عناصر وحدة الأمة الإسلامية بين النظرية والتطبيق
عناصر وحدة الأمة الإسلامية بين النظرية والتطبيق
أ.د. محمد الدسوقى
أستاذ الدراسات العليا قسم الشريعة
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
الإسلام دين الوحدة
هل كان هؤلاء العرب الرحل الذين عاشوا في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام ينظر إليهم من الدول التي تحيط بهم أو تبعد عنهم نظرة اهتمام أو اكتراث ..؟
هل كان يتوقع من هؤلاء الذين ثارت بينهم الحروب لأتفه الأسباب وأوهى العلل أن يوحدوا كلمتهم، ويجمعوا أمرهم، ويكونوا مصدر قلق لسواهم ..؟
إن عرب الجاهلية على ما عرفوا به من البأس والشدة، لم يكونوا مصدر قلق لغيرهم من الأمم لأنهم عاشوا أوزاعا لاتجمعهم رابطة، ولا يقودهم زعيم، ولا يخضعون لقانون أو سلطان، فبأسهم بينهم شديد، وثاراتهم تمتص كل ما لديهم من طاقات فضلا عن المنكرات التي فشت فيهم وفى مقدمتها عبادة الحجارة ..
فلما جاء الإسلام حول هذه الأمة المفككة المتصارعة المنحلة، إلى أمة أخرى، لها قيمها الخالدة ورسالتها المجيدة، لقد صار العرب بالإسلام أمة جديدة في عقيدتها وسلوكها ومثلها، أمة توحدت كلمتها، وقويت إرادتها وسمت مبادئها وغاياتها، فقادت البشرية إلى الإمام وأذهلت العالم بفتوحاتها في شتى الميادين . فلولا الإسلام لظل العرب كما كانوا في جاهليتهم جماعات متحاربة، تحصدها العداوات والغارات، وتسلب أمنها الضغائن والاحقاد ولظلوا يعيشون في عزلة في تلك الصحراء المجدبة، يقيم العالم لهم وزنا .
أن الإسلام دين الحياة المتجددة الفاضلة، لأنه دين الوحدة الشاملة والقوة العادلة وبالوحدة والقوة تتحقق كل المعجزات وتعيش الأمة التي تؤمن بهما قولا وعملا مرهوبة الجانب عزيزة المكانة يخطب ودها الجميع .
على أن دعوة الإسلام إلى الوحدة والقوة، لا تقوم على نزعة عنصرية كريهة، تبغى الاستعلاء والسيطرة، لأن الإسلام دين الله إلى الناس جميعا، لا يعرف عصبية إلا للحق، ولا يبغى علوا الا لكلمة الله .
من أجل ذلك قرر الإسلام أولا أن الناس من نفس واحدة وأصل واحد ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء ( [الآية 31 في سورة النساء] .
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( [الآية 13 في سورة الحجرات].
ويقول الرسول r "كلكم لآدم وآدم من تراب" .
وحين قرر الإسلام ذلك فقد أبطل تلك المزاعم التي تذهب إلى تفضيل بعض الشعوب والأجناس على بعض لأسباب ليست لها علاقة بهذا التفضيل ولا تدل إلا على عنصرية بغيضة عفي عليها الإسلام، ونزعة منحرفة قاست منها البشرية وما زالت الويلات والمتاعب، ويكفى أن الحربين العالميتين لهذا الانحراف الكريه، كما أن الصهيونية العالمية بنشاطها المحموم في كل مكان من أجل تحقيق أحلاهما العريضة في الوطن العربي إنما يحركها ويشد أزرها مزاعمها العنصرية البغيضة التي تنظر إلى غير اليهود نظرة الكراهية والاستعلاء والعداء .
فالمسلم إذن يؤمن بأنه عضو في الجماعة الإنسانية كلها، وأن هذه الإنسانية لا يتفاوت أفرادها من ناحية الشكل والمكان ولكن من ناحية ما يقوم به كل فرد من عمل صالح ينفع الناس، وهذا الإيمان يفرض على المسلم أن يسهم ما استطاع في تقدم الحياة ورفاهيتها وأن يكون دائما رسول خير وسلام وداعية أمن ووئام .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤمن المسلم بأنه والمسلمين جميعا يشكلون أمة أبرز سماتها الوحدة ) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( [الآية 92 في سورة الأنبياء] . والأخوة ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ( [الآية 103 في سورة آل عمران] . والمحبة والتناصر والتكافل "وتعاونوا على البر والتقوى" . (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) .
فوحدة المسلمين قوامها الأخوة والمحبة والإيمان بأن وشائج العقيدة أقوى وأولى من وشائج الدم والنسب، ولذلك فهي
وحدة راسخة الدعائم لا تنال منها الأحداث، لأنه لا يمكن تحقيق وحدة سليمة أصيلة في مجتمع لا يشعر أفراده بأنهم سواسية كأسنان المشط، وبأنهم أخوة تجمعهم عقيدة لا تؤمن بفوارق الأجناس والألوان .
إن الوحدة في الإسلام وحدة جامعة، والمسلمون بها كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام كالجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا .
ولحرص الإسلام على وحدة أتباعه وتماسكهم وبقائهم دائما صفا واحدا وقلبا واحدا نهى عن كل ما يضعف هذه الوحدة فلا غيبة ولا حقد ولا كذب ولا نفاق ولا اعتداء على الحقوق والحرمات، وإذا ما نشب خلاف بين جماعتين من المسلمين فقد وجب الإصلاح بينهما وإزالة جميع أسباب الخلاف والشقاق، وإذا لم تذعن إحدى الطائفتين لما فيه الخير للمسلمين كان استعمال السلاح ضدها أمرا مشروعا وعملا مطلوبا )وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( [الآية 9 في سورة الحجرات]
إن الإسلام يمقت التفرق ويحذر من الخلاف ويحض على الوحدة لأنها سبيل القوة وطريق النصر والعزة ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( .. )وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( .
وقد يقال – إذا كان الإسلام دين وحدة واتحاد فلماذا نرى المذاهب الفقهية والكلامية قد فرقت المسلمين إلى نحل ومذاهب تتخاصم وتتعادى وتحدث بين المسلمين شقاقا وخلافا ؟ ولكن إذا عرفنا أن المذاهب الفقهية والكلامية لا تخوض في المسائل القطعية والأحكام الكلية، وإنما تبحث في المسائل الظنية والفرعية وأن اختلافات المجتهدين ليست مبعث شقاق لأنها آية على تفاوت العقول في المدارك والاستنباط – إذا عرفنا هذا أدركنا أن ما نراه ونسمعه من تخاصم بين المذاهب الفقهية إنما ظهر في عصور الضعف والتخلف والتقليد ومع هذا فإن الذين يفقهون الإسلام فقها واعيا يرون أن هذا الدين يدعو إلى الوحدة بكل معانيها، ولا يرون في مذاهب الفقهاء وعلماء الكلام ما ينقض هذه الوحدة، لأن هذه المذاهب ليست منزلة من عند الله، فهى آراء كونتها ظروف بيئية واجتماعية وثقافية مختلفة، وبالتالي ليست فرضا يجب اتباعه، وليس لازما على المسلمين أو بعضهم الأحد بقول إمام دون آخر وقد آن للمسلمين أن يتحرروا مما خلفته لهم عصور الضعف والتقليد . فلا ينزلون مذاهب الفقهاء منزلة لا يقرها دين ولا منطق، ولا يختلفون بسبب آراء لم نؤمر بإتباعها وعدم الخروج عليها، وليجعلوا قبلتهم في تعرف أحكام دينهم كتاب الله وسنة رسوله مع الاسترشاد بآراء الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين .
عناصر وحدة الأمة الإسلامية أو دعائم هذه الوحدة
إن الذي لا مراء فيه أن الإسلام جاء لبناء أمة وإنشاء دولة وإقامة مجتمع رائد وقائد في شتى المجالات. ولاتنى الأمم أو تنشأ الدول، وتقام المجتمعات إلا بالمبادئ والقيم الصالحة للحياة .
والإسلام – وهو دين الله إلى الناس كافة – قرر أقوم التشريعات والفرائض التي تبنى المجتمع الجدير بالرّيادة، وقيادة البشرية نحو المثل العليا والغايات النبيلة.
ومن يستقرئ ما قرره الإسلام من تشريعات ومبادئ ينتهي إلى أن أهم الدعائم التي ينهض عليها المجتمع الإسلامي هي:
1-التوحيد . 2-الوحدة . 3-المساواة . 4-الحرية .
5-الإيجابية . 6-التوازن. 7-التكافل . 8-الفضيلة .
9-العدالة . 10-القوة .
وتعتبر دعامة التوحيد أساس كل الدعائم التي تميز المجتمع الإسلامي عن سائر المجتمعات . والتوحيد في مدلوله العام يعنى إخلاص السلوك البشرى لله وحده، فلا يعنى التوحيد الإيمان بأن الله واحد أحد فرد صمد فحسب، ولكنه إلى هذا يعنى التوجه إليه سبحانه بكل عمل يزاوله الإنسان، ومن ثم لا يخشى غير خالقه، ولا يريد بما يأتى ويذر من الأقوال والأفعال غير مرضاة ربه، وبذلك يتمتع بطاقة إيمانية تمنعه من أن يذل لبشر، أو يرضى بدنيّة، أو يقصر في عمل، فمجتمع التوحيد إذن مجتمع العزة والحرية والكرامة والإحسان في كل شيء، مجتمع تسوده القيم اتى تجعل منه النموذج الأمثل، والقدوة الحسنة في القول والفعل .
وآفة الآفات في المجتمعات المعاصرة أنها تخلت بصورة عملية عن مبدأ التوحيد، فشاعت فيها مظاهر الوثنية المختلفة من عبودية المادة والسلطة . ومن عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، فلم يعد السلوك البشرى خالصًا لله وحده، ولم تعد الخشية منه سبحانه هي التي تحكم هذا السلوك، وتنأى به عن مواطن الرياء والنفاق والختل، ومن هنا كثرت مشكلات تلك المجتمعات وأمراضها المادية والمعنوية، وزايلها شعور الاطمئنان والأمان، واستبد الخوف والقلق بالجميع، على الرغم مما ينعم به الناس من منجزات حضارية خلابة : ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( [سورة الرعد : آية 28] .
وإذا كان المجتمع الإسلامي مجتمع التوحيد فإنه أيضا مجتمع الوحدة، وحدة الصف، والهدف والتشريع والفكر، وحدة جامعة تدعم البنيان، وتدرأ عنه كل أسباب التصدع والانهيار .
إن دعامة التوحيد التي ينهض عليها المجتمع الإسلامي تربط بين المؤمنين برباط وثيق، فهم به أمة واحدة، أو بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا .
إن الوحدة بين جماعة من الناس لا تقوم على الوحدة العرقية أو اللسانية أو الجغرافية، أو المصالح المادية، وإنما تقوم في جوهرها على الوحدة الفكرية، فهذه الوحدة هي التي تؤلف بين القلوب، وتجمع بين الشاعر، وتحد من خلاف الرأي، فتتحقق من ثم الوحدة بمعناها الصحيح، وبدون الوحدة الفكرية والعقدية لا يمكن أن تقوم وحدة حقيقية .
والمجتمع الإسلامي لوحدة عقيدته، ووحدة شرعته مجتمع الوحدة الفكرية في أصولها وأسسها العامة، ولذا كان مجتمع الوحدة الشاملة الكاملة، وما تعرض له هذا المجتمع عبر تاريخه الطويل من تمزق وتفرق مرده إلى وهن عقيدته الذي أثمر وهن الفكر، فكان التفرق والصراع بين شعوبه أحيانا نتيجة حتمية لذلك .
على أن من يمعن النظر في تعاليم الإسلام يجد أنها تنظر إلى الفرد في نطاق الجماعة، وأن الجماعة هى الغاية، ومن شذ عنها أو سعى لتفريق كلمتها فمآله عذاب جهنم، وأن كل ما يهدد وحدتها كالاعتداء على الحقوق والحرمات أو التنابذ بالألقاب والتفاخر بالأحساب والأنساب – محرم محظور، وإذا اختلفت بعض طوائف المسلمين وجرها الاختلاف إلى الاقتتال فإن على الأمة أن تقلم أظفار الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، لتظل الأمة كما وصفها القرآن الكريم ) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( [سورة الأنبياء : الآية 92]، وليظللها دائمًا الإخاء والمحبة والإيمان بأن وشائج العقيدة أقوى من وشائج الدم ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ( [سورة آل عمران : الآية 103] .
ووحدة المجتمع الإسلامي وحدة إنسانية غير عنصرية، فالمسلم يؤمن بأنه عضو في الجماعة البشرية كلها، وأن مصدر النشأة لهذه البشرية واحد، وكذلك مصيرها واحد، وأن الأفراد لا يتفاوتون من حيث الشكل واللسان والمكان، وإنما يتفاوتون من حيث التقوى، وما يقوم به كل منهم من عمل صالح ينفع الناس، وهذا يفرض على المسلم أن يسهم ما استطاع في تقدم الحياة ورفاهيتها، وأن يكون دائمًا رسول خير، وداعية إصلاح، ومن هنا تصبح الوحدة الإسلامية وحدة تنصر الحق وتقضى على الظلم، وتتعاون على البر والتقوى، ولا تكون بحال وحدة تنظر إلى الآخرين نظرة ازدراء أو عداء .
وأما دعامة المساواة فهي ثمرة طبيعية لدعاة الوحدة، فهذه لا تتغلغل في الضمائر والمشاعر إلا إذا أيقن الجميع أنهم سواء في الحقوق والواجبات وأنه لا محاباة ولا تمييز بين الناس لجاه أو سلطان .
إن وحدة النشأة والمصير تعنى أن المساواة حقيقة لامراء فيها، وأن التفاوت في الطاقات والقدرات، وإن أدى إلى تفاوت في المناصب والثروات لا يعنى طبقية أو تفريقا بين الناس في الكرامة الإنسانية، أو حق الحياة الكريمة، فالكل أمام تشريع الله كأسنان المشط، لا أنساب ولا أحساب، ولكن مساواة وعدالة، ويتحقق للأمة بهذا قوة معنوية تؤلف بين قلوب أبنائها، فلا حقد ولا بغضاء ولا حسد ولا استعلاء وإنما تآلف ومودة وإيثار وتعاون، كما يتحقق لنا قوة مادية، فالكل يعمل وفق ما يسر الله لكل منهم، والكل يعطى في سخاء وإحسان، لأن أحدًا لا يظلم، ولا يذهب جهده وعرقه إلى متعطل أو مستبد طاغية .
إن تكريم الله للإنسان تتجلى بعض صوره في إلغاء كل الأعراض الزائلة من حيث اتخاذها معيارا للتفاضل بين الناس فهم كافة كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، فالمساواة من ثم تكريم للإنسان وتوجيه لطاقاته وقدراته نحو الخير والبر والإتقان، ولهذا كانت ردءًا للوحدة، وثمرة لها أيضًا، كما كانت مصدرًا لقوة الأمة وعطائها، وهى لذلك دعامة أساسية من دعائم المجتمع الإسلامي، مجتمع التوحيد والوحدة والقوة في مختلف مجالاتها .
وتعنى دعامة الحرية أن المجتمع الإسلامي لا يقر رقا فيه أيا كان لونه، فالناس خلقوا أحرارا، فلا ينبغي أن يخضعوا إلا لبارئهم، ولا يجوز أن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، ولذا كانت ظاهرة الرق في تاريخ البشرية امتهانًا صارخا للكرامة الإنسانية، وجاء الإسلام وكانت هذه الظاهرة لا تكاد تخلو بقعة من الأرض منها فعالجها بأسلوبه الخاص الذي يقوم على التدرج والواقعية، بحيث تتوارى من المجتمع في فترة زمنية وجيزة .
والحرية في المجتمع الإسلامي ليست مقصورة على تمتع كل فرد بإرادته واختياره وإنما تتجاوز ذلك لتشمل تحرر الإنسان من كل ما يشوه معنى عبوديته لله وحده، فكما لا يجوز أن يسترقه بشر، أو يحجب عنه حاجاته الضرورية محتكر لا يجوز أن يستعبده الهوى، أو النفس الأمارة بالسوء، فهو دائمًا يستعلى على الشهوات ولا يستجيب لرغبات الجسد إلا في حدود التشريع الإلهي، وبذلك تتحقق الحرية بمعناها الصحيح في المجتمع .
ويقصد بالإيجابية إسهام كل فرد في المجتمع بحسب طاقاته وما يُسر له، في تقدم الأمة، كما يقصد بها أيضُا أن يكون الإنسان ذا شخصية ترفض أن تقلد سواها، أو تذوب في غيرها، أو أن تكون إمّعة لا موقف لها يعبر عن ذاتها، ويعكس إرادتها واستقلالها .
إن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن ثم لا يتصف المسلم بالفردية، أو الأنانية والسلبية، إنه يشارك مشاركة عملية في كل ما يهم الأمة، فإذا لم يقم بواجبة كاملا فهو آثم .
ولأن المسلم يؤمن بأنه مسئول عن غيره يصبح كل فرد في المجتمع الإسلامي كالحارس الذي يشهر سلاحه دائما للذود عما كلف بحراسته، فهو لا يرى منكرًا ثم لا يغيره ما استطاع، ولا يصمت حين يفرض عليه الواجب أن يجهر بكلمة الحق، ولا يفرط في عمل أسند إليه، أو طلب منه، ولا يقف موقف المتفرج إزاء ما يلم بالأمة من مشكلات، وبذلك تكون الإيجابية هي الطابع العملي للمجتمع الإسلامي، ويكون بها كما شبهة رسول الله r كالجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص .
ويسود التوازن المادي والمعنوي المجتمع الإسلامي، فلا يعرف هذا المجتمع غنى فاحشا وفقرًا مدقعًا، وإنما يعرف مستوى لائقًا من العيش لكل فرد، ويأبى أن يكون التفاوت في حظوظ المال ذريعة إلى الطبقية والاستغلال .
إن الإسلام مع إقراره للتفاوت في الطاقات الفردية، وما يترتب عليها من تفاوت في الثروة يرفض أن يصل هذا التفاوت إلى درجة تجعل المجتمع فئتين : فئة في القمة، وأخرى في السفح، فئة تنعم بكل شئ، وأخرى لا تجد ما يبقى الرمق، أو يحفظ الحياة، وإنما يأمر بألا يكون المال دولة بين الأغنياء، وأن تتقارب الفروق في العيش بين الناس .
وإذا انتفى الصراع بين أفراد المجتمع بسبب المال، لأن الكل يحصل عليه في توازن معقول، وفق طاقة كل فرد وجهده الذاتى – توارت مشكلات كثيرة، وعاش المجتمع في أمن وسلام، وزاد عطاء كل فرد، فينمو الإنتاج العام، ويعود هذا على الأمة بالرخاء والاستقرار .
والإسلام لا يقيم مجتمعه على التوازن المادي فحسب، وإنما يقيمه مع هذا على التوازن المعنوي، أي الوسطية في المشاعر والعواطف، حتى في الطاعات والقربات، حرصًا على الاستمرار في الطاعة، فخير العمل أدومه وإن قل، وقد جاء في الأثر : "أيها الناس، أحبوا هونا، وأبغضوا هونا، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا" .
إن المجتمع الإسلامي مجتمع القصد والاعتدال في كل شئ، مجتمع يأبى الإفراط والتفريط، ويتسم دائمًا بالتوازن والوسطية، وبهذا كانت له منزلة الشهادة على غيره من المجتمعات : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة : الآية 143] .
أما دعامة التكافل فهي ثمرة طبيعية لوحدة العقيدة، وإيجابية كل أبناء الأمة، وهذا التكافل كالتوازان منه المادي والمعنوي، والجانب المادي في التكافل ينصرف إلى مسئولية كل قادر على الكسب عن غيره من الضعفاء، والعاجزين ومن انقطعت بهم سبل العيش، أو من تعرض لخسارة مالية بسبب جائحة أو حريق أو سيل أو دين في غير معصية، ولو كان لديه مال، ولكن الدين محيط به .
إن التكافل في الإسلام أمر مفروض سواء في محيط الأسرة أو البيئة أو الأمة بأسرها، ففى محيط الأسرة فرض الإسلام النفقة، وجعل كل قادر في الأسرة مسئولا عن العاجزين والفقراء فيها .
وفى محيط البيئة كالقرية أو الحي مثلاً قرر رسول الله r التكافل فيها بقوله : "أيمّا أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعًا فقد برئت منهم ذمة الله" (رواه الإمام أحمد في مسنده) .
وقد أفتى الإمام ابن حزم بأنه إذا مات رجل جوعًا في بلد اعتبر أهله قتلته، وأخذت منهم دية القتل .
أما التكافل بالنسبة للأمة فقد حملت رسالته الزكاة، وهى ليست إحسانًا فرديًا متروكًا لضمائر الأفراد وتقديرهم الذاتي، وإنما هي حق تأخذه الدولة، وتقاتل عليه، وتنفقه في مصارف الزكاة، كما أنها ليست سوى قاعدة واحدة من قواعد التكافل في الإسلام، فلوليِّ الأمر الحق – عن طريق الشورى – في أن يفرض على الأغنياء ما يكفى حاجة الفقراء غذاء وملبسًا ومسكنًا .
على أن التكافل في الإسلام لا يعنى فقط تأمين الفقراء ومن في حكمهم على أنفسهم وعلى من يعولون في حياتهم وبعد مماتهم بكفالة ما يكفيهم من الطعام والكسوة والمسكن الذي يؤويهم، ولكنه يشمل أيضًا تأمين أرباب الأموال على مستواهم الذي وصلوا إليه بجدهم في الحلال، فقد أمّن الإسلام كل فرد على ماله من مسكن أو أثاث أو ماله في التجارة وغيره ضد الغرق والحريق والآفات العارضة، كما ضمن له كل دين ينفقه في المكارم أو المصلحة العامة .
وينعم بالتكافل في المجتمع الإسلامي كل من يعيش في هذا المجتمع سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم، فحماية الإنسان وتحقيق مستوى لائق من العيش له – دون نظر إلى عقيدته – أصل من أصول الشريعة الغراء .
وهذا الجانب المادي للتكافل مظهر من مظاهر التكافل المعنوي بين المسلمين، لأن الله تعالى يقول في كتابه الكريم : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات : الآية 10]، وإعلان الإخاء بين أفراد مجتمع ما هو تقرير للتكافل والتضامن بين أفراد هذا المجتمع في المشاعر والأحاسيس وفى المطالب والحاجات وفى المنازل والكرامات .
والمجتمع الإسلامي إلى قيامه على ما سبق القول فيه من الدعائم يقوم على الفضيلة بمفهومها الشامل، أي الالتزام الخلقى في كل تصرف، فليست الفضيلة خلقا عظيما مع الآخرين، فحسب، ولكنها مع هذا خلق حسن في جميع ما يتولاه المسلم من أعمال، ويصدر عنه من سلوك، فقد كتب الله الإحسان على كل شئ، فمن فرط أو قصر وهو قادر على الإتقان كان مسيئًا، وظالمًا والله لا يحب الظالمين .
إن المجتمع الإسلامي مجتمع الفضيلة، لأنه مجتمع الكرامة والعزة، ولا كرامة للإنسان ولا عزة له ما لم يتمتع بخلق عظيم، خلق يرقى بإنسانيته، ويحفظ عليه منزلته ورسالته في الحياة .
ودعامة الفضيلة لا تستلزم بالضرورة زوال الخطأ والخطائين، وإلا لاستبعدت أحكام العقوبات التي قررها الإسلام، فهى تعنى أن المجتمع لا يخلو من عثرات وهفوات وأن الإنسان لضعفه قد يزل في بعض الأحيان، وإنما تشير تلك الدعامة إلى أن يسود المجتمع طابع الفضيلة والخير لا أن يتنزه عن جميع السيئات.
ومجتمع تحكمه وحدة العقيدة ووحدة الغاية ووحدة الفكر، وكل أفراده سواء في الحقوق والواجبات، وبينهم تكافل مشترك، ويتمتع الجميع بمستوى لائق من العيش، ولا يعرفون صراعًا طبقيًا أو عرقيًا، كما لا يعرفون سلبية أو فردية، وهم على خلق عظيم، يكون مجتمعًا تسوده العدالة، فلا محاباة ولا ظلم ولا فرق بين غنى وفقير، وقوى وضعيف، وحاكم ومحكوم.
إن المجتمع الإسلامي مجتمع عادل، فكل من يستظل بظله ويعيش في كنفه آمنًا على حياته وحقوقه، لا يخاف اعتداء أو جورًا، وكل من يتعامل معه من المجتمعات الأخرى لا يخشى منه غدرًا ولا نكثًا لعهد، فالإسلام دين العدل والحق مع الجميع .
وتأتى دعامة القوة لتكون المحصلة لسواها من الدعائم، وهى قوة شاملة، قوة الإيمان والأبدان والتراحم والتعاطف والعمل والإنتاج وإحقاق الحق وبسط العدل وسيادة الفضيلة، وقوة الإعداد العسكري الذي يلائم الزمان والمكان حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله . إن القوة بهذا المفهوم الشامل دعامة لا تنفك ملازمة للمجتمع الإسلامي، حتى يكون جديرًا بمنزلة القيادة والريادة والخيرية، يقول الله تعالى : ) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( [الأنفال : الآية 60] .
تأمر هذه الآية المؤمنين بإعداد القوة بما في الطوق، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والقوة هنا عامة تشمل كل ألوان القوة وأسبابها، وجاء النص على رباط الخيل ؛ لأنه كان الأداة البارزة عند الذين خاطبهم القرآن أول مرة، ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا .
والقوة التي أمر الإسلام بإعدادها ليست قوة باغية أو مفسدة ومدمرة، ولكنها قوة تحمى الحق وتنصر الخير وتقاوم الشر، فهي في أهدافها ومهمتها لا تخرج عما يلي كما أشارت تلك الآية الكريمة :
أولاً : تأمين الذين يختارون العقيدة الإسلامية على حريتهم في اختيارها فلا يُصدون عنها ولا يفتنون كذلك بعد اعتناقها .
ثانيًا : إرهاب أعداء الإسلام، فلا يفكرون في الاعتداء على داره التي تحميها تلك القوة .
ثالثًا : وليس إرهاب هؤلاء الأعداء لمنعهم من الاعتداء على المسلمين فحسب، ولكن أيضًا للحيلولة بينهم وبين الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير الإنسان في كل مكان .
رابعًا : تحطيم كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها وسلطانها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده، والحاكمية لله وحده .
ولما كان إعداد القوة يقتضى أموالاً فقد اقترن الأمر بالإعداد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله ) وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( [الأنفال : الآية 60] .
فالقوة الإسلامية لا تتغيا مصلحة دنيوية، وإنما هى قوة تمكن لكلمة الحق، وترهب أعداء الله الذين هم أعداء المسلمين، وأعداء الحياة ...
وبعد فإن مجتمعا ينهض على تلك الدعائم يكون بلا مراء مجتمعا فريدًا بين المجتمعات البشرية، فريدًا في قيمه ومبادئه، ومثله وغاياته، مجتمعا قويًا في عقيدته ووحدته وأخلاقه، مجتمعا قويا في جهاده واستعداده وانتاجه، مجتمعا مستقرأ، الكل فيه آمن مطمئن، والكل فيه لا يفتر عن الانتشار في الأرض طلبا لأنعم الله، والكل فيه أخوة متساوون في الحقوق والواجبات متآزرون متكافلون في السراء والضراء، فلا غرو في أن يكون هذا المجتمع بتلك الخصائص والسمات خير المجتمعات وأن تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس .
لقد كان المجتمع الإسلامي بتلك الدعائم عبر تاريخه المثل الأعلى لغيره من المجتمعات، فلما فرط في هذه الدعائم أو جلها فقد منزلته، وذهب ريحه، وطمع فيه من كان يخطب وده ويخشى بأسه، وهو لن يسترد ما ضاع منه أو يصبح بحق القدوة لغيرة إلا إذا اعتصم بأسباب عزته وقوته التي جاء بها وحى الله، وكل جهد يبذل في سبيل النهوض بهذا المجتمع بعيدًا عن تلك الأسباب والدعائم جهد ضائع لا يجدي نفعًا، بل يزيد من بلاء المجتمع الإسلامي وضعفه وتخلفه .
وصدق الله العظيم إذ يقول : ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( [الأنعام : الآية 153] .