الوحدة الإسلامية إعادة نظر.... في المعوّقات والحلول
الوحدة الإسلامية
إعادة نظر.... في المعوّقات والحلول
الشيخ علي العبودي- العراق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيّين وآل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المخلصين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فمنذ وقت طويل والحديث عن الوحدة والتقارب لا يتوقف من قبل أشخاص من أهل الفضيلة والعلم ممن يدركون خطر الفرقة، ويعرفون الخطط السياسية والجهات التي تقف خلفها لتفريق أبناء الأمة ونشر الخراب فيها.
وقد بذل كثير من المصلحين والعلماء جهودا كبرى في سبيل إزالة العقبات التي تعترض تقارب المسلمين وتوحدهم.
أين المشكلة؟
إلا أنّ المشكلة كانت دائما ليس في وجود النيّات الطيبة والصادقة، فهي موجودة بالتأكيد عند معظم من عمل في هذا المجال، لكن الخلل يمكن في أمرين هامين، هما:
أولا: عدم تحديد العوائق الحقيقية التي تقف أمام نجاح هذا المشروع، وهو أمر هام لا يمكن تحقيق أي نجاح ما لم يتم تحديدها، لاسيّما وأنّ تحديد آليات العمل يتوقف عليها.
ثانيا: الاستعداد لدفع الضريبة التي تتطلبها خطوات من هذا القبيل، وهو أمر ممكن واقعا لأنّ أي خطوة لا يمكن أن يكون لها تأثير ما لم يكن هناك تأثير لها على الواقع الاجتماعي، وهذا ما لا يمكن للعلماء أن يحققوه إذا ما ابتعدوا عن قواعدهم التي لا يمكن بسهولة أن تتقبل مثل هذا الأمر لاسيّما مع وجود أشخاص يحاولون دائما أن يصطادوا في الماء العكر.
إن الشعور بالمسؤولية هو أول ما ينبغا أن نتحلّى به وهو يساوق الشعور بالمشكلة، لأنّ من لا يشعر بالمشكلة لا يمكن أن يحلّها، فلا بدّ من أن نكون واعين لخطر ما يراد بنا.
كما إنّ من الخطأ استعمال أسلوب التجريح والتهجّم على مقدّسات أي جماعة، بل الواجب أن تكون هناك ممارسة لعملية النقد الذاتي الداخلي، وتصحيح الأخطاء وتحمّل مسؤولية ذلك.
إننا نعتقد بأنّ أي حل لا يمكن أن يتحقّق مهما بذلت جهود ومهما صدقت النيات ما لم يكن هناك فهم حقيقي وقراءة ميدانيّة للمشكلة، وما لم يكن هناك فهم لأسلوب صحيح للتعامل معها وتفكيكها.
لم يعد مقبولا ولا كافيا أن نتكلّم عن الوحدة باعتبارها مطلبا دينيا وتكليفيّا شرعيا، بل لا بدّ أن ندرك بأنّ هناك خللاً حقيقيا في المنهج.
العوائق:
لا شكّ بأنّ أول وأهم عائق هو غياب المنهج الواقعي في التفكير لاسيّما وأن العقل الفقهي بطبيعته يميل نحو البحث النظري أكثر منه إلى البحث الّذي يكون على الأرض.
يجب أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للفرقة التي لا تكمن في النصوص أو مناهج التعامل معها، بل في كوننا لم نطوّر رؤية حقيقية تعتمد اكتشاف نقاط الضعف والقوى ومراجعة التراث، والتفريق بين النصّ الديني الّذي كان يؤكد دائما على الوحدة كما قال تعالى: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً )[1]
لكن الأسباب الحقيقة تكمن فينا نحن، ولا أريد هنا أن استعمل أسلوب الذم وجلد الذات لاسيّما وأنّ النبيّ (ص) قد رفض هذا المنهج حيث قال: من قال هلك الناس فهو أهلكهم.[2]
إنّ من أهم أسباب الفرقة التي نعاني منها ومن أهم الأخطاء التي نقع فيها أن نعطي لأي خلاف سياسي بعدا دينيا، صحيح أنّ الساسة من مصلحتهم أن يستخدموا هذا الأسلوب لأنّه أفضل طريق للسيطرة على الناس وتهييجهم مما يضعف قوى التفكير عندهم ويمكن من السيطرة عليهم. إلا أنّ هذا أسلوب غير صحيح دينيا وأخلاقيا، وهو التفاف على المشكلة وتحديها، ويمكن أن نضرب مثلا على ذلك بانشقاق جماعة الخوارج على الخليفة الشرعي بكل المقاييس وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومع مركزيّة علي في الإسلام وعظم مكانته، فإنّه لم يقل: بأنّ هؤلاء كفرة أو فسقة، بل أصرّ على أن لا يعطي النزاع بعدا دينيا فقال كلمته الرائعة عندما سئل عنهم: إخواننا بغوا علينا[3].[4]
وأعجب من ذلك أن يوصي بهم قبل موته يقول: لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحقّ فأخطأه كمن أطلب الباطل فأدركه.[5]
بينما تجد كثيرا من الروايات التي رجّح بعض الباحثين أنّها وضعت لذمّ الخوارج وتكفيرهم والحثّ على قتلهم وقتالهم، وذلك بسبب استغلال الجانب الديني للقضية من قوم هم أبعد الناس عنها وأقصد ملوك بني أمية.
وهذا ما يدلك على وعي استثنائي من علي (عليه السلام) بقضيّة الوحدة رغم ما يتهمه به خصومه من كونه سببا لحدوث الفتن بين المسلمين، وكيف لا يكون علي هكذا، وهو القائل: وإياكم والفرقة، فإنّ الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه.[6]
أي: ولو كنت من دعا إليها، باعتبار أنّ الوحدة فوق أي اعتبار وأي شخص.
أيها الأخوة:
لقد قال تبارك وتعالى عن نزاع يكون بين طرفين مسلمين: ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )[7]
وقال النبيّ (ص) عن سبطه الحسن وهو سيد شباب أهل الجنّة: إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.[8]
وبالتأكيد لم يقصد النبيّ (ص) أن يساوي بين الطرفين من حيث صحة الموقف وشرعيّته، ولو ذلك كذلك لما أمكن أن يكون هناك نزاع بين اثنين من أهل القبلة بحيث يكون أحدهما ظالما والآخر مظلموما، وهو مخالف للبداهة والوجدان.
لقد أراد أمراً آخر، وهو أن يبيّن أنّه لا يجوز لأحد أن يستعمل الدين في خلاف ليقصي الطرف المخالف له، أو أن يسلب عنه وصف الإسلام بل الإيمان كما في الآية الشريفة.
فيمكن أن نتنازع ويمكن أن نختلف، لكن قطعا لا يجوز أن نستعمل سلاح الإقصاء الديني المعبّر عنه بالتكفير.
خطر الانغلاق:
كذلك، فإنّ الانغلاق الفكري أو الحياتي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الفرقة بين الناس وانقسامهم وعدم قبول الآخر المخالف، وهو يظهر حتى عند فقهاء وعلماء تجد بعضهم يتخذ مواقف تتّسم بالتشنّج والرفض. لذا كان تطوير الحياة المدنية للمجتمع التي تعتمد الانفتاح والالتقاء بين معظم فئات المجتمع دون حساسية مذهبية أو طائفيّة من أهم أسباب التقارب وتوحيد المواقف.
الكل والجزء، ثنائية الإسلام والمذهب:
إنّ من أهم الأمور التي يجب النظر فيها هو العلاقة بين الجزء المذهبي والكل الإسلامي، وإن أي ودائما إذا كان الجزء يمثّل الخصوصية بانغلاقها، فإن الكلّ يمثل المساحة الواسعة التي توجد فيها الكليات التي لا يكن إهمالها دون أن يترتب على ذلك أثر خطير.
وهذا الكلام لا يخص العلاقة بين الإسلام ومذاهبه فحسب، بل هو عام فهو يشمل كذلك العلاقة بين الديانات ومنها الإسلام وبين الإنسانية، فإذا لم تكن القيم الإنسانية واضحة ومعتمدا عليها، فان النزاع بين الأديان سيكون حاضرا وقويا، حيث يعمل أتباع كل دين وجماعة على إقصاء الآخرين.
إنّ القيم الكبرى توجد في الكل، وأي إصرار على الجزء في قبال الكل يؤدي لا إلى ضرر اجتماعي فحسب، بل يؤدي إلى فصل الجزء عن الكل يما يؤدي على قطع الحياة عنه، وتحوله إلى حالة جامدة بل ميتة.
إن التأكيد على الهوية الجزئية وترك الهوية الأصلية بذرائع شتى يحاول بعض الناس أن يفلسفوها وأن يعطوها جانب مقبولا أمر لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مشاكل ومصائب ليس على الأمة ككل، بل وعلى المذاهب والطوائف التي يدّعى تمثيلها أو الدفاع عنها.
أهمية العمل المجتمعي:
يجب أن ندرك بأنّ من يستطيع أن يجمع الناس ويوحد بينهم هو العمل المجتمعي في المدارس والجامعات وفي العمل الاقتصادي بين الجماعات والشركات والدول التي تصنع نوعا من التكامل الّذي يمكن لاحقا أن يكون نواة لمشروع وحدة حقيقية.
إنّ الواقع يثبت بأن علماء الدين يمكن أن يساهموا في هذا الجانب، لكن ليس بشكل مباشر تماما وذلك بسبب الحساسيات التي يمكن أن تكون في معظم أوساطهم من هذه الناحية، وبسبب كون كثير من جمهورهم غابت عنه هذه الثقافة وهذه المفاهيم لبعدهم عنها مما يجعل كثيرا منهم يغامر في طرح مثل هذه الأفكار.
لقد ساهم كثير من رجال الدين في التفريق بسبب التخندق في مواقع لا تقبل التزحزح، بل ولجأ بعضهم -ومنهم للأسف من خيّب ظنوننا وقد كنا نأمل فيه خيرا- إلى إثارة النزعات الانفعالية.
بينما يمكن أن يقوم الاقتصاد بشركاته ورجال أعماله، والجامعات بمناهجها التي لا تقبل مثل هذا التعصب وبجمعها لعدد كبير من الناس دون اعتبار لما يفرّقهم من اعتقاد، يمكن أن تقوم بدور مهم في تيسير سبل التبادل لاسيما مع وجود مشتركات اللغة والدين والجوار.
مراكز دراسات:
كما إنّنا في حاجة لأنّ ننشئ علم اجتماع الوحدة والتقريب ليدرس الإمكانيات الاجتماعية لتحقيق التقارب والسبل التي يمكن أن ندخل منها لتقريب المواقف ودفع أسلوب التكفير وانتهاج العنف، وتغليب المصلحة.
ولما كنا نتكلم عن مراكز بحوث ودراسات يفترض بها أن تكون جدية، فينبغي أن نراجع آمالنا الطوباوية في الخلط بين ما هو ممكن وغيره، فلا يمكن أن ندعو لوحدة سياسية تعرف فيها الحدود، لأنّ هذا غير ممكن. وحتى لو فرضنا جدلا أنّه ممكن فلن يستمر، بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ينتج عن ذلك. لا يمكن أن ندعو لشيء غير ممكن بمقاييس هذا الوقت وظروفه.
ونحن على كلّ حال صرنا نطمح بأقل من ذلك بعد أن رأينا هجمة التكفير والرجعية الجديدة التي أنشبت أظفارها في جسد الأمة، وبلغت منها ما لم يبلغه عدوّ من قبل.
وظيفة العلماء:
على إنّ هذا لا يلغي وظيفة العلماء ولا يقلل من دورهم، بل لا يمكن لمثل هكذا مشروع أن ينجح دون دعمهم بل وعملهم. ومن أهم الأمور التي يمكن أن يقوموا بها رفض منهج التكفير وبيان مخالفته للكتاب والسنة.
إنّ هذا ما يمكن أن يساهم في حلّ مشكلة المنهج العلمائي الذي يركز على الموعظة دون تحديد المشاكل التي تعترض فعلا طريق الوحدة ورفع المشاكل والعقبات هذا مع كلّ التقدير لهم باعتبار أن الأمر لا يتعلق بهم فقط، وبالتالي لا يمكن تحميلهم هم فقط المسؤولية.
كما إنّ المطلوب منا أن نؤيد مثل هذا التوجه ونوفّر له غطائه الشرعي، فنؤكد أمام الله وأمام أنفسنا على كون الإسلام هو الجامع لهذه الأمة كما قال تبارك وتعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ )[9] أي الله الّذي سماكم على قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين.
وأن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا سول الله، كما قال الإمام الباقر: به حقت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس.[10]
ولهذا يرى كثير من الناس بأنّ الوحدة ليست إلا أسلوبا لتذويب الجماعات أو إلغاءها، بينما الوحدة في حقيقتها تكامل وهي كذلك استفادة
ينبغي أن نعلم ونعي أنّ الاختلاف هو طريق الارتقاء إذا فهم على حقيقته وقُبِل، وأنّه ليست حالة سلبية بالضرورة، وأهم من ذلك أنّه لا يمكن أن يزول كما قال تعالى: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ).[11]
والتأكيد على أنّ الخلاف له متّسع في الأمة، وقد كان القرآن الكريم وسيبقى هو المرجعيّة الأولى للأمة، و قد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن القرآن بأنّه " القرآن حمّال ذو وجوه"[12] وهذا من أول يعطي منهجا مهما في أنّ الخلافات يمكن أن تجد لها مجالا ضمن حدود المشروعيّة.
وكذلك في التصدي لأي محاولة للتعدي على مقدسات أي طائفة من طوائف المسلمين، بعد أن قال عز وجل في حق المشركين: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[13]
وكذا في بيان حرمة دم المسلم وماله وعرضه، بل حرمة كل إنسان، وتوضيح أن الجهاد لا يمكن أن يوكل إلا لمن كان فقيها مدركا للمصالح والمفاسد وما إلى ذلك، وأنّ الله عز وجل شرعه لغاية وهدف، ولا يكون هدفا بذاته وغاية بنفسها.
كما ينبغي البحث عن المشتركات وتثبيتها في الوعي العام، بل وأن ينتقل موضوع الوحدة من دعوة تنطلق هنا أو هناك إلى يكون أصلا من أصول الدين وقاعدة من قواعده الأساسية.
وهذا مما ينبغي التركيز عليه لا في مقام الإرشاد فقط بل وفي الفتوى أيضا.
[1]- الأنبياء 92.
[2] -صحيح مسلم ح 8- ص 36، مسند أحمد ج2- ص 272.
[3] -كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي ج11 ص 335، وغيرها.
[4] -وهذا ما أكّده حفيده الإمام جعفر الصادق، فيما رواه عن أبيه حيث قال: إن عليا عليه السلام لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ، ولكنه كان يقول : " هم إخواننا بغوا علينا.
[5] -نهج البلاغة ج1- ص108.
[6] -نهج البلاغة ج2 ص8.
[7] -الحجرات 9.
[8] -صحيح البخاري ج3 ص 169، مسند أحمد ج5 ص، سنن أبي داود ج 2 ص 405، وغيرها.
[9] الحج 78.
[10] الكافي للكليني ج 2 ص 25.
[11] هود 118.
[12] نهج البلاغة ج3 ص 136
[13] الأنعام 108.