب هوى الحكام في كل زمانهم.

وعيسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل، وأنزل عليه الإنجيل وأمر  بالعمل بالتوراة ونسخ بعض أحكامه على الظروف والأزمنة التي نظمها الله لعباده، ولكنهم كفروه بقيادة الملك في زمانهم وحاولوا قتله وما قتلوه وما صلبوه بل رفعه الله إليه. وبعد رفع عيسى عليه السلام حرفوا الدين ومعتقداته على حسب هوى علماء السوء والحكام الظالمين. وهذا الدين المسيحي المنحرف حمل إلى أوروبا بعد دخول ملوك الروم إلى المسيحية، ثم حرفوها على حسب معتقداتهم مرة أخرى.

ولما حدث الصراع بين رجال الدين والحكام في أوربا، لعدم قدرة هذا الدين المنحرف والناقص من أصوله الصحيحة، وهوى رجال الدين في مواجهة طغيان الحكام قاموا بحل الخلاف بينهم بفصل السلطة الدينية والسلطة الحاكمة في الدولة، وبقيت سلطة رجال الدين في الكنائس والطقوس الدينية والأمور الروحانية، وأعطيت للحكام السلطة الحاكمة كلها. ونصت في إنجيلهم المحرف (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر(.

ومن جانب آخر حدث الصراع بين العلماء الذين أخذوا العلوم الدنيوية من الحضارة الإسلامية في فتراتها الذهبية، وهؤلاء أخذوا من المسلمين الحضارة المادية فقط, ولم يقبلوا هذا الدين لعصبيتهم الصليبية وضعف حكام المسلمين في تطبيق الإسلام في الفترة الضعيفة، وحدثت الثورة العلمية في أوربا وحدث الصراع بين العلماء ورجال الدين، واتهموا العلماء بالردة عن المسيحية, فقاموا إلى حل المشكلة بفصل الدين من العلوم الدنيوية.

ولقد استخدمت الماسونية الصهيونية التي وقفت وراء الثورات في أوروبا تطبيق العلمانية في سياسة الغرب، ثم ظهرت بعدها الإيديولوجيات والنظريات السياسية والاقتصادية والتربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية وكل أمورها على المناهج العلمانية، سواء أكانت بمنع الدين في تدخل أمورها أو برخصة تدخلها في  إطار محدود بالإضافة إلى اعوجاج ذلك الدين.

وإذا تأملنا العلمانية وما ظهر منها من المذاهب والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وجدناها قائمة على تصور اعتقادي في التشريع والأخلاق ونظم الحياة، حيث تمنع تدخل الدين في شؤون الحياة. ولهذا ليست من ديننا، بل تخالف رسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي تمت ببعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

العلمانية والأمة الإسلامية

ولقد استخدم الاستعمار الغربي ووراءه الصهيونية العالمية تطبيق العلمانية على العالم الإسلامي, كسلاح مؤثر موجع لشن الغزو الفكري على الأمة، بعد  فشل حركة التنصير والردة في صفوفها  بكاملها، لإبعاد الأمة من دينها وتهميش الإسلام في شؤون الحياة ثم تركيعها لإرادتها. ورغم خروج الاستعمار الأجنبي من أراضي المسلمين من نشأة الحركات الجهادية التي لا تنطفيء رغم ضعف الأمة الإسلامية في مواجهة أسلحة الجيوش الاستعمارية المتطورة مع تقدمها في المجال التكنولوجي، و لكن أهل البلاد لم يستسلموا  بل حملوا فريضة الجهاد بعزة الإسلام.

وطبقت العلمانية في الإدارة أولا، باتخاذ فرصة خضوع الحكام للسلطة الاستعمارية وجهل الأمة في أمور دينها، حيث تم الفصل بين ما يسمى بالسلطة الدينية على الطريقة المسيحية في أوروبا، بتقديم هذه السلطة الدينية الضيقة للملوك والسلاطين والأمراء ومجالها محصورة في أحكام الأسرة وإدارة شؤون المساجد والأوقاف والتجسس على التدريس الديني وخطب الجمعة. وأما أمور الدولة في أيدي المستشارين الأجانب باسم مساعدة التغيير للتقدم كما حدث في أوروبا. ثم امتدت إلى ترك الشريعة الإسلامية وتبديلها بالقوانين الوضعية الغربية في جميع المجالات والمعاملات الحيوية, ومن ثم انتشرت النظريات الضالة والاديولوجيات الهدامة في صفوف الأمة بوسائل التربية والتعليم والإعلام .

وظهرت في  المجتمع المسلم مناهج التربية والتعليم، فهنا بقيت المدارس الدينية في الجوامع والمساجد والحلقات العلمية التي حفظت تراث العلوم الإسلامية واللغة العربية والكتابات في اللغة المحلية بالأحرف العربية، ولكنها محاصرة بالمضايقات بالقوانين التي تراقب مناهجها وعلماءها وطلابها لمنع الدعوة إلى السياسة والجهاد وقيادة الأمة إلى الإسلام من جديد، وهناك مدارس تقوم بحركة التنصير والعلمنة لتضليل أبناء الأمة وتكوين القادة والموظفين من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. ولقد كانت هذه الطريقة تركت أبعد الأثر في الاتجاه إلى العلمانية في العالم الإسلامي رغم أن الإسلام بقي باسمه في الأشخاص ودستور الدولة والمنظمات والمؤسسات،وليس بحاكم ولكنه محكوم عليه. ثم إتاحة الفرصة للمذاهب الوافدة للسيطرة على مجالات  السياسة والاقتصاد والاجتماع.

ولقد نجحت العلمانية  في كسر الوحدة الإسلامية بإقصاء القيم الإيمانية والروحية والفكرية التي جاء بها الإسلام عن العالم الإسلامي في العلاقات بين أوطان المسلمين والأخوة الإيمانية بالعنصرية القومية ومشاكل الحدود الجغرافية التي وضعوها قبل الخروج وتسليم زمام الأمور والإدارة للأحزاب العلمانية الحاكمة المستخدمة لحماية مصالح الاستعمار بعد استقلال البلاد رسميا.

الحلول الفاشلة

وبعد خروج الاستعمار الأجنبي من العالم الإسلامي بتهميش الإسلاميين الذين بدأوا ضده وتبديله بالقوميين والوطنيين الذين ظهروا من مصانع العلمانية وأشربوا في قلوبهم الخضوع لأوامرها وتسلموا زمام الأمور بتخطيط منظم ومعاهدات تصد عن سبيل تطبيق الإسلام بكامله وتمنع إظهاره على الدين كله. وبقي الاستعمار الفكري في الحكومات بعد استقلال البلاد، وطبقت فيها البرامج العلمانية في حلول قضايا الأمة، وتولدت منها النظريات الوافدة  في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتناضل في سبيلها الأحزاب العلمانية والجمعيات التي تسير في فلكها.

  فإن ابتلاء الأمة من الغزو الفكري بسلاح العلمانية أشد خطرا من الأسلحة التي تميت الأنفس وتفسد الحرث والنسل، إن كانت العقيدة لا تزال صامدة في القلوب، والشريعة معلومة من الدين، والأخلاق الإسلامية تصون الشخصية الإسلامية في المجتمع رغم عجز الحكومات وسقوطها. ولكن آثار هذا الغزو تقوم بعد ذلك حكومات علمانية، تزيل  كيان الأمة وتبيد هويتها, بالخروج من عقيدة الدولة، وعصيان الشريعة منها، وبقيت الأمة بلا حصانة من دخول الآثار السلبية التي تميت الوعي الإسلامي في المجتمع المسلم. لأن الحكام الذين يرثون السلطة من الاستعمار يطبقون برامجه لرد الأمة عن إسلامها بدقة، وهي جاهلة في دينها. وبعد ذلك طبقت الحكومات الإيديولوجيات الوافدة في حل قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، وهذه الحلول المستوردة فاشلة في ديارها غربا وشرقا، وهي فاشلة كذلك في ديار المسلمين. وما الفساد الذي ظهر في البر والبحر إلا بما كسبت أيدي الناس الذين رفعوا هذه الراية الباطلة. فساد في السياسة باستبدادها وجبروتها ضد أهل الإسلام, وفساد في الاقتصاد مع كثرة الموارد الظاهرة على الأرض والدافنة فيها،  وفساد في الإدارات، وضعف في التربية والتعليم، ومذبذبة في تحديد مواقفها للدفاع عن حقوق أمتها المظلومة في فلسطين وكشمير والشيشان غيرها.وبقيت البلدان الإسلامية في سجلات ما تسمى بالدول النامية أو الفقيرة والدول الخاضعة في محور الدول الكبرى على سياستها العولمية.

 مظاهر الابتلاء

ولقد  صدق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهو لا ينطق عن الهوى في قوله : لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تثبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة. (رواه  أحمد).

 أولا: في الحكم والتشريع:

ليس هناك مقارنة بين حكم الله والقوانين الوضعية  بأي حال من الأحوال، فلا يجوز إطلاقا أن نقيم مقارنة بين شريعة الله رب العالمين وبين النظريات البشرية. لأن شريعة الله مبنية على العقيدة الصحيحة، والعدل المطلق، وحسن الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمس الناس في الروح والجسد والفرد والأسرة والمجتمع  المحلي  والدولي، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وهذه الاعتبارات كلها يستحيل أن تتحقق فى تشريع بشري. 

فالعلمانية السارية في المجتمع المسلم المعاصر نقضت فريضة الحكم في إقامة الدولة التي تطبق شريعة الإسلام في تصرفات الحكام، ونجحت في نشأة ضعف الوعي السياسي في عقول الأمة حتى قبلت الحكام الذين تمسكوا بالنظريات الوافدة انقلابية أو اختيارية, ورضوا بالقوانين الوضعية في شؤون الحياة لأنها في فهمها خارج من إطار الإسلام. ويكفي للمسلم إسلامه بالوراثة والنسب والعمل بالأحكام الشخصية  في العبادة والأسرة ويجهل الأحكام الشاملة في جميع شؤون الحياة في المعاملات كلها، ويعتقد أن السياسة لا علاقة بالدين وينسى أحكام الإسلام في الاقتصاد  والقوانين لفصل الخصومات والقضاء على الجنايات  والجهاد والعلاقات الدولية وغيرها، ويجوز أن تكون عقيدة الشخص في نظم الحياة  لبرالية واشتراكية وشيوعية وبراجماتية، وبالتالي أنشئت الأحزاب العلمانية التي تناضل في سبيل تلك المذاهب الهدامة حكومة ومعارضة، ديمقراطية وثورة. وانتشرت  المعاملات الاقتصادية التي يحرمها الإسلام كالتعامل بالربا في حياة المسلمين وغيره من المحرمات بأسماء مختلفة بتبرير من علماء السلاطين وترخيص من الحكومات.

ولقد نجحت العلمانية إقصاء الشريعة الإسلامية في السياسة والمعاملات والأخلاق، وزرع الأحزاب السياسية التي هاجمت الشريعة الإسلامية بكاملها في أوساط المسلمين، وتوالت حملات التشكيك معلنة بين المجتمع المسلم الذي فشا فيه الجهل والفقر مع عصيان الحكومة لأحكام الإسلام. رغم أن هؤلاء الذين وضعهم الاستعمار لتطبيق برامجها أقلية من الأمة تتحكم في البلاد أنشأها بصبغته. استلموا الحكم بالوراثة، أو انقلاب عسكري أو انتخاب مزور. 

 ثانيا في التربية والثقافة:

وقامت المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام بدور بارز لتهميش الإسلام في المجتمع المسلم وأجياله، بإحياء تراث الجاهلية في الوطن، ونسيان دور الإسلام في الحضارة وبالتالي الترغيب بالحضارة الغربية المادية.

ومن ناحية أخرى محاولة إلغاء لغة القران في المجتمع المسلم بتحريض اللغة العامية بين العرب، وتبديل الأحرف العربية بالأحرف اللاتينية في الكتابة بين المسلمين غير العرب. وذلك لإبعاد الأجيال المؤمنة من تعاليم دينهم.

وفي مناهج التربية والتعليم تم إخراج أهمية الدين والأخلاق من الفرائض العينية وهي فريضة لكل مسلم ومسلمة. وتم إدخال مواد النظريات المعادية للإسلام والنظم الوضعية وقوانينها, ومنها  ظهر الحكام الطغاة الذين استخفوا قومهم فأطاعوهم ولا يرحمونهم. ونفذوا مخططات الاستعمار ضد أوطانهم.

وهناك أنشطة رياضية وفنية وثقافية لنشر الفساد لاسيما بين الشباب، بتحريض الاختلاط بين الرجال والنساء والألبسة التي تخالف الدين. واتخذت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة دورا بارزا في برامجها الهادفة بحماية من الوزارات الخاصة في ديار المسلمين.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فى قوله : صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات وعلى رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يشمن ريح الجنة فإن ريحها لتوجد مسيرة كذا وكذا.

ومناهج التربية والثقافة التي روجت بأنها تقود الأمة التي تعجبت بالحضارة الغربية المادية بتقدمها التكنولوجي على أسس علمانية بفصل الدين من شؤون الحياة أو تهميشه، واعتبر الإسلام بأنه يتخذ دورا متخلفا في الحياة البشرية، فإذا بها تدمر المجتمع الغربي وتعطل السلام العالمي وتهدد البشر بالهلاك كما شهد شاهد من أهلها. وهذه أيضا مصيبة على الأمة الإسلامية. وكفى أدلة على ذلك بانهيار الشيوعية والاشتراكية وتدمير دولها، وبداية النهاية للرأسمالية اللبرالية بانهيار اقتصادي وفساد خلقي.

الإصلاح والتجديد

فالعلمانية ليست من ديننا، وإنما هي ظاهرة فى المجتمع الغربي الخارج من الدين، وهي رد الفعل من المسيحية التي ارتدت من أسس دين الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وضد رجال الكنيسة الذين قاموا في مواجهة التطورات العلمية لجمودهم في شؤون الحياة، وموقفهم مع الملوك ضد الشعب مما أدت إلى أزمة الثقة نحو الدين نفسه، وظهرت منها الفساد لفصل شؤون الحياة من الدين الخالص. فالإسلام عندنا بريء منها، ولا بد من تحرير أوطاننا وأمتنا من هذه الويلات.

ولا تزال بين هذه الأمة جماعة فهموا الإسلام فهما صحيحا، فهموه دينا ودولة، وعقيدة وشريعة وأخلاقا ونظما للحياة، عرفوه عبادة ومعاملة وجهادا، قاموا للصد عن هذا الغزو الخطير لإعلاء كلمة هذا الدين في جميع الميادين.

ونحن على يقين أن الله يحفظ دينه،والقران محفوظ فى الصدور والسطور، ولا يدخل فيه التبديل والتحريف كغيره من الكتب،  ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، والإسلام لا ينتهي بوفاة الرسول خاتم النبوة عليه الصلاة والسلام، واستمرت رسالته بظهور حركة الإصلاح والتجديد مهما كانت مكائد الأعداء لمحاربة الإسلام وأهله.

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(

وهذا الوعد الصادق طلع في العالم المعاصر بانهيار العلمانية فى قعر دارها، فالكنائس فارغة في دول الغرب ومنها تباع وتبدل إلى المساجد والمراكز الإسلامية ، وزالت الثقة لأهل الدين المسيحي لفسادهم، وفشلت الإيديولوجيات التي تولدت من العلمانية في السياسة والاقتصاد والأخلاق، وانهارت الدول التي بنيت عليها، وتعطل السلام الإقليمي والعالمي لعدم ثبوت العدل والإخاء بين بني البشر.  

ولقد حان الوقت للأمة الإسلامية الرجوع إلى الإسلام من جديد، لأنه لا يصلح لهذه الأمة إلا ماصلح به أولها. والإسلام الوحيد صالح لكل زمان ومكان، وليس للأمة عذر فى أن تترك هذا الدين الذي جاء من عند الله رب العالمين لتغامر بتجارب النظريات العلمانية التي أثبتت الأيام فشلها الذريع في إنقاذ البشرمن الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، ونعوذ بالله من فتنها الظاهرة والباطنة. وعلى الأمة الالتزام بجماعة المسلمين وقادتها المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، رغم صعوبة الطريق، وكثرة العقبات من الداخل والخارج، فإن النصر وعد الله الصادق.

وأخيرا اتفق الأمة من السنة والشيعة بظهور المهدي المنتظر من أهل البيت الذي يقود الإصلاح والتجديد حين ملئت الأرض جورا وظلما ويأتي بعده ملء الأرض عدلا وأمنا، ولا نضيع الوقت في جدال كيفية الظهور. وعلى كل مسلم أن يعتبر نفسه على ثغر من ثغور الإسلام وأن يشارك ما استطاع في دفع مسيرة الإصلاح ورد الفساد، حتى يأذن الله  بالنصر المبين.