من المسؤول عن جمع كلمة لمسلمين وبناء وحدتهم

من المسؤول عن جمع كلمة لمسلمين وبناء وحدتهم

 

من المسؤول عن جمع كلمة لمسلمين وبناء وحدتهم

 

                                                                               الدكتور  بوعبد الله غلام الله

                                                                        زاوية سيدي عدة بن غلام الله- تيارت

 

 

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

للمجتمع المسلم مكونات أساسية، مرجعيتها القرآن والسنة النبوية المطهرة، جاء في الحديث:»تركت فيكم أمرين لن تظلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله «.[1]

ومن هذين الأصلين أو المرجعين الخالدين انتظم المجتمع المسلم على مكونات يتفق جميع المسلمين على أهمهما.

على رأسها عبادة الله وحده (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)[2] ؛ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه (ومن يطع الرسول فقط أطاع الله)؛ المحبة والتسامح بين المسلمين فيما بينهم ( إنما المؤمنون إخوة)[3] وذلك قبل ان يتسامحوا مع غيرهم.ومعنى هذا أنه يجب تقديم مبدأ التسامح بين المسلمين على تسامحهم مع غيرهم. وعند التعارض يقدم المسلم على غيره.وهذا يحمل معنى التولية أو الولاء.( ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).[4]

والأصل أن يتبنى المجتمع-أي مجتمع- الفكرة التي تضمن له وحدته وتماسكه وأمنه وهي الفكرة التي تشحذ عزائم الأفراد وتدفعهم إلى بذل الجهد إلى حد التضحية في خدمة البلاد والعباد.ولا يكون ذلك إلا بالاقتناع القلبي والعقلي بالانتماء إلى الأمة.

إن ذلك الشعور المشترك بالانتماء إلى الأمة هو الذي يجعل كل فرد مسؤولا وشاهدا وتصبح المسؤولية عندئذ عينية وليست كفائية ( كلكم راع وكلكم

مسؤول عن رعيته...)[5] قال تعالى(لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).[6]

ولكي يكون هذا الانتماء قويا في مستوى القناعة بالمبادئ والقيم التي تتميز بها الأمة في تغذية الشعور بالسعادة والافتخار، يجب أن تكون هذه المبادئ والقيم حية حاضرة في الشعور توجه العمل اليومي وتقوي عاطفة التماسك بين أفراد الأمة.

كما تقوي إرادة التمادي في محبتهم والارتباط بهم (كالبنيان المرصوص) والابتهاج بالتضحية في سبيل أرضائهم والدفاع عنهم.وفي هذه الحالة يحس كل مواطن بأنه مستحفظ على ثوابت أمته ومؤتمن على صيانتها ومراعاتها في تصرفاته الفردية والجماعية.

ولنا أكبر مثال وأسوة في ذلك ما كان عليه علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين.يقول عنهم الشيخ البشير الابراهيمي : »إنهم فهموا الإسلام كاملا بعقائده وعبادته وأحكامه وأخلاقه، وفهموا ما بين هذه الأجزاء من الترابط والتماسك ووحدة الأثر والتأثير، وأنها في حقيقتها شيء واحد هو الدين، وهو الإسلام، وان ضياع بعضها مؤذن بضياع سائرها....فلا يقوم دين الله في أرضه إلا بإقامة جميعها...وإذا قال القرآن:( وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)[7] فمعناه إقامة جميعها. وأن ليس من هذا الدين أن يصلي المسلم ثم يكذب، ولا أن يذكر الله ثم يحلف به حانثا...ولا أن يمسك عن الطعام ثم يأكل لحوم الخلق « .[8]

ومن شان العامة أن تغفل عن هذا الواجب الذي ترده إلى أولي الأمر؛ وأولوا الأمر من جهتهم منشغلون عن واجبهم في توعية العامة بهذا الواجب وتجنيدها، تشغلهم عن ذلك وتلهيهم أمور تدبير شؤون الأمة ودرء المخاطر التي تهددها في وحدتها..وحتى في وجودها..وهذا في حال ما إذا كان أولوا الأمر مخلصين لأمتهم، بحيث لا يستمدون سلطانهم وشرعيتهم إلا من الأمة التي خولتهم قيادتها وتسيير شؤونها.

غير أنه كثيرا ما تتدخل عوامل داخلية وخارجية تشتت جهود أولي الأمر وتبطل مفعولها، فمن العوامل الداخلية التحزب، والتحيز للفئة العصبية والمذهبية قبل خدمة الصالح العام، وهنا تجد العوامل الخارجية فرصة لشحذ هذا التحزب أو هذا التفيؤ ليس بهدف نصيحة أولي الأمر والأخذ بأيديهم، وإنما لصدهم عن واجبهم وتسخيرهم في خدمة أغراض قد تضر بمصالح الأمة.

وعند ذلك تصبح مصالح الأمة ومقدراتها مسخرة لخدمة القوي المسيطر الذي يبسط سلطانه على الأمة بالاعتماد على الإغراء والتخويف في آن واحد، فالإغراء طريق لتحويل الاهتمام عن الخدمة الموضوعية للأمة وتزيين الاتجاهات الخاطئة مجتمعيا، إما لإضعاف قدرات الأمة وتوهين ريحها وإما لجعل مقدراتها في خدمة أعدائها ..وأولوا الأمر منقادون في هذا الاتجاه الخاطئ، يصدهم الشيطان عن السبيل وما كانوا مهتدين.فينصب اجتهادهم على الاحتفاظ بالحكم والتمتع بسلطانه ويشتد عزمهم في طلب رضا أعداء أمتهم الذين أمّروهم وينسون رضى الله ورضى من وضعوا الأمانة في أعناقهم.

يحضرني في هذا الصدد رأي أدلى به مثقف فرنسي معروف، ينتمي إلى الدين اليهودي وهو من أصل مغربي اسمه جاكوب كوهين وكان قد أدلى بهذا الرأي إلى صحيفة جزائرية بمناسبة انتظام معرض الكتاب في الجزائر لسنة 2015 قال:»إن الغرب لم ولن يقبل يوما بوجود أمة عربية حرة تنعم بالديمقراطية.فمنذ قرون من صدامه مع العرب عمل بكل الوسائل للحد من انطلاق وتقدم هذه الدول، لهذا عمل على خلق "إستقلالات" "وهمية" و"مغشوشة" فيها، عبر تنصيب ديكتاتوريات ظلت في خدمته، ومافيا تضع خيرات بلدانها في خدمة الغرب مما يسمح له بإبقائها دائما تحت السيطرة..إن الثورتين اللتين حدثنا في كل من تونس ومصر مؤخرا هما الثورتان الوحيدتان في العالم العربي، لأنهما سمحتا بمنح الكلمة للشعب الذي عبر بحرية وصراحة، وأوصلتا إلى الحكم قيادات لا يقبلها الغرب، خاصة وأن هاتين الحكومتين قد ارتكبا في نظر الغرب جريمة هي إعادة النظر في علاقتهما مع إسرائيل.

والجريمة في نظر الغرب هي أن يحاول أي نظام عربي أن يكـون مستقلا عنه، ويهاجم إسرائيل، ومعيار أي تعاون بين هذه الدول وبين العالم الغربي هو حجم ومسافة التقارب مع إسرائيل«.[9]

وما يقال عن الأمة العربية يقال عن الأمة الإسلامية عامة.لأن العرب جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، ومن الأكيد أنه لو استقام العرب لكان ذلك عاملا قويا في استقامة المسلمين، لأن الأمة العربية ظلت على مدى التاريخ هي القلب النابض أو المريض للأمة الإسلامية، وذلك باعتبار موقع الحرمين الشريفين وباعتبار لغة القرآن الكريم.

لقد تعمدت إيراد هذا المقطع على طوله من شهادة هذا المثقف الفرنسي، وذلك لسببين:

أ‌-        أن هذا الشاهد ليس متهما ولا هو ممن يمكن أن يحابي العرب الذين وصف حالتهم الضعيفة المهلهلة.

ب- إن إصلاح شؤون الأمة الإسلامية لن يتأتى في القريب المنظور من أولي الأمر باعتبار اختلاف معتمداتهم وتوجهاتهم.

إن عودة الوعي إلى الأمة الإسلامية يتوقف على جهاد العلماء وجهودهم، لأن وعي جماهير الأمة الإسلامية وتشبعها بالمبادئ وبالقيم الإسلامية فهما وعملا هو المسلك الوحيد لإعادة بناء الإسلام على الأسس الموضوعية الصحيحة التي رسمها القرآن الكريم وبينها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.وهذا واجب علماء الإسلام الذين يتعين عليهم أن يبحثوا عن الطرق والمناهج التي تمكنهم من خدمة الأمة والنهوض بها لتخرج من هذه المهاوي المخزية التي أوقعها فيها أعداؤها بأيدي أبنائها .

إن المناخ الاجتماعي في بلاد الإسلام أصبح مهلهلا ملوثا بسبب فتور العلاقة بين العامة وبين ولاة أمورها وذلك لتباعد المصالح وتعددها، إذ تتجه جهـود المسؤولين إلى تثبيت أوضاعهم وإلى مراعاة مصالح من أمّروهم على الأمة وفرضوا بذلك سلطانهم على المجتمع المسلم.

ويكون ذلك بالتأكيد على حساب مصالح الأمة التي ينفرط عقدها ويرتخي تماسكها، ويضيع منها الصواب الذي تحل محله الخيبة والتشاؤم.

إن متن المجتمع-أي مجتمع- وقوته يتمثلان في جمهور المواطنين أو العامة، وعليه يعتمد المسؤولون في تنظيم البلاد طلبا لمساهمته في الإنتاج الاقتصادي أو في الدعم السياسي والتنظيم الاجتماعي. وفي أوضاع التباعد والخيبة يبحث أولو الأمر عادة عن الطرق التي تمكنهم من التحكم في العامة فتفرض القوانين وتختفي الديمقراطية والشورى..

وهنا يبرز واجب النصيحة للأمة الذي يتعين على العلماء بالدرجة الأولى وعلى المثقفين الوطنيين بصفة عامة. وقد كان الشيخ عبد الحميد ابن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيسها يفسر قول الله عز وجل ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )[10] يقول:  أولوا أمر المسلمين هم العلماء، أي الذين يبذلون النصيحة الصادقة للأمة ولا يراعون في نصيحتهم الأمة إلا ما أمر به الله ورسوله.وهم بذلك لا يستمدون شرعيتهم من السلطان ولا من الدولة وإنما يستمدونها من شعورهم بواجب النصيحة تجاه الأمة عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"[11] .وقوله عليه الصلاة والسلام" العلماء ورثة الأنبياء"[12]

الشاهد أن تجنيد العامة حول عقيدة الإسلام وشريعته وما ينجم عن ذلك من التضامن بين المسلمين وحب الوطن وبذل الجهد والنفس-عند الاقتضاء- في خدمته والدفاع عنه ..هو فرض عين على علماء المسلمين الذين يستمدون توجيهاتهم وأفكارهم من القرآن الكريم ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .هذا الرسول المعظم الذي بعثه الله بشيرا ونذيرا.

فهو مبشر لمن أطاع الله بعد الإيمان والتزم بالمبادئ  والقيم التي جاء بها القرآن الكريم واعتبر بالقصص القرآني الذي يؤكد على اطّراد العلاقة بين قضاء الله وسنته في الكون وبين ازدهار الأمم وقوتها أو ضعفها وتلاشيها.

إنها علاقة لا تتخلف. والأمثلة في قصص القرآن كثيرة نكتفي بالإشارة إلى الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل فنجاهم بالمعجزات وأعّزهم ونصرهم ما أخذوا بذلك الميثاق.ثم لما تحولوا عنه وخالفوه سلط عليهم عدوهم الذي شتت شملهم وأذهب ريحهم. يقول الله تعالى في سورة البقرة( وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون.وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون.ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم و تخرجون فريقا منكم من

ديارهم تظّاهرون عليهم بالإثم والعدوان...أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم  إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب)[13]

فمن أهم مقاصد القصص القرآني الاعتبار بأسباب ازدهار الأمم وأسباب تدهورها، وتوجيه المسلمين إلى أخذ العبرة من أحوال الأمم السابقة حتى يستقيموا على الطريقة في بناء مجتمعاتهم، وأن لا يحيدوا وينحرفوا فسيلقون نفس المصير، تطبيقا لسنة الله وقضائه في الكون ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا لقضائه رادا ومخالفا .

إن الملاحظ لحال الأمة الإسلامية اليوم وأوضاعها ليلمس جميع تلك المآخذ التي وقع فيها بنو إسرائيل بعد نقضهم الميثاق...وبما أن ميثاق الله واحد هو ما بعث به جميع الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم فإن سنة الله وقضاءه ماضيان في جميع الأمم ما تقدم منها وما تأخر. قال تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار).[14]

وأولوا الأبصار كما فسره ابن رشد هم العلماء الذين يتحملون مسؤولية إرشاد الأمة ونصيحتها بالعودة إلى رشدها وإلى الأخذ بأسباب قوتها ووحدتها حتى تتخلص من المهاوي التي وقعت فيها بنقضها ميثاق الله واستدبار شريعته، وأخذها بما سول لها من يجاهرون بعدائها  وبعزمهم على إفنائها بأيديهم أو بأيدي المستلبين من أبنائها.

هنا يبرز واجب العلماء الربانيين الذي يخشون الله ولا يخشون أحدا إلا الله ولا يخافون في الله لومة لائم.

من الأكيد أن علماء المسلمين ليسوا كلهم على فهم واحد للقرآن الكريم ولا للسنة النبوية الشريفة. فقد تعددت أراؤهم واجتهاداتهم، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على سنة الله في الكون، وفي المؤثرات والعوامل التي تتدخل في أصل التفكير والاجتهاد، ولهذا فليس المطلوب من علماء الإسلام أن ينبذوا ما آتاهم الله من ثروة في العلم ولا من سعة في الفكر، فقد تأتّى من ذلك في الإسلام علوم كثيرة لم تتيسر لأمة غيرهم. وقد اجتهد كثير من المستشرقين في نقد الفكر الإسلامي وتوهينه حسدا من عند الكثير منهم ورغبة في تنفير من تتلمذ عندهم من المسلمين لنبذ تراثهم وراء ظهورهم، والأخذ بما يمليه عليهم المستشرقون..فتشكل من ذلك توجه جديد يمهد لفرض العولمة. وما العولمة إلاّ فرض رأي الأقوى على الأضعف. وما الأقوى إلا من تسول له نفسه فرض رأيه على الغير، وما الأضعف إلا من تخفف من مشقة إنتاج فكره في عصره فاستطاب الأفكار الجاهزة وركن إليها.

يؤكد مالك بن نبي " أن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكنه بحال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عصر التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أوالمسلطة عليه من الخارج سواء كانت تمت

إلى الإستشراق أو إلى الشيوعية.وإن في تجربة كوبا دليل على ذلك، فإنها تشق طريقها اليوم بالخبرة التي تكتسبها في التطبيق لا في الكتب".[15]

وإن الحرب التي تشنها قوى الاستكبار على جهود إيران ومحاولاتها في ميدان التكنولوجيا الحديثة لدليل آخر...وذلك أن قوة رد الفعل الغربي تفسر قيمة العقل الإيراني وشدته ومآلاته بعد النجاح.

وإن النجاح هنا يتوقف على مدى الثبات والصبر الذي يجب أن يتمتع به العلماء.

يلاحظ أن أعمال فرض الرأي على الفكر الإسلامي اليوم وعلى الجهد العلمي عند المسلمين تسير في اتجاهين أو هي تعمل على جبهتين:

أ‌-     صد العلماء المسلمين عن المضي في البحث وإغراء من تتوفر فيهم الشروط للإسهام في جهود الباحثين الغربيين حتى لا يكون للإسلام ريح فيما ينتجون.

ب‌-  الضغط على من يريد أن يستقل من المسلمين في البحث العلمي والتشنيع عليهم والحكم المسبق على نواياهم ومقاصدهم وحرمانهم من أن يستفيدوا من منتجات العلم الحديث.

إن أي محاولة للتعاون مع الغرب تظل في طريق مسدود إلى أن تجتمع كلمة المسلمين على تفعيل الإسلام ليس كقوة حربية مادية انتقامية كما يفعل الجاهلون لأن في ذلك من الخسارة للإسلام والصد عنه وإرضاء أعدائه ما لا يعلمه إلا الله.

إنّ ما يجب أن تجتمع عليه كلمة علماء المسلمين هو التفكير الجدي في الاستفادة من الطاقات الفكرية والمادية المتوفرة في العالم الإسلامي والاستفادة من الاختلاف المذهبي الذي يجب أن يتحول من عامل صراع وتشتت إلى عامل ائتلاف وتعاون وتماسك.

يجب أن نكفّ عن استعمال المذاهب الفقهية والعقيدية كأحزاب سياسية تعمل على تكثير الأنصار وإقامة الحواجز بين المسلمين وتأجيج الصراع بين الفئات لا يزيد  المسلمين ذلك إلا خساراََ، ولا يمكن أن يسيطر مذهب على مذهب ولا شكل عقيدة على شكل آخر.على أنه يوجد داخل كل مذهب من المذاهب الإسلامية من الاختلاف والتشعب ما يتجاوز الاختلاف بين المذاهب نفسها، وما ذلك إلى لأن القضايا التي تطرح سواء بسبب تقدم الدراسات النظرية وتوسعها أو بسبب المشاكل الاجتماعية التي تحدث هنا وهناك في أصقاع العالم الإسلامي وهذه كلها تبعث العلماء على التفكير والبحث على الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة، فيؤدي ذلك إلى تشعبات داخل المذهب الواحد. وأحيانا يلجأ العلماء إلى الاستعانة بما يوجد في المذاهب الأخرى.والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ التشريع الإسلامي ويلاحظ أن لمثل هذا الموقف فوائد كثيرة من شأنها أن تؤكد أهمية الاجتهاد الجماعي على غرار ما يقوم به مجمع الفقه الإسلامي. والذي ينبغي أن تؤخذ اجتهاداته بعين الاعتبار في جميع البلاد الإسلامية، لأن تشابه القوانين والأحكام القضائية مما يقرب المجتمعات المسلمة من بعضها ويقوي فرص التعاون بينها.

الإسلام هو القرآن وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهما كالبحر المحيط كل من أخذ بهما مخلصا واغترف منهما مؤمنا فهو مسلم ما دام يشهد شهادة التوحيد ويصلي للقبلة.على علماء المسلمين أن يؤيد بعضهم بعضا فيما اتفقوا عليه وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ما دام خلافا لا يثبت به حق من حقوق المسلمين ولا ينفى به باطل مما أصاب عموم المسلمين.فمهما اشتد الخلاف وتشعب فإن وحدة المسلمين أقرب إلى الصواب والصواب هو المطلوب.

إن التقريب بين المذاهب الإسلامية أمر مطلوب، وأشد منه طلبا هو التسامح بين المسلمين، وأن يقبل بعضهم بعضا كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أشداء على الكفار رحماء بينهم".[16]

لقد شرّع لنا الإسلام صلة المحبة بين المسلمين، المحبة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرطا في صحة الإيمان حيث قال:" والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا،  ولا تؤمنوا حتى تحابوا".[17]

وعندما يكون هدف الاجتهاد هو التوصل إلى الحق والصواب فإن الأجر ثابت لمن اجتهد ومن أخطأ في اجتهاده فلا يحرم من الأجر ويبقى إيمانه ثابتا صحيحا، وحاله أحسن ممن فقد محبته لأخيه المؤمن، وبخاصة إذا تحولت المحبة المطلوبة إلى عداوة أو عدوان.

إن مسؤولية وحدة عامة المسلمين تقع حتما على عاتق العلماء الربانيين الذين يخشون الله، وينصحون الأمة ويستنكفون أن يكونوا في خدمة أي نظام يجافي أي طائفة من المسلمين مهما كان المذهب الذي يأخذون به، فلتتصافح المذاهب، ولتدع أمة الإسلام إلى وحدانية الله، وأن تكون حرمة الأوطان الإسلامية كحرمة مكة والمدينة. فإذا اتحد المسلمون شكلوا بوحدتهم قوة تفرض نفسها على أي نظام يقوم في البلاد الإسلامية.

من الأكيد أن وحدة الأمة الإسلامية لا تقوم في الفراغ، وإنما تتشكل من تشابه وتعاون المؤسسات التي يتكون منها هيكل المجتمع، ونقصد هنا المؤسسات التشريعية والتربوية والاقتصادية والقضائية، وهنا يبرز فعل الجامعات الإسلامية في خلق ثقافة إسلامية يقبلها الجميع ويستفيد منها الجميع كما يستفيد الجميع من المصارف الإسلامية التي برهنت على صحة وسلامة التسيير الإسلامي للمال.

يبذل أعداء السلام جهوداً كبيرة في تنفير الناس من الإقبال على الإسلام ويبدعون وسائل علمية شيطانية لصد المسلمين عن الإسلام بخلق توجهات ونحل تحت مسميات إسلامية هدفها تمزيق وحدة المسلمين وإضعاف قوتهم ونشر العداوة والبغضاء بينهم.وهنا كذلك يبرز واجب العلماء الربانيين في فضح هذه الأساليب الخبيثة، وذلك بجعلهم الحياة الإسلامية مقبولة وجذابة ليس في البلاد إسلامية فقط، وإنما كذلك في بلاد الدعوة، فقد أثبت التاريخ أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف، وإنما انتشر واكتسب أقواما وبلدانا وعقولا ونما بالقدوة الحسنة وقد أكد هذه الظاهرة عدد كبير من أكبر الزعماء والمفكرين غير المسلمين....

نذكر منهم زعيم الهند ومحررها المهاتما غاندي حيث يقول: " وددت ان أعرف من هو أعظم رجل يستولي اليوم بدون ريب على قلوب الملايين من البشر، وقد أصبحت أكثر من متيقن بأن المكانة التي يحتلها الإسلام اليوم في حياة الناس لم تحصل بحد السيف، وإنما حصل الإسلام على هذه المكانة العظيمة بفضل البساطة التامة ونكران الذات اللتين اتصف بهما النبي محمد، وبالتزامه الكامل تجاه صحابته وأتباعه، وشجاعته وجرأته وثقته في الله وإيمانه برسالته.

وعندما طويت الجزء الثاني من كتاب حياته تأسفت أني لم أتمكن من قراءة كل حياته."

لقد شهد تاريخ الأمة الإسلامية فترات مختلفة من الازدهار والانحطاط وقد اشتدت عليه وطأة الغزو الأجنبي منذ سقوط الأندلس، وأرهقته حملات الإستدمار في العصر الحديث، فلم يزد ذلك الأمة إلا تمسكا بالإسلام ورغبة في الإنعتاق من نير الإستدمار . غير أن الإستدمار لم يخرج بعساكره من البلاد الإسلامية إلا بعد أن ترك في أوصال هذه البلاد سموما فكرية وطوائف لا ترى في نفسها إلا ما يراه المستدمر، وطوابير ماتت في نفوسها عزة الإسلام وقوته فهي لا تعتز إلا بالمستدمر ولا تنقاد إلا له.

ولكن المجاهدين الذي طردوا جحافل الإستدمار من البلاد الإسلامية ومكّنهـم الله من الخلاص من رواسبـه السيئة والمتمثـلة خاصة في الجهـل والفقر قـد استطاعوا أن يستدركوا بعض ما فات وأن يرمموا ما دمره الظلم والطغيان، فقد تفتح العالم الإسلامي على المعرفة بفضل المدارس والجامعات التي فتحت أبوابها للمتعلمين والطلاب، وتفطن الجميع إلى أن الحياة المعاصرة يطبعها العلم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال الخ....

يميز مالك بن نبي بين البلاد الإسلامية التي تستورد المنتجات التكنولوجية من الغرب وبين اليابان الذي ما انفك يقلد إنتاج الغرب حتى ساواه أو فاقه في بعض المنتجات.  نحن هنا أمام نوعين من التقليد، التقليد الأعمى الذي يأخذ ما عند الغير ويستعمله كما هو دون حاجة إلى دراسته وفهم تركيبه وطرائق عمله و التقليد الذكي الذي يفكك ويحلل ويدرس العلاقات بين الأجزاء بهدف صناعة نفس المنتوج والاستغناء عن استيراده الخ.....

وإذا كانت أحكام الدين تشد المسلمين أو ترجع بهم إلى عصر النبوة والقرن الذي يليه فإن أحكام الدنيا تفرض على أمتنا أن تعيش عصرها وأن تخوض غمار البحث العلمي بكل معطياته، ويجب على الأمة الإسلامية أن تساير الزمن وأن تربط بين حلقاته كما فعل السلف الصالح في عصر النهضة العلمية التي استوعبت علوم وثقافات الأمم المتقدمة والمعاصرة لهم. مثل علوم الفرس والهند واليونان الأمر الذي جعلهم سادة المعمورة ومعلمي سكانها وهداتهم لفترة طويلة من الزمن.

لا يمكن لأمة الإسلام أن تعيش في زمننا الحاضر بأبدانها وفي الأزمنة الغابرة بأذهانها وعقولها ولا أن تحبس القرآن العظيم في زمن نزوله وزمن السلف الصالح من المفسرين والمجتهدين. إن القرآن العظيم كتاب مفتوح  على ملكوت السموات والأرض، وهو خالد على مر الزمان، تقرأه الأمة في أزمنتها المتتالية وفق فتوحاتها المنظورة" فيه خبر ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم....لا تنقضي عجائبه".[18]قال تعالى(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) [19].

إن المعاصرة فضاء إلهي مفتوح وسنة لا تتخلف، وإنما يتخلف من تمسك بتقليد الماضي حتى فاتته القافلة.

إن الحياة المعاصرة تفرض على الأمة الإسلامية توثيق الصلة بغيرها من الأمم وأن تستثمر تكنولوجية الاتصال المتوفرة بكثرة إلى حد أنها جعلت الكرة الأرضية كلها مثل قرية صغيرة، فتنشط في إطار الحوار بين الثقافات والحوار بين الأديان، وإن تغتنم توجه الجماهير في القرن الواحد والعشرين إلى الحياة الروحية لتوجيه أمة الإسلام خاصة والإنسانية عامة إلى حياة روحية إسلامية صحيحة فتنقذ بذلك الأجيال الصاعدة واللاحقة من التيه الافتراضي الذي تروج له المادية المعاصرة.

      وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



[1] - الموطأ 1594.

[2] - النساء 36.

[3] - الحجرات 10.

[4] - المائدة 56.

[5] - البخاري 843.

[6] - البقرة 143.

[7] - الشورى .13

[8] - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ج4 ص 110.

[9] - صحيفة الشروق –الجزائر عدد 4912، 9 نوفمبر 2015 -26 محرم 1437هـ.

[10] - النساء 58 .

[11] - الترمذي 3449.

[12] - مسلم 74.

[13] - البقرة 84-85.

[14] - الحشر 2.

[15] - مالك بن نبي.القضايا الفكرية ص 198.

[16] - الفتح 29.

[17] - ابن ماجه 67.

[18] - الترمذي 478.

[19] - فصلت 52.