آراء المذهب الإسلاميّة في السنّة النبوية
آراء المذهب الإسلاميّة في السنّة النبوية
عبدالله عيظة
بسم الله الرحمن الرحيم
يسرني، ونحن نلتقي في هذا المؤتمر العالمي الثامن للوحدة الإسلاميّة، في عاصمة الجمهورية الإسلاميّة، أن أقدم هذا البحث المتواضع حول آراء المذاهب الإسلاميّة في السُنة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتسليم، طالباً من الله التوفيق والسداد، وجمع كلمة الأُمة لما فيه الخير والصواب، معترفاً بالتقصير قابلاً بنفسٍ راضية لنصح من نصحني، وإرشاد من دلّني إلى سواء السبيل، فالمؤمن مرآة أخيه، ورحم الله من أهدى إليَّ عبوبي.
مُهدياً ذلك إلى أرواح الشهداء الذين سقوا بدمائهم شجرة الإسلام عبر القرون الماضية والأيام الخالية، والى الأنُفس الأبية من البقية الباقية من هذه الأُمة التي تداعت عليها الأُمم كتداعي الأكلة على قصعتها فَفَرَّقت كلمتها، وشتت أمرها، وأكلت خيرها، ومزقتها إلى أشلاء متناثرة يضرب بعضها رقاب بعض.
أُكرر إهدائي وندائي لتلك الأنفس العظيمة التي عرفت الله ربّها فأطاعته، وعرفت رسولها فاتبعته، وعرفت مسؤوليتها تجاه أُمتها فحرصت على جمع الكلمة وتوحيد
ـ(238)ـ
الصفوف، ونبذ الفرقة والأنانية وحبّ الذات، وحرصت على أن تشتغل بمعاني الأُمور، لما رأت أمتها تنزف جراحها، وتلفظ أنفاسها في كلّ قطر من أقطارها، من البوسنة إلى فلسطين ولبنان، وكشمير وأفغانستان والشيشان، بل ربما يشمل مخطط الاستكبار العالمي كلَّ بلدٍ من بلاد المسلمين.
فكم من دمٍ سفكوه، وعِرضٍ انتهكوه، امتلأت المعتقلات، وضاقت بالمسلمين الجهات، فمن أجل المستضعفين هانت على تلك النفوس العظيمة كلّ المشقات، رغم ما يلقونه من عناء المؤامرات الرهيبة من الداخل والخارج؛ فكافر يريد زوالهم، ومنافق يتربص بهم، ويضع العراقيل في طريقهم، ويجنّد نفسه لطمس محاسنهم، وتفريق الناس من حولهم، وجاهل لا يفقه عظمة نهجهم، يتبع كلَّ ناعق ويميل مع كلّ ريح، فطوبى لتلك النفوس المجاهدة، لإعلاء كلمة الله، وإنقاذ عباد الله.
وإني لأشكر كلّ من ساهم في أحياء هذه الفكرة- فكرة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة- من العلماء والمثقفين المخلصين، من مختلف طوائف هذه الأُمة، وعلى رأسهم سماحة السيد القائد آية الله العظمى علي الخامنئي حفظه الله، راجياً أن تكون هذه المؤتمرات فاتحة خير في سبيل لمّ شمل الأُمة وتوحيد كلمتها، وتضميد جراحها وبثّ روح المحبة والإخاء بين أبنائها، باعتبار هذه المؤتمرات مُلتقىً مهماً لتدارس شؤون الأُمة وهمومها في أجواء يسودها روح الإخاء والنصح والإخلاص، يتمكن فيها كلّ فرد منّا من طرح رأيه وإبداء وجهة نظره فيما يقرّب بين طوائف هذه الأُمة، ويزيح الحواجز التي حالت دون توحدها ونهوضها صفاً واحداً في سبيل عزتها، واستعادة مجدها وكرامتها، والوقوف في وجه عدُوّها، مستشعرين في ذلك كثرة وعظمة وأهمية المبادئ والقيم والأهداف التي تتفق عليها هذه الأُمة وضآلة العوامل التي فرّقت بين أبنائها.
وعندما تصفو النفوس وتسمو الهمم تبتعد عن اتباع الهوى الذي يُضل عن سبيل
ـ(239)ـ
الله وتتطلع إلى ما فيه عزتها وتتلاشى الخلافات المذهبية، فتنطلق الأُمة نحو تحقيق العدل فيما بينها والاهتمام بالقضايا الكبيرة التي تهمها؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(1).
الاخوة الكرام !
إنّ مثل هذا المؤتمر العظيم معنيّ بالبحث عن أقرب الطرق وأوضح السبل إلى التقريب بين أقوال مختلف الطوائف الإسلاميّة، الأمر الذي لابد معه من البحث عن أسباب تلك الاختلافات وتقييمها في مختلف المجالات.
وأهم أسباب الاختلاف ومظاهره يعود إلى ما يتعلق بالسنة النبوية من حيثُ مكانتها، ومعرفة الصحيح من غير الصحيح منها، بما ترتب على ذلك من وضع مناهج أصبحت بمنزلة مقاييس مختلفة أدّت إلى الاختلاف في الحكم والتطبيق؛ ولذلك رأيتُ أن اختار هذا الموضوع الذي أتناول فيه بإيجاز آراء المذاهب الإسلاميّة في السُنة، وذكر بعض العوامل التي أدّت إلى الاختلاف في الأخذ بها.
إضافة إلى ما أراه من- وجهة نظري- منهجاً موحّداً سليماً وصحيحاً يمكن الاتفاق عليه باعتباره موافقاً للعقل والنقل؛ أتحدثُ عن هذا بشكل مساهمة متواضعة.
تعريف السُنة:
السنّة: هي قول النبي صلى الله عليه وآله وفِعلُه وتقريره الصادر على جهة التشريع، ومما لاشك فيه أن المسلمين متفقون على اعتبار السُنة دليلاً شرعياً.
ولكن لم تحظ السنّة بما حظي به القرآن الكريم من الحفظ، فحدث فعلاً زيادة ونقصان، سواء على سبيل الخطأ أو الاختلاف في الفهم في الرواية بالمعنى، أو على سبيل
________________________________
1ـ سورة الأنبياء: 92.
ـ(240)ـ
الكذب والوضع المتعمد، ولذلك- وبخاصة بالنسبة لمن يعاصر النبي صلى الله عليه وآله- اختلف آراء المسلمين وأقوالهم حول ما هي السنّة الصحيحة، وما هو الموضوع والمكذوب، وما هي المقاييس المعتبرة في تمييز ذلك.
وسنعرض في هذا البحث جملة من تلك الآراء، لنعرف مدى الاختلاف فيما بينها من جهة، ونعرف أيضاً وجوه الاتفاق ووحدة المقاصد فيها من جهة أخرى.
آراء المذاهب الإسلاميّة حول السُنة:
أوّلاً: الزيدية:
تعتبر الزيدية السنّة المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن ولا يمكنها أن تتعارض معه، وليست حاكمةً عليه، بل هي بمنزلة المفسّر والمبيّن للقرآن.
وأما فيما يتعلق بالتمييز بين معرفة الصحيح من غير الصحيح منها، وما يُقبل وما لا يُقبل فسنطرح ذلك بعرض أقوال بعض أئمة الزيدية الذين تناولوا هذا الموضوع بالبحث المستفيض، وتوصلوا إلى الخلاصة التالية:
قال الإمام القاسم بن محمد t: اختلف الناس فيما يؤخذ به من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله، فعند القاسم بن إبراهيم والهادي إلى الحقّ وآبائهم- رضي الله عنهم- ممن لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وآله ولا سمع منه مشافهةً لا يقبل من الحديث إلاّ ما كان متواتراً أو مجمعاً على صحته أو كان رواته ثقاتاً، وله في كتاب الله أصل وشاهِد (1).
ثانياً: الإماميّة (الاثنا عشرية):
قال السيد محمد باقر الصدر رحمه الله أحد أعلامهم في تعريف السُنة:
السنّة: هي كلّ بيان صادر من الرسول صلى الله عليه وآله أو أحد الأئمة المعصومين عند الشيعة،
________________________________
1ـ الاعتصام بحبل الله المتين 1: 10.
ـ(241)ـ
والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1ـ البيان الإيجابي القولي: وهو الكلام الذي يتكلّم به المعصوم عليه السلام.
2ـ البيان الإيجابي الفعلي: وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم.
3ـ البيان السلبي: وهو تقرير المعصوم عليه السلام أي سكوته عن وضع معين يكشف عن رضاه بذلك الوضع، وانسجامه مع الشريعة.
ويجب الأخذ بكل هذه الأنواع من البيان الشرعي، وإذا دلّ شيء منها على عنصر مشترك من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي.
ولكي نعمل بكلام بوصفه دليلاً شرعياً لابد من إثبات صدوره من المعصوم وذلك بأحد الطرق الآتية:
1ـ التواتر.
2ـ الإجماع والشهرة.
3ـ سيرة المتشرعة: وهي السلوك العام للمتدينين في عصر المعصوم.
قال رحمه الله: وهذه الطرق الثلاث كلّها مبنية على تراكم الاحتمالات وتجمع القرائن (1).
ثالثاً: السُّنيّة:
السنّة عندهم هي قول النبي وفعله وتقريره، وهي المصدر الثاني للتشريع.
أما فيمن يتعلق بالتمييز بين ما يقبل ومالا يقبل منها فهم يعتمدون أساساً على النظر إلى سند الحديث ومتنه، من حيث توفّر الشروط المعتبرة عندهم في القبول وعدمها، مع تصنيف حجيّة الأحاديث على حسب درجاتها من الصحة والحسن ونحو ذلك، ولهم في ذلك أبحاث مطولة وأقوال متعددة نقتبس منها فيما يتعلق بشرط الحديث
________________________________
1ـ دروس في علم الأُصول.
ـ(242)ـ
الصحيح ما يلي:
قال أحد أعلام السنّة «ابن حجر»: ان الصحيح هو ما نقله عدل تام الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ، وكذلك قال ابن الصلاح: هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علّة قادحة.
عوامل الاختلاف كما أوضحها الإمام علي عليه السلام
وعلى كلّ حال فلا خلاف في العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله بل إن جميع طوائف الأُمة الإسلاميّة حريصة على العمل بها، ولكن هناك عوامل كانت سبباً في اختلاف المسلمين في الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد كشف النقاب عنها مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام حين سئل عن سبب اختلاف الناس في الرواية فقال عليه السلام: «إن في أيدي الناس حقّاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً، ووهماً ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيباً فقال: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قولـه، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله رأى وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك، ثمّ بقوا بعده عليه السلام فتقرّبوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال وجعلوهم حكّاماً على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه ولم يتعمد
ـ(243)ـ
كذباً، فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً يأمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم انّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه، ولم ينقص منه فحفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه وعرف الخاص والعام، فوضع كلّ شيء بوضعه وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام لـه وجهان، فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله، فيجمله السامع ويوجهه على غير معرفة لمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من كان يسأله ويستفهمه، حتى إنهم كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلاّ سألت عنه وحفظته، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم».
فلقد أوضح الإمام عليه السلام وكرم الله وجهه معظم أسباب الخلاف والاختلاف، وبيّن أن بعضها مقصود به الدس والتلبيس على هذه الأُمة وبثّ الفرقة في صفوفها، وقد تزعم ذلك منافقو هذه الأُمة، وبعضها غير مقصود وهو ما كان على سبيل الخطأ والوهم وعدم الفهم والتنبه للناسخ والمنسوخ ومقاصد الشارع الحكيم.
ثمّ بيّن الطريقة المثلى لجمع صفوف هذه الأُمة بأن الرابع هو الأحق بالأخذ عنه والإتباع لما يقوله ويرويه، وأنه لو تبيّنت الأُمة رشدها ولم تعدوه إلى غيره لما حدثت
ـ(244)ـ
الفرقة والاختلاف.
على أن عوامل أُخرى ساعدت على اتساع الفجوة بين المسلمين في الأخذ بهذه السُنة الشريفة، اقتصر في بحثي هذا على ذكر عاملين أساسيين هما:
1ـ العدالة المطلقة للصحابي لمجرد الصحبة.
2ـ الجرح والتعديل بالمذهب.
أما العدالة المطلقة للصحابي لمجرد صحبته، وإعطاؤه قدسية بحيث يمنع حوله النقاش ولو فعل الأفاعيل وارتكب المنكرات وأزهق النفوس، ولو ورد فيه قرآن يتلى أو حديث يملى، فيُعمل على تأويله وصرفه إلى غير محله فأمر جدير بالبحث، إذ إن هناك من يمنع ذلك بحجة أن الصحابة هم طرق الأخذ بالسنة.
فنحن نقول: لهذا الفرض نفسه، وللترابط الوثيق بين الصحابة والسنة يجب النظر في اختيار الطريق واختباره؛ فلو أننا سلكنا السبيل القويم والتزمنا الحجة الواضحة، وأخضعنا هذه المسألة المهمة للدراسة والنقاش الجادين، غير متأثرين بأي أثر تقليدي أو عاطفي، سواء في دراستنا لشخص الصحابي أو فيما رواه لبدا وجه الحقّ واضحاً ولظهر نور الإسلام ساطعاً ولاعتصم المسلمون بحبل الله متفقين غير متفرقين.
وأما العامل الثاني (الجرح والتعديل لمجرد المذهب) فإن من اطّلع على كتب الجرح والتعديل وكتب المحدّثين يتضح لـه جليّاً أن أكثر الجرح بمجرد المذهب، ولعل للسياسة دوراً بارزاً في ذلك إضافة إلى التعصب المذهبي؛ ومن الشواهد على ذلك ما ذكره ابن حجر في لسان الميزان في ترجمة إبراهيم بن الحكم بن ظهير؛ قال أبو حاتم: كذاب روى مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه، أي أنهم مزّقوا ما كتبوا عنه من أحاديث السنّة لكونه روى أحاديث أخرى في مثالب معاوية.
وإذا تأملنا في هذين العاملين الخطرين سنجد أنهما غير موضوعيين، أي لا يمكن
ـ(245)ـ
اعتبارهما مقايسي صحة، وسنجد بأن تأثيرهما في توسيع هوّة الخلاف بين الطوائف الإسلاميّة خطر وكبير جدّاًً، ولذلك نرى ونقترح أن نتناولهما بالبحث الموضوعي والتقييم الصحيح في ضوء القرآن وصحيح السُنة والواقع ومنطق العقل.
تلك هي أهم العوامل التي نعتقد أن خطورتها كبيرة جدّاً في خلق الخلاف واستمراره؛ وفي المقابل لأنشك بأن هناك نقاط التقاء بين أقوال أصحاب المذاهب في هذا الموضوع (أي موضوع طرق الأخذ بالسنة)، فالكل متفقون على اعتبار السنّة دليلاً شرعياً.
والكل متّفقون على اشتراط صحة الصدور عن النبي صلى الله عليه وآله، سواء القول أو الفعل أو التقرير الصادر عنه في لزوم العمل.
وهذه بلاشك تشكّل عوامل مهمة في مجال التقريب بين الأقوال والمذاهب، باعتبار أن هذا هو المقصد والهدف الذي ينشده كلّ من يبحث في السُنة ويعمل بها، وهذا يعني أن بالإمكان أن يلتقي الجميع على منهج موحّد في البحث عما يقبل وما لا يقبل من الرواية، بحيث يحقق هذا المقصد والهدف الذي هو هدف الجميع؛ والذي نراه من وجهة نظرنا في هذا الموضوع:
1ـ أن ندع الحكم بالعدالة المطلقة لمجرد الصحبة جانباً وأن يخضع الصحابة جميعاً لتقييم القرآن على ما يصدر منهم من أعمال وعلى تقييم السنّة لهم؛ فالصحابة ليسوا فوق القرآن والسُنة وليسوا بأعظم من النبي صلى الله عليه وآله الذي أمره الله أن يقول ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(1) والذي الزمه الله بالاستقامة وهدده بالعذاب إن هو طغى فقال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ _ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم
________________________________
1ـ سورة الأنعام: 15.
ـ(246)ـ
مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(1).
2ـ أن ندع الجرح والتعديل بالموافقة أو عدم الموافقة في المذهب جانباً، باعتباره سبباً غير موضوعي؛ والله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(2).
فالعدل هو ان نقول: العدل في الرواية هو الصدوق في الأخبار الذي يتحرّى الصدق فيما يقول، والمجروح عكسه ولا دخل للمذهب أو البلد أو الانتماء أو اللغة أو كثرة العلم وقلّته بعدالة الراوي أو جرحه.
وبعد أن نعتمد هذه القاعدة فيجب أن نطبقها عند استعراض كتب الجرح والتعديل المملؤة بهذا النوع من الجرح والتعديل القائم على الموافقة في المذهب أو عدمها، لننبذ هذا المنطق جانباً.
3ـ أن تكون القاعدة الثابتة في تعاملنا مع الروايات المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله أو المعصوم معتمدة بشكل مبدئي على ما يلي:
أ- ألا يقبل إلاّ ما كان متواتراً تواتراً صحيحاً، وليس من النوع الذي كثّرته السياسة.
ب- ما كان مجمعاً على صحته، أو متلقى بالقبول لدى الأُمة.
ج- ما كان يرويه الثقة العدل، وله في كتاب الله أصل وشاهد.
إضافة إلى قضية مهمة وهي: أن نعود إلى القرآن والى الرسول صلى الله عليه وآله فيما قد ثبت عند الجميع صحته، لنستوحي منهما ما يرشدنا إلى اجتماع الكلمة وتوحيد النهج، ومن ذلك ما يعتبر في الحقيقة منهجاً جامعاً ضمن الرسول صلى الله عليه وآله عدم الضلال لمن تمسك به وسار عليه؛ حيث يقول صلى الله عليه وآله في
________________________________
1ـ سورة هود 112- 113.
2ـ سورة المائدة: 8.
ـ(247)ـ
الحديث المتواتر المشهور لدى جميع طوائف الأُمة: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني إنهما لن يفترقا حتى يرداً عليَّ الحوض».
فإن هذا الحديث يرشدنا ويلزمنا أوّلاً بالتمسك بالقرآن والرجوع إليه واعتباره حكماً فيما اختلفت الأُمة فيه، ومن مواضع الخلاف: الاختلاف في ما يقبل وما يرد من الروايات، فمن القرآن نستطيع أن نستوحي المنهج الصحيح.
وكذلك التمسك بعتره رسول الله صلى الله عليه وآله لقيام الدلالة في هذا الحديث وغيره على ذلك.
وأخيراً أشكر العاملين في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة لما يبذلونه من جهد في سبيل توحيد هذه الأُمة، وأعتذر لهم عن تأخّر هذا البحث وعدم استكماله؛ وذلك بسبب تأخّر دعوتكم التي لم تصلني إلاّ قبل أيام من وصول حثكم على إرسال البحث.
وأتوجّه إلى الله العلي القدير لأن يجمع شتات هذه الأُمة وأن يوحّد جهودها وصفوفها لصد أعداء الإسلام والمسلمين.