خاتمية النبوّة والوحي
خاتمية النبوّة والوحي
مصطفى قصير العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
من نعم الله التي لا تحصى ومننه التي لا تعدّ إرسال الأنبياء والرسل وإنزال الوحي والكتب، لأجل هداية البشر وإنقاذهم من الهلاك وتحذيرهم من مسالك الخطر؛ ونظراً لما تنزّه عنه البارئ عزّ وجل من صفات المخلوقين، جعل الوحي وسيلة لمخاطبة أنبيائه وطريقاً للاتصال برسله، وفي هذه الدراسة المختصرة سنحاول أنّ نسلّط الضوء على حقيقة الوحي وأنواعه وأساليبه، وكيفية نزوله، ثمّ ننتقل إلى دراسة التلازم بين النبوّة وظاهرة الوحي، لنخلص في النهاية إلى المسألة التي تثار باستمرار حول النصوص التي تحكي نزول الملائكة على غير الأنبياء من البشر، ممّن لهم مكانة خاصّة ومنزلة متميزّة وكرامات ظاهرة؛ فندرس ذلك من حيث الإمكان وفي ضوء النتائج التي توصّلنا إليها في مسألة التلازم بين النبوّة وظاهرة الوحي، ثمّ ندرسها إثباتاً من خلال تقييم النصوص وعرضها على قواعد الحديث تارة أُخرى.
وأعتقد أنّنا بهذا نساهم مساهمة متواضعة في دفع شبهة مثارة يستغلّها دعاة التفريق بين المسلمين، وفي سبيل إرساء قواعد الوحدة الإسلاميّة التي نعتبرها من أهمّ
ـ(532)ـ
الواجبات ومن أوّليات التكاليف الملقاة على عاتق المسلمين، كلّ المسلمين.
الوحي: حقيقته وأنحاؤه:
الوحي في اللغة:
ذكر أهل اللغة أنّ الوحي هو: الإشارة والإلهام والكلام الخفي، وحى إليه وأوحى:
كلّمه بكلام يخفيه عن غيره، ووحي إليه وأوحى: أومأ(1).
قال الفرّاء: والعرب تقول أوحى ووحى، وأومى وومى بمعنى واحد(2).
والوحي: ما يوحيه الله إلى أنبيائه؛ قال ابن الأنباري: سمّي وحياً لأنّ الملك أسرّه على الخلق وخصّ به النبيّ المبعوث إليه، ثمّ قال: فهذا أصل الحرف، ثمّ قصر الوحي للإلهام ويكون للأمر ويكون للإشارة(3).
والذي يستفاد من تتبّع الاستعمالات وأقوال أهل اللغة أنّ للوحي معنى واحداً وهو الكلام الخفي، لكنّ الخفاء على أنحاء، فتارة يكون خفيّاً في نفسه يسرّه المتكلم إلى المخالب، وأُخرى يكون خفاؤه من جهة كونه يعبّر عنه بالإشارة والإيماءات التي تخفى على غير المقصود بها أو يخفى مدلولها، ونحن لا نقصد بالكلام هنا الألفاظ المفيدة، وإنّما نقصد المعاني التي يراد نقلها بواسطة الكلام عادة ولو كان ذلك بضرب من ضروب المجاز، فيدخل عندئذ الإلهام والإلقاء في الروع اللذان يُعدّان من أنحاء الوحي كما سيأتي.
الوحي في القرآن الكريم:
ليس هناك ثمة اصطلاح خاص للوحي في القرآن الكريم، وما ورد فيه استعمل
_______________________________________
1 ـ لسان العرب 15: 379، ابن منظور،(مادة وحى).
2 ـ المصدر نفسه.
3 ـ المصدر نفسه.
ـ(533)ـ
بمعناه اللغوي، لكن لكثرة استعمال الوحي في الرسالي منه صار ينصرف عند إطلاقه إليه.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾(1).
وقال: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أنّ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أنّ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إنّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾(2).
فالوحي هنا بلا شك هو الوحي الرسالي النازل على الأنبياء، لكن ورد في القرآن استعماله في غير الرسالي أيضاً.
قال تعالى:﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أنّ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾(3).
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(4).
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أنّ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(5).
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾(6).
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أنّ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾(7).
﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ ممّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وإنّه لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾(8).
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أنّ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾(9).
وقد ذكر بعضهم أنّ الوحي في القرآن الكريم ورد بمعانٍ عديدة، منها الوحي المعروف بواسطة الملك، ومنها التكليم، والإشارة، والإلهام، والتسخير وغير ذلك.
والذي يبدو للمتأمّل أنّ الوحي ليس لـه إلاّ معنىً واحد في جميع الموارد، ولكنّ الاختلاف في الأسلوب تارة، وفي مضمون الوحي وأغراضه تارة أُخرى، وقد وقع عند
_______________________________________
1 ـ سورة النساء: 163.
2 ـ سورة يونس: 2.
3 ـ سورة النحل: 68.
4 ـ سورة فصلت: 12.
5 ـ سورة القصص: 7.
6 ـ سورة الأنفال: 12.
7 ـ سورة المائدة: 111.
8 ـ سورة الأنعام: 121.
9 ـ سورة مريم: 11.
ـ(534)ـ
هؤلاء خلط بين المعنى وبين الأسلوب والغرض، فمن حيث الأسلوب قد يكون الوحي بالتكليم المباشر الذي لا يتوسط فيه الملك وبين الله سبحانه وتعالى وعباده، وأخرى يكون بواسطة الملك، وثالثة يكون بأسلوب الإلهام والإلقاء في الروع، ورابعة يكون بواسطة الرؤيا في المنام، وخامسة يكون بالإشارة والإيماء، وسادسة يكون بواسطة الأمر التكويني الذي يعبر عنه بالتسخير أو زرع الغرائز وما شابه ذلك.
هذه كلّها أساليب تعدّدت دون أن يؤدي ذلك إلى اختلاف في حقيقة المعنى المشترك بينها.
وعلى مستوى مضمون الوحي وأغراضه، فقد يكون قرآناً وقد لا يكون، فليس كلّ وحي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قرآناً، بل نزل القرآن في بعض الحالات ونزل غيره من الأمور التي كان يقتضيها الشأن ويتطلبها الواقع من تفسير وبيان وتأويل للقرآن ومن معارف وأحكام شرعية، ومن إخبارات غيبية وغير غيبية، ومن الأمور التي تتعلّق بالحكم والإدارة وشؤون الولاية التي كانت تتطلب تسديداً خاصاً من قبل الوحي.
ومن الواضح أن هذه الأُمور والأغراض لا مانع من نزول الوحي بها في أساليبه المختلفة المذكورة، ولا اختصاص لواحد منها في غرض من الأغراض؛ نعم قد يغلب أحد الأساليب أحياناً على واحد من الأغراض، لكن لا يؤدي ذلك أبداً إلى تخصيصه به.
وسنحاول هنا تقسيم الوحي إلى أقسامه المتعددة باعتبار مضمونه وأغراضه، مع الإشارة في الأثناء إلى الأساليب.
ومقتضى التقسيم الثنائي أن نقسم الوحي إلى الرسالي وغيره.
ـ(535)ـ
الوحي الرسالي:
من المعروف أنّ الوحي هو وسيلة الاتصال بين البارئ عزّوجلّ وسفرائه وبين خلقه، فعن طريقه يتمّ تلقّي المعارف والأحكام وغير ذلك من شؤون الرسالة، ولأجله أطلق عليه الوحي الرسالي تمييزاً لـه عن الوحي الذي لا يتضمّن شأناً رسالياً.
والوحي الرسالي النازل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأتي لأغراض عدّة ومضامين شتّى، فمنها: الذكر الحكيم والقرآن الكريم الذي هو نصّ كلام الله سبحانه وتعالى المنزّل على رسوله بهذا الاسم، وهو المتّصف بالإعجاز، والوحي النازل به قد يختصّ باسم الوحي القرآني.
ومنها: تأويل وتفسير كلام الله تعالى الوارد في القرآن الكريم.
ومنها: ما يطلق عليه اسم الأحاديث القدسية التي لا تدخل في الوحي القرآني.
ومنها: تفاصيل الشريعة وأحكامها ومعارفها وما يتعلّق بها.
ومنها: ما يرتبط بشؤون الإمامة والتدبير وأخبار العالم والمغيّبات ممّا يشكّل دائرة علوم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما يحتاجه في مهمّته القيادية والإصلاحية على مستوى عمر الدّنيا؛ قال تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ $ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾(1).
ولا شكّ أنّ تنزّل الملائكة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه، و﴿كلّ أمر﴾يشمل جميع هذه الشؤون والأغراض.
فالوحي القرآني – إذن – هو أحد تلك الأغراض فقط وليس كلّ وحي
_______________________________________
1 ـ سورة القدر: 3 – 4.
ـ(536)ـ
رسالي قرآناً.
والوحي الرسالي بشكل عام لـه أساليب متعدّدة ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة المنقولة لنا عن طريق الرواة الثقات، أو الواصلة إلينا عبر أئمة الهدى من أهل بيت النبوّة، ومن هذه الأساليب ما يلي:
الأول: التكليم المباشر دون توسّط ملائكة؛ وهذا يتمّ حال اليقظة، وهو ما صرّح به القرآن الكريم في عدّة مواضع؛ منها ما ورد في قصّة إيحاء الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام حيث قال:
﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إنّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾(1).
ومنها ما ورد في قصّة إبراهيم عليه السلام حيث قال:
﴿وَنَادَيْنَاهُ أنّ يَا إِبْرَاهِيمُ $ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(2).
ومنها ما ورد في قصّة موسى عليه السلام حيث قال:
﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾(3).
﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإنّ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(4).
﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾(5).
الثاني: الإيحاء بواسطة الملك؛ وهذا الأسلوب لـه شواهد عديدة جدّاً، ولعلّه الأسلوب الأكثر شيوعاً والأغلب وقوعاً؛ قال تعالى:
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾(6).
﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(7).
_______________________________________
1 ـ سورة الأعراف: 22.
2 ـ سورة الصافات 104 – 105.
3 ـ سورة النساء: 164.
4 ـ سورة الأعراف: 143.
5 ـ سورة مريم: 52.
6 ـ سورة آل عمران: 39.
7 ـ سورة البقرة: 97.
ـ(537)ـ
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ $ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾(1).
الثالث: الرؤيا في المنام؛ فإنّ «رؤيا الأنبياء وحي»(2). كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، وورد عن عبيد بن عمير مقطوعاً(3).، وقد ورد لهذا الأسلوب من الوحي في القرآن الكريم شواهد عدّة؛ منها قوله تعالى في قصّة إبراهيم:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنّ شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ $ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ $ وَنَادَيْنَاهُ أنّ يَا إِبْرَاهِيمُ $ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(4)
فقول إسماعيل عليه السلام: ﴿... يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ...﴾ يكشف لنا أنّ رؤياه تلك كانت وحياً وأمراً إلهياً بُلّغ إياه عن طريق الرؤيا، فالأوامر الإلهية قد تبلّغ للأنبياء عن طريق المنام، وما كان إبراهيم ليقدم على ذبح ولده لمجرّد رؤيا ما لم تكن تلك الرؤيا وحياً وأمراً إلهياً لازماً بالنسبة إليه.
الرابع: الإلهام، وهو أحد أساليب الوحي الرسالي، وقد يعبّر عنه بالإلقاء في الروع، وهو بلا شكّ مغاير لما يصطلح عليه الناس من الإلهام، فقد يعبّرون بأنّ فلاناً ملهم، وأُلهمت القيام بالأمر الفلاني إذا وجد في نفسه الدافع نحو ذلك، ومهما يكن فهو هنا يجد أنّ القرار والتصميم كان بيده وأنّ الفكرة وليدة نفسه، وقد لا يحصل لـه اليقين بالنتيجة.
على خلاف الوحي الإلهامي الذي لا يغاير بقيّة أنحاء الوحي من حيث النتيجة ومن حيث اليقين والاطمئنان بمصدر الإلهام، وإن غايرها من حيث الأسلوب والشكل؛
_______________________________________
1 ـ سورة الشعراء: 193 – 194.
2 ـ بحار الأنوار 11: 64، المجلسي.
3 ـ الجامع الصحيح، الباب الخامس من أبواب الوضوء 1: 44، البخاري.
4 ـ سورة الصافات: 102 – 105.
ـ(538)ـ
وقد جعل عدد كبير من المفسّرين من شواهد الوحي الإلهامي إيحاء الله سبحانه إلى أم موسى حيث قال:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أنّ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(1).
وليس في سياق الآيات ما يدلّ على ذلك؛ قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى $ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾(2).
قال: المراد به الإلهام، وهو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم(3).
وهذا وإن لم يكن في الوحي الرسالي إلاّ أنّ النصوص واردة بأنّ الإلقاء في الروع كان أحد أساليب الوحي الرسالي، ومنها ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب...»(4).
وقد يقال: إنّ النفث في الروع هنا يدخل في القسم الثاني الذي هو الإيحاء بواسطة ملك، ومهما يكن فإنّ إيحاء الملك عندئذ يكون على أنحاء: فتارة يكون بسماع الصوت ومشاهدة الصورة، وأخرى سماعه من دون مشاهدة، وثالثة بالإلقاء في الروع من دون توسّط صوت، وسيأتي مزيد من التفصيل إنّ شاء الله.
وقد جمعت آية من القرآن الكريم أساليب الوحي، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنّ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
_______________________________________
1 ـ سورة القصص: 7.
2 ـ سورة طه: 37 – 38.
3 ـ تفسير الميزان 14: 161، الطباطبائي.
4 ـ الكافي 2: 74، الكليني، بحار الأنوار 5: 148، و 20 126، و 70: 96، و 77: 145، 187، المجلسي.
ـ(539)ـ
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إنّه عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(1).
وظاهر هذه الآية الكريمة أنّ أساليب خطاب البارئ عزّ وجل للناس ثلاثة:
أولاً: التكليم وحياً.
ثانياً: التكليم من وراء حجاب.
ثالثاً: إرسال الرسول ليوحي بأذن الله سبحانه لذلك البشر ما يشاء.
وظاهر الآية المقابلة بين الأنحاء الثلاثة وهو يقتضي المغايرة، وعليه فإنّ الأسلوب الأول ينحصر بالتكليم الخفي من دون صوت ولا واسطة، وهو يتحقّق بالإلهام والقذف في القلب، وأما الثاني فهو ما حصل مع موسى عليه السلام عندما كلّمه الله سبحانه وتعالى، وإنّما أطلق عليه أنّه من وراء حجاب باعتبار توسّط الصوت دون رؤية المصدر، فكأنّ المصدر مختفٍ وراء حجاب، وهذا ضرب من التشبيه والاستعارة، والله سبحانه وتعالى احتجابه عن خلقه ليس كاحتجاب الشمس والقمر، واحتجاب البشر وغير ذلك ممّا يمكن ظهوره للعيان ورؤيته، إذ إنّ احتجابه تعالى لتنزّه ذاته عن مشاكلة مخلوقاته.
وتكليم الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام وغيره من وراء حجاب لم تطلق عليه الآية اسم الوحي، لكنّه داخل في المعنى اللغوي لـه، وأطلق عليه اسم الوحي في الأخبار، واختصاص النحو الأول بالاسم هنا ربما كان لأنّه أشد خفاءً من الثاني، فهو بالنسبة إليه مختص باسم الوحي.
ولذا أطلق على إيحاء الملك المرسل إلى الأنبياء اسم الوحي، مع أنّه قد يكون بالصوت دون الصورة وقد يكون بالصوت والصورة أيضاً، فملاحظة الخفاء أمر نسبي قد يلاحظ بالنسبة لغير النبيّ، وقد يلاحظ بالنسبة لبعض حواس النبيّ دون بعض.
_______________________________________
1 ـ سورة الشورى: 51.
ـ(540)ـ
وسنتعرّض للنصوص الواردة في كيفية نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي ذلك من الشواهد ما ينفع في هذا المقام.
الوحي غير الرسالي:
ومهما يكن فهذه الأقسام الثلاثة للوحي أو الأساليب الثلاثة لا تختصّ بالأنبياء ولا يوحي النبوّة، بل هي تجري مع غير الأنبياء وفي الأغراض الأُخرى غير الرسالية، كما هو الحال بالنسبة لأُم موسى ومريم بنت عمران وامرأة إبراهيم في صريح القرآن الكريم؛ قال تعالى:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أنّ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(1).
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾(2).
﴿فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(3).
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(4).
﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أنّ جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ $ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ $ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ $ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ $ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إنّه حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾(5).
واحتمال أنّ تكون البشارة جاءتها بواسطة إبراهيم عليه السلام بعيد عن ظاهر الآية الشريفة، وليس من مقتضٍ للعدول عن الظاهر مع عدم استحالة ذلك، وخاصةً في
_______________________________________
1 ـ سورة القصص: 7.
2 ـ سورة آل عمران: 42.
3 ـ سورة مريم: 17.
4 ـ سورة آل عمران: 45.
5 ـ سورة هود: 69 – 73.
ـ(541)ـ
خطاب الملائكة ﴿قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ...﴾.
ومن الواضح أنّ هذه الأغراض لم تكن رسالية، ولم يلزم من نزول الملائكة فيها نبوّة المنزّل عليهم.
وقد عبر القرآن الكريم في بعض الموارد عن الأوامر التكوينية أو التدبيرية بالوحي أيضاً، كما في قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(1).
وقال: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا $ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾(2).
وورد أيضاً التعبير به عن إيداع الأمور الفطرية والغريزية لدى الحيوانات وإلهامها ما ينبغي لها، كما في قوله تعالى: ﴿َأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أنّ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾(3).
كما أنّ إبلاغ الأوامر إلى الملائكة وحي أيضاً في نصّ القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾(4).
وقد استفدنا من مجموع هذه النصوص والموارد أنّ الوحي الإلهي لا يختصّ بالأُمور الرسالية ولا يلازم النبوّة، بل يتعدّى إلى كثير من الأغراض والموارد الأخرى؛ نعم النبوّة لا بدّ فيها من الوحي الذي هو من مقتضيات السفارة وأسلوب الارتباط والاتصال بربّ العزّة.
وقد تأكّدت مسألة عدم التلازم بين ظاهرة الوحي والنبوّة من خلال الأمثلة القرآنية المتقدمة، ونكتفي بها عن خوض غمار النصوص الواردة في السنّة الشريفة.
_______________________________________
1 ـ سورة فصلت: 12.
2 ـ سورة الزلزلة: 4- 5.
3 ـ سورة النحل: 68.
4 ـ سورة الأنفال: 12.
ـ(542)ـ
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والوحي:
بعد هذا العرض لأنحاء الوحي وأساليبه وأغراضه، ننتقل إلى الوحي النازل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لنرى كيف كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يوحى إليه، والحالات التي روي أنّها كانت تعتريه عند نزول الوحي عليه.
والذي يتحصّل من مجموع النصوص الواردة في كيفية نزول الوحي عليه أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يوحى إليه بكلّ أساليب الوحي المتقدمة ولمختلف الأغراض؛ ففي بعض النصوص أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يوحى إليه عن طريق الرؤيا في المنام في الحقبة الأُولى من نبوّته قبل نزول جبرائيل عليه، فقد روي عن عائشة أنّها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت به مثل فلق الصبح»(1).
وعن علي بن إبراهيم قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أتى لـه سبع وثلاثون سنة كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله، ومضت عليه برهة من الزمن وهو على ذلك يكتمه»(2).
وعن محمّد بن علي بن النعمان الأحول قال: «سألت أبا جعفر عليهم السلام عن الرسول والنبي والمحدَّث، قال: الرسول الذي يأتيه جبرائيل قُبُلاً فيراه ويكلّمه، فهذا الرسول، وأما النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم، ونحو ما كان رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أسباب النبوّة قبل الوحي حتّى أتاه جبرائيل عليه السلام من عند الله بالرسالة، وكان محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم حين جمع لـه النبوّة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرائيل ويكلمه بها قبلاً، ومن الأنبياء من جمع لـه النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أنّ يكون يرى في اليقظة، وأما المحدَّث فهو الذي يحدَّث فيسمع، ولا يعاين ولا يرى
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 18: 227، المجلسي.
2 ـ بحار الأنوار 18: 194، المجلسي.
ـ(543)ـ
في منامه»(1).
ولا شكّ أنّ الرؤيا التي هي من أساليب الوحي تختلف عمّا يراه عامّة الناس في منامهم مهما صدقت ومهما كانت من الوضوح بمكان، فإنّ رؤيا الوحي يفترض أنّ يحصل بها اليقين للرائي أنّها من الأوامر والخطابات الإلهية، ألا ترى كيف أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ابنه إسماعيل امتثالاً للرؤيا، وكيف عدّها إسماعيل أمراً إلهياً فقال: ﴿... يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ...﴾(2).
ولئن كانت الرؤيا مرحلة من مراحل الوحي ودرجة من درجات النبوّة التي عبر عنها القرآن الكريم حيث قال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(3).
فإنّ الرؤيا لم تنقطع عنه بعد نزول جبرائيل على قلبه وبعد أنّ نزل عليه الوحي المباشر – كما سيأتي – فإنّ القرآن الكريم يشير إلى حصول ذلك فيما بعد أيضاً، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إنّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾(4).
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنّ شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾(5).
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إنّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(6).
هذه كانت المرحلة الأولى، وأمّا المرحلة الثانية فكانت مرحلة نزول الوحي بواسطة جبرائيل عليه السلام على قلبه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ قال تعالى:
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ $ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾(7).
﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(8).
_______________________________________
1 ـ الكافي 1: 176، المجلسي.
2 ـ سورة الصافات: 102.
3 ـ سورة البقرة: 253.
4 ـ سورة الإسراء: 60.
5 ـ سورة الفتح: 27.
6 ـ سورة الأنفال: 43.
7 ـ سورة الشعراء: 193 – 194.
8 ـ سورة البقرة: 97.
ـ(544)ـ
وقد وردت بعض الروايات أنّ جبرائيل عليه السلام كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بصورة إنسان جميل الطلعة فيحدّثه ويقرأ عليه القرآن الكريم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأنس به؛ وقد رآه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على صورته الحقيقية الملائكية مرتين تحدّثت عنهما سورة النجم؛ قال تعالى: ﴿إنّ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى $ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى $ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى $ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى $ ثمّ دَنَا فَتَدَلَّى $ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى $ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى $ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى $ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى $ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى $ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾(1).
فالمرة الأُولى رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم في بدء الوحي ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ فسدّ ما بين المشرق والمغرب، ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ فيما روي أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل جبرائيل أنّ يريه نفسه مرّة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، فأراه صورته فسدّ الأُفق أيضاً(2).
وهناك نصوص عديدة عند أهل السنّة تصف نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والحالات التي كانت تعتريه عند ذاك منها:
ما روي عن زيد بن ثابت أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا نزل عليه الوحي ثقل لذلك، وتحدّر جبينه عرقاً كأنّه جمان، وإن كان في البرد(3).
وعن عبادة بن الصامت قال: كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه(4).
وعن عائشة أنّ الحرث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله كيف
_______________________________________
1 ـ سورة النجم 4 – 14.
2 ـ مجمع البيان 9: 173 – 175، 10: 446، الطبرسي، الدر المنثور 6: 123، السيوطي، التمهيد 1: 61، محمّد هادي معرفة.
3 ـ الجامع الصغير 2: 110، السيوطي.
4 ـ الطبقات الكبرى 1: 131، ابن سعد.
ـ(545)ـ
يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلّمني فأعي ما يقول وهو أهونه عليّ(1).
وعن عبدالله بن عمر قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: يا رسول الله هل تحسّ بالوحي؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: نعم، أسمع صلاصل ثمّ اسكت عند ذلك، فما من مرّة يوحى إليّ إلاّ ظننت أنّ نفسي تفيض(2).
وفي روايات أُخرى أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أُوحي إليه يأخذه شبه السبات(3)، وأنّه إذا أُوحي إليه غشيته السكينة ونكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم(4)؛ وقال ابن أروى الدوسي: «رأيت الوحي ينزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّه على راحلته فترغو وتفتل يديها حتّى أظنّ أنّ ذراعها ينقصم، فربّما بركت وربّما قامت موتدة يديها حتّى يسري عنه من ثقل الوحي، وإنّه ليتحدّر منه الجمان»(5).
والظاهر أنّ أثقل الوحي عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يأتيه مباشرة من دون توسط جبرائيل، وأما ما كان يأتيه عند نزول جبرائيل فكان أهونه عليه، وخاصة عندما يتمثل لـه بصورة رجل.
والى هذا التفصيل تشير الرواية المتقدّمة والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة.
روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أكانت
_______________________________________
1 ـ صحيح البخاري 1: 3، والطبقات لابن سعد 1: 132، وبحار الأنوار للمجلسي 18: 260، وعبارة «وهو أهونه علي» زيادة جاءت في رواية أبي عوانة في صحيحة. راجع فتح الباري 1: 30، والإتقان 1: 44.
2 ـ مسند أحمد بن حنبل 2: 222.
3 ـ مسند أحمد بن حنبل 6: 103.
4 ـ مسند أحمد بن حنبل 5: 190.
5 ـ الطبقات الكبرى 1: 131، ابن سعد، التمهيد 1: 65، معرفة، عنه.
ـ(546)ـ
عند هبوط جبرائيل؟ فقال: «لا، إنّ جبرائيل كان إذا أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يدخل عليه حتّى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، وإنّما ذاك عند مخاطبة الله عزّوجل إيّاه بغير ترجمان وواسطة»(1).
والجدير بالذكر في هذا المقام أنّ الكثير ممّا يروى في كيفيّة بدء نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم من حالة الهلع التي أُصيب بها، ولجوئه إلى خديجة التي هدّأت من روعه واكتشفت نبوّته أو عرضت قضيته على ورقة بن نوفل أو غيره من الأحبار والرهبان، هو ممّا لا يمكن القبول به، ولا يتصوّر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم شاكّاً في نبوته ولا جاهلاً بالوضع الذي هو عليه حتّى يطمئنه أمثال هؤلاء، هذا إضافة إلى تهافت تلك النصوص وتناقضها، وضعف أسانيدها.
والثابت أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان منذ اللحظة الأُولى على بيّنة من أمره، وهل يختار الله تعالى لرسالته وثقلها إلاّ من صُنع على عينه وهُيّئ لحملها؟! وهذا الأمر يجري في كلّ وحي يوحى، فلا يتصوّر موحى إليه شاكّاً في أنّ الذي نزل عليه هو الوحي.
وقد التفت السندي للأشكال الوارد على روايات البخاري فقال:
«مقتضى جواب خديجة والذهاب إلى ورقة أنّ هذا كان منه على وجه الشكّ، وهو مشكل بأنّه لما تمّ الوحي صار نبيّاً، فلا يمكن أنّ يكون شاكاً بعد نبوّته، وفي كون الجائي عنده ملكاً من الله وكون المنزّل عليه كلام رب العالمين»(2).
والصحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينزل عليه الوحي إلاّ بعد أنّ تربّى تربية دقيقة وأعدّ لتحمل هذه المسؤولية العظمى، وقد كانت الكرامات الكثيرة التي ظهرت لـه ورويت عنه تشكل إرهاصات للنبوّة، بحيث إنّه عندما نزل عليه الوحي كان على بيّنة
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 18: 260، المجلسي، كمال الدين: 85، الصدوق، التمهيد في علوم القرآن 1: 64، معرفة.
2 ـ حاشية السندي بهامش البخاري 1: 3، ط. سنة 1309 هـ.
ـ(547)ـ
من أمره وعلى بصيرةٍ ثابتة ويقين ممّا جاءه؛ وإلى هذا تشير عدّة روايات وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
فعن زرارة أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام: «كيف لم يخف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يأتيه من قبل الله أنّ يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه»(1).
وقد روي أنّ أبا عبدالله عليه السلام سئل: «كيف علمت الرسل أنّها رسل؟ قال: كشف عنها الغطاء»(2).
وروي أنّ الباقر عليه السلام سئل: «كيف يعلم أنّ الذي رأى في النوم حقّ وأنّه من الملَك؟ قال: يُوفَّق لذلك حتّى يعرفه»(3).
وقال الشيخ الطبرسي: «إنّ الله لا يوحي إلى رسوله إلاّ بالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفزّع ولا يفرق»(4).
وقال عياض: «لا يصحّ أنّ يتصوّر لـه الشيطان في صورة الملك ويلبّس عليه الأمر، لا في أول الرسالة ولا بعدها، والاعتماد في ذلك على دليل المعجزة، بل لا يشكّ النبيّ أنّ ما يأتيه من الله هو الملك، ورسوله الحقيقي، إمّا ضروري يخلقه الله لـه، أو ببرهانٍ جلي يظهره الله لديه، لتتمّ كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلمات الله»(5).
وبناءً عليه فإنّ النصوص الواردة في بدء الوحي وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يميّز الحالة التي هو
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 18: 262، المجلسي، التمهيد في علوم القرآن 1: 75، معرفة.
2 ـ بحار الأنوار 11: 56، المجلسي، التمهيد في علوم القرآن 1: 75، معرفة.
3 ـ الكافي 1: 177، الكليني.
4 ـ مجمع البيان 10: 384، الطبرسي، التمهيد في علوم القرآن 1: 75، معرفة.
5 ـ التمهيد في علوم القرآن 1: 76، معرفة.
ـ(548)ـ
عليها ولم يعلم أنّه جاءه شيطان أو ملك، ولم يطّلع على نبوّة نفسه إلاّ بعد إخبار الآخرين لـه، هذا كلّه منافٍِ لضرورة الدين ولا يمكن القبول لـه، سواء رواه أهل الصحاح أو غيرهم؛ ومثل هذا الكلام يجري في أسطورة الغرانيق وأمثالها ممّا لا نشكّ ببطلانه واستحالته ونعتقد أنّه ممّا دسّ في الأخبار لغرض التشكيك والتشويه شأنه شأن الكثير من الإسرائيليات(1).
وقد أعطى ذلك الفرصة لأعداء الإسلام لإثارة شكوكهم وشبهاتهم تمسّكاً بمثل هذه الأباطيل.
خاتميّة النبوّة وخاتميّة الوحي:
من المسلّمات بل من ضروريات الدين الإسلامي أنّ رسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو خاتم الأنبياء والرسل، ودلّ على ذلك القرآن الكريم ومتواتر السنّة النبويّة الشريفة.
قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ محمّد أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(2).
وفي حديث المنزلة المشهور بل المتواتر قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي عليه السلام: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(3).
_______________________________________
1 ـ للمزيد راجع: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم 2: 287 – 380، جعفر مرتضى، ط بيروت.
2 ـ سورة الأحزاب: 40.
3 ـ الجامع الصحيح 4: 208 أبواب فضائل أصحاب النبيّ، البخاري، و 5: 129 كتاب المغازي، أبواب غزوة تبوك، وصحيح مسلم بشرح النووي 15: 123 – 176 باب فضائل علي، ومسند أحمد بن حنبل 1: 170، 173، 175: 177، 179، 184، 185، و 3: 32، 338، 6: 369، 438. وسنن ابن ماجة 1: 42، 45، وسنن الترمذي 5: 596، 598، والطبراني في معجمه الكبير 1: 146، 148 و 2: 247 و 5: 203 و 11: 61 – 62، و 12: 14، 77، و 19: 291 و 24: 146 – 147. والحاكم في المستدرك 3: 108، 132 و 2: 337، وأكثر كتب الحديث عند الشيعة.
ـ(549)ـ
وقد ورد الكثير عن أئمّة الهدى عليهم السلام ممّا فيه نصّ صريح في خاتمية النبوّة بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
منها ما ورد عن الصادق عليه السلام: «إنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً فختم به الأنبياء، فلا نبيّ بعده وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحلّ فيه حلالاً وحرّم حراماً، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم»(1).
وورد عن الباقر والصادق عليهما السلام: «لقد ختم الله بكتابكم الكتب، وختم بنبيّكم الأنبياء»(2).
وهذا ممّا لا بحث فيه، ولا يعتريه الريب، فشريعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر الشرائع وهو خاتم الأنبياء والقرآن الكريم آخر الكتب.
وهذا يعني أنّ الوحي الرسالي انقطع بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، للتلازم بين هذا النوع من الوحي وبين النبوّة – كما تقدّم – فمعنى انقطاع النبوّة انقطاع ما يختصّ بها من الوحي وما يلازمها، وهو الوحي الرسالي.
وإلى هذا يشير أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال:
«أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، قفّى به الرسل وختم به الوحي...»(3).
فإنّه عليه السلام وإن كان قد أطلق الوحي هنا إلاّ أنّه لا بدّ من حمله على خصوص الرسالي منه، فإنّ الأنواع الأُخرى من الوحي التي لا تلازم بينها وبين النبوّة، والتي ذكرت بعض مواردها في القرآن الكريم، كالوحي النازل على زوجة إبراهيم بالبشرى، والوحي
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 90: 3، المجلسي.
2 ـ الكافي 1: 177، الكليني.
3 ـ نهج البلاغة: الخطبة 133، الشريف الرضي.
ـ(550)ـ
النازل على أم موسى، والوحي النازل على مريم بنت عمران، فإنّ خاتمية النبوّة لا تقتضي أبداً انقطاعها، ولا يلزم استحالة نزول شيء منها.
ولا حزازة في تسمية حديث الملائكة مع امرأة إبراهيم أو حديثها مع مريم وحياً، فإنّ القرآن الكريم أطلق اسم الوحي على أمثال هذه الموارد، بل على الإلهام والتقدير كما تقدّم في الشواهد القرآنية أوائل البحث.
وكون إطلاق الوحي ينصرف إلى الرسالي منه لا يمنع من استعماله في غيره ممّا يصحّ في أصل اللغة إطلاقه عليه، والقرائن هي التي تعيّن المراد، ومن ثمّ فإنّ كان اصطلاحاً فلا مشاحّة في الاصطلاح.
نعم، يمكن القول بأنّ الأولى والأفضل اجتناب التعبير بالوحي في كلامنا عن غير الوحي الرسالي، صوناً للوحي الرسالي المقدّس عن الاشتباه بغيره ودفعاً للالتباس، وبالفعل فقد اصطلح على مثل ذلك في السنّة الشريفة بالتحديث، وعبّر عن الذين تكلمهم الملائكة بالمحدَّثين، ولما كان حديث الملائكة وإيحاؤها يتمّ باليقظة وبالنوم على ما استفدناه من بعض النصوص المتقدّمة، فالمحدّث هو الذي تأتيه الملائكة وتحدّثه بأيّ حديث كان ولأيّ غرض من الأغراض في اليقظة والنوم، لكنّ الاصطلاح على ما يبدو خصّص في غير الأنبياء والرسل.
المحدَّثون من هم؟
وردت النصوص من طرق أئمّة أهل البيت عليه السلام بتعريف المحدّث والفرق بينه وبين النبيّ، وعينت المحدّثين في هذه الأُمة.
فقد سئل الباقر عليه السلام: «أيّ شيء المحدَّث؟ فقال: ينكت في أذنه فيسمع طنيناً كطنين الطست، أو يقرع على قلبه فيسمع وقعاً كوقع السلسلة على الطست، فسئل: أنّه نبيّ؟ قال:
ـ(551)ـ
لا، مثل الخضر ومثل ذي القرنين»(1).
وسئل الباقر والصادق عليهما السلام عن الرسول والنبيّ والمحدّث فقالا: «الرسول الذي يظهر لـه الملك فيكلّمه، والنبي يرى في المنام، وربما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة...»(2).
وسئل زرارة عن ذلك أيضاً فقال: «الرسول الذي يأتيه جبرائيل قُبُلاً فيكلّمه ويراه كما يرى أحدكم صاحبه، وأما النبيّ فهو الذي يؤتى في منامه مثل رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي محمّداً، ومنهم من تجتمع لـه الرسالة والنبوة، وكان محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّن جمعت لـه النبوّة والرسالة، وأما المحدّث فهو الذي يسمع كلام الملك ولا يرى ولا يأتيه في المنام»(3).
والذي يقوى في الذهن أنّ هذه التفصيلات مبنيّة على قاعدة غالبية لا على حالة ثابتة غير قابلة للتغيير، هذا بالطبع بناء على صحّة النصوص، وإلاّ فظاهر القرآن الكريم تخلف هذه القاعدة في مثل مريم بنت عمران التي جاءها الملك فتمثّل لها بشراً سوياً، وهذا يعني المشاهدة والمعاينة فضلاً عن سماع الصوت، وإلاّ لما كان هناك معنىً لتمثله بصورة بشر، وبقية الآية تساعد على ذلك.
نعم في امرأة إبراهيم ربّما يقال: إنّها عندما كانت قائمة وضحكت لم تكن رأت الصورة، وإنّما سمعت الصوت أثناء محاورة إبراهيم لهم، وكذلك فيما بعد عندما خاطبتها الملائكة بالبشرى.
فلعلّ التفصيلات المتقدمة مختصّة في حالات الوحي الرسالي أو هي مبنيّة على الغالب.
وقد روي عن علي عليه السلام قوله: «ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 26: 69، 78، المجلسي.
2 ـ بحار الأنوار 26: 76، المجلسي.
3 ـ بحار الأنوار 26: 78، المجلسي.
ـ(552)ـ
كلّ يوم علماً من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحرّاء، فأراه ولا يراه غيري، لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخديجة رضي الله عنها وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنيّ ولكنّك وزير، وأنّك لعلى خير»(1).
ومسألة وجود محدّثين من غير الأنبياء إجمالاً ليست محلّ نقاش وتكاد تكون مسلّمة، لكنّ بعضاً ممّن استعظم هذه الفضيلة التي نسبت في النصوص لأئمة أهل البيت عليهم السلام، واستكثر ذلك عليهم عمد إلى إنكار هذا الأمر من رأس وحصر الوحي بالرسالي فقط، واتّهم من يقرّ بوجود محدّثين بهذا المعنى أنّه يعتقد بنبواتٍ أُخرى بعد نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد اتّضح ممّا تقدم أنّ هذه التهمة غير واردة وأنّ نزول الملائكة لا ينحصر بالأنبياء.
وقد تعبّدوا بما ذكروه من تعريفهم للنبيّ بأنّه: من ينزل عليه الوحي أو ينبّأ من السماء، وبنوا عليه اعتراضاتهم، مع أنّ التعريف قابل للمناقشة.
ولقد ورد في أخبار أهل السنّة حكايات عن محدّثين من هذه الأُمة، لم تجد استنكاراً منهم ولم يعترض عليها كما اعترض على روايات الشيعة في ذلك.
ونستعرض بعض ما ورد في أخبار أهل السنّة لنرى كيف يتعامل معها:
1 ـ أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد كان فيما قبلكم من الأُمم محدّثون فإنّ يكن في أمّتي أحد فإنّه عمر»(2).
_______________________________________
1 ـ بحار الأنوار 14: 475 – 476، المجلسي.
2 ـ الجامع الصحيح، فضائل الصحابة، فضائل عمر 4: 200، البخاري، والأنبياء 545، 4: 149. وصحيح مسلم بشرح النووي 15: 146، الجامع الصغير 2: 85، السيوطي وروي أيضاً عن عائشة ما في معناه في مسند أحمد 6: 55 والترمذي 5: 581 باب المناقب.
ـ(553)ـ
وفي البخاري أيضاً عنه: «لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أنّ يكونوا أنبياء فإنّ يكن في أُمتي منهم أحد فعمر»(1).
هذا النصّ وإن لم يصرّح بشكل قاطع على كون عمر من المحدّثين إلاّ أنّه يثبت أمرين:
الأول: عدم التلازم بين تكليم الملائكة والنبوّة، بمعنى إمكان التكليم من دون نبوّة.
الثاني: وجودهم في الأُمم السابقة وإمكان وجودهم في هذه الأُمّة أيضاً.
وهذا المقدار يكفينا في المقام، فختم النبوّة لا يلزم منه بالضرورة ختم نزول الملائكة على البشر وكلمها معهم.
ولقد حاول بعض شرّاح البخاري أنّ يؤول الحديث بأنّ المراد أنّه (أي عمر) من الملهمين أو من الذين يلقى في روعهم أو يظنّون فيصيبون الحق، فكأنه حدّث(2).
ولكنّه تأويل لا يساعد عليه ظاهر اللفظ، بل صريح النصّ الثاني الذي زاده البخاري، حيث قال: رجال يكلّمون من غير أنّ يكونوا أنبياء، وهو قرينة على أنّ المراد من المحدّثين من تكلّمه الملائكة، وهو نفس المعنى الذي التزمنا به فيما سبق، وإلاّ، فما معنى الاحتراز بأنّهم ليسوا أنبياء سوى دفع هذه الشبهة وهي شبهة النبوّة؟
ولأجل ذلك قال القرطبي فيما حكي عنه: إنّه ليس المراد بالمحدّثين المصيبين فيما يظنّون لأنّه كثير في العلماء، بل في العوام من يقوى حدسه فتصحّ إصابته، فترتفع خصوصيّة الخبر وخصوصيّة عمر(3).
_______________________________________
1 ـ الجامع الصحيح، فضائل الصحابة، فضائل عمر 4: 200، البخاري.
2 ـ إرشاد الساري 6: 99 و 5: 431، ابن حجر ط، إحياء التراث بيروت.
3 ـ فيض القدير 4: 507، المناوي ط. دار الفكر.
ـ(554)ـ
وقد وقع في المحذور المتقدّم ابن الأثير عندما قال: المحدّثون(بفتح الدّال وتشديدها) الملهَمون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة، وهو نوع يختصّ به الله عزّ وجلّ من يشاء من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنّهم حدّثوا بشيء فقالوه(1).
وواضح أنّه حمل المحدّث على المعنى المجازي وجعله من باب التشبيه، ونحن وإن كنّا لا نمنع إمكان الاستعمال المجازي فيما ذكر، إلاّ أنّه لا يمكن حمله عليه من دون قرينة، كما هو الحال في كلّ الاستعمالات المجازية.
ولعلّه إنّما ارتكب ذلك اعتقاداً منه باستحالة نزول الملائكة على غير الأنبياء وتحدّثهم معهم، وهو أمر يثبت عكسه القرآن الكريم، والسنّة المطهّرة المستفيضة الواردة من طرقنا، وخصوص النصّ الثاني للبخاري.
2 ـ ممّن ادّعي أنّ الملائكة تحدّثهم عمران بن الحصين الخزاعي، قالوا: إنّه كانت الملائكة تسلّم عليه حتّى اكتوى بالنار، فلم يسمعهم عاماً ثمّ أكرمه الله بردّ ذلك(2).
فإنّ قيل: إنّ مجرّد التسليم لا بأس به، وإنّما المشكلة في التحديث بالأخبار والمغيبات وأمثال ذلك، فإنّه يجاب بأنّ النزول لأجل التسليم يدفع استحالة نزول الملائكة للتحدّث بغيره، وإذا أمكن أنّ تسلم الملائكة على أحدٍ أمكن غيره، ونحن في مقام إثبات الإمكان مقابل دعوى الاستحالة.
3 ـ ومنهم أبو المعالي الصالح المتوفى سنة(427 هـ) رووا أنّه كلّمته الملائكة في صورة طائر(3).
_______________________________________
1 ـ النهاية: مادّة حديث، ابن الأثير.
2 ـ الطبقات الكبرى 4: 288 – 289، 7: 11، ابن سعد، المعجم الكبير 8: 107، الطبراني.
3 ـ المنتظم 17: 82، ابن الجوزي، صفوة الصفوة 2: 250.
ـ(555)ـ
4 ـ ومنهم أبو يحيى الناقد المتوفى سنة(285 هـ) ادّعوا أنّه كلّمته حوراء(1).
5 ـ ونقل عن الغزالي أنّه قال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة النفس، فالتفت إلى شماله، وقال: ما تقول رحمك الله؟ ثمّ التفت إلى يمينه كذلك ثمّ أطرق إلى صدره، فقال: ما تقول؟ ثمّ أجاب، فسألته عن التفاته، فقال: لم يكن عندي علم، فسألت الملكين فكلُّ قال: لا أدري، فسألت قلبي فحدثني بما أجبت، فإذا هو أعلم منهما(2).
وأمثال هذه الدعاوى كثيرة لم نوردها التزاماً بصحة ما جاء فيها وإنّما إلزاماً لمن يقبلها، أو يقبل إمكان حصوله، وفرق كبير بين الالتزام بوقوع هذه الحوادث وتصديقها وبين الالتزام بمجرد الإمكان، مع التوقف فيما حكي من الوقوع لعدم ارتقاء الدليل لمستوى الإثبات؛ والإمكان لا يقتضي الوقوع وإنّما الوقوع هو دليل الإمكان، وبحثنا هنا في مجرّد الإمكان.
أمّا من طرق الشيعة فالمحدَّثون هم:
1 ـ أئمّة أهل البيت عليهم السلام:
روي عن حمران قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: إنّ علياً عليه السلام كان محدّثاً، فخرجت إلى أصحابي فقلت لهم: جئتكم بعجيبة، قالوا: ما هي؟ قلت: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كان عليّ عليه السلام محدّثاً، قالوا ما صنعت شيئاً، ألا سألته من يحدّثه؟ فرجعت إليه فقلت لـه: إنّي حدّثت أصحابي بما حدثتني قالوا: ما صنعت شيئاً، ألا سألته من يحدّثه؟ فقال لي:
_______________________________________
1 ـ المنتظم 12: 386، ابن الجوزي، تاريخ بغداد 8: 362، البغدادي.
2 ـ فيض القدير 4: 508، المناوي، ط. دار الفكر.
ـ(556)ـ
يحدّثه ملَك، قلت: فتقول: إنّه نبيّ؟! قال: فحرّك يده هكذا(1)، ثمّ قال: أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين، أو ما بلغكم أنّه قال: وفيكم مثله(2).
وروى أبو بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: كان عليّ والله محدّثاً، قال: قلت لـه: اشرح لي ذلك أصلحك الله. قال: يبعث الله ملكاً يوقر في أذنه كيت وكيت وكيت(3).
وروى سليم بن قيس أنّه سمع عليّاً عليه السلام يقول: إنّي وأوصيائي من ولدي مهديّون كلّنا محدثون(4).
وهناك روايات كثيرة في هذا المضمون تراجع في مظانّها.
2 ـ فاطمة الزهراء عليه السلام: روي أنّ محمّد بن أبي بكر سئل: وهل تحدّث الملائكة إلاّ الأنبياء؟ قال: مريم لم تكن نبيّة، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة وبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبيّة، وفاطمة بنت محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت محدّثة ولم تكن نبيّة(5).
وروي عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: إنّما سمّيت فاطمة محدّثة لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء، فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران...(6).
والنصوص الواردة من طرقنا في هذا المعنى كثيرة جداً.
3 ـ سلمان الفارسي رضي الله عنه:
روي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان عليّ عليه السلام محدّثاً، وكان سلمان
_______________________________________
1 ـ يعني أشار نفياً: وقوله: أو كصاحب سلميان بمعنى: بل كصاحب سليمان، قال تعالى ﴿مائة ألف أو يزيدون﴾ وفي نسخة من الحديث: بل.
2 ـ بحار الأنوار 26: 70 المجلسي.
3 ـ بحار الأنوار 26: 71، المجلسي.
4 ـ بحار الأنوار 26: 79، المجلسي.
5 ـ بحار الأنوار 43: 55، 79، المجلسي.
6 ـ دلائل الإمامة: 81، الطبري، ط. البعث، بحار الأنوار 43: 78، المجلسي.
ـ(557)ـ
محدّثاً(1).
وروي عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كان والله عليّ عليه السلام محدّثاً، وكان سلمان محدّثاً قلت: اشرح لي، قال: يبعث الله إليه ملكاً ينقر في أذنيه يقول كيت وكيت(2).
وعن الحسن بن منصور قال: قلت للصادق عليه السلام: أكان سلمان محدّثاً؟ قال: نعم، قلت: من يحدّثه؟ قال: ملك كريم...(3).
لكن ورد ما يتعارض مع هذا عن المروزي عن الصادق عليه السلام أنّه قال في الحديث الذي روي فيه أنّ سلمان كان محدّثاً، قال: أنّه كان محدّثاً عن إمامه لا عن ربّه، لأنّه لا يحدِّث عن الله عزّ وجلّ إلاّ الحجّة(4).
ونحن هنا لسنا في مقام معالجة هذا التعارض، وإنّما غرضنا الإشارة إلى من ورد أنّهم من المحدّثين، مع أنّ هذه الرواية الأخيرة مرفوعة رواها عن الصادق عليه السلام من عدّه الرجاليون من أصحاب الجواد.
وإرادة مطلق الإمام من الصادق بعيدة جداً، فالرواية مرسلة.
والنتيجة أنّ وجود محدّثين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر ثابت في الجملة، ولا ينافي خاتميّة النبوّة ولا خاتمية الوحي الرسالي.
ومما يمكن الاستدلال به على استمرار ظاهرة نزول الملائكة في الأُمور غير الرسالية سورة القدر؛ قال تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ $ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ
_______________________________________
1 ـ رجال الكشي(اختيار معرفة الرجال): 12 ح 27 بحار الأنوار 22: 349، المجلسي.
2 ـ رجال الكشي(اختيار معرفة الرجال): 12 ح 36 بحار الأنوار 26: 67، المجلسي.
3 ـ رجال الكشي(اختيار معرفة الرجال): 19 ح 44.
4 ـ رجال الكشي(اختيار معرفة الرجال): 15 ح 34.
ـ(558)ـ
أَمْرٍ $ سَلَامٌ هِيَ حتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾(1).
﴿فِيها يُفرَق كُلّ أمرٍ حَكيمٍ﴾(2).
وقد وردت النصوص بأنّ ليلة القدر في كلّ سنة، وأنّه يتنزل في تلك الليلة أمر السنّة(3).
فقد روي عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل عليهم فيها الأمر فإذا مضوا رفعت؟ قال: لا، بل هي إلى يوم القيامة(4).
وعليه فإذا كانت مستمرّة في كلّ سنة، ومن المعلوم أنّ نزول الملائكة بالتقديرات كان في حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه، فلا بدّ بعد رحيله من محلّ وموضع تنزّل الملائكة عليه بتقديرات تلك السنّة، ولا شكّ أنّ ذلك المحل هو أئمّة الهدى وحجج الله على الخلق أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وهذا هو المروي عن علي عليه السلام قال: «ليلة القدر في كلّ سنة، ينزل ] فيه [ على الوصاة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ينزل، قيل لـه: ومن الوصاة يا أمير المؤمنين؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي هم الأئمّة المحدّثون»(5).
وقد اتضح أنّ نزول الملائكة على الأئمة الهداة عليهم السلام وعلى فاطمة الزهراء عليه السلام وغيرهم من المحدّثين ليس أمراً مستغرباً، وليس ذلك دعوى نبوّة لتستنكر هذا الاستنكار العجيب، وهذا وإن كان يصدق عليه اسم الوحي بمعناه اللغوي المتقدم، إلاّ أنّ تمييز الوحي الرسالي النازل على الأنبياء عنه ضروري جدّاً، لئلاّ يختلط الأمر على العامة، ولئلا يحدث بسبب التسمية شبهة، كما حصل بالفعل لكثيرين وردت الإشارة إلى بعضهم فيما
_______________________________________
1 ـ سورة القدر 3 – 5.
2 ـ سورة الدخان: 4.
3 ـ بحار الأنوار 36: 373، 382 ، 4: 96، 101، 102، 106 وغيرها، المجلسي.
4 ـ تفسير البرهان 4: 488، البحراني، الميزان 20: 333، الطباطبائي.
5 ـ بحار الأنوار 36: 382، المجلسي.
ـ(559)ـ
تقدم من النصوص.
ومن أجل هذا قال الشيخ المفيد: وقد يري الله في المنام خلقاً كثيراً ممّا يصحّ تأويله ويثبت حقّه، لكنّه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، ولا يقال لمن أطلعه الله على علم شيء إنّه يوحى إليه، وعندنا أنّ الله تعالى يُسمع الحجج بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلاماً يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنه لا يطلق عليه اسم الوحي، لما قدّمناه من إجماع المسلمين على أنّه لا وحي إلى أحد بعد نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّه لا يقال في شيء ممّا ذكرناه إنّه وحي إلى أحد...(1).
مزاعم وأهية:
بعد هذا العرض لا يبقى أيّ مجال للطعن والتجريح على الشيعة، لما يعتقدونه من أنّ الأئمّة محدّثون، وأنّ فاطمة الزهراء محدّثة، وأنّ علياً كتب ممّا أملته الملائكة عليها من أخبار ما سيكون كتاباً اشتهر عندهم باسم مصحف فاطمة.
لكن الذين يتصيّدون بالماء العكر يتخذون من هذا الأمر مطعناً وباباً للتشهير، طبعاً بعد تحوير الكلام بما يخدم مآربهم.
ومن هؤلاء عبدالله القصيمي الذي اتهم الشيعة في كتابه «الصراع بين الإسلام والوثنيّة» بأنّ الأئمة من آل البيت عندهم أنبياء، وأنّهم يوحى إليهم، وأنّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي، وأنّهم يزعمون لفاطمة وللأئمة من وُلدها ما يزعمون للأنبياء من المعاني والحقائق(2)!.
واستدلالاً على ما ذهب إليه من التهم ساق بعض الأحاديث المتقدمة في الفرق
_______________________________________
1 ـ تصحيح الاعتقاد: 121، الشيخ المفيد، ط. المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.
2 ـ الصراع بين الإسلام والوثنية 1: 1 و 2: 35، عبدالله القصيمي، وراجع: الغدير 5: 50، 51، الأميني.
ـ(560)ـ
بين الرسول والنبيّ والمحدّث، وأن الأئمّة محدّثون.
ثمّ ذكر أنّ هذا الفرق لا حقيقة لـه، فالأئمة من آل البيت عندهم أنبياء ورسل بكلّ ما للكلمة من معنى.
هكذا يتم تحوير وتزوير الحقائق لتنسج التهم وتحاك المفتريات.
وقد تبيّن فيما تقدم بما لا يحتاج إلى مزيد توضيح أنّ الفرق بين النبيّ والمحدّث فرق أساسي، وأنّ النبوّة منصبٌ يغاير تماماً الإمامة، وأنّ نزول الملائكة وتكليمها لشخص لا يلزم منه بالضرورة نبوّته، وإلاّ لكان عمر بن الخطاب – بناء على دعواهم أنّه من المحدّثين – نبيّاً، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد منهم؛ فلماذا لا توزن الأمور بميزان واحد ولا ينظر إليها بعين واحدة؟
مصحف فاطمة:
ويدخل بعضٌ إلى الطعن من باب استنكار نزول الملائكة ويخلط بينه وبين الوحي كما تقدم، وبعضٌ آخر يتبع أسلوباً آخر ويلج من بابٍ ثانٍ، وهو باب التمسّك بالاسم وإيهام الناس أنّ الشيعة يدّعون مصحفاً آخر غير المصحف المعروف عند المسلمين، ومن ثمّ يضعون أهمّ عائق أمام تقارب المسلمين وتفاهمهم ووحدتهم.
فما هي حقيقة هذا المصحف؟ وأين هو الآن؟
ليس بين مصحف فاطمة عليها السلام وبين القرآن الكريم من اشتراك إلاّ في هذه التسمية، التي هي في حقيقتها ليست تسمية، وإنّما هي من باب استعمال اللفظ بمعناه اللغوي ليس إلاّ.
لأنّ المصحف في أصل اللغة من أُصْحِفَ أي جُعِلَت فيه الصحف(1)، وسمّي
_______________________________________
1 ـ القاموس المحيط: مادة صحف، الفيروز آبادي.
ـ(561)ـ
المصحف مصحفاً لأنّه أُصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين دفتين(1).
والعجيب أنّهم بناءً على ما يروونه في جمع القرآن يلزم أنّ يكون إطلاق اسم المصحف على القرآن الكريم متأخراً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنّه قبل جمعه واصحافه لا يصح إطلاق اسم المصحف عليه، ويوافق هذا ما يروونه في وجه تسمية المصحف مصحفاً(2).
نعم عند من يرى أنّ القرآن جمع على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبإشرافه – وكان عدد لا بأس به من الصحابة الكرام يمتلكون نسخاً كاملة من القرآن – يمكن أنّ يدّعي تقدّم التسمية، وانصرافه إليه عند إطلاقه، لكن هذا أيضاً لا يمنع بقاء الاستعمال بالمعنى اللغوي خاصّة عند وجود القرينة، وهي هنا موجودة بإضافة إلى فاطمة عليها السلام وتخصيصه بها.
ولقد ورد استعمال المصحف بمعنى الكتاب في شواهد عديدة، منها ما قيل في خالد بن معدان: «كان علمه في مصحف لـه أزرار وعرى»(3).
فلا شبهة التمسك بالاسم صحيحة، ولا شبهة كونه وحياً رسالياً، وليس في أيّ نصّ من النصوص المعتمدة عند الشيعة ما يوهم كون مصحف فاطمة عليها قرآناً فضلاً عن كونه قرآناً آخر غير ما عند المسلمين.
ولعل الروايات الواردة في وصف هذا المصحف كلّها صريحة في بيان محتواه، وأنّه ليس قرآناً بل ليس فيه آية واحدة من القرآن، وليس فيه شيء من الحرام والحلال، وإنّما يتضمّن أخبار الدّول وعلم ما سيكون.
_______________________________________
1 ـ العين 3: 10، الفراهيدي، لسان العرب: مادة صحف، ابن منظور.
2 ـ الإتقان في علوم القرآن 1: 185، السيوطي، بتحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم.
3 ـ الحديث والمحدثون: 221، محمّد أبو زهرة، عن مجلة المنار، محمّد رشيد رضا، المجلد 10: الجزء 10.
ـ(562)ـ
ولا أُريد الإطالة بنقل نصوص تلك الروايات، لأنّ الغرض الأهم دفع التوهم المتقدّم، وما ذكرنا فيه الكفاية، ومن أراد التفصيل فليراجع مقالنا حول مصحف فاطمة المطبوع في مجلة رسالة الثقلين العدد الثامن وفي نهاية كتاب «عليّ والتدوين المبكر للسنّة النبويّة».