ظاهرة التكفير لدى المذاهب الإسلامية
ظاهرة التكفير لدى المذاهب الإسلامية
حميد المبلّغي
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين.
إنّ مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التی أبتليت بها الأمة الاسلامية، بل هي من أخطر البدع التی زرعت بين صفوفها فكانت عاملاً مؤثراً في تأكيد الفرقة والاختلاف، من خلال إلقاء التهم ونسبتها للآخرين، فأعانت علی إيجاد العداوة بين المسلمين[1] واللاأمن في المجتمعات.
فمن الواجب علی الباحثين الكتابة فی هذه المسألة الخطيرة ومعالجتها من خلال بيان أسبابها وضوابطها وبيان معيارها وعدم اطلاق تهمة التكفير علی الفرق والمذاهب الاسلامية الاخری، إلاّ بعد ثبوت الأدلة الشرعية المعتبرة التی تشير إلی ذلك.
كما يجب الرّد علی الفرق التي اتّخذت هذه المسألة منهجاً لها، بإسم الإسلام والسلف الصالح، خاصة وأنّ الأفكار التكفيرية لم تنقرض بانقراض الفرق والطوائف التي كانت تحمل المنهج الإفراطي في التعامل مع الآخرين، بل يجدها المرء منتشرة في كثير من الجماعات والمذاهب الدينية المعاصرة التي ما زالت تتبنی نفس المنهج والفكر التكفيري لدی الطوائف القديمة، بل ومنهجتها أكثر وأشد عنفاً، كما نشاهد آثارها حاليّاً في البلاد الإسلامية.
وما نحن بصدده هنا في هذا المقال إنّما هو موقف المذاهب الاسلامية والفرق الكلامية وبيان آراء علماء هذه المذاهب والفرق لأجل احراز تسالمها في مسألة عدم تكفير أهل القبلة، ووحدتهم في هذه القضية الخطيرة علی المسلمين جميعاً (إلاّ ما ورد عن طائفة الخوارج ومن سلك مسلكهم الذين انفردوا بفكرهم الافراطي) بصورة علمية واتفاقها علی من نطق الشهادتين بلسانه عد مسلماً، له ما لهم وعليه ما عليهم ولو كان اسلامه عن جبرٍ واكراهِ وتعوذاً من القتل.
قبل الخوض في المسألة أودّ الإشارة إلی بعض المباحث:
الأولی: إنّ أصل الكفر في الاصطلاح بمعنی جحد المنعم عليه نعمة المنعم. فالكافر: من جحد واخفی الاعتراف بالنعمة، ومقابله الشاكر، وهو: من أعلن الاعتراف بها. وقالوا: كفران علی وزن شكران، ثم عرف بمعنی المقابل للإيمان، ثم غلب في عرف كتّاب عصرنا علی الملاحدة والمنكرين لوجود الله عزّ وجلّ، وصار إطلاقه علی كل متدين سباً وإهانةً. قال العسقلاني: «وقد ورد الكفر في الشرع بمعنی جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه»[2].
الثانية: إنّ للكفر أقسام ومراتب مختلفة، والمعاصي كلها من أقسام الكفر، لا ينافي بعض مراتبه مع الإسلام والإيمان. وفرق بين من ألقی المصحف في القاذورة وبين من يشرب الخمر، وكذلك بين من أشرك بالله وبين من يسرق المال. كما أنّ للإيمان والإسلام مراتب وشعباً متعددة، حيث جاء في الحديث: «اعلی شعب الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذی عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة»[3]. فالكفر في أحد تقسيماته ينقسم إلی كفر اعتقادي وكفر عملي. فالكفر الاعتقادي هو: الكفر بالله وبرسوله وباليوم الآخر. وهذا النوع نقيض الإسلام ولا يلتقي معه. أمّا الكفر العملي فهو: الكفر في منهج الأشخاص وسلوكهم بأن يتمرد علی حكم الله. وهذا النوع يشمل المعاصي التي يخالف بها أمر الله تعالی أو يرتكب بها ما نهي عنه، وهو لا ينافي مع الإسلام؛ لأنّ الإنسان إمّا شاكر للنعمة أو كافر بها، كما في قوله تعالی: {إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}[4].
الثالثة: إنّ إطلاق الكفر في السنّة قد ورد في بعض المعاصي التي يعد ارتكابها جريمة عظيمة في الإسلام، لاسيما فيما إذا كان التأويل يمكن أن يحتمل في حقها، للمنع عن التعارض. علی سبيل المثال: قوله تعالی: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}[5]، فسماهما من المؤمنين، فلا بد لنا أن يصرف عن الظاهر بمثل قول النبي (ص): «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»[6]. فالكفر هنا ليس بمعنی الخروج عن الدين كما هو الظاهر. وكذا الحال فيما إذا كان الظاهر معارض بكثير من الأحاديث التي شهدت بالإسلام، أو فيما إذا كانت النصوص معارضة معانيها مع بعض الحقائق. فمثلاً قال الله تعالی: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[7]، فكل المعاصي هي دون الشرك بالله تعالی، وعلی هذا الأساس فمعناها الظاهر غير مراد، وفاعلها ليس بكافر.
وجدير بالذكر أنّ الجهل والفهم الخاطئ لإطلاقات الكفر في الكتاب والسنة من أهم ما يوقع بعض أصحاب الفرق في التكفير. فإنّ هؤلاء رأوا أنّ أصحاب المعاصي قد وصفوا في الكتاب والسنة بالكفر، وهم يتشبثون بظاهرها ويحكمون بأنّ مرتكب المعاصي أو الكبيرة كافر. مع أنّ القول بتكفير المسلم المذنب فيه خطر عظيم علی مجتمع المسلمين، ولا يجوز لنا أن نكفر أحداً من المسلمين بسبب الكبائر؛ لأنّ الرسول(ص) لم يعامل المجرمين معاملة الكفار وإن ارتكبوا الكبائر من الذنوب.
الخوارج وموقفهم من التكفير:
إنّ كلمة الخوارج عندما أطلقت في التاريخ تنصرف إلی طائفة ظهرت في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وبالتحديد في مناسبة حرب صفين بين أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع) من جهة ومعاوية بن أبي سفيان من جهة أخری، وكان ظهورهم العلني بعد خدعة رفع المصاحف في تلك الحرب من قبل جيش معاوية بمشورة عن عمرو بن العاص بعد أن اتضح بما لا يقبل الشك حتمية هزيمة جيش الشام فيما لو استمرت الحرب[8].
إنّ الخوارج في بداية أمرهم كانت صبغتهم سياسية محضة. ثم في عهد عبدالله بن مروان مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث عقدية. وفي خلال ممارستهم تحولت آراؤهم إلی خلافات عقائدية علی مدار تمسكهم بظواهر الآيات لتوجيه مقالاتهم، وكانوا يقفون عند الظاهر من دون أن يتجاوزوا إلی قصده وباطنه.
القابهم:
المحكمة: إنّ هذه التسمية جاءت من الشعار الذي رفعته الخوارج وهو: «لا حكم إلاّ لله ولا حكم للرجال»[9]. فلمّا سمعها علي(ع) قال قوله المشهور: «كلمة حقّ أُريد بها باطل»[10]. قال ابن أبي الحديد في شرح كلام أميرالمؤمنين: «إنّ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم وكانوا يطلبون الحق ولهم في الجملة التمسك بالدين ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها وإن اخطؤا فيها»[11].
المارقة: هذا اللقب يلزم به الخوارج، يكاد يجمع علماء المسلمين علی حديث عن النبي(ص) جاء بوصف الخوارج وأنّه سمّاهم المارقة[12].
الحرورية: نسبة إلی قرية حروراء. يعتبر هذا اللقب من أسبق الأسماء التي عرفت بها الخوارج[13].
وهم يعتقدون بالأصول الثلاثة، وهي الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر[14]. وقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان مع ترك الكبائر[15]. وجعلوا الأعمال جزأ ً من الإيمان، وزعموا أنّ من أخلّ بشيء من هذه الأركان الثلاثة فقد إيمانه وصار كافراً، وعلی مذهبهم لا يمكن ذهاب بعض الايمان وبقاء بعضه، فهم ينكرون الزيادة والنقصان في الإيمان[16].
فإذا واجهوا مثل قوله تعالی: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}[17] بادروا إلی تكفير الأشخاص وأخرجوهم عن الدين. مع أنّ الآية قد تكررت بألفاظ: (الكافرون)، (الظالمون)[18]، (الفاسقون)[19]، وإنّهم احتجوا بهذه الآية بلفظ (الكافرون) ولم يحتجوا بألفاظ (الظالمون) و(الفاسقون). أنّ من وصف بالظلم والفسق لا يلزم ارتداده عن دينه وكفره، كذلك من وصف بالكفر لا يلزم ارتداده عن دينه؛ لأنّ لفظة (الكفر) في كتاب الله تعالی لا تدل ولا تعني دائماً معنی واحداً، وهذا التنوع تدل عليه اللغة وكذا الشرع.
وفي مقابل هذا القول قولٌ بأنّ لمفهوم الكفر مراتب، لا بد من تدبر في معنی الآية وشأن نزولها حتی تحمل علی مرتبتها. وهو قول ما عدا الخوارج من الفرق والمذاهب الإسلامية، فإنّهم قالوا: يجب علی كل من يتصدی مقام الإفتاء الدقة في فهم الآيات، فإنّها قد يراد بها الكفر العملي الذي لا ينافي بعض مراتب الإسلام.
لمّا كان الخوارج يعتبرون الإيمان هو التصديق بالجنان والقول باللسان والعمل بالأركان ويرون أتباع الكتاب دون السنة، فإنّهم كانوا يعتقدون:
أوّلاً: بخروج الفساق من الإيمان ويدخلونهم في الكفر بمجرد الكبيرة[20]، ومنهم من كفر صاحب الصغيرة؛ إلاّ النجدات منهم، لأنّهم لم يعتقدوا بمنزلة ثالثة ولا واسطة تقع بين الإيمان والكفر[21]. قالت الخوارج: المصرّ علی كبيرة من زنی أو شرب الخمر أو ربا كافر مرتد خارج عن الدين بالكلية، لا يصلی عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولو أقرّ لله تعالی بالتوحيد وللرسول بالبلاغ ولو صلی وصام وزكی وحج وجاهد، وهو مخلد في النار أبداً مع إبليس وجنوده[22].
ثانياً: زعموا أن مخالفيهم مشركون، قال الشوكاني: «ثم اجتمعوا علی أنّ من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله»[23].
قال عبدالقاهر البغدادي: «أنّ المحكمة الأولی من الخوارج قالوا بتكفير علي وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وأصحاب الجمل... وأصحاب الذنوب من هذه الأمة، وما زادوا علی ذلك حتی ظهرت الأزارقة منهم، فزعموا أنّ مخالفيهم مشركون وكذلك أهل الكبائر من موافقيهم، واستحلوا قتل النساء والأطفال من مخالفيهم، وزعموا أنّهم مخلدون في النار»[24].
ثالثاً: كانوا يحكمون بخلود العصاة في النار.
وقد يناقش في أدلتهم: بأنّ الخوارج قد أخطأوا أولاً: بعدم التفرقة بين الكبائر والصغائر مع أنّ الله تعالی قد فرق بينهما بقوله تعالی: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}[25]، فكيف جعلوا الذنوب والمعاصي كلها من الكبائر؟! وثانياً: لو فرضنا بأنّ المعاصي كبائر، فإنّ باب التوبة مفتوح. والتوبة في قوله تعالی: {يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلی الله توبة نصوحاً}[26] لا تكون إلاّ من الكبائر.
أمّا قولهم بخلود أهل المعاصي الكبيرة في النار فيعود به قوله تعالی: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[27].
قال الطحاوي: «وأهل الكبائر من أمة محمّد (ص) في النار لا يخلدون. إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين... إن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلی جنّته»[28]. كما قال النبي (ص): «من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة» قالوا: وإن سرق وإن زنی؟ قال: «وإن سرق وإن زنی»[29].
والحقّ: أنّ ما استدل به الخوارج علی تكفير المسلم العاصي من الآيات والروايات ليس دليلاً صريحاً علی الكفر؛ لأنّ للكفر في استعمالاته القرآنية معاني مختلفة، لا يجوز لنا أن نحمل لفظ الكفر علی المعنی المخصوص بلا قرينة، وهو نسبة الكفر إلی المسلم؛ لأنّ فيه صعوبات عليه بأن يحرم عليه الميراث وتمنع زوجته من البقاء معه، وإذا مات لا تجري عليه أحكام المسلمين من الغسل والصلاة والدفن في مقابر المسلمين وغيرها من الأحكام المختصة بالفرد، وكذلك أخطاره علی المجتمع عظيمة لا سيما في الدين والعرض والمال التي اجتمعت علی حفظها الشرائع والنظم الإسلامية. فلابدّ لنا أن نحمل الآيات والأحاديث الواردة علی من استحل شيئاً من الكبائر أو جحد أمراً واضحاً من الدين ضرورة، كالصلاة والحج. أو نقول: إنّ المراد بالكفر هنا صار مشابهاً للكفار في أفعالهم وإن عد من المسلمين، كمن يتولی الكفار أو يتغلب عليه اليأس من روح الله ويفتری الكذب إذ لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك... و علی هذا نحمل قوله (ص): «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» علی أن لا يستحق دخول الجنة وإن دخل فيها فبمغفرته ولطفه، أو لا يدخلها إلاّ بعد أن يلقی جزاءه علی الكبر، أو لا يدخلها مع المتقين. ذكر عبدالجبار في ردهم: أنّ صاحب الكبيرة لا يسمی كافراً؛ لأنّ الشرع جعل اسم الكفر علی من يستحق العقاب العظيم ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة والدفن في مقابل المسلمين، ومعلوم أنّ صاحب الكبيرة ممن لم يستحق العقاب العظيم ولا تجري عليه هذه الأحكام، فلم يجز أن يسمّی كافراً[30].
وقد رد الإمام علي (ع) علی مزاعم الخوارج فأنكر عليهم تكفيرهم لمرتكب الكبيرة، واحتجّ عليهم بفعل رسول الله (ص) نفسه، واعلمهم بأنّه لو كان مرتكب الكبيرة كافراً لما صلی عليه النبي (ص) ولما مكنه وراثة المسلم أو نكاح المسلمات أو أخذ نصيبه من الفيء[31].
فالمسلم لا يكفّر بالمعاصي كما قال الله تعالی: {قل يا عبادي الذين أسرفوا علی أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً}[32]. نعم، واجب أن لا ييأسوا من رحمته؛ لأنه تعالی يغفر الذنوب جميعاً ما عدا الشرك؛ لقوله تعالی: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[33].
هذه المسألة من شعب مسألة مرتكب الكبيرة، حيث إنّ الخوارج كانوا يزعمون بأنّ مرتكب الكبيرة كافر، فتكون الفرق الإسلامية عندهم كافرةً! وقالوا باستحلال دمائهم وأموالهم، حتی اعتقدوا بأنّ دار الإسلام بسبب المعاصي تصير دار كفر، ودار الكفر ليس فيها أمان كما قتلوا عبدالله بن خباب حال كونه صائماً في شهر رمضان والقرآن في عنقه وقتلوا زوجته وهي حبلی؛ لأنّه لم يتبرأ من علي بن أبي طالب (ع) وقالوا له: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك![34]
ويبدو أنّ هذه الأعمال لا تصدر إلاّ عمن كان علی مقدار وأفرض الغباوة وعمن أخذ بظواهر الآيات وجعل الآيات التي نزلت في حق المشركين علی المسلمين، كما جاء عن قول النبي (ص): «إنّهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان»[35].
مع أنّ رسول الله (ص) قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتی يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوا: لا إله إلاّ الله، فقد عصموا منّي دمائهم وأموالهم إلاّ بحقها، وحسابهم علی الله»[36].
قال الشافعي: «إلاّ بحقها يعني بما يحكم الله عليهم فيها، وحسابهم علی الله بصدقهم وكذبهم وسرائرهم، والله العالم بسرائرهم، المتولي الحكم عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه، وبذلك مضت أحكام رسول الله فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق»[37].
ومع أنّ الخوارج قوم سوء ولا أعلم في الأرض قوماً شراً منهم، لكن عندما سئل عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أكفار هم؟ قال (ع): «من الكفر هربوا». قيل: أمؤمنون هم؟ قال: «لو كانوا مؤمنين ما حاربناهم». قيل: فما هم يا أميرالمؤمنين؟ قال: «إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم حتی يفيئوا إلی أمر الله»[38].
وأما عن الامالي عن ابن قولويه، وهي رواية عن رسول الله (ص) قال: «يا علي، إن الله تعالی أمرني أن اتخذك أخاً ووصياً، فأنت أخي ووصيي وخليفتي علی أهلي في حياتي وبعد موتي. من اتبعك فقد تبعني، ومن تخلف عنك فقد تخلف عني، ومن كفر بك فقد كفر بي، و من ظلمك فقد ظلمني. يا علي، أنت مني وأنا منك. يا علي، لو لا أنت لما قوتل أهل النهر». قال: «فقلت: يا رسول الله! ومن أهل النهر؟ قال: قوم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»[39].
الخوارج والاباضية[40]
اختلفت الآراء في العلاقة بين هذه الفرقة والخوارج بلحاظ تاريخي وعقائدي، فمنهم من يری أنّ الاباضية لا تری رأي الخوارج بما استحلّوا من دماء المسلمين وتكفير أهل القبلة الذين لا يذهبون مذهبهم، بل عرفت الاباضية بجماعة المسلمين، ولا يمكن اعتبارهم إحدی فرقهم؛ لأنّهم يرون الخوارج مارقين خارجين عن الدين بل تبرّؤا منهم ولم يذهبوا مذهبهم[41].
وفي الحقيقة إنّ الأباضية يقسمون الكفر إلی قسمين، كفر الشرك، وكفر النعمة. وصاحب كفر الشرك مخلد في النار كمذهب جميع المسلمين. أما كفر النعمة عندهم فهو نوعين: صغائر الذنوب وهي التي لم يثبت علی فاعلها حدّ في الدنيا. أو هي تلك الذنوب التي قلّ فيها الإثم، وحكم مرتكب الصغيرة في الدنيا عندهم، إنّه موحد، لا يوصف بالفسق ولا بالضلال، ولا بالكفر حتی يعلم منه الإصرار عليها والعزم علی عدم التوبة.
أمّا صاحب الكبيرة فلا خلاف بين الأباضية علی أنّ صاحب الكبيرة كافر النعمة، إذا خرج من الدنيا غير مقلع عن الكبيرة، وتائباً منها فهو كافر مخلد في النار[42].
قال صاحب الموجز: «قالت الاباضية: كبائرهم كفر نفاق، لا كفر شرك، واسماءهم كافرون منافقون، ليسوا بمشركين ولا مؤمنين، {مذبذبين بين ذلك لا إلی هؤلاء ولا إلی هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}[43] ولا إلی المشركين في الحكم والسيرة ولا إلی المؤمنين في الإسم والثواب كما قال عزّوجلّ: {ما هم منكم ولا منهم}[44] نفاهم من المشركين أن يكونوا معهم في التسمية بالشرك وأحكام المشركين»[45].
وبهذا البيان يتضح لنا أنّ الاباضية ليسوا من الخوارج، فرأيهم واضح في شأن عصاة المسلمين، فهي تعدهم من المسلمين وتجري عليهم أحكام المسلمين ويحرم أن تستحل دماءهم وأموالهم لقول رسول الله(ص): «أمرت أن أقاتل الناس حتی يقولوا لا إله إلاّ الله، ويقيموا الصلاة ويأتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها» مع أنّ الخوارج حكمت علی عصاة المسلمين بالشرك.
الإرجاء في اللغة بمعنی التأخير، أي الإمهال في الحكم، أو بمعنی إعطاء الرجاء[46]. والمرجئة كانوا يسمون بهذا الاسم لوجهين:
الأول: لأنّهم كانوا يقولون بتأخير حكم صاحب الكبيرة إلی يوم القيامة فلا يقضی عليه في الدنيا حكم ما.
الثاني: لأنّهم كانوا يجعلون العمل في منزلة ثانية بالنسبة إلی الإيمان وكانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة[47].
فالمرجئة ليست فرقة مستقلة كاملة بل ظهرت علی الساحة الإسلامية ووجّهت اهتمامها لقضية الإيمان وما يترتب عليها. وضمن لها البقاء والاستمرار من خلال الفرق الإسلامية، فهؤلاء والخوارج علی جانبي نقيض في مسألة الإيمان. وقالوا: الإيمان قول بلا عمل، فمن أقرّ بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن لم يصلّ لله ركعة طول عمره ولا صام يوماً من رمضان ولا عمل شيئاً من أعمال الخير بل أقرّ بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان كإيمان الملائكة والأنبياء[48].
بعبارة أخری انّ المرجئة قالوا: الإيمان هو التصديق، وكانوا يعتقدون بأنّه قطعة واحدة لا يقبل التبعض ولا التجزؤ. ولا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فالناس عندهم صنفان لا ثالث لهم: إما كافر مخلد في النار، أو مؤمن كامل الإيمان ما دام معه التصديق والإقرار به وإن أتی بكل الكبائر، فلا يكفّرون أحداً، وعلی هذا المبنی فإيمان أفسق الناس عندهم كإيمان أطوعهم لله تعالی.
قال صاحب شرح العقيدة الطحاوية: «فطائفة تقول: لا نكفّر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأنّ في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصاری بالكتاب والسنة والإجماع»[49].
قد يناقش قولهم: بأنّا قد بينّا عن قول النبي (ص) بأنّ الأعمال تدخل في مسمی الإيمان، والناس يتفاضلون بأعمالهم. كيف يكون الإقرار يكفي عن العمل؟ وكيف يكون من ارتكب المعاصي ليس عليه سبيل؟! فعلی هذا لا يبق من الإسلام إلاّ رسمه. وما أقبح هذا القول! مع أنّ الله تعالی قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}[50]. فإنّه تعالی جعل التوبة من الشرك قولاً وفعلاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
إنّ تجريد الإيمان من العمل يسير إلی الانحلال الأخلاقي. والمتدين بهذه الفكرة سيرجع إلی الجاهلية. ولو تسود هذه الفكرة في المجتمع لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه ومن الدين إلاّ اسمه.
لقد شعر أئمة أهل البيت عليهم السلام بخطورة موقف المرجئة وقالوا: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة»[51]. وفي كتاب الخصال قال: قال رسول الله (ص): «صنفان من أمتي ليس لها في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية»[52]. كما روی عن النبي (ص) أنّه قال: «لعنت المرجئة علی لسان سبعين نبياً». قيل: من المرجئة يا رسول الله؟ قال: «الذين يقولون: الإيمان كلام»[53]. وعن عبيد الله بن زرارة قال: «دخل ابن قيس الماصر وعمرو بن ذر وأظنّ معهما أبو حنيفة علی أبي جعفر (ع) فتكلم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب. قال: قال أبو جعفر (ع): يا بن قيس أما رسول الله (ص) فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن فأذهب أنت وأصحابك حيث شئت»[54]. فأجاب الإمام (ع) عن هذه الفكرة المضلة بأنّ المعاصي والذنوب مضرّة بالإيمان مع أنّ المرجئة زعمت بأنّ المعاصي لا تضر بالإيمان ولا يبالي في إقامة الأعمال ويقولون بأنّ الإيمان في القلب ويعملون المعاصي والذنوب. بل هذا أصل يتخذونه في مشيّهم وتهاونهم في الواجبات. فعلی هذا لا يبق من الإسلام إلاّ اسمه ولا من القرآن إلاّ رسمه ولا من المسلمين إلاّ تاريخهم.
قال المحقق السبحاني: «فهذه الطائفة (المرجئة) من أكثر الطوائف خطراً علی الإسلام وأهله، لأنّهم بإذاعة هذا التفكير بين الشباب، يدعونهم إلی الإباحية والتجرد عن الأخلاق والمثل العليا، ويعتقدون أنّ الوعيد خاص بالكفار دون المؤمنين... وأي خطر أعظم من ذلك؟!»[55].
موقف المعترلة من التكفير:
قررت المعتزلة بأنّ مرتكب الكبيرة والعصاة في منزلة بين المنزلتين، ليسوا مؤمنين ولا كافرين، وتسميهم بالفاسقين في الدنيا، وبالنسبة إلی يوم القيامة فهم مخلدون في النار ما لم يتب المرء[56].
في الحقيقة أنّ المعتزلة يتفقون مع الخوارج في القول بخلود العصاة في النار، وكذلك يتفقون معهم في خروج العصاة من الإيمان، لكنهم يختلفون معهم في دخولهم في الكفر، فعندهم لا ترتد العصاة ولاتستحلّ دماءهم وأموالهم. قال الملاحمي المعتزلي من علماء القرن السادس: «دلائل السمع تدل علی أنّ المقلد للإسلام يحكم له أحكام المسلمين»؛ لقوله تعالی: {ولا تقولوا لمن ألقی إليكم السلام لست مؤمناً}[57]، ولقول النبي (ص): «فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم، إلاّ بحقّها وحسابهم علی الله تعالی»[58]. يعني أنّه (ص) أمر أن يقتصر منهم علی ظاهر الإقرار، ثم حسابهم علی الله تعالی في ذلك الإقرار. وقوله(ص): «من... استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله مثل ما لنا وعليه مثل ما علينا[59]»[60].
وفي موضع آخر قال: «أمّا المرجئة فلم يكفّرهم أصحابنا. قالوا: لأنّهم موافقون لنا في جميع قواعد الإسلام من التوحيد والعدل والنبوّات، ولم يسدوا بما ذهبوا إليه طريقاً من طرق معرفة أصول الدين فواته يوجب الكفر»[61].
لكن المعتزلة كفّروا الصفاتية القائلون بأنّ صفات الله تعالی قديمة كالقدرة والعلم. وقالوا: لأنّهم أثبتوا قدماء غير الله تعالی وأجمعت الأمة علی أنّ من أثبت قديماً غير الله تعالی، فهو كافر[62].
وكذلك كفّروا المجبرة. قال الملاحمي: فأمّا المجبرة فإنّ شيوخنا كفروهم. حكی قاضي القضاة عن أبي علي أنّه قال: «المجبر كافر ومن شك في كفره فهو كافر، ومن شك في كفر من شك في كفره فهو كافر. قال ثم بين ذلك أبوعلي، فقال: إذا شك في كفر المجبر لشكه في كونه تعالی عادلاً كفر، فأمّا إذا شك في كفره لأنّه لم ينظر في الأدلة علی كفر المجبر فإنّه لا يكفر؛ لأنّه توقف في موضع توقف»[63].
يناقش قول المعتزلة: بأنّا نعلم أنّ المسائل التي بها تكفّر المعتزلة طوائف أخری لم تكن من المسائل التي كانت من حاق الدين وأصول الشريعة، بل هي من المسائل الكلامية الخلافية. نظيرها مسألة خلق القرآن ورؤية الله في الآخرة والصفات الخبرية في القرآن كاليد والوجه وغيرها من المسائل الكلامية التي إنكارها لم يكون موجباً للكفر، فإنّ النبي (ص) لم يكن يستفسر من عقيدة المعترف بالشهادتين.
أما قولهم: إنّ صاحب الكبيرة يكون في منزلة بين المنزلتين، فيردّ بالآيات التي سبقت ذكرها، منها قوله تعالی: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}[64]، وأيضاً قوله تعالی: {يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلی الحرّ بالحرّ}[65].
فإنّ أصحاب الكبائر من أهل القبلة لا تخرجهم هذه الكبائر من الإسلام مادام لم يستحلوا، بل جعلهم في الآية أخاً لولي القصاص. ويعاضد القول بعدم خروج أصحاب الكبائر من الإسلام النصوص التي تدل علی أنّ الزاني والقاذف والسارق يقام عليه الحد، فهذا يدل علی أنّه ليس مرتد.
قال المحقق السبحاني: «يجب علينا الأخذ بالضابطة، فما دام الخلاف ليس في صلب التوحيد وما جاء به الرسول بالضرورة علی نحو تعد المفارقة عنه مفارقة عن الاعتراف بالرسالة لا يكون الاختلاف موجباً للكفر وخروجاً عن الإسلام وارتداداً عن الدين، ويعد خلافاً مذهبياً»[66].
الكفر عند الأشاعرة هو الإنكار والجحد والتكذيب لما جاء عن الله تعالی، فإن لم يثبت الجحد والإنكار فلا يثبت الكفر، ولا تجري عليه أحكام الكفار من منع المناكحة والدفن في مقابر المسلمين وغيرها.
قال الآمدي: «من ارتكب كبيرة من أهل الصلاة أو داوم علی صغيرة فهو مؤمن وليس بكافر بل فاسق، ومن فعل صغيرة واحدة فهو عاص وليس بفاسق»[67].
بناءً علی هذا لا يجوز تكفير أهل القبلة عند علماء الأشاعرة.
وأنقل هنا بعض كلماتهم:
منها: قول شيخ الإسلام تقي الدين السبكي، وهو من أعلام القرن الثامن للهجرة، حيث قال: «اعلم أيّها السائل أنّ كل من خاف الله عزّ وجلّ استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله؛ إذ التكفير هائل عظيم الخطر؛ لأن من كفر شخصاً بعينه فكأنّما أخبر أنّ مصيره في الآخرة جهنم خالداً فيها أبد الآبدين. وأنّه في الدنيا مباح الدم والمال، لا يمكن من نكاح مسلمة ولا تجري عليه أحكام المسلمين لا في حياته ولا بعد مماته، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطر في سفك محجمة من دم امرئ مسلم، وفي الحديث: لأن يخطئ الإمام في العفو أحبّ إليّ من أن يخطئ في العقوبة».
ثم قال: «إذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة، فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته؟ فما بقی الحكم بالتكفير إلاّ لمن صرح بالكفر واختاره ديناً وجحد الشهادتين وخرج عن دين الإسلام، وهذا نادر وقوعه»[68].
وقال الإيجي: «جمهور المتكلمين والفقهاء علی أنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة». ثم استدل علی ذلك بقوله: «إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالی عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها، لم يبحث النبي (ص) عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام»[69].
وكان أحمد بن زاهر السرخسي يقول: «لمّا حضرت الوفاة الشيخ أبا الحسن الأشعري بداري في بغداد، أمرني بجمع أصحابه، ثمّ فقال: اشهدوا علی أنّني لا أكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب؛ لأنّي رأيتهم كلهم يشيرون إلی معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمّهم»[70].
وقال الشيخ محمّد الغزالي: «لا ينبغي أن يكفّر كل فريق خصمه إذا رآه مخطئاً في الدليل. نعم، يجوز أن يصفه بالخطأ أو الضلال عن الطريق الذي يراه هو صواباً». وقال في موضع آخر: «اعلم أنّ شرح ما يكفّر وما لا يكفّر يستدعي تفصيلات طويلة فاقنع الآن بوصية وقانون، أما الوصية فهي: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما داموا قائلين: لا إله إلاّ الله ومحمد رسول الله، غير مناقضين لها. والمناقضة تحصل بتجويزهم الكذب علی رسول الله (ص). أما القانون فهو: أن تعلم أنّ النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول العقائد، وقسم يتعلق بالفروع. واعلم أنّه لا تكفير في الفروع إلاّ في مسألة واحدة، وهي أن ينكر حكماً ثبت علی النبي (ص) بالتواتر القاطع واجمعت عليه الأمة بسائر طوائفها، كإنكار وجوب الصلوات الخمس أو صوم رمضان»[71].
نعم، قد يكون التكفير في الأزمنة الماضية لأجل المقابلة بالمثل. قال الإيجي: «جمهور المتكلمين والفقهاء علی أنّه لا يكفر أحد من أهل القبلة، والمعتزلة الذين قبل أبي الحسين تحامقوا فكفّروا الأصحاب، فعارضه بعضنا بالمثل... وقال الأستاذ: كل مخالف يكفرنا فنحن نكفّره، وإلاّ فلا»[72].
وذهبت الماتريدية، وأهل الحديث، من القول بعدم تكفير المسلم.
المستفاد من عبارات متكلمي الإمامية أنّ من فعل كبيرة لا يخرج عن إطار الإسلام، بل لا يخرج من دائرة الإيمان. فإنّ أعلام الإمامية قالوا: بأنّ الإيمان هو التصديق، وجعلوا العمل شرطاً لكماله.
قال الشيخ المفيد: «اتفقت الإمامية علی أنّ مرتكب الكبائر من أهل المعرفة والإقرار لا يخرج بذلك عن الإسلام وأنّه مسلم وإن كان فاسقاً بما فعله من الكبائر والآثام»[73]، بل صرّح الفاضل المقداد وابن ميثم البحراني بأنّه مؤمن[74].
كما قال الشيخ البحراني: «المشهور بين متأخري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم، وخصوا بالكفر والنجاسة بالناصب كما أشرنا إليه في صدر الفصل، وهو عندهم: من أظهر عداوة أهل البيت^»[75].
فعلی هذا، ما أراده المجلسي من الكفر هو الكفر الذي يقابل الإيمان؛ لأنّ الإمامية تعتقد بأنّ من لم يؤمن بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وإمامته وأحقيّته بالخلافة فهو ليس بمؤمن وإن كان مسلماً، وتجري عليه أحكام الإسلام، ويعامل معه معاملة المسلم.
قال صاحب الأساس: «لا إكفار ولا تفسيق إلاّ بدليل سمعي؛ لأنّ تعريفهما لم يثبت إلاّ بالسمع إجماعاً قطعياً، لاستلزامهما الذم والقطع بتخليد صاحبهما في النار إن لم يتب»[76].
1. رأي فقهاء المذاهب المتقدّمين في تكفير المسلم:
أ) عن الإمام الشافعي ومحمّد بن الحسن «الشيباني»:
«لا يكفر المسلم بما يبدر منه من الفاظ الكفر، إلاّ أن يعلم المتلفّظ بها أنّها كفر»[77].
ب) عن المحقّق الحنفي كمال الدين بن همام:
«يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، ولكنّه ليس من كلام الفقهاء الذين هم مجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء»[78].
ج) العلاّمة الشاطبي المالكي:
«قد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمی، ولكن الذي يقوی في النظر، وبحسب في الأثر، عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم. ألاتری صنع علي (ع) في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، علی مقتضی قول الله تعالی: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}[79] فإنّه لمّا اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة، لم يهاجمهم علي ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله(ص): من بدّل دينه فاقتلوه، ولأنّ أبابكر خرج لقتال أهل الردّة ولم يتركهم، فدلّ ذلك علی اختلاف ما بين المسألتين»[80].
د) شيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة:
«لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة. والخوارج المارقون الذين عمل النبي بقتالهم، وقاتلهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق علی قتالهم أئمة الدين من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، لم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتی سفكوا الدم الحرام، وأغاروا علی أموالهم المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنّهم كفّار، ولهذا لم يسبّ حريمهم، ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والاجماع، لم يكفروا، مع أمر الله ورسولهم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم! فلا يحلّ لإحدی هذه الطوائف أن تكفّر الأخری أيضاً... والأصل إنّ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محترمة من بعضهم علی بعض، لا تحلّ إلاّ بإذن الله ورسوله»[81].
هـ) الإمام الشوكاني من الزيدية:
«إعلم أنّ الحكم علی الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر، لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يقدّم عليه، إلاّ ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنّه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما... ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها، أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن الإسراع في التكفير، وقد قال عزّ وجلّ: {ولكنّ من شرح بالكفر صدرا}[82] فلابدّ من شرح الصدر بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك، لاسيّما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفريّ لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلی ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدلّ علی الكفر ولا يعتقد معناه»[83].
و) ابن قدامة من قوله في ترجيح عدم تكفير تارك الصلاة، قال:
«وهذا قول أكثر الفقهاء: قول أبي حنيفة ومالك وشافعي. واستدلّ بالأحاديث المتفق عليها التي تحرم علی النار من قال: لا إله إلا الله، والتي تخرج من النار من قولها، كما استدلّ بآثار الصحابة واجماع المسلمين، قال: فإنّا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة، ترك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا منع هو ميراث مورّثه، ولا فرّق زوجين لترك الصلاة من إحداهما مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها»[84].
كما قال ابن دقيق العيد: «وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلی السنة وأهل الحديث لمّا اختلفوا في العقائد، فغلظوا علی مخالفيهم وحكموا بكفرهم، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية»[85].
قال ابن حزم عندما تكلم فيمن يكفّر ولا يكفّر: «وذهبت طائفة إلی أنّه لا يكفّر ولا يفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد، أو فتيا وأن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأی أنّه الحق، فإنّه مأجور علی كل حال، إن أصاب الحقّ فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلی وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة(رضي الله عنهم)، لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً»[86].
قال ابن عابدين نقلاً عن الطحاوي وغيره: «لا يخرج الرجل من الإيمان الاّ الجحود ما أدخله فيه، ثمّ ما تيقّن إنّه ردّة يحكم بها، وما يشك إنّه ردة لا يحكم بها؛ إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أنّ الإسلام يعلو... فإذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه، فعلی المفتي أن يميل إلی الوجه الذي يمنع التكفير؛ تحسيناً للظن بالمسلم... لأنّ الكفر نهاية في العقوبة، فيستدعي نهاية في الجناية، ومع الشك والاحتمال لا نهاية»[87].
ز) قال الحر العاملي من أعلام الإمامية:
«روي أنّ من أقرّ بالشهادتين عصم دمه وماله، إلاّ بحق، وجازت مناكحته وموارثته»[88].
وقال الشيخ المفيد:
«اتفقت الإمامية علی أنّ مرتكب الكبائر من أهل المعرفة والإقرار، لا يخرج بذلك عن الإسلام وأنّه مسلم، وإن كان فاسق بما فعله من الكبائر والآثام»[89] بل صرّح ألفاضل المقداد وابن ميثم البحراني بأنّه مؤمن[90].
2. رأي فقهاء المعاصرين في التكفير:
أ) قال الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء:
«الإسلام والإيمان مترادفان ويطلقان علی معنی أعم يعتمد علی ثلاثة أركان: التوحيد والنبوة والمعاد. فلو أنكر الرجل واحداً منها فليس بمسلم ولا مؤمن. وإذا دان بتوحيد الله ونبوة سيد الأنبياء محمد(ص) واعتقد بيوم الجزاء... فهو مسلم حقاً له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، دمه وماله وعرضه حرام. ويطلقان أيضاً علی معنی أخص يعتمد علی تلك الأركان الثلاثة وركن الرابع هو العمل بالدعائم التي بني عليها الإسلام، وهي خمس: الصلوة والصوم والزكاة والحج والجهاد... وإذا اقتصر علی تلك الأركان الأربعة فهو مسلم ومؤمن بالمعنی الأعم، تترتب عليه جميع أحكام الإسلام، من حرمة دمه وماله وعرضه ووجوب حفظه وحرمة غيبته وغير ذلك»[91].
ب) الإمام الخميني& مرجع الديني الأعلی وقائد الثورة الإسلامية الكبير:
«نحن كلّنا إخوة وكلنا في صف واحد، إلاّ أنّ علماءكم قد أفتوا بشيء وأنتم قلّدتم علماءكم، فأصبحتم أنتم حنفيين، كما أنّ جماعة أخری عملوا بفتوی الشافعي، فأصبحوا شافعيين... وجملة أخری عملوا بفتوی سيدنا الصادق(ع) فأصبحوا شيعة، هذه الأمور لا تسبّب الخلاف. لا ينبغي لنا أن يكون بيننا خلاف أو تضاد. كلّنا إخوة»[92].
ج) سماحة الإمام الخامينيي، مرجع تقليد وقائد الثورة الإسلامية في جواب استفتاء وسؤال وهو: «ما هو رأي مقام سماحتكم بخصوص إطلاق اسم الأمة الإسلامية علی اتباع المذاهب الإسلامية الأخری، كالفرق الأربعة لأهل السنة، والزيدية، والظاهرية، والاباضية، وغيرهم من الذين يؤمنون بأصول دين الإسلام الحنيف؟ وهل يجوز تكفير الفرق المذكرة أم لا؟ وما هي حدود التكفير في العصر الحالي أساساً؟»
«الفرق الإسلامية بأسرها تعتبر جزءاً من الأمة الإسلامية ولا تتمتع بالامتيازات الإسلامية. وايجاد الفرقة في ما بين الطوائف الإسلامية، يعدّ خلافاً لتعاليم القرآن الكريم، ولسنّة النبي الأكرم(ص)، كما ويؤدي إلی إضعاف المسلمين وإعطاء الذريعة بأيدي أعداء الإسلام، ولذلك لا يجوز هذا الأمر قطّ»[93].
د) سماحة السيد علي السيستاني، مرجع تقليد وزعيم الحوزة العلمية في النجف:
«كلّ من يتشهّد الشهادتين، ولم يظهر منه ما ينافي ذلك، ولم ينصب العِداء لأهل البيت^ فهو مسلم»[94].
هـ) الشيخ محمّد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر السابق للإجابة عن سؤال وهو: «هل يجوز أن تعتبر المواهب التي ليست من الإسلام السني جزء من الإسلام؟ أو بمعنی آخر هل كلّ من يتبع ويمارس أيّ واحد من المذاهب الإسلامية ـ يعني المذاهب السنية الأربعة، والمذهب الظاهري، والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الاباضي ـ يجوز أن يعد مسلماً؟» قال:
«أصحاب هذه المذاهب ـ فيما نعلم من ظواهر أحوالهم ـ كلهم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويعترفون بالأركان الخمسة ويؤدونها، وإذا وجد خلاف بينهم في أداء هذه الأركان فهو خلاف في الفروع لا في الأركان والأصول. وبذلك لا نستطيع أن نقول أنّ أصحاب هذه المذاهب بأنّهم غير مسلمين، وشريعة الإسلام تأمر أتباعها أن يحكموا علی الناس علی حسب ظواهرهم، أمّا بواطنهم فالله تعالی وحده هو العليم بها»[95].
و) فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عمان:
«إنّ الإسلام دين يتمثل في المعتقدات الحقّة التي تنطوي عليها إجمالاً الشهادتان، شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً (ص) رسول الله، ويجسّدها تطبيق الإسلام في الحياة العملية بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ بيت الله الحرام، فكلّ من أتی بالشهادتين ولم ينقضهما بانكار ما علم من الدين بالضرورة فإنّه يعدّ مسلماً، وممارسته للأركان العملية المذكورة تعد تطبيقاً لتعاليم الإسلام، سواءاً كان علی أيّ مذهب من المذاهب التي تنتمي إلی هذا الدين، ولا يجوز إخراجه من ملّة الإسلام نظراً ولا تطبيقاً، فلا يعد مشركاً ولا كافراً كفر ملّة ولا تمنع مناكحته ولا موارثته، وله من الحقوق ما لعامة المسلمين في حياته وبعد وفاته: كالتسليم عليه، وردّ سلامه... وكفّ الأذي عنه، وصون دمه وماله وعرضه، وعونه إن احتاج إلی العون بقدر الإمكان»[96].
ز) فضيلة الشيخ محمّد حبيب بن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي:
«المسلمون أمة واحدة يؤمنون بإله واحد، كتابهم المنزل إليهم القرآن، قبلتهم واحدة، وأصول دينهم خمسة: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج. فمن أخذ بهذه الأصول والتزمها فهو مؤمن مهما كان مذهبه، وليست المذاهب في واقع الأمر إلاّ اجتهاداً في فهم نصوص الكتاب والسنة التي هي مصادر هذا الدين، وإن تمايزت طرقها في ذلك أو اختلف أئمتها في التفسير والتأويل والأصول والقواعد والترجيح بين الأقوال في عدد من المسائل»[97].
ح) فضيلة الدكتور الشيخ مظفر شاهين، رئيس المجلس الأعلی للشؤون الدينية التركية:
«إنّ أيّ إنسان قد آمن بوجود الله ووحدانيته، وصدّق وآمن برسوله النبي الأمي خاتم النبيين(ص) وآمن باليوم الآخر، يعتبر مسلماً مبدئياً، ما لم تكن ظواهر أحواله تقتضي كفره إنّ انتساب أي مسلم إلی مذهب من المذاهب التي ذكرت في السؤال ليس متعلّق بإيمان وإسلامه، وإنّما ذلك أمر متعلّق بالمنهجية التي رجّحها في ممارسة العبادات والمسؤوليات الدينية.
ومن ناحية أخری ليس هناك أيّ اختلاف وتفاوت بين المذاهب المذكورة في موضوع قبول وتصديق المبادي الأساسية الإسلامية، فأمّا وجود آراء مختلفة حول تفسير وإيضاح بعض المبادي والأحكام للدين وضع يعتبر من جملة الثروة الفكرية للمجتمع الإسلامي، فضلاً عن كونه سبباً لعدّ أصحابها وسالكيها خارجين عن دائرة الإسلام»[98].
ط) فضيلة الشيخ ابراهيم بن محمّد الوزير، رئيس المركز الإسلامي للدراسات والبحوث بصنعاء:
«إنّ هذه المذاهب المذكورة: المذهب الشافعي والمالكي والحنفي والحنبلي، والمذهب الجعفري والزيدي والاباضي والظاهري، كلّها مذاهب إسلامية معتبرة، وأيّ مسلم تابع لأي واحد من هذه المذاهب يجب أن يعتبر ويعد مسلماً، ولا يحقّ لأحد أن يعتبره أو يعدّه خارجاً عن الإسلام.
ولا يجوز لمسلم أن يكفّر أيّ مسلم يتبع ويمارس تعاليم دينه علی أيّ واحد من المذاهب الإسلامية الثمانية سالفة الذكر، أو من يتبع إحدی الطرق الصوفية الصحيحة، أو السلفية المعتدلة»[99].
وقال فضيلة الشيخ محمّد بن اسماعيل المنصور وفضيلة الشيخ حمود بن عباس بن عبدالله المؤيد، من علماء اليمن:
«إنّ المذاهب المسماة سنية وهذه المذاهب أيضاً كلّها تشملها كلمة (لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله)، وتنطوي تحت راية القرآن الكريم وأحكامه وأحكام ما صح لنا من سنة سيد المرسلين (ص)، انطواء الكون الحادث علی النجوم والشمس والقمر وانطواء الزمن علی الليل والنهار... ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يكفّر مسلم مسلماً مطلقا، وأين نحن من قول الرسول الكريم (ص) لأسامة: «كيف يا أسامة بلا إله إلاّ الله»...»[100].
ي) فضيلة الشيخ أحمد كفتارو، المفتي السابق للجمهورية العربية السورية:
«إنّ قصر فقه الإسلام علی القرآن والسنّة فقط هو تقصير في حقّ الإسلام ومواكبته لشؤون الإنسان المسلم، وجعله ضيّق الأفق، محدود الهدف، قاصراً عن شؤون الحياة ومتطلبات أبنائها، والمقرّر أنّه حيثما وجدت المصلحة فثمّ وجه الله، وأنّ المذاهب الفقهية إنّما وجدت لأجل تفعيل تلك المصلحة في المجتمع وتحقيقها، وإن اختلفت وجهات نظرها في الفروع الفقهية، فإنّها تبقی تدور في تلك الأصول والثوابت.
هذا وإنّ اختلاف الفقهاء في تلك الفروع المشار إليها إنّما هو للتيسير علی الناس، ورفع الحرج عنهم ورحمتهم، ولذلك جاز تقليد كل مذهب وإن أدّی إلی التلفيق عند الضرورة أو الحاجة أو العجز والعذر، لأنّ الصحيح جوازه عند المالكية وجماعة من الحنفية، كما يجوز الأخذ بأيسر المذاهب أو تتبع الرخص عند الحاجة أو المصلحة لأنّ دين الله يسر، لا عسر، قال تعالی: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}... فعلينا إذاً أن لا نستغرب اختلاف الفقهاء في الفروع؛ لأنّ الدين واحد، والشرع واحد، والحق واحد لا يتعدّد، وكذا المصدر واحد وهو الوحي الإلهي. لم يسمع يوماً أنّ اختلاف المذاهب الفقهية أدّی إلی نزاع أو صدام مسلح بين أبناء المذاهب، وذلك لأنّ اختلافهم اختلاف جزئي في الاجتهادات العلمية المدنية الفقهية»[101].
فظهر مما ذكرنا من الكتاب والسنة وكلام الفقهاء والمتكلمين أنّ الناس لابدّ لهم أن يجتنبوا عن تكفير المسلم ويمتنعوا منه حتی يقوم الدليل علی خلافه؛ لأنّ الأصل بقاء المسلم علی إسلامه.
«الحمد لله رب العالمين»
[1] . ومما يؤسف له ان افكار التكفير وجدت سوقاً رائجة من هذا الزمان وساعدت علی تركيز الاقتتال بين ابناء الامة الواحدة الاسلامية.
[2] . العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري، ج 10، ص 389.
[3] . تقدّم تخريجه.
[4] . سورة الإنسان: الآية 3.
[5] . سورة الحجرات: الآية 9.
[6] . الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج 12، ص 281؛ ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج 51، ص 385 و 411 و454ـ455.
[7] . سورة النساء، الآية 48.
[8] . العاملي، جعفر مرتضی، علي والخوارج، ج 1، ص 113 ـ 114.
[9] . الأمين، شريف، معجم الفرق الإسلامية، ص 214 ـ 215.
[10] . الشهرستاني، ابو الفتح، الملل والنحل، ج 1، ص 117.
[11] . ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 78.
[12] . الملطي، التنبيه والرد، ص 50 و 51.
[13] . البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 80؛ اليعقوبي، أحمد بن اسحاق، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 191.
[14] . ابن تيميه، الإيمان، ص 209.
[15] . البغدادي، عبد القاهر،الفرق بين الفرق، ص 94.
[16] . البغدادي، عبد القاهر، أصول الإيمان، ص 249.
[17] . سورة المائدة: الآية 44.
[18] . سورة المائدة: الآية 45.
[19] . سورة المائدة: الآية 47.
[20] . الحنفي، ابن أبي العزه، شرح العقيدة الطحاوية، ص 361.
[21] . الشهرستاني، محمّد بن عبدالكريم، الملل والنحل، ج 1، ص 124.
[22] . الحكمي، حافظ ابن أحمد، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلی علم الأصول في التوحيد، ج 2، ص 346.
[23] . الشوكاني، محمّد بن علي، نيل الاوطار، ج 7، ص 340.
[24] . البغدادي، عبدالقادر بن عبدالطاهر، أصول الإيمان، ص 261.
[25] . سورة النساء: الآية 31.
[26] . سورة التحريم: الآية 8.
[27] . سورة النساء: الآية 48.
[28] . الحنفي، ابن أبي العزه، شرح العقيدة الطحاوية، ص 361.
[29] . ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 5، ص 159.
[30] . المعتزلي، عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 481.
[31] . ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 113 ـ 114.
[32] . سورة الزمر: الآية 53.
[33] . سورة النساء: الآية 48.
[34] . ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 281.
[35] . ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج 3، ص 68.
[36] . مسلم، بن الحجاج، صحيح مسلم، ج 1، ص 39؛ ابن ماجة، محمّد بن يزيد، سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1295.
[37] . الشافعي، محمّد بن ادريس، الأم، ج 7، ص 311.
[38] . المغربي، القاضي النعمان، شرح الأخبار، ج 1، ص 399؛ البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبری، ج 8، ص 173؛ الدمشقي، اسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 321.
[39] . الطوسي، محمّد بن الحسن، الأمالي، ص 200.
[40] . الإباضية: سمي بهذا الإسم نسبة إلی عبدالله بن أباض وهو تابعي عاصر معاوية وتوفی في أواخر أيام عبدالملك بن مروان، والمؤسس الحقيقي للمذهب هو جابر بن يزيد الأزدي والإباضية حالياً يوجدون في عمان، والجزائر، وتونس وليبيا وزنجبار.
[41] . السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 5، ص 224.
[42] . الدكتور طعيمة، صابر الاباضية عقيدة ومذهباً، ص 119 باختصار.
[43] . سورة النساء: الآية 143.
[44] . سورة المجادلة: الآية 14.
[45] . الاباضي، ابو عمار عبد الكافي، الموجز، ج 2، ص 116 و 117.
[46] . الفيروزآبادي، محمّد بن يعقوب، القاموس المحيط، ج 4، ص 334.
[47] . الشهرستاني، ابو الفتح، الملل والنحل، دار المعرفة، بيروت، ج 1، ص 139؛ الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 213.
[48] . النجدي، سليمان بن عبدالوهاب، الصواعق الإلهية في الرد علی الوهابية، ص 17.
[49] . الحنفي، ابن أبي العزه، شرح العقيدة الطحاوية، ص 299.
[50] . سورة التوبة: الآية 5.
[51] . الكليني، علي بن يعقوب، الكافي، ج 6، ص 47، ح 5؛ المجلسي، محمّد باقر، مرآة العقول، ج 21، ص 82 و 83.
[52] . الصدوق، محمّد بن علي، الخصال، ص 72.
[53] . المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمّال، ج 1، ص 135؛ البغدادي، عبدالقاهر، الفرق بين الفرق، تعليق إبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، ص 187 ـ 188.
[54] . الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، ج 2، ص 285.
[55] . السبحاني، جعفر، الإيمان والكفر، مؤسسة الإمام الصادق بقم المشرفة، ص 21.
[56] . حكمي، حافظ بن أحمد، معارج القبول بشرح سلم الوصول في التوحيد، ج 2، ص 346.
[57] . سورة النساء: الآية 94.
[58] .ابن ماجة، محمّد بن يزيد، سنن إبن ماجة، ج 2، ص 1295.
[59] . الزيلعي، عبدالله بن يوسف، نصب الراية، ج 4، ص 329.
[60] . الملاحمي، محمود بن محمّد، الفائق، ص 602 ـ 603.
[61] . المصدر السابق، ص 604.
[62] . المصدر السابق، ص 601.
[63] . نفس المصدر، ص 599.
[64] . سورة الحجرات: الآية 9.
[65] . سورة البقرة: الآية 178.
[66] . السبحاني، جعفر، الإيمان والكفر في الكتاب والسنة، مؤسسة الإمام الصادق، 1416 هـ . ق، ص 59 ـ 60.
[67] . الآمدي، سيف الدين، أبكار الأفكار، ج 5، ص 30.
[68] . حكي عنه في الطبقات الكبری، للشعراني، ص 21.
[69] . الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، ج 3، ص 560.
[70] . الشعراني، عبد الوهاب، اليواقيت والجواهر، ج 2، ص 126.
[71] . الغزالي، محمّد، دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، ص 192 وما بعدها.
[72] . الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، ج 3، ص 560.
[73] . المفيد، محمّد بن محمّد، أوائل المقالات، ص 47 ـ 48.
[74] . الفاضل المقداد، مقداد بن عبد الله، إرشاد الطالبين، ص 437 و 443؛ واللوامع الإلهية، ص 441؛ البحراني، ميثم بن علي، قواعد المرام، ص 171.
[75] . البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق، ج 5، ص 175.
[76] . المنصور بالله، القاسم بن محمّد، الأساس لحقائد الأكياس، ص .
[77] . ايثار الحق علی الخلق، ص 292 و 294 نقلاً عن صاحب المحيط.
[78] . ابن العابدين، ردّ المحتار، ج 4، ص 237.
[79] . سورة الحجرات: الآية 9.
[80] . الشاطبي، الاعتصام، ج 3، ص 35.
[81] . ابن تيمية، الرسائل، ج 3، ص 282 وما بعدها.
[82] . سورة النحل: الآية 106.
[83] . الشوكاني، السيل الجرار، ج 4، ص 578.
[84] . ابن قدامة، المغني.
[85] . إبن دقيق العيد، تقي الدين، إحكام الأحكام، ص 529.
[86] . علي بن أحمد، ابن حزم، الفصل في الملل والاهواء والنحل، ج 3، ص 291.
[87] . ابن عابدين، محمّد أمين بن عمر، ردّ المحتار، ج 4، ص 408.
[88] . الحرّ العاملي، وسائل الشيعة.
[89] . المفيد، محمّد بن محمّد، أوائل المقالات، ص 47 و 48.
[90] . الفاضل، مقداد بن عبدالله، ارشاد الطالبين، ص 437 و 443.
[91] . كاشف الغطاء، محمّد الحسين بن علي، أصل الشيعة وأصولها، ص 210 ـ 213.
[92] . اقتباس عن موقعه الالكترونيكية.
[93] . نقلاً عن موقع الالكترونيكية لمكتبه، قسم الاستفتاءات.
[94] . ميرآقائي، سيد جلال الدين، التعدّدية المذهبية في الإسلام وآراء العلماء فيها، ص 102.
[95] . المصدر السابق، ص 130.
[96] . ميرآقائي، سيد جلال الدين، التعدّدية المذهبية في الإسلام وآراء العلماء فيها، ص 244.
[97] . المصدر السابق، ص 188.
[98] . ميرآقائي، سيد جلال الدين، التعدّدية المذهبية في الإسلام وآراء العلماء فيها، ص 230.
[99] . المصدر السابق، ص 237 و 238.
[100] . المصدر نفسه، ص 239 و 240.
[101] . ميرآقائي، سيد جلال الدين، التعدّدية المذهبية في الإسلام وآراء العلماء فيها، ص 182 و 183.