خصائص التقريب في ظل التمدن الإسلامي المعاصر
خصائص التقريب في ظل التمدن الإسلامي المعاصر
الباحث الاسلامي
ماجد حرز عبدالسيد الساعدي
مسؤول مكتب المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في محافظة ميسان
ملخص البحث
ان موضوع التقريب وبيان ابرز خصائص في ظل التمدن الاسلامي المعاصر، واحدة من الموضوعات المهمة والجديرة بالاهتمام والبحث، وحري بالباحثين والمفكرين المعاصرين وعلماء الاسلام أن يبحثوا جميع ما يرتبط به وما له من انعكاسات وآثار إيجابية على تنعم به الامة الاسلامية من تقدم وتطور في جميع مجالات الحياة الانسانية ونهضتها الحضارية والثقافية، بما في ذلك وتأطير الأواطر وتوثيق العلاقات الاجتماعية بين ابنائها على مختلف المذاهب والقوميات بما يخدم المجتمع الاسلامي ويساهم في دأبها الحضاري في ظل الانفتاح والتقدم العالمي في مختلف العلوم والميادين الانسانية.
فقد جاء موضوع بحثنا هذا كمحاولة اولى لدراسة الموضوع من جهة بيان ابرز هذهالخصائص التي يتمتع بها التقريب بين المذاهب في ظل التمدن الاسلامي، وقد وجدناها تنظم في ركيه وتنسجم مع تطوره وتساهم في حللة الكثير من مشاكله وفك أسراره.
وما أحوجنا اليوم إلى طرح من قبيل هذه الموضوعات بهدف تحقيق الغايات القصوى من دأب الحركة التقدمية التي تعتمد في الغالب على بناء الذات وتنمية القدرات البشرية، ومثل هذا لا يتحقق في ظل النفرقة والتمزق والتفكك البنوي للمجتمع الاسلامي.
خصائص التقريب في ظل التمدن الإسلامي المعاصر
الباحث الاسلامي: ماجد حرز عبدالسيد
المقدمة
لقد شهدت الإمة الإسلامية حالة من التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي في مختلف الميادين الحياتية، بحيث أصبحت تضاهي في ذلك الدول المتقدمة علمياً وحضارياً، فقد احتلت مكانتها اللائقة بها رغم ما تعانيه من الحصار وكثرة الأعداء لها وزرع الاختلافات وإثارة النزاعات المذهبية والطائفية والقومية بين أبنائها، إلا أنّ ذلك لم يثنِ عزمها ويحد من تقدمها وتطورها في مختلف الميادين العلمية والتكنولوجية، وقد احتلت الجمهورية الإسلامية الأيرانية الصدارة في البلدان الإسلامية في هذا المجال رغم محاولة أعداء الأسلام الوقوف بوجهها والحيلولة دون تقدمها، غير أن ذلك زادها عزماً واصراراً لتحتل بعد ذلك كله المرتبة الاولى في الدول المتقدمة تكنولوجياً وتأخذ مكانتها في الركب الحضاري المعاصر بجميع ما يتمتع به من خصائص التقدم والتطور العلمي.
ولذا فالإمة الإسلامية اليوم بأمس الحاجة إلى التقريب بين المذاهب والاديان والقوميات، الذي جعلته أعدائها مدخلاً وطريقاً للحيلولة دون تقدمها، وذلك من خلال جعل الاختلاف أسلوباً لتمزيق وحدتها وتضعيف قوتها وتفريق صفها، مضافاً إلى ما تعانيه الأمّة الإسلامية من مخاطر العوالمة المعاصرة وأثرها على الجيل الإسلامي بشتى أطيافه واتنمائاته المذهبية والدينية، وهذا مما بعث بالدعاة والعلماء والولاة روح النضهة الفكرية والعلمية في شتى مياين الحياة؛ وعياً منهم بزمن التكتلات وتشبعاً بأجواء الوئام، وإدراكاً منهم لمخاطر هذه العولمة الثقافية والاقتصادية الزاحفة من ناحية، ودواعي التضامن ورصيد التآخي الإسلامي العميق من ناحية أخرى، دونما إغضاء مؤامرات التفكيك والتفريق، ومحاولات بلقنة العالم الإسلامي ومشاريع التخطيط الإمبريالي لتجزئة الأمة الإسلامية، وذلك من منطلق قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}([1]).
بهذا الوعي المسؤول والإحاطة النبيهة ينكفئ الأئمة وحملة الثقافة، والفكر، والدعوة الإسلامية والساسة الأتقياء الفطناء، في إطار من النقد الذاتي البناء من داخل العالم الإسلامي لرأب الصدع في صفوف المسلمين وسد الثغرات التاريخية بعد زوال أسبابها الناشئة عن أحداث التمزيق والتفكيك التي عصفت بالأمة الإسلامية وفرق صفها وجعلتها دويلات متقطعة ومتناحرة، وانقراض مرسخاتها في تلك القوالب الجدلية التي صاغها علماء الكلام بأهوائهم للنظم العقائدية في الإسلام([2])، فهم اليوم يدعون في معترك التواصل المتزايد بين الشعوب، وتنامي الاتجاه إلى الديمقراطية، والحرية، والتنادي بالسلم.
وحري بهم أن يدعوا إلى تدارس جدي لاستئناف التقريب الفعلي النزيه بين المذاهب الإسلامية من أجل بناء الوحدة الإسلامية المنشودة التي قرر الوحي العظيم ميثاقها في السماء؛ إذ الإسلام في الأساس فوق المذاهب والفرق([3]) فتنزلّت آياته قائلة: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}([4])، حاضّة على: {أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه}([5])، تلك الوحدة الذهبية التي طالما تهيب منها الغرب جهالة؛ إذ هي في الحقيقة مدعاة الخير والحضارة والسلم للناس كافة، ومرقاة لشأن الإنسان في الأرض، وتنمية لحياة رغيدة عادلة فضلى.
الكلمات المفتاحية
الخصائص، التقريب، التمدن ، الاسلام، المعاصر
فطرية الاختلاف
لقد كان الاختلاف أمراً طبيعياً في الإنسان، وسليقة يجب ألا نتطير منها، وحقيقة إنسانية وإسلامية لا محيص عنها([6]) فضلاً عن أنه مصدر ثراء في التنوع الفكري والتكامل الحر في الرأي، بل وعربون صيانة من الوقوع في الخطأ، وفيه كل الحفظ من المزالق الأحادية ومناعة من الاستبداد الفردي في مجالات التفكير، والتفلسف، والنظر والحكم وما تعلق بمصائر الناس وحركة المجتمعات والنظم السياسية عامة. لذلك قال عمر بن عبد العزيز: >ما أحب أن أرى أصحاب رسول الله(ص)، لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق<([7]).
الاختلاف البنّاء و وحدة الاسلام
إذا كان مرصد الاختلاف يتحرى الصواب، ويتحسس الحق في غير ما مرواغة أو مداهنة أو تلبيس: شعاره التفتح لا الانغلاق والتسامح لا التعصب، ومرماه التكامل والتقدم ومركزه العلم والتقوى، لا أن يستهدف مجرد المغايرة تحكماً، أو ينتحل المخالفة ترفاً، أو إذعاناً لدوافع دنيوية شتّى، وعليه فإذا كان الإسلام الحنيف يحث على وحدة الأديان السماوية بعد أن قرر وحدة الجنس البشري كله، فمن باب أولى أن تدعى المذاهب الإسلامية ما دامت وحدة التشريع قائمة، إلى التقارب بينها، وقد اشتركت في الأصول والمبادئ العامة واختلفت في الفروع اختلاف رحمة بعيداً عن التأثيم.
وعليه فإن التقريب بين المسلمين عمل تعبدي بقوله -تعالى- {ولا تنازعوا فتفشلوا}([8])، وهو سجال الإخوة وانجذاب المؤمنين، وعليه فهناك مجموعة من الاسئلة تطرح نفسها وتحتاج الى جواب واعي ينم عن ادراك حقيقة التقريب وفلسفته وما له من آثار خاصة، وهي:
هل وحدة المذاهب ممكنة؟ هل تلغي التعدد المذهبي؟ هل هي تغليب لمذهب على مذهب؟ كيف نقضي على العدواة الفكرية؟ والعداوة الموروثة؟ والاستنساخ التقليدي الفج؟ كيف نحارب الجينات الدينية الجديدة التي تغذي عصبية المذهبية، والطائفية، وعبثية التفسيق، والتكفير؟ كيف يصبح الاختلاف بعيداً عن تسييس التمذهب مظهراً إنسانياً وسمة في التحضر؟
ويمكن ان تتضح اجوبة الكثير من هذه الاسئلة من خلال وعي وادراك ما تتمتع به دعوى التقريب من خصائص وميزات خاصة في ظل التمدن الاسلامي المعاصر.
خصائص التقريب
هناك مجموعة من الخصائص ذكرها علماء ومفكري الإسلام المعاصرين بخصوص التقريب بين المذاهب الإسلامية بما ينسجم مع الطرح القرآني والتمدن الإسلامي المعاصر وحاجة الأمة الإسلامية إلى ذلك، كان من بينها:
أولاً: انسجامه مع فطرية الاختلاف
لا جرم أنه قد غدا من المقررات في ديننا بداهة سنة الاختلاف بين البشر، وبات منزع التباين في الآدميين مشرعاً على الفطرة يتعلق في الأصل بالنشأة الأولى لصنف من الخلائق كرمه المنعم - سبحانه - بهبة العقل، فجعل تعدده وأنواعه وفروقه وأشكاله مدعاة التأمل في عظيم اقتداره، يرشد إلى ذلك جليل قوله - تعالى -: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم...} ([9]).
ومناط مشئيته الربوبية كما جاء في كريم قوله - جل جلاله -:
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}([10]).
بيد أن هذا الاختلاف المفطور عليه منشأ وتكويناً، لا مرية في أنه ليس محمولاً عليه البتة على سبيل الحث والاحتذاء، ولا هو مدعو إليه بالمرة من طريق الأمر أو الاقتداء. وإنما كان تقريره وحياً على معنى أنه طبيعة في الخلق، ونزعة في الناس لا يملكون لها فكاكاً. يبصّرنا بمساق هذه البديهة ضياء الآية الكريمة رغم ثراء تصاريف ضروب التأويل فيها: {وما كان النّاس إلاّ أمّة واحدةً فاختلفوا}([11]). اختلفوا إذاً، بمحض الطواعية دون إكراه، وبمشهد من الأنبياء والرسل.
لكن حكمة الله البالغة اقتضت أنّ أمر توحّد الناس توحيداً كليّاً سالماً من كل أذيّة، معفى من أي شرخ، معصوماً من أدنى انشقاق، وإن كان مقدوراً له - سبحانه -، لم يتعلق بمشيئته التشريعية العليا، يدلنا على فحواه بليغ وحيه - سبحانه -: {ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون}([12]). بينما كان ذلك شأنه مطلقاً في خلق طراز آخر من العباد وهُبِوا كرامة العصمة اللدنية منه، وإن سلبوا نفائس الإرادة والحرية والاختيار:{...لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} ([13]). بامتثالية وأمثلية لا مثيل لهما، ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين}([14]).
لئن كانت خميرة مركوزة في طبائع الورى {ولذلك خلقهم}([15]) من حيث التعدد والتنوع والكثرة والأضراب في مناهج المستخلفين في الأرض وفي مسالكهم، فلا شك أنه يثرى بها الفكر والرأي والنظر، وتنمو بها ضروب الاجتهاد وأنماط التفكير، وتسمو بها العقليات وترقى الفلسفات([16]) وتستخلص الحكمة والعبرة. ولا جدال في أن فائدة ذلك جمّة؛ إذ بهذه الحرية المبدئية في الاختلاف التي لا تعتقل مسارح النظر ولا تغتال مراقي التدبر.
ثانياً: انسجامه مع جريان السنن الإلهية
ولئن كان أمر توحّد الناس مستحيلاً في الواقع {ولكل وجهة هو مولّيها..}([17]). فإن أمر توحّد أمّة الإسلام مراد مطلوب بل ومحثوث عليه بفعل العقيدة الواحدة إلا أنّه متروك لجهود المعتقدين باقتضاء سنّة الله {ولن تجد لسنّة الله تحويلاً}([18]) وموفورة لهم موادّه، مرهونة وسائل تحقيقه بائتلاف إرادتهم الجماعية؛ فقوله - سبحانه – {وأن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}([19]) قاض بحتمية توحّدها وتوحيدها بأمر رباني؛ أي بإملاء من السماء فضلاً عن مقتضيات الأرض ودواعي رسالتها؛ ذلك أنها أمة مبعوثة مخصوصة معهود إليها بهداية الناس، وإقامة الشهادة عليهم بعد أن تتحقق فيها الأمثلية والأعلوية نتيجة الإخراج الإيماني([20]) كما تلوح إليه الآية الكريمة: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}([21]).
والذي يستلفت الانتباه أنه حين يتجه الخطاب القرآني إلى هذه الأمة النوعية المؤمنة بالأمر بالتوحّد وتقرير وحدتها، يربط هذه التعليمة الإلهية القاضية >بكلمة التوحيد وتوحيد الكلمة<([22]) والمحمولة على الوجوب لترتّبها تلقائياً على تبعات الإيمان ولا مناص، ربطاً عضوياً بمطلب التقوى تارةً كما تنص عليه الآية الكريمة: {وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقو}([23])، يجعلها كما أسلفنا، هدفاً تعبّدياً ملزماً لا معدى عنه تارة أخرى.
ثالثاً: انه رحمة للامة الاسلامية
قد يستغرب للوهلة الاولى كيف يكون الاختلاف رحمة للامة الاسلامية، ولكن ما أن يتأمل في أن من بين أبرز خصائص الدين الإسلامي ما يتمع به من اليسر والمرونة والسهولة والسماحة، وبذلك يكون الاختلاف رياضة للأذهان، بما يتيحه من احتمالات وافتراضات برهانية تمكن من تعدّد الحلول لصاحب كل واقعة بما يناسب وضعه، ويتناسب ويسر الدين([24])، إنما هو اختلاف في الأحكام الفرعية العملية الظنية، لا ضرر فيه ولا خطر منه. وهو رحمة بالأمّة، ودليل مرونة في الشريعة، وسعة في الفقه الإسلامي([25]). بل إنه يعدّ تراثاً علمياً خالداً للجميع يجب الحفاظ عليه والعناية به([26]) ما دام الهدف منه شريفاً يتمثل في إقامة مراسم الدّين وإدامة مناهج الشّرع القويم([27]).
وتصنيف هذا الاختلاف الذي لا يثير عداوة، ولا يبعث فرقة، ولا خصومة، ولا يفضي إلى شقاق، أنّه اختلاف غير مرضِي محمود، مشروع، ومقبول "تتضح على شراراته معالم الحق، وذلك كالخلاف الواقع بين المذاهب الأربعة، والخلاف الحادث بين بعض فرق الشيعة، وبين أهل السنّة في بعض الفروع... دون الأصل"([28]).
كذلك جرى استثناء علماء الفقه من ضلالات المبتدعة، ومن الحشر ضمن الفرق المذمومة. يقول البغدادي: "وقد علم كل ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة إلى الإسلام أن النبي - عليه السلام -، لم يرد بالفرق المذمومة التي هي من أهل النار فرق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين، ويعلل ذلك بقوله: لأنّ المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام على قولين:
أحدهما: قول من يرى تصويب المجتهدين كلهم في فروع الفقه، وفرق الفقه كلها عندهم مصيبون.
والثاني: قول من يرى في كل فرعٍ تصويبَ واحدٍ من المختلفين فيه، وتخطئة الباقين، من غير تضليل منه للمخطئ فيه"([29]). مما ساعد على حفظ الخلافيات وظهور الخلاف من دون ضرورة الاستناد إلى دليل مخصوص([30]) وكان أعلم الناس كما يروى عن أبي حنيفة أعلمهم باختلاف الناس.
ثم إنّه أن تكون تلك الخلافات هووية(نسبة إلى الهوى)، للنفس فيها حظ وللسياسة فيها متكأ، وللشيطان فيها مرتع ونزع، وللتعصب فيها دبيب. ولا غرو أن تكون أبعد عن حوافز العلم ودوافع العقل، أو إملاءات الإيمان، سيما إذا كان رائدها الكيد للدين وإفساد العقيدة، فهي لذلك "لا تحسب على الإسلام ولا يحسب المتمذهبون بها في المسلمين. وبهذا - كما يقرر عبد الكريم الخطيب - يكون شأنهم في المجتمع الإسلامي، وفي الأوطان الإسلامية شأن الأقليات التي تدين بغير الإسلام"([31]).
وعليه الخطر المريب في هذه الاختلافات ليس مدّعى التّباين في الرأي، فقد اتّضحت لنا سلفاً جوانب الرحمة فيه، وثراء التنّوع المحمود الذي ينطوي عليه كما هو مفاد الأثر المروي: >اختلاف أمّتي رحمة"، أو على قول من قال: "اختلاف العلماء رحمة" كما في "الاعتصام<([32]).
وإنما هلاكها في أن تتحول إلى خصومة في الدين من نحو محذور الآية الكريمة: {ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}([33]) أو تتقصّد المشاققة لأغراض ذاتية أو لمطامح معيّنة، أو رضوخاً لضغوط مختلفة بما هو تولّ عن حقائق الدين وأهدافه كما تشير إليه الآية الكريمة: {وإن تولوا فإنّما هم في شقاق}([34])، وشقاق التولّي والتنكر للمرامي النبيلة من الاختلاف ظلم كبير: {وإن الظالمين لفي شقاق}([35])، وبهذا يتأكد بمقررات الوحي أنّ الشقاق من شأن الظالمين وصنيعهم. أنظر إلى مدى استنكاره في القرآن الكريم: {من أضلّ ممن هو في شقاق بعيد}([36]).
رابعاً: انسجامه مع مبدأ الاخوة
قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}([37]).
يجب أن يكون انتماءك إلى مجموع المؤمنين، فبدل أن تقاتلوهم أصلحوا بين أخويكم، فرق كبير بين من يقتل مَن خالفه في الرأي، يقتله، يذبحه، وبين من يصلحه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}([38])
خامساً: التقريب بالتزام المنهج الالهي
قال تعالى: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ([39])
ما دام هناك تقصير في تطبيق منهج الله فالعداوة سوف تستمر، وسوف تتفاقم، وسوف تنفجر، ما لم نعد جميعاً إلى الله، ما لم نخلص جميعاً ديننا لله فالعداوة قائمة، وسوف تستمر، وهذا ليس من التشاؤم، ولكن من باب الحقيقة المرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح: >وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا<([40])
خامساً: نجاحه بالتزام الحوار الهادف في حل المشاكل المعاصرة
أحياناً هناك توجه إلى الحوار، ولكن لا بد من وقفة متأنية: إذا كان في المنطلقات تناقض فالحوار غير مجدٍ، كإنسان يلغي وجود الله، يكفر بالآخرة كلياً، يؤمن بالدنيا، يؤمن بالمتع، بالشهوات، هل من سبيل إلى محاورته ؟
ليس هناك قواسم مشتركة إطلاقاً، الحوار بين مختلفين، بين إنسانين من اتجاه واحد، لكنهما افترقا في بعض الجزئيات، نقول: الحوار مجدٍ، أما إذا كان بينهما تناقض فلا يجدي. بالمناسبة، على هذا الجدار لون أبيض، ولون أسود، هذان لونان متعاكسان يجتمعان، وقد اجتمعا على هذا الجدار، لكن الإضاءة والظلام شيئان متناقضان، فوجود أحدهما ينقض الآخر، إن قلت: هذا المكان مضاء فأنت بهذه الكلمة نقضت الظلمة، وإن قلت: هذا المكان مظلم فأنت بهذه الكلمة نقضت الضوء، فإذا كان التناقض بين فئتين تناقضًا مريعًا فالحوار لا يجدي، الدليل قال تعالى: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}([41])
أيها الإخوة، إذا لم يكن ثمة قواسم مشتركة إطلاقاً، بل هناك تناقضات حادة ومريعة فماذا يجدي الحوار ؟
سادساً: التقريب بمثابة الدعوة الى التعايش السلمي
لعل أوّل موقف من الوحدة والتقريب هو التأكيد على التعايش السلمي والوحدة السياسية والاجتماعية في قبال العدوّ المشترك. هذا الموقف من التقريب له وجهتان:
الأولى: ضمن الطقوس الدينية، حيث يمتنع المسلمون عن النزاع والقتال مع بعضهم، ويدعون إلى التعايش السلمي، ويتّخذون ذكرى النزاعات التاريخية والحرب والقتل وهتك الحرمات و… عبرة من أجل هذا الغرض والهدف.
الثانية: خارج الطقوس الدينية، أي إن المسلمين عبارة عن أسرة كبيرة دائماً، وعلى طول التاريخ هم عرضة للخطر والهجوم من قبل العدوّ الخارجي، وذلك من الحروب الصليبية إلى الحملات الصهيونية. ولهذا يجب أن تُنسى الخلافات الداخلية مقابل العدوّ المشترك([42]).
في السنة الأولى من سلطنة الشاه نادر أفشار جمع علماء جميع الفرق الإسلامية، وأقنعهم أن وحدتهم الإسلامية تضمن بقاء الإسلام، ويأس الكفار، ودوام سلطنة إيران، وأخذ منهم تعهداً خطياً أن يمتنعوا عن العصبيات الطائفية والسبّ واللعن والتكفير، وأن لا يفتي كل واحد منهم ضد الآخر، وأن لا يسيئوا التصرف([43]).
وجواب شيخ الشريعة الأصفهاني(1329هـ) لأحد قادة المذهب الجعفري في بخارى في سنة 1328 يشير أيضاً إلى وجهة النظر هذه: إنّ هذا اليوم هو اليوم الذي يجب على المسلمين أن يوقفوا فيه النزاع الداخلي، وأن يواجهوا ذلك بالتعاون والتعاضد لبعضهم البعض، ضد الذين يعملون على محو الإسلام والإيمان، وهدم البناء الأساس للقرآن الكريم، ويبدلون صوت الأذان بصوت الناقوس، ومحو اسم نبي آخر الزمان عليه وآله أفضل صلوت الملك المنّان…، وأكثر من هذا أن لا تعززوا القوات الأجنبية وذلك بإهانة وتقويض قواكم، وإشاعة الأخبار الموحشة لتؤكد صدق القول: وقع بأسهم بينهم، فإلى متى يبقى المسلمون في نوم وغرور، والأجانب واعين ويقظين؟!([44]).
لقد توصلنا إلى مجموعة من التائج النهائية من دراسة الموضوع، نلخصها بما يلي:
أولاً: إن من الاختلاف ما ينسجم والحركة التقدمية والحضارية، ومن ما لا ينسجم معها، والأول هو الاختلاف في الرؤى والانظار بهدف تقصى الحقائق وإثباتها والعمل بموجبها، والثاني هو الاختلاف الاهوائي الذي يتحرى ظاهر الذات والأنا الشخصية دون النظر إلى الاهداف والمصالح النوعية العامة، وبذلك يكون الاولى رحمة، والثاني نقمة.
ثانياً: لم يكن الاختلاف البناء وليد الاحداث والنزعات بقدر ما هو أمر فطرية ينسجم مع جريان السنن الإلهية التي لا تبديل لها.
ثالثاً: إنّ من يتحرى مبدأ الأخوة في هذا العصر يجد أنه منسجم تماماً مع طرح الرؤى والانظار المختلفة الموجبة لتقدم الامة الإسلامية في ظل التمدن الاسلامي المعاصر,
رابعاً: يحتاج التقريب بين المذاهب التزام الحوار الهادئ بين المختلفين إلى حين تحقيق الهدف الأعلى للتمدن الإسلامي المعاصر، وذلك باعتماد المنهج الإلهي في معالجة المشاكل وحل الازمات التي من شأنها ان تكون عقبة كؤود في طريق التمدن الاسلامي المعاصر، وبذلك يكون التقريب إحدى مظاهر الدعوى الإلهية للتقدم والتطور الحضاري.
مصدر البحث
1. أحمد بن حجر الهيثمي، الصّواعق المحرقة، ط2، مكتبة القاهرة، مصر، 1385هـ/1965م، مقدّمة عبد الوهاب عبد اللّطيف.
2. الشاطبي، الاعتصام،
3. أنور الجندي، اليقظة الإسلامية، دار الاعتصام، القاهرة، 1398هـ/ 1978م.
4. برسي سايكس، تاريخ إيران، الطبعة الأولى.
5. لارنس، نادر شاه، الطبعة الثالثة.
6. البغدادي، الفرق بين الفرق، الطبعة الأولى.
7. د. صبحي الصالح، النظم الإسلامية نشأتها وتطوّرها، ط2، دار العلم للملايين، بيروت، جمادى الآخرة 1388هـ/أيلول 1968م.
8. د. طه جابر فياض العلواني، أدب الإختلاف في الإسلام، ط3، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن.
9. صبري الأشوح، التفكير عند أئمة الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى.
10. عبد الكريم الخطيب، الخلافة والإمامة، الطبعة الثانية.
11. العلواني، أدب الإختلاف في الإسلام، الطبعة الأولى 1405هـ.
12. مقالة «تأليف أهل القبلة»، مجلة الحوزة، العدد 12: 105 ـ 122، 1364هـ.ش ـ 1406هـ.
13. محمّد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية، الطبعة الأولى، مصر، 1414هـ.
14. محمد حسين أردشير، نظرات على الوحدة الإسلامية منذ القدم إلى اليوم الحاضر مع الاعتماد على الحزب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1411هـ.
([2]) د. صبحي الصالح، النظم الإسلامية نشأتها وتطوّرها، ط2، دار العلم للملايين، بيروت، جمادى الآخرة 1388هـ/أيلول 1968م، ص 180.
([11]) يونس/19. وفي هذا يقول الشاطبي بتخريج ابن وهب عن زيد بن أسلم: "فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمّة واحدة غير ذلك اليوم". أنظر: الاعتصام، ج3، ص7.
([16]) ولقد أصاب وليم جيمس حين قال: "إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ التصادم بين الأمزجة البشرية، ولهذا الاختلاف شأنٌ عظيم في ميدان الفنّ والأدب والسّياسة" أورده د. صبحي الصّالح، المرجع المذكور،ص71.
([20]) إشارة إلى قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمّةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ آل عمران/110.
([24]) د. طه جابر فياض العلواني، أدب الإختلاف في الإسلام، ط3، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، د.تا. ص25.
([27]) أحمد بن حجر الهيثمي، الصّواعق المحرقة، ط2، مكتبة القاهرة، مصر، 1385هـ/1965م، مقدّمة عبد الوهاب عبد اللّطيف، ص: هـ.