الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي قراءة في أسباب الاختلاف بين الفقهاء

الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي قراءة في أسباب الاختلاف بين الفقهاء

 

الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي  قراءة في أسباب الاختلاف بين الفقهاء

 

السيد علي بن السيد عبدالرحمن آل هاشم

مستشار الشؤون الدينية والقضائية

في دولة الامارات العربية المتحدة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن استظهار ما يعرفه أهل الاختصاص من أهل العلم، واجب مقدس، نابع من فهم العلماء الأجلاء، لقول الرسول(صلى الله عليه وآله): “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”.

 

وتأسيساً على أنه ليس ثمة علم من العلوم عنى به العلماء عناية تامة، وعلى توالي القرون من أبعد عهد في الإسلام وإلى يومنا هذا، مثل عنايتهم (بالفقه الإسلامي).

 

فالنبي(صلى الله عليه وآله) كان يفقه آل بيته وزوجاته وأصحابه في الدين، وكان(صلى الله عليه وآله) يدربهم على وجوه الإستنباط حتى كان نحو ستة من أصحابه(رض)، يفتون في عهد النبي(صلى الله عليه وآله).

 

وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى استمر الصحابة على التفقه على هؤلاء، ولهم أصحاب معروفون بين آل البيت والصحابة والتابعين في الفتيا.

 

فالمدينة المنورة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام) هي مهبط الوحي ومقر آل بيت رسول الله، وجمهرة الصحابة إلى آخر عهد ثالث الخلفاء الراشدين، وقد عنى كثير من التابعين من أهل المدينة، بجمع شتات المنقول عنهم من الفقه والحديث حتى كان للفقهاء السبعة من أهل المدينة منزلة عظيمة في الفقه، وكان سعيد بن المسيب يسأله عبدالله بن عمر(رض) عن أقضية أبيه، وتقديراً من ذلك الصحابي الجليل، لسعة علم هذا التابعي الكبير بأقضية من سبقوه.

 

ثم انتقلت علوم هؤلاء إلى شيوخ مالك من أهل المدينة، فقام الإمام مالك بجمعها وإذاعتها على طلاب العلم والمعرفة، فنسب المذهب إليه تأصيلاً وتفريعاً.

 

وقد عاصر مالك(رض) الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وأخذ عنه الكثير من المسائل في علم الشريعة والحقيقة، وكثيراً ما صرف طلاب العلم لديه في مسائل يرى أن الشريف (كما يدعوه مالك) الإمام الصادق هو أحق بالفتيا في تلك المسائل وحديث (عوانة) مشهور لدى أهل العلم.

 

وقد تبع الإمام مالك علماء كبار تقديراً لقوة حججه، ووضوح منهجه على توالي القرون.

 

كما تبع الأئمة من أصحاب المذاهب الإسلامية جماهير غفيرة من المسلمين، وكان رائد الجميع الوصول إلى الحقيقة، وأن يتعبدوا ربهم على نحو يضمن القبول.

 

فها هي الكوفة قد بُعِثَ إليها عبدالله بن مسعود(رض)، وقد ورد في حديث “إني رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد”.

 

وقد استقر بها رابع الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) وكرم الله وجهه، وقد قرأ الناس (القرآن) بقراءته، وهي التي يرويها عاصم عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السلمي عن الإمام علي، وقد سر سلام الله عليه من كثرة الفقهاء الذين سبقوه أو تبعوه إلى الكوفة، وقال: “رحم الله ابن ام عبد فقد ملأ هذه القرية علماً”.

 

وقد والى الإمام علي(وهو باب مدينة العلم) كرم الله وجهه تفقيه الناس بالكوفة وما حولها، وبذلك اصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المسلمين في كثرة فقهائها ومحدثيها، والقائمين بعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة العربية، وذلك لما اتخذها أمير المؤمنين(عليه السلام) عاصمة للخلافة، وبعد أن انتقل إليها أقوياء الصحابة وفقهاؤهم، وقد ذكر (العجلي) أنه توطن (الكوفة) وحدها من الصحابة ألف وخمسمائة صحابي سوى من أقام بها، ونشر العلم بين ربوعها، ثم انتقل إلى بلد آخر، فضلاً عن باقي بلاد ما وراء النهرين.

 

فكبار أصحاب الإمام علي(كرم الله وجهه) وابن مسعود(رض)، لو دونت تراجمهم في كتاب لأتى سفراً ضخماً بين الكتب.

 

وليس هذا موضع سرد لأسمائهم، فقد جمع شتات علوم هؤلاء العلامة إبراهيم النخعي، وآراؤه مدونة في آثار أبي يوسف، وآثار محمد ابن الحسن الشيباني.

 

وتأسيساً على ما مر فإن رائد العلماء الأعلام جميعاً (منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى يومنا هذا) الحق والوصول إليه، وأنهم (مع تعاقب الأزمان) قد اجتهدوا لأنفسهم ولغيرهم بإخلاص لا نظير له، وبجلد في البحث، وصبر على متاعبه، الأمر الذي صار مضرب الأمثال في حب العلم والتفاني في خدمة شرع الله، فإذا وجدنا بينهم اختلافاً في بعض الآراء والأفكار والاتجاهات، أو تعدد في القراءات وتفسير النصوص، فليس ذلك مبعث نزوة طارئة، أو خصومة ذاتية، أو رغبة في الخلاف، أو حباً للشقاق، ولكن هناك أسباباً اخر ادت إلى هذا الخلاف ولا تحمل هذه الأسباب أي معنى من المعاني التي تسيء إلى هؤلاء الفقهاء الأعلام بل على العكس من ذلك تؤكد حرصهم البالغ على معرفة الحق ونصرته والدفاع عنه، وتدل كذلك على ما كان يتمتع به هؤلاء الفقهاء من عمق الفهم واصالة البحث، وهذا لا ينفي ان هذا الخلاف قد ألبسه المقلدون والمتعصبون رداء من التحامل والتحزب والكيد في بعض العصور.

 

وقبل الحديث عن أهم الأسباب التي اوجبت الاختلاف في الآراء بين الفقهاء والعلماء، تجدر الإشارة إلى ان هذا الاختلاف لا مجال له إلا في الأحكام الظنية دون القطعية، وذلك لأن الشريعة الغراء قد جاءت بنوعين من الأحكام هما:

الأحكام القطعية: وهي التي ثبتت

بالدليل القاطع الذي لا يحتمل تأويلاً ولا شكاً، مثل الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى، والايمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب، وأن محمداً (صلى الله عليه وآله) آخر الأنبياء، والقرآن الكريم آخر الكتب المنزلة، وأنه جاء إلى الناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك الايمان بوجوب الصلاة، والزكاة على من ملك نصابها، والحج على من استطاع إليه سبيلاً، والصيام للقادر عليه، وأن الزنا والخمر والربا حرام، وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، هذه احكام وامثالها قطعية ثبتت بالدليل الذي لا يحتمل خلافاً أو تأويلاً، وهي لهذا حقائق ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا يتصور اجتهاد فيها، ومن ثم لا يتسنى أن يقع خلاف حولها.

 

الأحكام الظنية: وهي تلك الأحكام التي لم ترد على النحو الذي وردت به الأحكام القطعية من ثبوتها بالدليل المتواتر الذي لا يحتمل تأويلاً، وذلك مثل تحديد مقدار الرضاع الذي يثبت به التحريم، فالآية الكريمة المتعلقة بموضوع الرضاع هي:

 

(حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وامهاتكم اللاتي ارضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وامهات نساءكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل ابناءكم الذين من اصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً) ([1]).

 

وليس في الآية تحديد لمقدار الرضاع الذي يحرم قيام علاقة زوجية، وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافاً كبيراً، ولكل رأي ادلته وتعليله. فمثل هذا الحكم ظني الدلالة من الناحية التفصيلية، لأن الآية من حيث ورودها ونقلها بالتواتر قطعية، ولكن من حيث تحديدها لمقدار الرضاع المحرم ظنية، إذ لم تنص على شيء من ذلك.

 

ومن هنا كان مثل هذا مجالاً للاجتهاد والاختلاف، على ان طبيعة الاختلاف في الأحكام الظنية تقوم أساساً على رغبة اكيدة في تحري الحق، فقد كان الأئمة الفقهاء يبذلون قصارى جهودهم في استخراج الأحكام الفقهية، وأسمى ما تطمح إليه نفس كل منهم أن يوافق قوله الحق، وأن ينال حظ المجتهد المصيب.

 

وقد يرى بعض الباحثين أن القرآن الكريم يحذر من التفرق وينفر من الاختلاف في مثل قوله تعالى:

 

(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات واولئك لهم عذاب عظيم) ([2]).

 

فلا يجوز أن تكون اختلافات الفقهاء أمراً مقبولاً، لأنها يمكن أن تكون داخلة في مدلول هذه الآية التي تحض على الوحدة وتنفر من الإختلاف، غير أننا إذا أدركنا أن هذه الآية الكريمة وامثالها إنما تنهى عن التفرق في أصل الدين والتوحيد، وما يطلب فيه القطع دون الظن تبين لنا أن دلالتها لا تنسحب على اختلافات المجتهدين من الفقهاء، لأن اجتهادهم كما سبق يدور في فلك الأحكام الظنية دون القطعية.

 

وليس معنى هذا تحبيذ الخلاف أو الدعوة إليه، ولكني أردت أن اشير إلى أنه في مجال الدراسات الفقهية لا يعد قدحاً، وان الفقهاء لم يخرجوا في اجتهادهم على أصول دينهم.

 

ولهذا الإختلاف بين الفقهاء أسباب كثيرة يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أمور:

 

أولاً: التفاوت في القدرات النفسية والعقلية، فالملاحظ أن الناس يختلفون اختلافاً بيناً في قدراتهم النفسية والعقلية، ويندر أن يتفق شخصان في الذكاء والإدراك ولو من بعض الوجوه، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وما دام الأمر كذلك فلا مناص من أن تتفاوت نظراتهم وأحكامهم، وتختلف آراؤهم وأفكارهم وبخاصة في المسائل التي تحتمل الخلاف.

 

وإذا كان الإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وتتلون ثقافته وعقليته بألوان الثقافة والتفكير التي تشيع في مجتمعه، أو مسقط رأسه، فإن هذا يفسر لنا بعض أوجه الخلاف أو اسبابه بين الفقهاء حيث اختلفت مواطن الفقهاء اختلافاً واضحاً من الناحية الفكرية والإجتماعية والجغرافية، فانعكس هذا الاختلاف على أفكارهم واتجاهاتهم الفقهية، وحكى لنا التاريخ أن العراق كان موئلاً لمدرسة فقهية عرفت بأسم (مدرسة الرأي)، وأن الحجاز كان موئلاً لمدرسة أخرى عرفت باسم (مدرسة الحديث)، وأن الإمام الشافعي(رض) كان له مذهب في العراق، فلما رحل إلى مصر غير في آرائه، وكان له فيها مذهب آخر عرف بالمذهب الجديد.

 

ثانياً: اللغة العربية لغة غنية بمفرداتها وأساليبها، وأحياناً يستعمل اللفظ فيها بمعان مختلفة، وقد تكون متضادة أو مشتركة، والمعروف أن مصادر الشريعة ونصوصها في أرقى درجات الفصاحة اللغوية، فكان الفقهاء يختلفون في تفسير بعض المفردات أو الأساليب، ويذهب كل فقيه أو طائفة من الفقهاء وجهة خاصة في الفهم

 

والتفسير، وتكون نتيجة هذا الإختلاف في الأحكام الفقهية والآراء الاجتهادية، ومن ذلك مثلاً لفظ (القرء) في قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) ([3]).

فقد ذهب الحجازيون من الفقهاء إلى أن معنى القرء في هذه الآية: الطهر، على حين ذهب العراقيون إلى أنه: الحيض، وحجة الحجازيين ما روي عن عمر وعثمان وعائشة وزيد بن ثابت(رض) أنهم قالوا: الأقراء اطهار.

وقال الأعشى:

أفي كل عام أنت جاشم غـزوة تشد لأقصاهـا عزيـم عزائكا

 

مورثة مالا وفي الحـي رفعـة         لما ضاع فيها من قروء نسائكا

 

وأما حجة العراقيين فهي ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال للمستحاضة: “أقعدي عن الصلاة أيام أقرائك”.

 

وقال الراجز:

يا رب ذي ضغن على قارض   يرى له قرء كقـرء الحائـض

 

وقد أدى هذا إلى تباين الحكم في مدة العدة للمطلقة.

 

ثالثاً: لا يختلف اثنان من الفقهاء أو المسلمين بأن سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصحيحة هي المصدر الأول للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، ولنا أن نضيف بأن فقهاء الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بزمن وجيز قد تفرقوا في البلاد وانتشروا في الأمصار، وأن بعضهم قد سمع من الرسول أحاديث لم يسمعها البعض الآخر، وأن هناك تفاوتاً ملحوظاً بينهم في هذا، وأن هؤلاء الصحابة كانوا، في كل مكان حلوا فيه، المنار الذي يهتدي به والمعلم الذي يؤخذ عنه ويتحلق الدارسون حوله.

 

وكان من أثر كل ذلك أن أخذ فقهاء بأحاديث لم يأخذ بها آخرون، إما لأنها لم تصح لديهم أو لأنها لم تصل إليهم، ونجم عن هذا اختلاف في الأحكام وتباين في الآراء.

 

وجملة القول أن اختلافات المجتهدين لا تعني اختلاف الحق في ذاته، ولكن اختلاف الطرق الموصلة إليه، وأن هذه الإختلافات كانت بعيدة عن الأهواء والنزوات، اللهم إلا في عصور الضعف والتخلف، وعلى أيدي الجهلة من المقلدين والتلاميذ المتعصبين، والحق أن هذه الإجتهادات في الرأي قد تركت لنا ثروة من الآراء والنظريات يمكن ان نستمد منها اليوم ما يستأنس به في علاج كثير من المشكلات الراهنة في ضوء شريعتنا الغراء.

 

ونورد ما نقله الإمام الشعراني عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري أنه قال: “إياكم أن تبادروا إلى الإنكار على قول مجتهد أو تخطئته إلا بعد إحاطتكم بأدلة الشريعة كلها، ومعرفتكم بجميع لغات العرب التي احتوت عليها الشريعة، ومعرفتكم بمعانيها وطرقها، فإذا أحطتم بها كما ذكرنا ولم تجدوا ذلك الأمر الذي أنكرتموه فيها فحينئذ لكم الإنكار والخيار لكم وأنى لكم ذلك”.

 

وخلاصة القول: إن اختلاف علماء المذاهب الفقهية(رض) ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات، ومن الأُصول العلمية، هي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين ضرورياتها وثوابت الدين الصحيح.

والله يقول الحق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله.

والحمد لله رب العالمين

 

 

 

مراجع البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ تفسير الطبري – تفسير القرطبي.

3ـ شرح صحيح مسلم للنووي.

4ـ تيسير الوصول.

5ـ سلم الوصول/ العلّامة محمد بخيت.

6ـ الإمام الصادق/العلّامة الشيخ محمد أبو زهرة.

7ـ الإمام مالك/العلّامة الشيخ محمد أبو زهرة.

8ـ الإمام ابن حزم/العلّامة الشيخ محمد أبو زهرة.

9ـ أعلام الموقعين/شمس الدين ابن قيم الجوزية.

10ـ المستصفى/للإمام حجة الإسلام الغزالي.

11ـ احكام القرآن/الجصاص.

12ـ الأحكام /للآمدي.

13ـ تأملات في الشريعة الإسلامية /د. المستشار محمود الشربيني.

([1]).النساء: 23.

([2]).آل عمران: 105.

([3]).البقرة: 228.