بين نظرية القراءات والاجتهاد الإسلامي
بين نظرية القراءات والاجتهاد الإسلامي
آية الله الشيخ محمّد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
يشيع اليوم في الأقطار الإسلامية مصطلح (القراءات) كتعبير حديث عن وجهات النظر المختلفة المفسرة للنصوص الدينية وغيرها ونظرا لما رافق هذه النظرية من إبهام وما أوجدته من اضطراب فكري. فان من المناسب دراسة حقيقة هذه النظرية ومدى انسجامها مع الثقافة الإسلامية الأصلية.
ولاريب ان هذا المصطلح غربي المنشأ وغريب على الثقافة الإسلامية وقائم على أساس من نظريات الهرمنوطيقيا الغربية الحديثة. فهل هناك من جديد فيه؟ وهل لدينا ما يقابله من مصطلحات تفي بالحاجة فلا نضطر لاستيراد مصطلح جديد محاط بابهامات خطيرة الأثر على نمط تفكيرنا وثقافة أجيالنا؟ فالاجتهاد مصطلح أصيل إسلامي والفهم العرفي، مصطلح أصيل إسلامي أيضاً وهما يقومان مقام المصطلح الوافد مع فارق كبير هو إنهما مصطلحان واضحان محددا المعالم والسمات والضوابط بشكل يكاد ان نتفق عليه وما نختلف عليه منه أيضاً محدد واضح ومع هذه الحقيقة وبملاحظة ان الاجتهاد الإسلامي اليوم يقع غرضا لسهام كل أعداء الإسلام. لأنه ضمانة ديمومة العطاء الإسلامي وسر المرونة الإسلامية التي تؤهل الإسلام لاستيعاب متغيرات الزمان والمكان والبقاء خالداً يحل مشكلات الأُمة ويضع لها الحلول اللازمة، بل ولأن المفروض في الاجتهاد ان يربي العناصر التي ترشد الأُمة وتحل مشاكلها واختلافاتها وتقود مسيرتها نحو الغد الحضاري الأمثل، فهل ترويج مصطلح القراءات يعد اهداراً لهذا المخزون الإسلامي العظيم؟
ولما كانت هذه المشكلة مما يهم العالم الإسلامي من جهة ولأن المذاهب الإسلامية جميعها لها موقف واحد تقريبا منها. فان مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية ضمن خططه الرامية للم شمل المسلمين ورفع العاديات عنهم وتوضيح المبهمات. فقد قرر ان يكون موضوع مؤتمره الرابع عشر دراسة نظرية القراءات هذه والتركيز على البدائل السليمة.
ومن الطبيعي ان نركز قليلاً على الهرمنوطيقيا القديمة والحديثة لنعرف الأمور التي أشرطت بهذا المصطلح.
الهرمنوطيقيا
هذا المصطلح مأخوذ من فعل يوناني يعني التفسير وقد استعمله أرسطو في بعض كتبه بهذا المعنى.
ويرى بعض المحققين ان هذا المصطلح يرتبط بمراحل ثلاث من العمل التفسيري.
1 – نفس النص.
2 – المفسر.
3- انتقال رسالة النص للمخاطبين.
ويعتبر شلايرماخر 1768 – 1834م مؤسس الهرمنوطيقيا الحديثة ويبدأ رأيه بهذا التساؤل: (كيف يتم فهم الأقوال)؟
فالسامع يفهم معنى ما بحدسه. وهذا الحدس عمل هرمونوطيقي والهرمونوطيقيا هي فن الاستماع وفهم العبارة والممارسة المكررة للنشاط الذهني للقائل أو المؤلف لهذا النص.
فالمؤلف يصوغ جملة ما والسامع يخوض في أعماق تركيبتها (بواسطة اللغة).
والتفسير عبارة عن نشاط نحوي ذي علاقة باللغة ونشاط نفسي مرتبط بالنمط الفكري للقائل.
فماخر متأثر بأقوال المفكرين الرومانسيين الذين كانوا يعتقدون بان الحالات الخاصة للفكر هي انعكاس لروح ثقافية أوسع: فالتفسير الصحيح يحتاج لفهم النسيج الثقافي التاريخي للمؤلف وذهنيته الخاصة؛ وهذا المعنى يستلزم نوعا من الحدس بحيث يستطيع المفسر ان يتمثل وعي المؤلف لمدركاته هو. وقد يستطيع المفسر ان يصل إلى فهم أفضل مما توصل إليه المؤلف.
انه يقول ان التساؤل عن معنى النص يطرح بأسلوبين. احدهما: ماذا يقصد المؤلف؟ وهكذا يكتشف من النص، الأفكار وحتى انه يكتشف من ملاحظة روح العصر آنذاك.
والثاني: ماذا يعني بالنسبة للمخاطب؟ فإذا كان المخاطب معاصرا، فانه يبدأ بتحليل النص لفظا لأنه يشارك القائل في روح واحدة. اما إذا لم يكن معاصرا فان عليه ان يعيد تركيب فكر المؤلف ورغم اختلاف ثقافتيهما فان هناك شبها معنويا بينهما، فإذا استطاع المخاطب ان يكتسب معرفة كافية عن القائل، فانه يمكنه ان يمارس من جديد تجربته الفكرية.
اما ديلتاي 1883 – 1911م فقد سعى إلى جعل نتائج العلوم الإنسانية شبيهة بنتائج العلوم الطبيعية عبر أعطائها أسلوبا رصيناً. حيث اعتبره أصلاً أسلوبا معرفيا للعلوم الإنسانية. ولكنه بسبب النمو السريع للعلوم الإنسانية وابتكار أساليب خاصة لكل علم، لم يوفق لطرح الهرمنوطيقيا وفق تصوره من جديد في قبال التيارات الفكرية الأخرى وهي من قبيل:
1 – النظريات الجديدة حول السلوك الإنساني التي طرحت في علم النفس وعلم الاجتماع والتي فسرته اما بالعلل الغريزية أو العوامل الطبيعية.
2 – التطور في العلوم المعرفية وفلسفة اللغة التي قررت ان حقيقة ثقافة ما هي نشاط التركيبة اللغوية لها والتي تفرض نفسها على التجربة الثقافية.
3 – استدلالات فلاسفة آخرين مثل ويتنگشتاين وهايدگر التي تؤكد على ان التجربة الإنسانية لها ماهية تفسيرية ولذلك تعتبر الأديان مجموعة معينة من التفاسير. وعلى أي حال، فان ديلتاي لم يقبل رأي ماخر في ان النص محصول لقصد المؤلف واعتبره رأيا معاديا للتاريخ حيث انه ينكر التأثيرات الخارجية.
ورأى ان أسلوب العلوم الإنسانية هو أسلوب فهمي في حين ان أسلوب العلوم الطبيعية هو أسلوب وصفي وان اكتشاف الحقائق الطبيعية هو من قبيل تطبيق القوانين الكلية.
والمؤرخ هو مفسر يسعى من خلال اكتشاف النوايا والأهداف والطباع إلى معرفة العناصر المؤثرة في الحوادث التاريخية. ولما كنا اناساً أيضاً فاننا نستطيع اكتشاف هذه العناصر. فالفهم عبارة عن اكتشاف الانا في الانت من خلال المشتركات الإنسانية.
أنه يتحدث عن نمطين من الفهم:
الأول: فهم الظهورات البسيطة: الكلام والخوف وهذا ما نفهمه بلا حاجة إلى استنتاجات معينة، لان هناك أمرا مشتركا هو (الروح العينية).
الثاني: فهم التركيبات المعقدة كالحياة والعمل الفني وهو فهم متعال. فإذا لم نستطيع ان نفهم عمل شخص ما كان علينا ان ندرس ثقافته وحياته.
فالفهم المتعالي هو وعي الافراد والهدف الأصلي للهرمنوطيقيا هو تكوين وعي أكمل عن المؤلف. ولعله لم يتوفر هو عليه.
ان الإنسان يعي نفسه في التاريخ لا في تأمله الباطني وان حياته قطعة من الحياة في المجموع.
وهكذا نجد ديلتاي يقلل من ضرورة معرفة قصد المؤلف ويسعى ليطرح منطقاً تفسيرياً باعتباره نشاطاً في العلوم الإنسانية ويربط امكانية هذا الفهم بالتركيبة الكلية للطبيعة الإنسانية. وبعد ديلتاي نصل إلى مرحلة جديدة عبر طرح آراء هايدجر.
ويرى هايدجر ان التفسير يستلزم فرضاً مسبقاً. فالمفروضات، هي مفاهيم تلقى بنفسها على التجربة وهي حالة هرمنوطيقية وان (الدزاين) أو التفسير الإنساني للوجود البشري والوجود كله له دخله في تفسير النص.
ان (الدزاين) يمكن ان يفسر نفسه حيواناً ناطقاً أو آلة. ومعنى ذلك انه قد يفسر نفسه تفسيراً سيئاً وعليه يجب ان نحرر أنفسنا من تبعات التفسير السيء.
ويرى ان المصطلحات ليس لها معاني ثابتة منفصلة عن استعمالاتها. بل ان العلاقات المتبادلة ترتبط بهذه المصطلحات فالفأس ليس وسيلة للدق فحسب، بل هو يكتسب معناه من محل العمل والمسمار والمشتري.
ان أرسطو لم يكن يفهم من مصطلح المواصلات ما نفهمه اليوم. ولذا ولكي نفهم النص يجب ان نعيد تركيبة عالم المؤلف من جديد. والحقيقة ان هايدگر لم يستطع ان يوضح لنا إمكان تفسير النص أو عدمه.
وهو ينتقل في كتابه (الوجود والزمان) بالهرمنوطيقيا من عملية معرفة الأسلوب إلى عملية معرفة الوجود. انه يؤكد ان الفلاسفة ركزوا على الوجودات الخاصة بدلاً من العمل على وعي معنى الوجود عموماً.
أنه يبدأ بتحليل الـ(دزاين) أي التفسير الإنساني للوجود لينتقل إلى تحليل الوجود.
وأخيراً يطالعنا غادامر الذي يعتقد ان التفسير مسبوق بالفهم. وان المفروضات المسبقة شروط لتحقق الفهم وان التفسير مستلزم لعملية تركيب بين أفق النص وافق المفسر. وهو بالتالي في كتابه (الحقيقة والأسلوب) يؤكد أننا لن نستطيع التأكد من ان تفسيرنا هو الصحيح.
إلى هنا والهدف من الهرمنوطيقيا هو الوصول إلى قصد المؤلف وان كانت النتائج مخيبة للآمال أحياناً كما رأينا حيرة غادامر في امكان فهم النص. ولكن الهرمنوطيقيا المعاصرة اعتبرت هذا أسلوبا تقليدياً متخلفاً.
فمدرسة الاتجاه التركيبي الأدبي، ترفض ان تأخذ المؤلف بعين الاعتبار في تفسيرها للنص، انه وجود ميت وما علينا إلا ان نفهم النص من خلال تركيبته الأدبية والقرائن التي تحفه فهي ترفض الأسلوب التقليدي والهرمنوطيقيا الفلسفية معاً.
ومدرسة (رفض الأسس) أيضاً تبعد المؤلف وتبعد التركيبة اللفظية أيضاً وتعتبر قراءة النص نشاطا حرا وتعاملا مطلقا من أي قيد مع النص: وان قراءة النص ليست عملا دقيقا لكي نغرق في القرائن والبنيات التركيبية للنص وعليه فمن الممكن ان نمتلك قراءات متنوعة عبر تحطيم أسس النص وبنيته([1]).
وهكذا نجد مسيرة الهرمنوطيقيا تبدأ بشكل طبيعي ولكنها تتعثر وتنحرف حتى تصل إلى مرحلة حذف المتكلم والمؤلف والبنية التركيبية للفظ والقرائن والشواهد وطرح فكرة القراءات المتنوعة دونما مطالبة بدليل يؤيد هذه القراءة أو تلك. وقد يعني هذا الوصول إلى مراحل يرفضها القائل نفسه وحينئذ تتعطل لغة الكلام ويغلق هذا الجسر الحضاري (اللغة) فلا يسلم للإنسان مراد ولا يثبت له تعهد ولا يملك إلزام أي احد بشيء فماذا بعد هذا إلا الفوضى!
العوامل التي ساعدت على انطراح هذا البحث في الغرب
هذا البحث انطلق بلا ريب في الأوساط الدينية ثم خرج إلى الساحة الإنسانية العامة وأريد له ان يفسر الوجود كله.
وبالنسبة للأوساط الدينية في الغرب، نلاحظ ان المسيحية كانت تحمل رسالة لليهود ملخصها ان الله تجلى للبشرية وعلى البشرية ان تخلد هذه الرسالة.
ولكن برزت مشاكل لدى محاولة الاستماع لرسالة العهدين الجديد والقديم.
هذه المشاكل يمكن ان نلخصها في ما يلي:
أولاً: كون النص في العهدين معقداً أحياناً بحيث لا يدرك معناه.
ثانياً: وجود عنصر الأسطورة التي لا يمكن تصديقها لأنها غير معقولة بل توجد حالات متناقضة (مثلاً في وصف الأنبياء).
ثالثاً: عنصر السند، فان النص الديني لا يمكن الاعتماد عليه ما لم يمتلك الاستناد الكامل للشرع حتى يمكن ان يشكل أمرا تصورياً أو تشريعا قاطعين وحينئذ يتم الالتزام التصوري والتشريعي.
هذه الإشكالات خلقت حيرة كبرى لدى المفكرين فهذا (بل ريكور) يرى ان خارطة الموقع الهرمنوطيقي للمسيحية يمكن رسمها بشكل تاريخي منظم في ثلاث مراحل:
فالمسألة الهرمنوطيقية في المرحلة الأولى، تنطلق من سؤال شغل أذهان المسيحيين الأوائل وربما كان في مطلع البحوث في عصر النهضة الإصلاحية. وملخصه: ما هي العلاقة بين العهدين القديم والجديد؟ فمن وجهة النظر التاريخية لم يكن هناك نصان مقدسان، بل هو نص واحد إذ العهد العتيق نص حدثت في زمانه المسيحية مما جعله نصاُ قديماُ متعلقاً باليهود. اما العهد الجديد فلا يستطيع ان يكون بديلاً للعهد العتيق بل ان العلاقة بينهما مبهمة وتحتاج إلى تفسير.
اما في المرحلة الثانية فتكمن في حديث (بولس) والتعقيد الذي يموج فيه. إذ يؤكد على المسيحيين ان يفسروا حياتهم بما فيها من جزر ومد ومرونة في إطار مصائب المسيح وظهوره من جديد. وهنا يبدو التساؤل: ما هي العلاقة بين الموت والحياة؟ وبين موت المسيح ومعنى الوجود؟ فنحن نفسر حياتنا ووجودنا على أساس فهمنا عن مصائب المسيح وعلى أساس من تفسيرنا لوجودنا نعود لنفسر مصائب المسيح.
اما في المرحلة الثالثة، حيث يتعرض للعهد الجديد لانتقادات العلوم الدنيوية فانه تبدأ مراحل تطهيره من الأساطير.
اما المفكر بولتمان فيقول في مقال مشهور له تحت عنوان (العهد الجديد ومسألة معرفة الأسطورة):
(تلوح في العهد الجديد مقولات لا يرفضها العلماء والمفكرون فحسب، بل يعتبر الإيمان بها أمرا غير معقول) ([2]).
هذه المشكلات خلقت حاجات هرمنوطيقية والجات المفسرين بالنهاية إلى حلول وهمية رأينا مبلغها. في حين لا نجد أيا من هذه العناصر في ثقافتنا الإسلامية ونصوصنا المقدسة.
ما هي العلاقة بين الهرمنوطيقيا وبعض العلوم الإسلامية؟
يبقى هنا ان نتساءل عن علاقة التفسير الهرمنوطيقي بالتفسير الإسلامي للقرآن الكريم وشروح السنة الشريفة وهل هما على مسار واحد.
الحقيقة ان التفسير المسيحي كما رأينا، نشأ لحل المشاكل العويصة التي طرحت أمام النصوص الدينية في العهدين وكأنه جاء ليوجه ويبرر هذه النصوص. وقد رأينا هذا التبرير لا يصمد أمام الحقائق الدامغة الأمر الذي دفع الهرمنوطيقيا للوصول إلى مرحلة عبثية هي مرحلة القبول بالقرارات الاعتباطية.
اما التفسير الإسلامي فقد جاء للتوضيح والتعمق في النص القرآني ومازال باستمرار يتعمق ويكتشف آفاقاً من المعرفة.
وبتعبير آخر، فان المفسرين لم يواجهوا المشاكل التي واجهها المفسرون المسيحيون. فالقرآن الكريم يعتمد عنصر البيان بحيث ينهل منه كل وارد وفق مستواه لقد كان كتاباً عربياً مبيناً. وحتى عندما يكون المعنى سامياً يتطلب تشبيهاً موهماً. فان مثل هذه المتشابهات أرجعت إلى آيات محكمات توضح المقصود دون أي لبس.
اما عنصر الأسطورة المنافية للعقل، فلا نجده مطلقاً في كتاب الله. نعم قد نجد الحديث عن خوارق العادة كتكلم طفل أو طول عمر إنسان أو احياء ميت و هذا يفسر بوضوح بقدرة الله تعالى الخارقة والتي لا تتنافى مع المسلمات العقلية. بل يؤكدها العقل المؤمن بالقدرة الإلهية المؤمنة. بل نجد القرآن ينفي الأساطير التي كانت شائعة كمسألة نفي البحيرة والسائبة والأساطير التي نسجت حول الأصنام ويعتبرها من الأمور التي ما انزل بها من سلطان.
ويأتي وصف الأنبياء كأروع ما يكون إذ يعتبرهم يمثلون أسوة الإنسانية ويعطيهم صفة الشهادة على مسيرة الخلافة الإنسانية.
واما الحقائق العلمية فلم يواجه المفسرون أي تناف بينها وبين النصوص القرآنية بل رحنا نكتشف يوما بعد يوم الانسجام بين العلم والقرآن.
بقي لنا ان نشير إلى أمور:
الأول: ماذا يعني التأويل في النصوص القرآنية؟
الثاني: ما علاقة الهرمنوطيقيا بأصول الفقه.
الثالث: ما هي علاقة مصطلح القراءات بمصطلح الاجتهاد؟
اما بالنسبة للتأويل، فنحن نرى ان فارقا جوهريا يميزه عن الهرمنوطيقيا ويتلخص في ان الهرمنوطيقيا إنّما نشأت لتسد نقصا ولتبرر غموضاً ولتحل تناقضا في النصوص الدينية المسيحية بينمنا كان التأويل مصطلحا دينياً بنفسه جاءت به النصوص لتعبر عن حقائق مهمة. فالتأويل في القرآن كما يبدو لمن تتبع استعمالاته يعني احد المعاني التالية:
1 – تفسير لنوع من الغموض الذي قد يطرأ على ألفاظ يسوقها النص لبيان معاني سامية لا يستطيع اللفظ ان يعبر عنها بدقة. فتبقى جوانب غامضة فيه تجعله من (المتشابه) فيأتي النص (المحكم) ليرفع هذا النقص عبر تأويل وإرجاع المتشابه للمحكم. يقول تعالى: (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) ([3]).
2 – تعبير للرؤيا كما قيل في مجال التعبير لرؤيا عزيز مصر (أنا أنبئكم بتأويله فارسلون) ([4]).
3 – بيان لنتيجة العمل المعين.
يقول تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً) ([5]).
4 – وهناك معنىً رابع ذكره بعض المفسرين وخير من شرحه العلّامة الطباطبائي وخلاصته:
ان تأويل القرآن هو (المنبع الذي يستقي منه القرآن معارفه ومفاهيمه واحكامه).
وكل هذه المعاني لا علاقة لها بمسألة التبرير والتوجيه ورفع التناقضات مع العقل والعلم والتي أوجدت الهرمنوطيقيا.
اما بالنسبة لعلم أُصول الفقه، فان هذا العلم جاء ليدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي مركزاً على صغريات الظهور أي ما يظهر للسامع أو القاريء من الكلام المعطى دون أي تجاوز لهذا الظهور إلى غيره فلم يأت لحل رموز وتعقيدات في النص وإنما جاء لتشخيص ظهورات الألفاظ وتطبيق قواعد الحجية عليها للوصول لمراد المولى سبحانه و العمل وفق أوامره.
وبالتالي نصل إلى الفروق الملحوظة بين عملية الاجتهاد ونظرية القراءات.
فان الاجتهاد، عرف بأنه ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية([6]).
أنه بحث للوصول إلى حقيقة الحكم الشرعي الذي أراده الله تعالى وتحقيق مرضاته بطاعته.
وللاجتهاد مقدماته وضوابطه المحددة. واخطر انحراف ابتليت به مسيرة الاجتهاد هو ما شابه القول بنظرية القراءات وان كان اسلم منها واعني به القول بنظرية الاستحسان كأصل من أُصول الفقه.
فان بعض معاني الاستحسان المذكورة، أمر مقبول من قبيل القول بأنه (العمل بأقوى الدليلين) ([7]).
فانه يعني العمل بالدليل الحجة ورفض الدليل الذي لا يملك الحجية. فهذا أمر صحيح وان كان لا يجعل الاستحسان أصلاً من أُصول الفقه ولكن فسر الاستحسان أحياناً بأنه (دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه) ([8]). أو انه (ما يستحسنه المجتهد بعقله). وهذه أمور رفضها المسلمون بل اعتبرها بعض الأئمة بدعة، لأنها تفتح الباب للآراء غير المستدلة وغير المنضبطة.
ولكنها على أي حال أفضل من القول بنظرية (القراءات) التي انتهى إليها البحث في الهرمنوطيقيا الحديثة:
ذلك ان القائلين بنظرية الاستحسان بالمعنى المذكور، يحصرون الأمر باستحسان المجتهدين دون غيرهم ثم يعتبرونه ينقدح بدليل في النفس يلاحظه المجتهد بين الأدلة؛ ولكنه لا يقدر على التعبير عنه. على ان الاستحسان لديهم لا يتم حينما يوجد دليل شرعي قطعي أو ظاهر في الموضوع. وعليه فهناك اذن بعض الضوابط التي تميزه عن القراءة في حين نجد ان نظرية القراءات تنفلت عن كل ضابطة. فهي تسمح للكل بامتلاك قراءاتهم ولا تطالبهم بأي دليل. بل حتى لو خالفت القراءة قطعاً مراد المتكلم. كما أنها لا تمانع في تصحيح كل القراءات حتى لو كانت متناقضة. وبالتالي فان هذه النظرية تعبر عن منتهى الفوضى بل وتغلق باب الاستفادة من النصوص الدينية.
دراسة ونقد
رأينا ان فكرة القراءات أمر لا ينسجم مع منطقنا الديني وعلومنا الإسلامية ونحن نرى ان آثاره السلبية كثيرة نقتصر منها على الأهم عبر ما يلي:
1 – ان فتح هذا الباب يعني القبول بأي تفسير للنصوص الدينية دون المطلبة بالدليل ودونما محاولة لترجيح رأي على رأي؛ وبالتالي القبول بالاستحسانات الظنية التي لا أصل لها وهو أمر ترفضه التعاليم الإسلامية والثقافة الدينية بل وترفضه كل شريعة تحترم نفسها فلا تترك نصوصها الأصيلة في مهب الأهواء.
2 – ان هذا يعني فتح الباب على مصراعيه لكل الفرق المنحرفة، بل الفرق المعادية للإسلام بل الرافضة لأسسه اعتمادا على حريتها في التفسير. فلها اذن ان تفسر الحياة الأخرى مثلا بالحياة اللاطبقية التي تسعى لها قوانين الديالكتيك بل يفتح باب قراءة صنمية للنصوص الدينية.
3 – انها تؤدي إلى نسبية المعرفة وعدم إمكان الوصول للحقيقة الثابتة الأمر الذي يرفضه الوجدان ويشيع الفوضى الفكرية في الفكر الإنساني وبالتالي نفقد إمكانية الوصول إلى فهم ديني للحياة.
4 – عدم الاهتمام بمراد المؤلف أو المتكلم يعني فصل المخاطبين عن المتكلم والشارع لهذا الدين وبالتالي انقطاع الصلة بينه وبينهم. وهذا الأمر يغلق باب التحاور الحضاري والديني إلى الأبد ويؤدي إلى ضياع المعايير كلها. وبالتالي يترك ذلك أثره على الأخلاق وعلم الحقوق بل وعلى المعرفة الإنسانية ككل.
5 – فتح الباب لمسألة التمرد والعصيان ورفض الأوامر الإلهية. ذلك لأن معيار تنجيز هذه الأوامر وتعذيرها – كما يصطلح – هو القطع بالمراد والقطع هنا منتف، فالطاعة أصلاً لا معنى لها. وبالتالي ينتفي الهدف والغرض من الدين عموماً.
6 – ضياع الكثير من معايير الحسن والقبح مهما كانت مبانينا في هذه المعايير فان الكثير من مواردها معلول لمضمون النصوص الشرعية.
7 – حذف دور الاجتهاد والمجتهدين في فهم الشريعة الإسلامية وهو هدف سعت إليه الدوائر الاستعمارية المعادية([9]).
8 – وأخيراً وليس آخراً فانه يفتح باب العلمانية في عالمنا الإسلامي كما فتحه من قبل في الغرب. ولعل هذا هو المقصود الأصلي لأولئك الذين يروجون لمثل هذه الآراء.
ولا أدل على ذلك من كتاب (الأسس الفلسفية للعلمانية) لعادل ضاهر.
فهذا الكتاب يطرح كل الشبهات التي تطرحها الهرمنوطيقيا حول النص الديني من حيث الدلالة ومن حيث السند ومن حيث أسبقية العقل على الدين وكذلك من حيث تأثير المفروضات الذهنية على الوحي لينتهي بالتالي إلى ضرورة المنهج العلماني في التعامل([10]).
نقاط تجب ملاحظتها:
1 – ان أصحاب هذه النظرية رغم ارتدائهم لبوس البحث العلمي لم يقدموا دليلاً مقنعاً عليها.
2 – ان هذه النظرية تستوجب اللغوية في كل أنماط التفاهم الإنساني.
3 – لا ننكر ان للمسبقات الذهنية أثرها في لغة المتكلم إلا أن الأمر يختلف بالنسبة - للنص الديني وناقل النص المعصوم - فهناك ضوابط كثيرة لتشخيص هذا التأثير.
4 – علم أُصول الفقه لدى المسلمين قدم أجوبة شافية على شبهات العلمانيين لتأكيد حصول الحجية المطلوبة من النصوص الإسلامية معتمداً في كثير من الموارد على المعطيات العرفية التي لها حجيتها القطعية.
5 – والحقيقة ان مرادنا المرحلي هو معرفة مراد المتكلم قطعا لكي نقوم بتحقيقه للحصول على مرتبة الطاعة لتحقيق الرضا الإلهي والقيام بحق المولوية الثابت بالعقل قطعاً لنيل السعادة في الدارين.
نتيجة البحث
اننا نرى ان نقل مصطلح القراءات إلى ثقافتنا أمر خطير يجب ان نحذر منه. لأنه يحمل معه اشراطات خطيرة ولوازم سلبية يرفضها فكرنا الفلسفي والديني عموما. فضلا عن اننا نملك مصطلحاً محدداً واضح المعالم هو (الاجتهاد) و (وجهات النظر) فلا حاجة إلى أي مصطلح غريب خطير.
الهوامش:
([1]).اغلب ما ورد من آراء ونصوص، استقيناها هنا من مجلة قبسات الفارسية في عددها المخصص للهرمنوطيقيا الدينية وهو العدد الثالث للسنة الخامسة.
([2]).نفس المصدر.
([3]).سورة آل عمران : 7.
([4]).سورة يوسف : 45.
([5]).سورة الإسراء : 35.
([6]).مصباح الأُصول، ص 434.
([7]).مصادر التشريع، ص 58.
([8]).ن.م.
([9]).راجع مقالنا في مجلة المنهاج اللبنانية، العدد 22، ص 248.
([10]).راجع كتابنا حول الدستور الإسلامي.