منهج الإسلام في إقرار المساواة بين الناس
منهج الإسلام في إقرار المساواة بين الناس
جعفر العذاري
قم - ايران
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيـد:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الكائنات محمد وعلى آله وصحبه.
انّ الإنسان هو الوجود المحوري الذي تدور حوله المفاهيم والقيم الإسلامية، امتاز بالتكريم على سائر الوجودات; بالعقل والاستخلاف وتسخير ما في الكون لـه وحده، وقد خُلق لإقرار منهج الله تعالى في الحياة، وتحقيقه في صورة عملية ذات مظاهر منظورة، تترجم فيها المفاهيم والنصوص إلى مشاعر عملية وأعمال حركية، وقد راعى الإسلام في ذلك الطبيعة الإنسانية التي بقيت محافظة على خصائصها وذاتياتها، كما أرادها الله تعالى، فلم يبدلها أو يعطلها، وكان ناظراً للإنسان بما هو إنسان بلا صفة إضافية خارجة عن تلك الطبيعة، لذا جاءت توجيهاته لتساوي بين الناس، وتقرّر هذه المساواة في واقع الحياة، فالناس مخلوقون لله تعالى، متساوون في أصل الخلقة والنشأة، فأصلهم حفنة طين ونفحة روح، متساوون في التكريم والحرية
ـ(442)ـ
والإرادة، وتجري عليهم السنن بلا تمييز، وهم متساوون في الحقوق المقوّمة للحياة وأدامتها. والمسلمون باعتبارهم أحد الشرائح الإنسانية متساوون مع غيرهم في الإنسانية، ومع أبناء دينهم بالانتماء إلى منهج واحد، قرّر المساواة فيما بينهم بإضافة خاصية الإسلام إلى الإنسانية.
ومن هذا المنطلق فهم مأمورون بإزالة ما يربك هذه الحقيقة ويشيع الاضطراب والقلق في العقول والنفوس والمواقف، وبالالتقاء في المحور المشترك دون النظر إلى الهوية المذهبية، فهم أخوة على دين واحد ومنهج واحد، وهم مأمورون بالعمل الدؤوب لإعادة مجدهم وعزتهم بوحدة مواقفهم، وبالانفتاح مع بقية بني الإنسان المرتبطين معهم برابطة الإنسانية، والمتساوين معهم في الجنس البشري، ليكون المنهج الإلهي هو الحاكم على مفاهيم وقيم الناس جميعا.
وفي بحثنا هذا نستعرض مفاهيم وقيم الإسلام في إقرار المساواة بين الناس، ونوزع البحث على فصول:
الأول: المساواة في الخصائص الذاتية والتصوريّة.
الثاني: المساواة في الحقوق العملية.
الثالث: المساواة أمام أسس وموازين التفاضل.
وندعو الله تعالى ان يعمق روح الاخوة بين المسلمين بوحدة المواقف العملية اتجاه بعضهم، وروح الاخوة الإنسانية مع غيرهم، وان يتناسوا مآسي الماضي التي لا دخل لهم في ارتكابها، ولا مسؤولية على الحاضرين في نشوئها، وان ينطلقوا انطلاقة الصحابة الأوائل في علاقاتهم الأخوية وارتباطاتهم العملية في حمل همّ الإسلام وهمّ الأمة، حيث استطاعوا بناء الحضارة الشامخة في أقل من نصف قرن، وشيّدوا مجد الإسلام وعزة المسلمين.
ـ(443)ـ
الفصل الأول: المساواة في الخصائص الذاتية والتصورية
المساواة في غريزة التدين والانتساب للخالق
انّ المنهج الإسلامي لم ينشأ في فراغ، ولم يتحرك في فراغ، ولم ينشأ في قوالب ومظاهر مثالية، وإنّما ينشأ في الواقع الموضوعي للحياة، وينطلق في النفس الإنسانية من أعماقها وأغوارها ومشاعرها الباطنية، فهو منهج واقعي ناظر إلى واقع الإنسان من حيث هو إنسان بما يحمل من غرائز روحية ومادية; ولهذا فهو يساوي بين الناس في إيداع أهم الغرائز في ذواتهم، وهي غريزة التديّن والشخوص نحو المطلق، فهم متساوون في ذلك، ومتساوون في التأثر الوجداني بعالم الغيب، قال المسيو بوشيت:
«ان اعتقاد الأفراد والنوع الإنساني بأسره في الخالق اعتقاداً اضطراراً قد نشأ قبل حدوث البراهين الدالة على وجوده، مهما صعد الإنسان بذاكرته في تاريخ طفوليته، فلا يستطيع أن يجد الساعة التي حدثت فيها عقيدته بالخالق، تلك العقيدة التي نشأت صامتة وصار لها اكبر الآثار في حياته»(1).
والإيمان بالله تعالى مودوع في أعماق الضمير الإنساني، قال برودون:
«ان ضمائرنا قد شهدت لنا بوجود الله قبل أن تكشفه لنا عقولنا»(2).
وغريزة التدين مشتركة بين الناس جميعاً كما ورد في معجم لاروس للقرن العشرين:
«انّ الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية... وانّ الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى
__________________________________
1 ـ دائرة معارف القرن العشرين 1: 483، محمد فريد وجدي، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.
2 ـ م. ن 1: 483.
ـ(444)ـ
النزعات العالمية الخالدة للإنسانية(1).
وقال باسكال:
«... كل شيء غير الله لا يشفي لنا غليلاً»(2).
وقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة بقوله:
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(3).
والناس جميعاً مجبولون بفطرتهم على الإيمان بالخالق تعالى، حيث تبدأ تساؤلات الإنسان منذ صغره عن نشوء الكون ونشوئه هو فلا فرق بين إنسان وآخر في الإيمان بهذه الحقيقة فالجميع متساوون منذ الخلقة الأولى والى يومنا هذا.
والناس متساوون في الانتساب إلى الله تعالى فهو خالقهم وخالق جميع ما في الكون، وهم متساوون في الشعور بأنّه خالق مطلق، لـه إحاطة تامة بالعالم كلّه، وبالأرض كلها، وبالناس كلهم، يعلم ما يحيط بالإنسان، وهو المهيمن على سكنات النفوس وحركاتها، وما تخفي الصدور، واليه تعالى المصير، فهو المبدأ وهو المنتهى.
والناس متساوون في موجبات الهداية، وموحيات الإيمان، فهي ممتزجة بكيانهم الذي زودته بهم الفطرة والعقل السليم، فكل ما في الكون يدل على وجوده تعالى، وقد بيّن لهم تعالى ما يدل عليه من خلال التفكر في الكون والحياة وفي أنفسهم.
وهم متساوون في الرأفة والرحمة الإلهية، قال تعالى:
_______________________________
1 ـ الدين: 82، محمد عبدالله دراز، دار القلم، الكويت، 1390 هـ.
2 ـ دائرة معارف القرن العشرين 1: 482.
3 ـ سورة لقمان: 25.
ـ(445)ـ
﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(1).
وقال أيضاً: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾(2).
وهم متساوون في وصول العطاء الإلهي بمقدار ما في الموجود الإنساني من درجة وقابلية لتقبل ذلك العطاء.
فالخالق الذي يتساوون في الانتساب إليه واحد غير متعدد، قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾(3).
المساواة في الخصائص الإنسانية
الناس متساوون في خصائصهم الإنسانية، فقد خلقهم الله تعالى من مصدر واحد، لا فرق بينهم ولا تمييز من حيث النشأة والابتداء، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾(4).
وقال تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾(5).
والناس جميعاً خُلقوا من ذكر وأنثى، فلا فرق بين عنصر وعنصر، وسلالة وأخرى، ولا تمييز بين لون ولون، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...﴾(6).
___________________________
1 ـ سورة البقرة: 207
2 ـ سورة الشورى: 19.
3 ـ سورة البقرة: 163.
4 ـ سورة المؤمنون: 12.
5 ـ سورة العلق: 2.
6 ـ سورة الحجرات: 13.
ـ(446)ـ
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ... ﴾(1).
فلا موجب للتمييز، فالخالق واحد، والأب واحد، والمصدر واحد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
«أيها الناس ان ربّكم واحد وانّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب...»(2).
وهم متساوون في الخلق كما قال الإمام علي ـ عليه السلام ـ:
«... فانهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»(3).
والناس متساوون في الخصائص الإنسانية، فالناس جميعاً لهم طبيعة خاصة متساوية عند الجميع، فهم مركبون من جسد وعقل ونفس وروح، ومن غرائز وشهوات واحدة، وهم متساوون في الضعف والمحدودية، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾(4).
وهم متساوون في الصفات المرافقة لضعف الإنسان ومحدوديته، قال تعالى:
﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾(5).
﴿... وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا﴾(6).
﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾(7).
___________________________________
1 ـ سورة الأنعام: 98.
2 ـ تحف العقول: 24، ابن شعبة الحرّاني، المكتبة الحيدرية، النجف، 1380 هـ، ط 5.
3 ـ شرح نهج البلاغة 17: 32، ابن أبي الحديد، مطبعة عيسى الحلبي، مصر، 1959 م.
4 ـ سورة النساء: 28.
5 ـ سورة الإسراء: 11.
6 ـ سورة الإسراء: 100.
7 ـ سورة الكهف: 54.
ـ(447)ـ
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾(1).
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا _ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا _ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا...﴾(2).
فالناس جميعاً يمتازون بالضعف والمحدودية، والافتقار إلى الخالق تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(3).
والله تعالى هو الذي جعل للإنسان جوارحه:
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾(4).
وجعلهم متساوون في العقول والمشاعر والأحاسيس، بلا فرق بين إنسان وإنسان، ولا ميزة لسلالة على سلالة، ولا لعنصر على عنصر، ولا لعقيدة على عقيدة ينتمي إليها الإنسان، فالجميع متساوون من حيث خصائصهم الذاتية، أمّا انعكاس هذه الصفات في الواقع العمليّ فإنها متوقفة على درجات التفاعل مع المؤثرات الخارجية الخارجة عن الخصائص الإنسانية.
وهم متساوون في حبّ الشهوات:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...﴾(5).
والناس متساوون في الموت والحياة والبعث والنشور.
______________________________
1 ـ سورة هود: 9.
2 ـ سورة المعارج: 19 ـ 20.
3 ـ سورة فاطر: 15.
4 ـ سورة الملك: 23
5 ـ سورة آل عمران: 14.
ـ(448)ـ
وهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، ولا يعلمون ما يجري في المستقبل عليهم من حيث الحياة والرزق والموت، فهم متساوون في جميع ما يتعلق بالإنسان من خصائص ذاتية وطبعية جسدية وروحية نفسية وعقلية، ومتساوون في الضعف والكينونة المحدودة، بلا فرق بينهم.
المساواة في الحرية
الناس متساوون في الحرية، فالإنسان خلق حرّاً، فلا عبودية ولا استعباد ولا رقّ، قال تعالى:
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ﴾(1).
فلا يحق للإنسان وان كان في قمة التمتع بالخصائص المعنوية والروحية أن يستعبد غيره، فالإنسان مولود ترافقه الحرية في جميع مراحل حياته، وقد خلقه الله تعالى على هذه الشاكلة، قال الإمام علي عليه السلام ـ: «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»(2).
وقال ـ عليه السلام ـ: «ان آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وانّ الناس كلهم أحرار»(3).
وإذا كانت الظروف الخارجية وخصوصاً ظروف الحرب تستدعي استرقاق الآخرين فإنها ظاهرة استثنائية تعود إلى الأصل فور تغير الظروف الخارجية وتغير ظروف الإنسان نفسه، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن استخدام مصطلح العبد والأمة
____________________________
1 ـ سورة آل عمران: 79.
2 ـ تحف العقول: 52.
3 ـ الكافي 8 / 69، الكليني، دار صادر، بيروت، 1401 هـ.
ـ(449)ـ
في حال الاسترقاق الطارئ، قال صلى الله عليه وآله :
«لا يقولنّ أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي»(1).
فالناس أحرار في علاقات بعضهم ببعض، وهم عبيدٌ إلى الله وحده، ومتساوون في هذه العبودية التي تستلزم نفي جميع ألوان العبودية لغيره تعالى، وان كان مقرباً إليه تعالى طبقاً لموازين ومعايير التقريب كأن يكون رسولاً منه إلى البشرية: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ _ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ...﴾(2).
وحينما أشكل بعض اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله من انه يريد منهم أن يعبدوه كما تعبد النصارى عيسى بن مريم أجابهم صلى الله عليه وآله : «معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره»(3).
فقد أمر الله تعالى الناس أن يعبدوه وحده، كما هو ظاهر في الآيات الشريفة التالية:
﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾(4).
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...﴾(5).
﴿اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(6).
___________________________
1 ـ صحيح مسلم 4 / 1764، دار الفكر، بيروت، 1389 هـ، ط 2.
2 ـ سورة المائدة: 116، 117.
3 ـ السيرة النبوية 2 / 202، ابن هشام.
4 ـ سورة التوبة: 31.
5 ـ سورة البينة: 5.
6 ـ سورة الأعراف / 59.
ـ(450)ـ
فهم متساوون في العبودية لله تعالى التي تستلزم نفي عبادة غيره من عبادة للهوى أو الأنا أو عبادة الأصنام البشرية، أو عبادة أصحاب المؤهلات الكبيرة كالأنبياء وأوصيائهم والرهبان والقساوسة أو عبادة الأبطال الذين لهم دور في حركة التاريخ الإنساني.
وعبّر القرآن الكريم عن جميع الشخصيات النموذجية بالعبيد مساواة لغيرهم من بني الإنسان في العبودية لله، ونفى العبودية لغيره تعالى، وتأكيداً منه لحرية الإنسان والمساواة في هذه الحرية بين جميع أفراده.
﴿لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ﴾(1).
﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾(2).
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ...﴾(3).
﴿... وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ...﴾(4).
﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ...﴾(5).
والمساواة في الحرية تستلزم تحرير الإنسان من جميع الأغلال والقيود إلاّ ما قيّده الله تعالى بها، تحرره من أغلال التحجر العقلي والتقليد الجامد، والتبعية اللاوعية للغير، وتربي الإنسان على حرية التفكير واستقلال الإرادة.
________________________________
1 ـ سورة النساء: 172.
2 ـ سورة الإسراء: 3.
3 ـ سورة ص: 41.
4 ـ سورة ص: 17.
5 ـ سورة البقرة: 23.
ـ(451)ـ
المساواة في التكريم
الإنسان مخلوق مكرّم من قبل الله تعالى، وقد أكدّ الإسلام هذا التكريم، فهو من خصائص الإنسان الممنوحة لـه من قبل خالقه، فهو بنفسه وذاته مكرّم دون أي إضافة صفة خارجة عن ذاته قائمة على أساس الاعتقاد أو الانتماء القومي أو الانتماء العنصري، فلا تمييز على الأسس الخارجة عن ذاته، فالإنسان يساوي أخاه الإنسان في التكريم بما منحه الله تعالى من روحه، وما أمر الملائكة بالسجود لـه:
﴿... إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ _ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين﴾(1).
وقد كرمه تعالى بأن خلقه في أحسن تقويم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(2).
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ _ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ _ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ﴾(3).
وكرّمه الله تعالى بحمله للأمانة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾(4).
والناس متساوون في حمل الأمانة بلا فرق ولا تمييز على أساس عنصري أو لغوي أو أي صفة إضافية.
____________________________
1 ـ سورة ص: 71 ـ 72.
2 ـ سورة التين: 4.
3 ـ سورة الانفطار: 6 - 8.
4 ـ سورة الأحزاب: 72.
ـ(452)ـ
والناس متساوون في تكريمهم بالخلافة الإلهية: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾(1).
والناس متساوون في التمتع بتكريم الله تعالى لهم، بتسخيره لما في الأرض لهم جميعاً: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾(2).
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾(3).
فالجميع لهم حق الاستثمار والتعمير والاستفادة من الإمكانيات المسخرة لهم لإدامة الحياة وإدامة الحركة التاريخية، فالتكريم في هذا المجال شامل للجميع لا فرق بينهم، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك في نفيه للتكريم القائم على أسس إضافية وخارجة عن ذات الإنسان، فقال صلى الله عليه وآله :
«أمّا بعد فإن ناساً يزعمون أن كسوف الشمس، وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وانهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده; لينظر من يحدث لـه منهم»(4).
فالناس مكرمون جميعاً من الله تعالى، فليس هنالك قيمة تعلو على قيمة الإنسان أو تهدر من أجلها قيمته، فالكرامة ذاتية لـه مادام إنساناً، فهي ناظرة إلى إنسانيته الذاتية دون أي اعتبار لسائر الخصوصيات الأخرى، إلاّ التكريم الموضوع من قبل الله تعالى.
_____________________________
1 ـ سورة البقرة: 30.
2 ـ سورة البقرة: 29.
3 ـ سورة الجاثية: 13.
4 ـ الدر المنثور 3 / 329.
ـ(453)ـ
المساواة في التكليف والجزاء
الناس جميعاً متساوون في التكليف الإلهي في الحياة الدنيا، ومتساوون في الجزاء من ثواب وعقاب في الدار الآخرة، دون تمييز وتفريق أو ترجيح، فالجميع مكلفون بالإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، بعدما تبرز لهم البينات، وتتضح لهم البراهين، بأنهم حادثون ومخلوقون للمطلق العليم، وقد جعلهم الله تعالى متساوين في الاطلاع على البينات والبراهين والأدلة، فهو يخاطب فطرتهم وعقولهم ليحرك دفائنها، ويثير كوامن النفس للاستسلام للحقائق التي توصل إلى معرفته تعالى، قال تعالى:
﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1).
وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(2).
ولم يكلف الله تعالى الناس حتى بعث النبيين والمرسلين، وكان آخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله الذي بعث إلى الناس جميعاً لارشادهم والقاء الحجة عليهم في الهداية، فهو لم يبعث لقوم دون قوم ولا للون دون لون وإنّما للناس على مختلف خصائصهم وصفاتهم الخارجة عن ذواتهم، كما ورد في الآيات الكريمة:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(3).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾(4).
______________________
1 ـ سورة النمل: 64.
2 ـ سورة الحشر: 21.
3 ـ سورة الأعراف: 158.
4 ـ سورة سبأ: 28.
ـ(454)ـ
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾(1).
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله بتبليغ الرسالة الإلهية إلى الناس جميعاً إلى العرب والعجم والى الوثنيين وأهل الكتاب بلا فرق ولا تمييز.
وقال صلى الله عليه وآله : «أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود...»(2).
والناس متساوون في التكليف حسب الطاقة الإنسانية المحدودة، قال تعالى:
﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(3).
وقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(4).
وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(5).
فالناس متساوون في التكليف في الأصول والفروع، فهم مكلفون بالعقيدة والشريعة على حد سواء، وقد جعل الله تعالى هذه الحياة قنطرة للحياة الأخرى التي يتساوى الناس فيها في الجزاء، وكل منهم يجد ما عمله أمامه، وقد خاطب القرآن الكريم الناس جميعاً بذلك:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(6).
والله تعالى جامع الناس بلا تمييز لليوم الآخر:
________________________
1 ـ سورة الحج: 49.
2 ـ صحيح مسلم 1 / 370.
3 ـ سورة البقرة: 286.
4 ـ سورة الحج: 78.
5 ـ سورة البقرة: 185.
6 ـ سورة الانشقاق: 6.
ـ(455)ـ
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾(1).
فلكل الناس جزاؤهم: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(2).
فللمحسنين جزاؤهم وللمسيئين جزاؤهم: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾(3).
فهم متساوون في ذلك اليوم بلا تمييز لعنصر على عنصر أو جماعة على جماعة، فالجنة مثوى المؤمنين الصالحين، والنار مثوى الكافرين والطالحين وان انتسبوا إلى الأنبياء بأن كانوا أبناءهم أو بناتهم أو نساءهم، أو ينتمون إلى لغتهم أو قوميتهم أو عنصرهم.
المساواة في الإرادة والاختيار
خلق الله تعالى الناس وهم أحرار في إرادتهم واختيارهم; في الاعتقاد به والالتزام برسالته، وهم متساوون في حرية الرادة والاختيار، فالله تعالى منحهم العقول والغرائز ليتوصلوا من خلال الآيات والبينات إلى اتخاذ المنهج الإلهي في الحياة، في عقولهم ونفوسهم ومواقفهم، وهم بعد إلقاء الحجّة لهم حق اختيار ما يرونه من منهج، بلا إكراه ولا إجبار، قال تعالى:
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا _ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(4).
__________________________
1 ـ سورة آل عمران: 9.
2 ـ سورة الجاثية: 22.
3 ـ سورة النجم: 31.
4 ـ سورة الإنسان: 2 ـ 3.
ـ(456)ـ
والناس متساوون في هدايتهم لنجد الخير ونجد الشر:
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(1).
والناس أحرار فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ظلّ فإنّما يظل على نفسه:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾(2).
فإذا تمت للناس عناصر الهداية ثم انحرفوا عنها غروراً وطغياناً وكبراً فان الله يتركهم وشأنهم ولا يتدخل لهدايتهم لأنهم مخيّرون لا مسيّرون.
والناس متساوون في إصلاح نفوسهم وعدمها، فقد الهَمَ الله تعالى كل نفس عناصر الفجور والتقوى، ثم رسم لها طريق الصلاح والطلاح، والأمر عائد للإنسان نفسه:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا _ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا _ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا _ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾(3).
المساواة أمام السنن الإلهية
جعل الله تعالى للحياة الإنسانية سنناً ثابتة لا تتبدل ولا تتغيّر ولا تختلف، فجعل النتائج تستتبع المقدمات، وجعلها حاكمة على حركة الناس، وهم متساوون أمامها دون فرق أو تمييز، فالله تعالى لا يغيّر ما بهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(4).
____________________________
1 ـ سورة البلد: 10.
2 ـ سورة يونس: 108.
3 ـ سورة الشمس: 7 - 9.
4 ـ سورة الأنفال: 53.
ـ(457)ـ
ومن السنن الثابتة التي يتساوى أمامها الناس جميعاً، هي التمتع بالبركات والحرمان منها: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(1).
وانّ الله تعالى يبتلي الناس دون تمييز أمة عن أمة وقوم عن قوم ولون عن لون، لكي يعودوا إلى الإيمان به والاستقامة على منهجه، قال الإمام علي ـ عليه السلام ـ:
«إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكر متذكر ويزدجر مزدجر»(2).
والناس متساوون في العقوبة الإلهية ان غيّروا حركة التاريخ المتوجهة نحو الكمال والسمو، قال تعالى:
﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾(3).
الفصل الثاني
المساواة في الحقوق العملية
جعل الإسلام لجميع الناس حقوقاً وحرّم التعدي عليها، فلكل إنسان حق خاص به، فهو حرّ في هذا الحق ما لم يصطدم بحق أو حقوق أخرى، فلا يطغى حق الفرد على حق المجتمع، ولا حق المجتمع على حق الفرد، ولا حق مجتمع على مجتمع
__________________________
1 ـ سورة الأعراف: 96.
2 ـ شرح نهج البلاغة 9 / 76.
3 ـ سورة العنكبوت: 34.
ـ(458)ـ
آخر، فالجميع متساوون في الحقوق على اختلاف أنسابهم وألسنتهم وقومياتهم، وعلى اختلاف عقائدهم ودياناتهم، فلا فرق بين المسلم وغير المسلم، وفي داخل المجتمع الإسلامي لا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا شرقي ولا غربي، ولا جنس وجنس آخر، ومن أهم هذه الحقوق:
حـق الحياة:
وهو من أكثر الحقوق أهمية وأولوية، فللإنسان حق الحياة، وقد راعى الإسلام هذا الحق منذ بدء تكوين الإنسان في مرحلة النطفة وفي سائر مراحل حياته، حتى يولد ويترعرع ويصبح إنساناً بالغاً، فلا يجوز الاعتداء على هذا الحقّ، فلا يجوز قتل الإنسان لمجرد اعتقاده أو انتمائه القومي والوطني ولا الطبقي، وقد جعل القرآن الكريم قتل إنسان بمثابة قتل الناس جميعاً:
﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾(1).
وقد احتل هذا الحق مكانة مهمة في أدبيات القرآن وفي سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأهل بيته ـ عليه السلام ـ، فقد جاءت الأوامر والنواهي والتعاليم والإرشادات لحفظ هذا الحق، وأكدت على ان قتل النفس المحترمة وإراقة دم الإنسان يستلزم عقوبة في الدنيا بالقصاص أو الدية، وعقوبة إلهية وخيمة في الآخرة.
حـق الاعتقـاد:
للناس جميعاً حق الاعتقاد بأي عقيدة شاؤوا، فلا إكراه ولا إرهاب ولا إجبار على ترك عقيدة معينة وتبني عقيدة جديدة، قال تعالى:
______________________
1 ـ سورة المائدة: 32.
ـ(459)ـ
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(1).
فلم يقم الدين الإلهي وخصوصاً الدين الإسلامي على أساس الإجبار والقسر، وإنّما قام على أساس التمكن والاختيار من خلال إلقاء الحجة، فلم يكره رسول الله صلى الله عليه وآله أحداً على الإيمان بالرسالة الخاتمة، وبقي الناس أحراراً في الانتماء العقائدي، واستمروا على هذا الحق في جميع مراحل مسيرة المسلمين التاريخية، ولا زال المجتمع الإسلامي يضمّ في صفوفه الناس المنتمين إلى مختلف العقائد والديانات والتيارات الفكرية.
وكانت المشيئة الإلهية في اختلاف الناس في العقائد، ولذا نهى تعالى عن الإكراه في تبني الإسلام:
﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(2).
ويلحق بحق الاعتقاد أن يتبنى المسلم أيّ مذهب كان من المذاهب الإسلامية المعروفة، فلا يجوز إكراهه على تبني مذهب معيّن.
حق التفكير والرأي
أكّد القرآن على جعل التفكير فريضة، والآيات التي تأمر بالتعقل والتفكير قد بلغت العشرات، فلم يضع قيوداً أمام حركة الفكر السليم الذي يروم الحقيقة، بل دعا إلى النظر في الكون والحياة والمجتمع والنظر في الأنفس والآفاق، وقد تقدم ذكر بعض الآيات التي جاء في خاتمتها: «... يتفكرون... تعقلون»، ونهى القرآن الكريم
____________________________
1 ـ سورة البقرة: 256.
2 ـ سورة يونس: 99.
ـ(460)ـ
عن التقليد الأعمى لأنه يمنع العقل من التفكير السليم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾(1).
ولم يجوّز الفقهاء التقليد في أصول الدين إيماناً منهم بتحرير التفكير من التقليد.
فالناس جميعاً لهم حق التفكير وإبداء آرائهم ووجهات نظرهم في مختلف العقائد والأفكار، والمفاهيم والقيم، وفي تشخيص الأشخاص والمواقف والأحداث مع التقيّد باحترام حق الآخرين، فقد منح القرآن الكريم للناس حق النقاش وإبداء الرأي:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(2).
وأمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله بالدعوة بالحكمة والجدال بالحسنى:
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(3).
ودعا إلى الحوار مع غير المسلمين وخصوصاً أهل الكتاب:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ... فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(4).
والدعوة إلى الحوار تستدعي إبداء الرأي وطرح الأفكار المنسجمة مع التفكير دون إكراه وإجبار.
وفي داخل المجتمع الإسلامي جعل الإسلام للمسلمين حق التفكير وإبداء الرأي
_______________________
1 ـ سورة البقرة: 170.
2 ـ سورة النمل: 64.
3 ـ سورة النحل: 125.
4 ـ سورة آل عمران: 64.
ـ(461)ـ
في مختلف القضايا والأحداث، فلهم حق الانتقاد والاعتراض والمحاسبة طبقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشامل لجميع مرافق الحياة والشؤون الاجتماعية والسياسية، فقد كان المسلمون يعترضون حتى على رسول الله صلى الله عليه وآله كما حدث في صلح الحديبية(1)، واعترض المسلمون على أبي بكر لاستخلافه عمر بن الخطاب(2) لأنهم لم يتحملوا شدته عليهم.
واعترض الخوارج على الإمام علي في التحكيم وبعده كما هو مشهور عند المؤرخين.
بل ان بعض النساء قد اعترضت على عمر بن الخطاب فاستمع لها وتنازل عن رأيه(3).
حق الأمان والحماية
لجميع الناس حق الأمان على أنفسهم وأعراضهم وممتلكاتهم ولهم حق الحماية من قبل الدولة الإسلامية، وقد سنّ الإسلام القوانين لحفظ هذين الحقّين، فحرّم الاعتداء بجميع ألوانه ومظاهره، قال تعالى: ﴿... وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾(4).
وقال تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾(5).
وقال تعالى: ﴿... وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾(6).
___________________________
1 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 320.
2 ـ تاريخ الإسلام للذهبي: 116.
3 ـ شرح نهج البلاغة 12 / 17.
4 ـ سورة البقرة: 190.
5 ـ سورة المائدة: 87.
6 ـ سورة آل عمران: 108.
ـ(462)ـ
وحرّم الإسلام الاعتداء على أعراض الناس; بالقول والفعل فحرّم القذف وإشاعة الفاحشة والنظرة بشهوة والزنا ومقدماته، وحرّم التجسس على بيوت الناس والاطلاع على عوراتهم، وحرّم الدخول إلى البيوت دون استئذان.
وحرّم الاعتداء على أموال الناس بسرقة وغصب وغش واحتيال.
وحرّم الاستهانة بكرامات الناس بالسخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب، وبذاءة اللسان.
ووضع القوانين التي تعاقب المعتدين من حدود وتعزيرات كالقصاص وقطع يد السارق وجلد ورجم الزاني للحيلولة دون الاعتداء على حق الأمان.
والناس متساوون في هذه الحقوق بمختلف انتماءاتهم الدينية والقومية، وبمختلف أصفانهم; الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الحكّام والمحكومين.
ومن واجبات الدولة الإسلامية والحاكم الإسلامي - كما هو محل اتفاق جميع المذاهب - حماية جميع المواطنين من الاعتداء الخارجي، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، ويعد ذلك في أوائل الواجبات المكلف الحاكم بتطبيقها فيجب عليه تهيئة الجيش للدفاع عن حدود الدولة وثغورها حفاظاً على أرواح وأعراض وممتلكات جميع الناس القاطنين في الحدود الجغرافية لدولته.
حـق الكفاية الماديّة
من حق الناس جميعاً أن يصلوا إلى حد الكفاية في العيش، وأن تهيأ لهم الأجواء لإشباع حاجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، وكل ما هو ضروري في إدامة الصحة الجسدية والحياة الإنسانية.
فقد وفر الإسلام للناس القاطنين في البقعة الجغرافية التي يعيشونها جميع الإمكانيات المتاحة لإشباع حاجات الناس، ابتداءً بالتشجيع على العمل، ومنح
ـ(463)ـ
الحرية التامة في اتخاذ العمل المناسب في الزراعة والصناعة والتجارة وغير ذلك من الأعمال، دون تمييز بين الناس على أساس عقائدي أو قومي أو عنصري أو طبقي.
وكانت تعاليم الإسلام تنصّ على الحث على التكافل الاقتصادي والتراحم وإشباع حاجات الفقراء والمعوزين، وقد وردت آيات عديدة وأحاديث كثيرة حول الإنفاق والعطاء وبذل المال، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ _ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾(1).
﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...﴾(2).
﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...﴾(3).
وبالإضافة إلى التوجيهات التربوية والإرشادية فرض الإسلام على الأغنياء ضرائب اقتصادية كالزكاة والخمس، وفرض الضرائب على التجار من مختلف أصناف الناس، وجعل مصارفها في إشباع حاجات الفقراء والمساكين، فيعطى لغير المسلم من سهم المؤلفة قلوبهم، وقد أجرى رسول الله صلى الله عليه وآله صدقة على جماعة من اليهود فبقيت تجري عليهم(4).
وكان الخليفة الثاني قد خصص عطاءً من بيت المال لشيخ من أهل الذمة(5)وكذلك فعل الخليفة الرابع(6).
__________________________
1 ـ المعارج: 24.
2 ـ سورة البقرة: 261.
3 ـ سورة البقرة: 177.
4 ـ الأموال: 605 أبو عبيد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 هـ.
5 ـ الأموال: 48.
6 ـ تهذيب الأحكام 6 ـ 293.
ـ(464)ـ
وحرّم الإسلام الإسراف والتبذير من أجل توفير المال الكافي لإشباع حاجات الفقراء.
وحرّم الإسلام الاعتداء على أموال الناس:
﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ...﴾(1).
ووضع القوانين الرادعة للاعتداء على الأموال والممتلكات، ولكل إنسان الحق في استرداد حقه المسلوب من خلال القانون والقضاء.
حق العدالة والمساواة أمام القانون
أمر الإسلام بتطبيق العدالة بين الناس والحكم بين المتخاصمين بالعدل دون النظر إلى هويتهم العقائدة والقومية والإقليمية أو انحدارهم النسبي والطبقي، فالكل متساوون في هذا الحق، وجاءت الآيات القرآنية مطلقة في الحكم بين الناس دون النظر إلى أيّ قيد إضافي، قال تعالى:
﴿انّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾(2).
وأمر المسلمين بأن يكونوا قوامين بالقسط ولو على أنفسهم أو ذويهم قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ...﴾(3).
وتقام العقوبات على حد سواء فلكل مذنب عقوبته بلا فرق بين إنسان وآخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
_________________________
1 ـ سورة البقرة: 188.
2 ـ سورة النساء: 58.
3 ـ سورة النساء: 135.
ـ(465)ـ
«يا أيها الناس إنّما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(1).
ومنع صلى الله عليه وآله من الشفاعة في الحدود حفاظاً على العدالة حيث قال:
«ادرؤوا الحدود بالشبهات، ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حدّ»(2).
ويتساوى الجميع أمام القانون دون فرق أو تمييز، ففي جلسة قضائية قال الخليفة الثاني للإمام علي ـ عليه السلام ـ:
«قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك» فأجابه: «كنيتني بحضرة خصمي، هلاّ قلت: قم يا علي، فاجلس مع خصمك»، فاعتنق الخليفة علياً وقبّل وجهه(3).
وعن سعيد بن المسيّب انه قال: «أقاد النبي صلى الله عليه وآله من نفسه وأقاد أبو بكر من نفسه، وأقاد عمر من نفسه»(4).
وشهد غير المسلمين على تلك العدالة، فقد أخبر أحد جواسيس الروم قادته قائلاً: «هم فيما بينهم كالعبيد... ولو سرق ملكهم قطعوا يده، ولو زنا لرجموه»(5).
ومن أفضل صور المساواة في العدالة وأمام القانون انّ الإمام علي ـ عليه السلام ـ وقف مع خصم لـه من النصارى أمام القضاء - وهو في وقتها خليفة المسلمين - فحكم القاضي
________________________________
1 ـ سنن ابن ماجة 2 / 851.
قال الليث بن سعد: قد أعاذها الله عز وجل أن تسرق وكل مسلم ينبغي لـه أن يقول هذا.
2 ـ من لا يحضره الفقيه 4 / 74، الصدوق، جماعة المدرسين، قم، 1404 هـ.
3 ـ شرح نهج البلاغة 5 / 48.
4 ـ الطبقات الكبرى 1 / 375.
5 ـ تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1 / 143، ابن عساكر، بيروت، 1407 هـ.
ـ(466)ـ
للنصراني عليه لأنه لم يأت ببينة على ملكيته للدرع(1).
ومن وظائف القاضي اتجاه المتخاصمين(2).
1 - التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.
2 - لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه ولا أن يهديه لوجوه الحجاج لأن ذلك يفتح باب المنازعة وقد نصّب لسدِّها.
مساواة الناس في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية
دستور الجمهورية الإسلامية في إيران هو انعكاس لآراء وفتاوى كبار الفقهاء والمجتهدين والمفكرين، وهو يمثل وثيقة إسلامية هامة للاطلاع على اعتراف الإسلام بمساواة الناس، لأن الآراء المطروحة هي آراء فقهية مستنبطة من القرآن الكريم والسنّة النبوية والإجماع، وفيما يلي نستعرض بعض مواده المتعلقة بمساواة الناس:
المادة: 2 ـ الإيمان بالكرامة والقيمة الرفيعة للإنسان، وحريته التوأم مع المسؤولية أمام الله.
- وهو نظام يؤمّن القسط والعدل... والتلاحم الوطني.
المادة: 3 ـ مكافحة كل مظاهر الفساد والجريمة.
- توفير التربية والتعليم والتربية البدنية مجاناً للجميع.
__________________________
1 ـ الكامل في التاريخ 3 / 401.
2 ـ سلسلة الينابيع الفقهية، القضاء والشهادات: 308، علي مرواريد، الدار الإسلامية، بيروت، 1410 هـ.
ـ(467)ـ
- محو أي نوع من الاستبداد والأنانية واحتكار السلطة.
- تأمين الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون.
- اشتراك عامة الناس في تقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
- رفع التمييز الخاطىء وإيجاد الفرص المتكافئة للجميع وعلى جميع الأصعدة المادية والمعنوية.
- بناء اقتصاد سليم وعادل... من أجل خلق الرفاه، والقضاء على الفقر، وإزالة كل أنواع الحرمان في مجالات: الغذاء، والسكن، والعمل، والصحة، والتأمين الاجتماعي.
- تأمين كافة الحقوق للأفراد - المرأة والرجل - وإيجاد الضمانات القضائية العادلة للجميع، والمساواة في الحقوق أمام القانون.
- تنظيم سياسة الدولة الخارجية على أساس: القيم الإسلامية والمسؤولية الاخوية اتجاه كافة المسلمين، والدعم المطلق لمستضعفي العالم.
المادة: 6 ـ يجب أن تدار شؤون البلاد اعتماداً على آراء الجماهير عن طريق الانتخابات.
المادة: 9 ـ ليس لأي سلطة مسؤولة الحق في سلب الحريات المشروعة، حتى لو كان بوضع القوانين والمقررات تحت غطاء الحفاظ على الاستقلال الوطني ووحدة أراضيه.
المادة: 12 ـ المذاهب الإسلامية تتمتع باحترام كامل، واتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسيمهم الدينية حسب فقههم، وتتمتع هذه المذاهب برسمية في التعليم والتربية الدينية والأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، الإرث، الوصية) والدعاوى المرتبطة
ـ(468)ـ
بها في المحاكم، وكل منطقة يتمتع فيها اتباع أحد هذه المذاهب بأكثرية، فان المقررات المحلية لتلك المنطقة تكون وفق ذلك المذهب، في نطاق صلاحيات مجالس الشورى المحلية، مع حفظ حقوق اتباع سائر المذاهب الأخرى.
المادة: 13 ـ الإيرانيون الزرادشت واليهود والمسيحيون هم الأقليات الدينية الوحيدة المعروفة التي تتمتع في أداء مراسيمها الدينية، والعمل وفق مبادئهم في الأحوال الشخصية، والتعاليم الدينية.
المادة: 14 ـ على حكومة جمهورية إيران الإسلامية، وعلى المسلمين أن يعاملوا غير المسلمين بالأخلاق الحسنة، والقسط، والعدل الإسلامي، وأن يراعوا حقوقهم الإنسانية.
المادة: 19 ـ أفراد الشعب متساوون في الحقوق من أية قومية، أو عشيرة كانوا، وان اللون والعنصر واللغة وما شابه ذلك لا تكون سبباً للتفاضل.
المادة: 20 ـ يتمتع جميع الأفراد - سواء المرأة والرجل - بحماية القانون، بصورة متساوية، كما يتمتعون بكافة الحقوق الإنسانية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع مراعاة الموازين الإسلامية.
المادة: 24 ـ تتمتع المطبوعات، والصحافة بالحرية في عرض المواضيع، إلاّ في حالة كونها مخلة بالأسس الإسلامية أو الحقوق العامة.
ـ(469)ـ
المادة: 28 ـ لكل شخص الحق في اختيار أي عمل يرغب فيه ولا يتعارض مع الإسلام، والمصالح العامة، وحقوق الآخرين، والحكومة مسؤولة عن توفير فرص العمل للجميع، والظروف المتساوية للحصول على المهن مع ملاحظة حاجة المجتمع للمهن المختلفة.
المادة: 29 ـ ان حق التمتع بالضمان الاجتماعي هو حق عام، والحكومة مسؤولة أن تعمل... على توفير الخدمات والضمانات المالية لكل فرد من أبناء الشعب.
المادة: 31 ـ ان امتلاك المسكن المتناسب مع الحاجة هو حق كل فرد وعائلة، والحكومة مسؤولة أن تمهّد الأرضية لتنفيذ هذه المادة، مع رعاية الأولوية، وبالذات للذين هم أحوج إلى السكن وبالخصوص القرويين والعمّال.
المادة: 35 ـ يحق لطرفي الدعوى في كل المحاكم، اختيار المحامي لهما، وإذا لم يكن بإمكانهما اختيار المحامي يجب توفير إمكانات تعيين المحامي لهما.
المادة: 40 ـ لا يستطيع أي شخص أن يجعل ممارسة حقّه، وسيلة للإضرار بالغير، أو الاعتداء على المصالح العامة.
المادة: 43 ـ توفير الحاجات الأساسية للجميع.
- توفير فرص وإمكانيات العمل للجميع.
ـ(470)ـ
- توفير الحرية في انتخاب العمل... ومنع أي استثمار لعمل الآخرين.
- منع الإضرار بالغير، والاحتكار، والربا، وبقية المعاملات الباطلة والمحرمة.
- التأكيد على مضاعفة الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي الذي يسد الحاجات العامة.
المادة: 46 ـ كل فرد يملك حصيلة كسبه وعمله المشروع، ولا يستطيع أحد أن يسلب الآخرين فرص الاكتساب والعمل تحت اسم ملكيته وعمله.
المادة: 84 ـ كل نائب مسؤول تجاه كافة أبناء الشعب، وله الحق في إبداء وجهة نظره في كافة قضايا الدولة الخارجية والداخلية.
المادة: 112 ـ القائد أو أعضاء مجلس القيادة متساوون أمام القانون مع بقية أفراد الشعب.
المادة: 140 ـ يجري التحقيق في التهم الموجهة لرئيس الجمهورية والوزراء في مجالات الجرائم العادية، في المحاكم العامة لوزراة العدل.
المادة: 142 ـ يتم التحقيق في ملكية القائد أو أعضاء مجلس القيادة، ورئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء والوزراء، وزوجاتهم وأولادهم، قبل وبعد تحمل المسؤولية بواسطة المحكمة العليا، لكي لا تتضاعف بغير حق.
المادة: 148 ـ يمنع الانتفاع الشخصي بأجهزة وإمكانية الجيش، وكذلك الاستفادة الشخصية من
ـ(471)ـ
الأفراد باستخدامهم للخدمة الشخصية.
المادة: 156 ـ السلطة القضائية هي سلطة مستقلة، تدافع عن الحقوق الفردية والاجتماعية، وهي مسؤولة عن تحقيق العدالة، والقيام بالوظائف التالية:
1 - التحقيق وإصدار الحكم في موارد التظلمات والتعديات والشكايات...
2 - إحياء الحقوق العامة، وبسط العدل، والحريات المشروعة.
3 - الإشراف على حسن تنفيذ القوانين.
4 - كشف الجريمة، وملاحقة ومجازاة وتعزير المجرمين، وإجراء الحدود والأحكام الجزائيـة.
الفصل الثالث
المساواة أمام أسس وموازين التفاضل
أسس وموازين التفاضل
من أهم أهداف الإسلام هداية الإنسانية إلى الطريق القويم; ببناء الإنسان الصالح في فكره وعاطفته وإرادته; لتكون سيرته مطابقة للمفاهيم والقيم التي أرادها الله تعالى، والله تعالى يوجه الناس من خلال البينات والدلائل العقلية لينهض كل ذي فطرة سوية دون كلفة وعناء، لان النهوض لا يحتاج إلى عزائم خارقة، ولذا فانّ المنهج الإسلامي في الحياة يستنهض عناصر الخير والصلاح، ويطارد عناصر الشر والطلاح; ليمضي الإنسان في طريق الارتقاء إلى مستوى الأمانة التي أناطها الله به، وهو يرغب الإنسان الذي استسلم للضلالة والانحراف في العودة إلى الهدى والاستقامة.
ـ(472)ـ
ولا تتحقق هذه الأهداف إلاّ بوضع أسس وموازين للتفاضل بين بني الإنسان، لتستنهض الهمم وتستجيش العزائم; ليبدأ الإنسان بإصلاح وتغيير شخصيته في جميع مقوماتها، في الفكر والعاطفة والإرادة، وقد وضع الإسلام أسس التفاضل وموازينه مراعياً انسجامها مع العقل السليم والفطرة السليمة والأعراف الإنسانية، مع نفي التفاضل على أساس عنصري أو طبقي، وفيما يلي نستعرض تلك الأُسس والموازين:
أولاً: الإيمان
ان الإيمان يجعل الإنسان مستعداً لاقرار منهج الله في الحياة، وتحقيقه في صورة عملية تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال ومشاعر وأخلاق وارتباطات، فيكون كل شيء محيطاً به مستقيماً فيكون الخير والبر والإحسان والتعاون والسلام وحسن الخلق هو الحاكم على عواطف الإنسان وسلوكه في الحياة، فلا ظلم ولا عدوان ولا اضطهاد ولا استغلال، ومن هنا فالتفاضل على أساس الإيمان يكون أمراً مرغوباً تتقبله العقول وتركن إليه النفوس، فالمؤمن خير من المشرك، قال تعالى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾(1).
وتترتب على هذا التفاضل آثار عملية ومنها: عدم تولية الكافر والمشرك على المؤمن، وحرمة تولي المؤمن لـه في الأمور التي تتعلق بالعقائد والمفاهيم، والموقف العملي من تناصر وتأييد، وفي نفس الوقت لا يمنع الإسلام من التسامح في المعاملات الشخصية، والتساهل في المواقف، لكي يرتدع الكافر عن كفره، ويعود إلى الاستقامة على العقيدة الحقة والسلوك القويم، وهذا الميزان هو السائد في المجتمعات جميعاً، حيث يأنس الإنسان بمن يشاركه في الاعتقاد، ويشاطره
______________________
1 ـ سورة البقرة: 221.
ـ(473)ـ
في العواطف، ويماثله في السلوك، وعلى أساس هذا الميزان التفاضلي، لا يسمح للكافر أن يكون قيّماً على المسلمين لان القيمومة متجسدة في الاصلح ولا صلاح فيه، ولا يسمح لـه أن يكون قاضياً ولا مأموناً في كثير من مرافق الدولة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية، من أجل أن لا يتمادى في غروره وكبريائه، وهو تشجيع لأهل الإسلام، لان التساوي في ذلك بين المسلم والكافر يعطّل الطاقات، ويميت الحركة الإيجابية في المسيرة الإنسانية.
ثانياً: التقوى
التقوى هي الحارس الواعي الذي يحرس العقل والضمير والإرادة من الغفلة والضعف والانزلاق وراء الأهواء والمنافع الذاتية، ويحرس الإنسان بجميع مقومات شخصيته من أن يحيد عن الطريق القويم بالاعتداء والتلبس بالشر بجميع ألوانه، والمتقي هو المأمون على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم وجميع حقوقهم، ومن هنا فان الإسلام جعل التقوى أساساً وميزاناً للتفاضل بين الناس، قال تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ﴾(1).
فلا يحق للفاسق أن يكون قائداً للمسلمين، لفقدانه عنصر الاستقامة على المنهج الإسلامي، وغير المتقيد بقواعد الإسلام لا يكون أميناً حتى يؤتمن على الأرواح والأعراض والأموال، ففي الحديث الشريف: «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم»(2).
ولا يصلح أن يكون قاضياً أو شاهداً في المسائل القضائية، أو إماماً للصلاة، ولا
_________________________
1 ـ سورة السجدة: 18.
2 ـ الكافي 1 / 407.
ـ(474)ـ
يصح تبني المواقف تبعاً لإخباره وآرائه، ولذا أكدّ القرآن الكريم على التقوى في التفاضل بين الناس، ولا تفاضل على أي أساس عنصري أو طبقي أو غير ذلك، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(1).
فالناس متساوون في الانتساب إلى الربّ الأعلى والى العنصر البشري إلاّ انهم يتفاوتون في التقوى، وهي الميزان التفاضلي الحاكم على جميع الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
«أيّها الناس ان ربكم واحد وانّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، انّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى»(2).
وليس للنسب أي دور في التفاضل فهم متساوون في ذلك كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
«لا تأتوني بأنسابكم وآتوني بأعمالكم»(3).
وقال صلى الله عليه وآله : «ان أنسابكم هذه ليست بمسيئة على أحد، كلكم بنو آدم... ليس لأحد على أحد فضل إلاّ بدين وتقوى، انّ الله لا يسأل عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، أكرمكم عند الله أتقاكم»(4).
وقال صلى الله عليه وآله لأبي ذر:
___________________________
1 ـ سورة الحجرات: 13.
2 ـ تحف العقول: 24.
3 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 110.
4 ـ الدر المنثور 7 / 579.
ـ(475)ـ
«انظر فانك لست بخير من أحمر ولا أسود إلاّ أن تفضله بالتقوى»(1).
فلا تمييز بين الناس على أسس جاهلية ولا فخر لإنسان على آخر بها، إنّما الفخر والتفاضل بالتقوى، قال صلى الله عليه وآله :
«ان الله عز وجل قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالأباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب»(2).
وفي عهد الإمام علي ـ عليه السلام ـ لمالك الاشتر أوصاه بالرحمة بالرعية، ومساواتهم مع نفسه وفيما بينهم في القضاء والحقوق العامة والخاصة دون تمييز بين مسلم وكافر معاهد، وبين عربي وأعجمي، أو غني وفقير، فلا تمييز بينهم، وفي الوقت نفسه أوصاه بأن يتعامل معهم في التقييم والمفاضلة على أساس التقوى، لانّ المساواة في ذلك تؤدي إلى تعطيل الطاقات الفعّالة المثمرة، وتميت روح الإحسان والعمل الصالح:
«ولايكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فانّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ! وألزم كلاً منهما ما ألزم نفسه...»(3).
والتفاضل على أساس التقوى ليس إجحافاً بحق أحد، ولا تناقض بينه وبين المساواة التي أقرّها الإسلام، فلكل أمر مجاله الخاص به، بل انّ من الحقوق الإنسانية أن يكون هنالك تفاضلاً موضوعياً بين الناس، وعدم التفاضل قد يكون مصداقاً من مصاديق الظلم والإجحاف مؤدياً إلى إرباك العقول والقلوب والنفوس، والى إشاعة الاضطراب في المواقف والسلوك، والناس يركنون إلى هذا الميزان بمختلف
________________________
1 ـ الدر المنثور 7 / 580.
2 ـ مسند احمد 3 / 47.
3 ـ نهج البلاغة: 430، كتاب رقم: 53.
ـ(476)ـ
انتماءاتهم العقائدية والعرقية والطبقية.
ويرفضون التعصّب لغير هذا الميزان، ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن التعصب وقال:
«ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منّا من قاتل على عصبية، وليس منّا من مات على عصبية»(1).
ثالثاً: العلـم
من خصائص أصحاب العلم هي القدرة على إدراك الحقائق والمواقف وسير الأحداث، والقدرة على التشخيص في حال ارتباك المفاهيم والقيم، والقدرة على استخلاص العبر والدروس وراء الأحداث والمواقف، فلا يلتبس عليهم أمر من الأمور، ولا تتأرجح عندهم الآراء والتصورات، ولا تختلط في أذهانهم العناوين والأسماء والصفات، ولا يستسلمون للتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق، وهم قادرون على تشخيص المصالح والمفاسد القائمة في المجتمع.
ومن هنا فانّ لهم دوراً متميزاً عن الجهال، فلا استواء بينهما قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...﴾(2).
والمساواة التي أقرها الإسلام بين الناس لا تنافي التفاوت بينهم والتفاضل على أسس موضوعية ومنها العلم، فبالعلم رفع الله تعالى بعض بني الإنسان على غيرهم، لا رفعة تعالي أو رفعة احتكار للحقوق، وإنّما رفعة المكانة، قال تعالى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(3).
________________________
1 ـ الآداب: 146، احمد بن الحسين البيهقي.
2 ـ سورة الزمر: 9.
3 ـ سورة المجادلة: 11.
ـ(477)ـ
وهذه الرفعة تدفع الناس جميعاً إلى طلب العلم في مختلف مجالاته، لكي تتقظ عقولهم، وتتفتح أذهانهم للنظر في الكون والحياة، والوصول إلى معرفة المجاهيل، ليكون كل شيء في خدمة الإنسان، وإقرار سعادته في الدنيا قبل الآخرة.
والتفاضل على أساس العلم تترتب عليه آثار عملية ومنها: تقديم العلماء في إدارة شؤون المجتمع، لأنهم أعرف من غيرهم بالقانون والتشريع، والأقدر على استنباط الأحكام التي يحتاجها الناس في مرحلة من مراحل الحياة أو المراحل اللاحقة، ويقدم العلماء الفقهاء في القضاء على غيرهم، لأنهم الأعرف بأحكامه وقوانينه، وللعالم مكانة اجتماعية بين الناس خلقها لـه علمه وحاجة الناس إليه، وقد تعارف عليه بين الأمم والشعوب على مختلف عقائدهم وانتماءاتهم العرقية والجغرافية أن يقدّموا الأعلم في إدارة شؤونهم وحل منازعاتهم، وهذا أمر طبيعي منسجم مع فطرة الناس وتطلعاتهم في إنجاح سير حركة المسيرة الإنسانية.
وقد اعتاد المسلمون على تقدير العلماء واتباع منهجهم وان كانوا منتمين إلى عنصر معين أو قومية معيّنة، حيث انّ المقياس والميزان هو العلم لا العنصر والقومية واللغة والطبقة والنسب.
وهذا التفاضل لا يعني عدم المساواة، فالعلماء متساوون مع غيرهم في الإنسانية وفي التكليف وفي المسؤولية، ومتساوون في الحقوق الشخصية، ومتساوون أمام القضاء والقانون، وتطبق عليهم الأحكام والقوانين كما تطبق على غيرهم.
رابعاً: العمل الإيجابي
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(1).
ـ(478)ـ
ان الإسلام ليس مجرد تفكير وتدبر، وليس مجرد خشوع وليس مجرد التوجه إلى الله تعالى للفوز بالجنات والنجاة من النيران، وإنّما هو العمل الإيجابي الذي ينشأ عن هذا التفكير وهذا الخشوع وهذا التوجه، فالله تعالى أراد من الإنسان أن يكون حركة في المجتمع، وان يهيأ للسنن أسبابها بحركته الإرادية المختارة، وان يكون دائماً في حركة وحيوية وتطلع إلى أفق أعلى واهتمامات أرفع، أراد منه السير في الطريق للوصول إلى تقرير المفاهيم والقيم الصالحة في العقول والقلوب والنفوس، وفي السلوك والمواقف، متعالياً على المعوقات والمثبطات وعلى الضعف والتهرب من الحياة، فمن احتمل التكليف والمسؤولية مندفعاً نحو إقرار المنهج الإلهي في الحياة لا يمكن أن يتساوى مع المعطّل لطاقاته الفكرية والحركية.
ومن هنا فالتفاضل بين الناس على أساس العمل الإيجابي أمر ضروري في تفجير الطاقات وتوظيفها في خدمة المنهج والإنسانية، وهو تفاضل موضوعي تستريح إليه النفوس والمشاعر، وهو أمر متعارف عليه عند الشعوب، حيث يفضلون من هو أكثر فاعلية وحركة منهم، وليس في ذلك إجحاف للآخرين وانتقاص بحقوقهم، وليس فيه تناقض مع مبدأ المساواة الذي أقرّه الإسلام، فالعامل الفعّال يقدّم في إسناد المسؤولية لـه، في الدولة وفي المجتمع، فيقدّم السابقين على غيرهم:
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ _ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ...﴾(2).
ويقدّم المجاهدون على غيرهم:
______________________________
1 ـ سورة النحل: 76.
2 ـ سورة الواقعة: 10 ـ 11.
ـ(479)ـ
﴿فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾(1).
وفي غير ذلك فهم متساوون مع بقية الناس في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم، فلكل ذي حق حقّه غير منقوص.
والإسلام راعى هذه الموازين في تقييم الناس ووضعهم بالمكانة المناسبة، ولم يلتفت إلى الموازين الجاهلية القائمة على التمييز على أساس اللون واللغة والقومية والعشيرة والنسب إلى غير ذلك، فنجد رسول الله صلى الله عليه وآله قد ساوى بين الأسود والأبيض وبين العرب والعجم، وبين المهاجرين والأنصار، وبين المسلمين وأهل الذمة، وبين الغني والفقير، والعبد والحر، والرجل والمرأة في جميع الحقوق الإنسانية.
ومن مساواته بين المسلمين، انه أمر بطاعة الأمير والقائد العسكري وان كان حبشياً:
«اسمعوا وأطيعوا وان استعمل عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة»(2).
ومرّت عليه ابل الصدقة فأهوى إلى وبرة من جنب بعير فقال:
«ما أنا بأحق بهذه الوبرة من رجل من المسلمين»(3).
وكان صلى الله عليه وآله يجالس الفقراء ويواكل المساكين(4).
وارتقد رجل أمامه فقال لـه: «هوّن عليك فإني لست بملك إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»(5).
______________________________
1 ـ سورة النساء: 95.
2 ـ مسند احمد 3 ـ 558.
3 ـ مجمع الزوائد 5 ـ 231.
4 ـ جوامع السيرة النبوية: 34، ابن حزم الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
5 ـ الطبقات الكبرى 1 ـ 23.
ـ(480)ـ
وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت المساواة هي الحاكمة في سياستهم، فقد أسندت المناصب والولايات وقيادة الجيوش إلى مختلف طبقات المسلمين من عرب وعجم، ومن غني وفقير، وأُبعد ذوي القرابة عن بعض المناصب لعدم كفاءتهم، ومن المواقف الشهيرة عند الخليفة الثاني انّه قام بإقامة الحدّ على ابنه عبد الرحمن، وانه أراد أن يعزر أحد ولاته لاعتدائه على أحد المسلمين فقال لـه عمرو بن العاص: أتقيده منه ؟ إذاً لا نعمل لك على عمل، فأجابه بالقول: لا أبالي إلاّ أقيد منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي القود من نفسه(1).
ورفض الإمام علي ـ عليه السلام ـ ان يفرّق في العـطاء على أساس الانتمـاء القومي وقـال - لمـن اعترض عليه -: «إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق»(2).
وكتب إلى أحد ولاته المقصرين في أعمالهم والمستحوذين على بيت المال دون حق:
«... ووالله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل عن مظلمتهما...»(3).
وقد ترقى الحال به حتى ساوى بنفسه مع الآخرين في جشوبة العيش فقال:
«أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»(4).
_________________________
1 ـ م. ن 1 / 374.
2 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 201.
3 ـ نهج البلاغة: 414.
4 ـ نهج البلاغة: 418.
ـ(481)ـ
والخلاصة: ان الإسلام أقرّ المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات بعد مساواتهم في النشأة والتكوين وفي الخصائص الإنسانية، ولم يراع في التقييم والتفاضل أي صفة عنصرية أو قومية، وإنّما جعل التفاضل قائماً على أسس موضوعية وهي: الإيمان والتقوى والعلم والعمل.