الزيارة النبويّة: مدخل إلى التقريب بين المسلمين
الزيارة النبويّة: مدخل إلى التقريب بين المسلمين
صلاح الديّن العامري
باحث تونسي ــ جامعة منوبة
بسم الله الرحمان الرحيم
يكاد الباحث في مسألة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة لا يصدّق أنّه توجد منطقة مشتركة بين الإخوة الأعداء تحت تأثير الشحن والشحن المضاد. لقد أتت نار الفرقة على كلّ شيء، حتى على الثوابت التي لا يمكن للفرد أنّ يصنّف مسلما في غيابها. لقد اجتهدت أصوات الفرقة والشقاق على دحرجة كرة ثلج الخلافات حتى إلى أكثر المناطق مناعة وحصانة. ولا شكّ أنّ هذا التوصيف للعلاقة بين الإخوة يثير القلق والألم في نفوس الساعين بجدّ لردم ما أمكن من هذه الهوّة الآخذة في التوسّع.
ومع هذا الواقع، لازال ممكنا اليوم الحديث عن التقارب والتقريب. مازال هذا الأمر ممكنا ما دامت ترتفع أصوات صادقة لتتحدّث عن أرضيّة مشتركة بين المسلمين تقارب نسبتها 90% كما تقدّرها جماعة التقريب. لاشكّ أنّ هذه النسبة تصدم الوعي إذا نظرنا لها من زاوية الصراع، لكنّها تبعث الأمل إذا نظرنا لها من زاوية الأخوّة التي ضحّى الرسول(ص) ومن تبعه من أجل ترسيخها عقودا من الزمن. وقد اخترنا من هذه المساحة المشتركة شخصيّة الرسول الأكرم لنحيي دورها التوحيدي بين المسلمين.
لكنّ الإشكال اليوم هو أنّ هذه الشخصيّة، الفذّة والعزيزة على كلّ مسلم وعلى كلّ من يحترم الذين يخدمون البشريّة بإخلاص، ليست موجودة بيننا حتّى نحتكم إليها كما احتكم إليها السابقون. وقد وجد البعض ممن أساء فهم الإسلام في هذا الغياب مطيّة لسحب هذه الورقة التوحيديّة. وعلى اعتبار أنّ الأصل في أخلاق المسلم كما أسّسها الرسول الأعظم هو حسن الظنّ بالناس، فإنّنا سنفترض أنّ من يقف حائلا اليوم بين الرسول وبين المسلمين الراغبين في تحيين صحبته والاقتراب من كلّ ما يذكّر به، قد أساؤوا فهم بعض الآيات أو هم لم ينتبهوا إلى وجودها. ومن بينها قوله تعالى:
Pلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاO[1]
قال الطباطبائي في تفسير هذه الآية "الأسوة القدوة، وهي الاقتداء والإتباع..والرسول هو الأسوة التي في مورده وتأسّيهم به واتباعهم له. والتعبير بقوله لقد كان لكم الدالّ على الاستقرار والاستمرار"[2]. وهذا منطقي لأنّ الرسالة متواصلة في التاريخ وما دام الاعتقاد فيها هو الصواب يكون مواصلة الاعتقاد في صاحبها وتكريمه بالزيارة هو الصواب أيضا.
- وقال تعالى Pقُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَO[3].
نعتقد مثل كثير من المفسّرين، ولا نعدّ أنفسنا من بينهم، أنّ سبيل رسول الله(ص) ممتدّ مستمرّ مادام الإنسان حيّا. وهذا يعني إتباعه حيّا وميّتا والتواصل معه حيّا وميّتا. ولا معنى للأصوات التي تعتبر الذهاب إليه، أو شدّ الرحال مثلما يصطلحون، وهو في القبر ضرب من الكفر والشرك ما دام الزائر يعتقد أنّ الرسول بشر لا خالق، ومع ذلك فإنّه السبيل القويم إلى الله تعالى.
وتثبث مدوّنات الحديثأنّ الرسول نفسه حثّ على زيارته بعد موته. جاء في سنن الدار قطنّي "حدثنا أبو عبيد والقاضي أبو عبد الله وابن مخلد قالوا حدثنا محمد بن الوليد البسري حدثنا وكيع حدثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون عن الشعبي والأسود بن ميمون عن هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة[4].
وقال أيضا "حدثنا القاضي المحاملي حدثنا عبيد الله بن محمد الوراق حدثنا موسى بن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زار قبري وجبت له شفاعتي"[5].
لم يعد ممكنا، بعد هذا التأكيد، الحديث عن مشروعيّة الزيارة من عدمه، وإلاّ كان المسلم كمن قال الله فيه Pوَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَO[6].
وعلى اعتبار أنّ تحريم زيارة الرسول جاءت من بعض الفقهاء السنّة حاولنا العودة إلى المنظومة كاملة لاستطلاع ما يمكن أن نعتبره الموقف الرسمي أو موقف الأغلبيّة على الأقل. ولم يكن ممكنا المرور على موقف ابن تيميّة(ت.728هـ) الذي صاغ قانون تحريم الزيارة بالبند العريض بعد أن كانت مسألة هامشيّة لدى فقهاء القرون الخمسة الأولى. لقد روّج هذا الفقيه لجعل زيارة الرسول والتوسّل به إلى الله مظهرا من مظاهر الشرك. وراح يؤكّد أنّ إتيان القبور والتوسّل لأصحابها "شرك صريح، يجب أن يُسْتتاب صاحبه، فإن تاب وإلاّ قُتل"[7]. وحتّى تفريقه بين نوعين من الزيارة، زيارة يُطلب فيها قضاء الحوائج من المَزُور وزيارة يُتوسّل فيها إلى الله بالمزور، هو تفريق شكليّ باعتبار أنّ الحكم واحد، إذ يرى أنّ الاعتقاد في توسيط الصالحين بين الإنسان وربّه والتوسّل بهم "من أفعال المشركين والنصارى فإنّهم يزعمون أنّهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم"[8].
يقف ابن تيميّة هذا الموقف رغم أنّه لا يعارض زيارة القبور مطلقا إذ يقول مثلا "اتفق العلماء على أنّ من زار قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو قبر غيره من الأنبياء والصّالحين- الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنّه لا يتمسّح به ولا يقبّله، بل ليس في الدنيا من جمادات يُشرّع تقبيلها إلاّ الحجر الأسود"[9]. ويقرّ هذا الفقيه صراحة بظاهرة التوسّل بالصالحين في حديث أورده عن توسّل عمر بعمّ الرسول لنزول الغيث ونصّه "حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي، عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس:أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب. فقال: اللّهم إنّا كنّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون"[10]. فكأنّ الإشكال عند ابن تيميّة، ومن يقف موقفه،يرتبط بحياة الإنسان أو موته لا بصفته ومكانته، وإلاّ كيف يقبل بالاستسقاء بابن عباس وهو ابن عم الرسول ولا يقبل الاستسقاء بالرسول بعد موته؟ فهل موت الرسول يعني انفصال الصّفة عن الموصوف، أم أنّ الأمر يندرج ضمن صراع فكري قام على الفعل وردّ الفعل تحت تأثير عوامل أخرى ؟ ألا يعلم هذا الفقيه ومن جرى على نهجه أنّ المسلم مهما كان مستوى وعيه يعلم أنّ الله هو الخالق وأنّ الرسول وأمثاله من الصالحين مخلوقات محتاجة بدورها إلى رحمة الله؟ حتى وإن اعتقد الإنسان البسيط في قدرة الرسول أو غيره من الصالحين على قضاء الحاجة لقربه من الله وصلاح أعماله هل يصنّف كافرا ومشركا؟ هل يتساوى منه من ينكر التوحيد وينكر رسالة محمد(ص)؟
ولا يمكن القول أنّ هذا الخط المتشدّد تجاه ظاهرة الزّيارة يمثّل الفكر السنّي لأنّ العديد من الأصوات، وتمثّل الأغلبيّة في تقديرنا، تشجّع على هذا التواصل مع تدقيق أهدافه ومضامينه. ولم تكن مواقفهم متشدّدة حتى مع من أساء فهم الزيارة ووظيفتها. وفي هذا السياق اعتبر القحطاني مثلا أنّ الإخلال بمفهوم الزيارة وآدابها لا يرقى إلى مرحلة الشرك في قوله "وبعض هذه الأمور المذكورة بدعة وليس بشرك كدعاء الله عند القبور، وسؤال الله بحقّ الميّت وجاهه ونحو ذلك"[11]. ويفرّق القحطاني بين نوعين من سلوك الزائر، فالذي يعتقد بأنّ الله هو من يقضي الحوائج ويتوسّل بواسطة هو أخطأ طريقة الدّعاء، أمّا من يطلب قضاء الحاجة من غير الله "كدعاء الموتى أو الاستعانة بهم وسؤالهم النصر أو المدد"[12] فهو من الشرك الأكبر،لأنّ الزّائر قطع الصلة بالخالق واعتقد في قدرة المخلوق على قضاء الحاجة.
ولم يقف سعيد بن علي بن وهف القحطاني عند هذا الحدّ إلى اعتبار أنّ زيارة الأولياء والصالحين ممكنة شرعا ومستحبّة إذا كان "المقصود بزيارة القبور هو تذكّر الآخرة والإحسان للموتى بالدعاء لهم وإتباع سنّة النبي (ص)[13]. وقدّم القحطاني مقترحا لكيفيّة الزيارة قال فيه " وإن قال أشهد أنّك رسول الله حقا قدّ أدّيت الأمانة وبلّغت الرسالة وجاهدت في الله حقّ جهاده ونصحت الأمّة... فلا بأس لأنّ هذا كلّه من أوصافه (ص)"[14]. ويضيف "ثم يأخذ ذات اليمين فيسلّم على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ويدعو له بما يناسبه، ثم يأخذ ذات اليمين فيسلّم على عمر بن الخطّاب ويترضي عنه، ويدعو له، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلّم على رسول الله وصاحبيه لا يزيد غالبا على قوله السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف"[15]. وتتكرّر عبارات لدى القحطاني من قبيل"تستحبّ زيارة مسجد النبي وهي مشروعة في أيّ وقت وأيّ زمان...لما في زيارة قبره من ثواب عظيم"[16]، و"يستحبّ لزائر المدينة أثناء وجوده بها أن يزور مسجد قباء ويصلّي فيه لأنّ [النبيّ (ص) كان يأتيه راكبا وماشيا ويصلّي فيه ركعتين][17]"[18]. وقد وردت في الأثر أقوال للرسول في هذا المعنى منها"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام"[19].ويقول القحطاني أيضا "ويُسنّ للرجال زيارة قبور البقيع- وهي مقبرة المدينة- وقبور الشهداء وقبر حمزة رضي الله عنهم، لأنّ النبيّ (ص) كان يزورهم ويدعو لهم، ولقوله(ص) "زوروا القبور فإنّها تذكّركم بالموت"[20].
وأكّد عديد فقهاء السنّة المتأخّرين عن ابن تيميّة ما ذهب إليه القحطاني، ومنهم أبو عبد الله الأنصاري في كتاب "الإعلام بزيارة خير الأنام"، إذ بعد أنْعرض مجموعة من الأحاديث الدالة، في تقديره، على استحباب زيارة قبر الرسول(ص) يقول "دلّت هذه الأحاديث والآثار على مشروعيّة زيارة القبور، وأنّ الله تبارك وتعالى وكّل ملكا بقبره يبلّغه صلاة وسلام أمّته عليه وأنّه يردّ عليهم السلام ولا شكّ أنّ أفضل القبور وأولاها بالزيارة هو قبر النبي (ص) وصاحبيه"[21]. ويحتجّ الأنصاري لموقفه برأي لعبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب قال فيه"اتفق علماء السلف والخلف على أنّ السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه(ص) أنّه سفر مشروع باتفاق المسلمين. وقال ومراد العلماء الذين قالوا إنّه يُستحبّ السفر إلى قبر النبي (ص) هو السفر إلى مسجده"[22]. رغم أنّ موقف سليل المدرسة الوهابيّة ليس صريحا في المسألة إلاّ أنّه يحمل إيحاء بإمكانيّة زيارة الأمكنة المرتبطة بالرسول، وحصرها في المسجد دون غيره.
وفي نفس السياق يرى محمد علوي المالكي أنّ "مسألة الزيارة، مسألة فقهيّة تتعلّق بها الأحكام الشرعيّة من حلال وحرام ومكروه ومندوب، ولا صلة لها بحديث [لا تشدّ الرحال..] وليست من القضايا العقديّة"[23]، أي لا صلة لها بالعقيدة ومسألة الانتماء للإسلام من عدمه، وبالتالي لا يجوز التكفير بموجبها. ويضيف الحسني "وقد جعلها بعض المتنطّعين- هداهم الله إلى الصّراط المستقيم- قضيّة اعتقاديّة مثلما فعلوا تماما بقضيّة التوسّل بالرسول حيث جعلوها قضيّة اعتقاديّة توحيديّة، وبنوْا عليها الحكم بالكفر والشرك والإخراج من الملّة مع أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهّاب يقرّ في رسائله[فكون البعض يرخّص التوسّل بالصالحين وبعضهم يخصّه بالنبي (ص) وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه، وإن كان الصواب عندنا قول الجمهور من أنّه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد][24]...."[25].
وصف الحسيني الذين حوّلوا المفهوم عن سياقه الأصلي بالمتنطّعين، و"النُّطُعُ بضمّتين. المتشدّقون"[26]، وفي التشدّق جرأة غير مبرّرة في مسائل شديدة الخطورة على المجتمعات، مثل المسألة الدينيّة. ويمثّل تصنيف محمد عبد الوهاب زعيم التيار السلفي الحديث زيارة الصّالحين والتوسّل بهم ضمن المسائل الفقهيّة شهادة إضافيّة على أدلجة المفهوم وإخراجه من سياقه الاجتماعي البسيط. ولا شكّ أنّ العامل السياسي يقف بقوّة وراء هذه الانفلاتات الواعية وغير الواعية.
ويضيف الحسني" وقد جاء هؤلاء المنتسبون إلى السلفيّة وجعلوا قضيّة الزيارة وشدّ الرّحل إلى نبيّنا (ص) قضيّة إيمان وكفر وتوحيد وشرك وراحوا يخلعون ألقاب الضّلال والكفر والشرك على كلّ من يخالفهم في هذه المسألة...والحاصل أنّ الخلاف في مسألة الزيارة والتوسّل هو خلاف في الفروع، ولا يصحّ أن يشنّع به أخ على أخيه أو يعيبه به..."[27]. يقرّ هذا الفقيه السنّي بتحوّل هذا المفهوم من سياق عادي، ضعيف الأثر على وحدة المسلمين، إلى سياق آخر ساهم في تكريس الفرقة التاريخيّة بين جماعات فكريّة لها منطلقات ولاءات مختلفة.
في نفس السياق أيضا،يقول الأنصاري"والذي نحن بصدده هنا مسألة آداب زيارة قبر النبي (ص) وصاحبيه، وهي مسألة فقهيّة بحتة، ولكن لكثرة ما يرتكب فيها عوام الناس من المخالفات من إعطاء حق الخالق للمخلوق من دعائهم النبي (ص) أو الأموات، أو الاستغاثة بهم من دون الله أصبح من العلماء من يدخلها في مسائل العقيده"[28]. يؤكّد هذا الشاهد أنّ التشدّد في التعامل مع هذا الطقس ليس محلّ إجماع بين فقهاء السنّة، أي أنّ رفعه شعارا للخلاف السنّي الشيعي هو من باب التحريض والتعبئة لغايات مختلفة لا يبرّرها إلاّ التوظيف السياسي والصّراع بين القوى المختلفة.
لقد كان التعصّب المذهبي والعرقي وقودا للصراع التاريخي حول مشروعيّة الزيارة من عدمها. ويرى الشاطبي(ت.790هـ) أنّ "أكثر المتعصّبة، إنّما حملهم على التعصّب ما كان عليه الآباء والمشايخ وهو التقليد المذموم"[29] الذي سوّى بين الفكر الدّيني التاريخي والدّين كما أظهره الأنبياء، وألغى المسافة بين الإلهي والإنساني ولم يستثن من ذلك الأحداث التاريخية والحكايات والأمثال وأحاديث السّمر والأخبار الغريبة التي راكمها انتشار القصّاص في المساجد. ومن المعلوم أنّ الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان دعّم انتشار القصّاص في دور العبادة لما وجده في هذه الآليّة السحريّة وغير المكلفة من تأثير على الرعيّة وكبح جماحها. ويعتبر ابن تيميّة أنّ المتعصّبين "عدلوا عن إتباع الكتاب والسنّة وعن طاعة الله ورسوله إلى عاداتهم وعادات آبائهم وقومهم فهم من أهل الجاهليّة المستحقّين للوعيد"[30]. ولئن كان ابن تيميّة يقصد بالمتعصّبين الذين خالفوه الرأي وتصرّفوا وفقا لما اعتقدوا أنّه الحقّ، فإنّ إشارته لعدول بعض المسلمين عن عادات آبائهم تحدّد سببا هاما من أسباب التعصّب في الأديان.
وبناء على هذا التوافق الواسع بين المسلمين على مشروعيّة زيارة الرسول(ص)، وعلى اعتبار أنّ المعترضين هم الأقليّة نعود لنؤكّد أنّ هذه الأرضيّة الخصبة بإمكانها أن تسهم في استعادة أجواء الوحدة التي عاشها المسلمون الأوائل مع بداية الدعوة. إنّ الرجل الذي بدأ دعوته وحيدا ومنفردا ثم وفقه الله لبناء مجموعة فدولة فإمبراطوريّة امتدّت أطرافها إلى كلّ أصقاع الأرض لا يزال بإمكانه إعادة العمليّة وإن لم يكن حيّا. إنّ محبّة الرسول والالتقاء عنده بإمكانها أن تخفت حرارة الشجن المذهبي الذي عاشه المسلمون منذ سقيفة بني ساعدة، وتطوّر مع التاريخ دون توقّف. لماذا لا تتحوّل أصوات المؤكّدين على وجود 90%من المشترك بين المسلمين وهي نسبة واقعيّة إلى ثقافة فقهيّة وشعبيّة؟ إلى متى ستغطّي نسبة 10% نسبة التسعين؟ إذا كان الله ورسوله وكتابه محلّ اتفاق ماذا بقي من رقعة للخلاف؟
ما نختم به
خضع مفهوم الزيارة، مثل عديد المفاهيم، لتحوّلات تاريخيّة نقلته من معنى أخلاقي اجتماعي تجميعي إلى معنى إيديولوجي معقّد. وقد استطاع هذا المعنى الأخير لمفهوم الزيارة أن يطغى على باقي الدّلالات تحت تأثير عدّة عوامل، أهمّها الجانب السياسي. ولا شكّ أنّ الأنظمة السياسيّة الحريصة على مصالحها الداخليّة والخارجيّة تسعى إلى إعادة إنتاج الماضي مع التركيز على ما يتماشى وأهدافها. تدفع الماضي ليكرّر نفسه فيتحمّل إنسان القرن الخامس عشر الهجريّ وزر ما حدث في القرون الأولى رغم أنّ "هذا البقّال أو العطار السنّي لم يتورّط في أحداث السقيفة ولم يشهد كربلاء"[31] ورغم أنّ ذنب الشيعي هو محبّة آل البيت. لكنّ شرط هذه المحبّة أن لا تشوبها المغالاة لأنّها جزء فاعل من المشكل. وإذا لم يجد النظام السياسي شيئا يحرّك به الإحساس بالمظلوميّة فإنّه يسخّر ما لديه من قوّة إعلاميّة وماليّة وجغرافيّة روحيّة ليحارب الآخر المخالف له في فهمه لنصوص حمّالة أوجه قياسا على قول علي بن أبي طالب، ويسعى إلى عزله عن المجموعة الإسلاميّة الكبرى. وعادة ما يستند في سعيه لمجموعة من الفتاوى، قد تُستمدّ من مسائل جانبيّة أو مواقف معزولة لا تمثّل إلاّ من نطق بها. وعادة ما ترتبط هذه الفتاوى بنزعة فرديّة أو جمعيّة ضيّقة أو بمشاريع أمميّة تتجاوز المسلم البسيط. ولا يفوت التأكيد على أنّ العودة بالزيارة إلى معناها الاجتماعي الأخلاقي أو حتى الدّيني يساعد على الفهم والتفهّم المتبادلين بين المسلمين. ومثلما يعتقد المسلم أنّ الحجّ يطهّر من الذنوب، نعتقد أنّ تزاور الحجاج فيما بينهم بمناسبة مواسم الحجّ وتبادل التعارف في غياب الوسائط المؤدلجة يسهم في تطهير النفوس ممّا علق بها من كدر وتباغض، أسهمت في تأبيدهما ذاكرة صُنّعت تحت تأثير عوامل متعدّدة.
[1]- الأحزاب: الآية 21
[2]- الطباطبائي: تفسير الميزان، ج16، ص294- 295
[3]- يوسف: الآية 108
-[4] سنن الدارقطني، كتاب الحج، ح 193
[5]- سنن الدارقطني، كتاب الحج، ح 194
[6]- المنافقون: الآية 5
[7]- ابن تيميّة: زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور،ص18
[8]- ابن تيميّة: زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ص18
[9]- ابن تيميّة: زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، 30-31
[10]- البخاري: كتاب الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، ح964، وأورده ابن تيميّة: زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، الرئاسة العامة للإدارات والبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد ووكالة الطباعة والترجمة، 1413هـ، ص25
[11]- القحطاني: : العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص185
[12]- القحطاني: : العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص185
[13]- القحطاني سعيد بن علي بن وهف: العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، راجعه عبد الله بن عبد الرحمان الجبرين، مكتبة الملك فهد الوطنيّة، ط1، 1415هـ/ 1994م، ص185
[14]- القحطاني سعيد بن علي بن وهف: العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص180
[15]- القحطاني: : العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص181
[16]- القحطاني: : العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص177
[17]- البخاري، 3/67، ومسلم، 2/1016
[18]- القحطاني: : العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص182-183
[19]- البخاري: صحيح البخاري، 3/63 وصحيح مسلم 2/1012
[20]- القحطاني: العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنّة، ص183- 184
- الحديث مروي في صحيح مسلم 2/671
[21]- الأنصاري أبو عبد الله محمد بن محمد المصطفى: الإعلام بزيارة خير الأنام، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنوّرة- دار العلوم للحكم والنشر دمشق، ط1، 1428هـ/2008، ص27
[22]- الدرر السنية في الأجوبة النجديّة ، ج3، ص405-406-407، نقلا عن الإعلام بزيارة خير الأنام، ص19
[23]- الحسني، محمد بن علوي بن عباس المالكي: الزيارة النبويّة بين الشرعيّة والبدعيّة، نشر المجمع الثقافي أبو ظبي، 2000م، ص11
[24]- نقله عن فتاوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مجموعة المؤلّفات، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، القسم 3، ص68، بمناسبة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ص11
[25]- الحسني، محمد بن علوي بن عباس المالكي: الزيارة النبويّة بين الشرعيّة والبدعيّة، ص11
[26]- الفيروزآبادي: القاموس المحيط:، تحقيق مكتب تحقيق التراث بمؤسسة الرسالة، إشراف محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة ، ط8، 1426هـ/ 2005م، ص767
[27]- محمد بن علوي بن عباس المالكي الحسني: الزيارة النبويّة بين الشرعيّة والبدعيّة، ص12
[28]- أبو عبد الله محمد بن محمد المصطفى الأنصاري: الإعلام بزيارة خير الأنام، ص10
[29]- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي،: الاعتصام، تحقيق محمد بن عبد الرحمان الشقير، دار ابن الجوزي، ط1، 1429هـ/2008م، ج2، ص688
[30]- ابن تيميّة: مجموعة الفتاوى،ج20، ص 225
[31]- علي شريعتي: التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي، ص76