الاجتهاد عند الشيعة الإمامية
الاجتهاد عند الشيعة الإمامية
الشيخ آية الله محمّد واعظ زاده الخراساني
عضو المجلس الأعلى للمجمع
العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطاهرين وصحبه الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد:
أيها الحفل الكريم: إنه لمن دواعي السرور والشكر عندي الاشتراك في هذه الندوة المباركة التي جمعت في أحضانها نخبة من العلماء والباحثين من الأقطار الإسلامية، للبحث عن أهم المواضيع الإسلامية وهو (الاجتهاد في الإسلام).
وإني إذ أحييكم بأطيب التحيات أقدم إليكم بحثا متواضعا بعنوان: (الاجتهاد عند الشيعة الإمامية مصادره وضوابطه). وقبل الخوض في صميم الموضوع أشير موجزا إلى شيء من التحولات التي مرّت على فقه الإمامية تمهيدا للحبث:
تمهيد
مادة الفقه بحسب اللغة تحتوي في ذاتها فهم الأمور الخفية وكشف الخبايا أو كما قيل: (معرفة الباطن من الظاهر) وأطلقت أولا بشكل عام على الرسوخ في علم الدين وفهمه عميقا، انطلاقا من قوله تعالى: (وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة/ 122).
والتفقه بصيغة التفعل يؤكد عمقا في الفهم ثم شاع استعماله في وقت لا يعرف بالضبط، ولعله في عصر الصحابة والتابعين على استنباط الأحكام خاصة، فكان يقال للمختصين بمعرفة الأحكام عن بصيرة وفقه: (الفقهاء) وقد اشتهرت طائفة قليلة من الصحابة، وطائفة أكثر من التابعين بوصف الفقهاء.
فالتعبير عن فهم الدين عموما وعن استنباط الأحكام خصوصا بـ(التفقه في الدين أو في الأحكام) من حيث المادة والصيغة مشعر بما يتطلبه فهم الدين وخاصة قسم الأحكام منه من الدقة والتعمق، الأمر الذي عبّر عنه القرآن الكريم – ثم الفقهاء – بـ (الاستنباط). قال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء/ 83). والإستنباط في اللغة هو استخراج الماء من البئر، ثم استعير لإخراج ماخفي من الأحكام وغيرها من مصادرها ومن هذا المنطلق شاع إطلاق (الفقه) على علم الأحكام الشرعية وكذلك (التفقه) على عملية استنباط الأحكام.
ثم عبّروا عنها في وقت سابق لا يعلم مداه بـ (الاجتهاد) باعتبار أنها تتطلب جهدا كبيرا واستفراغا للوسع – وقد عرّفوا به الاجتهاد أيضاً – فقالوا: (الاجتهاد هو استفراغ الوسع لمعرفة الاحكام).
ولعلهم حينما عبّروا عن الاجتهاد كمصدر من مصادر الفقه، ثم أطلقوه على عملية استنباط الاحكام تبعوا في ذلك معاذ بن جبل الصحابي رضي الله عنه، حينما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعثه إلى اليمن قاضيا، فسأله – كما جاءت في كتب الحديث([1]): ما معناه: (بماذا تقضى؟ فقال: بكتاب الله، فقال عليه السلام: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله، فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي..) وهذا الحديث كالنص على أن الاجتهاد عند معاذ كان مصدرا من مصادر القضاء بعد فقدان الحكم في الكتاب والسنة.
ولكنه مالبث حتى أطلق على نفس استنباط الاحكام من مصادرها. وكيف كان فقد استمر الاجتهاد في جميع العواصم الإسلامية العلمية كالمدينة ومكة والعراق والشام ومصر وغيرها عند فقهاء البلاد استنادا إلى الكتاب والسنة وما ألحق بهما من الإجماع والقياس والرأي والاستحسان وغيرها على خلاف بينهم في غير الكتاب والسنة من الأدلة.
وكلما توسّعت رقعة الإسلام، وتنوّعت الأعراف والعادات، وازدادت وتضاعفت الحاجات في صعيد الشريعة والأحكام، أو في حقل الأقضية والفتاوي، توسّع واستكمل نطاق الاجتهاد، كما اختلفت الآراء والأقوال وبرزت المذاهب والمدارس الفقهية في البلاد، حتى أصبح علم الفقه والاجتهاد من أبسط العلوم وأطولها، بل وأهمها في الإسلام، ذا شقوق وفروع وأصول وأركان، مرتبطا بجملة من العلوم الأدبية واللغوية القرآنية والحديثية وغيرها.
وقد تكفّل علم برأسه – وهو علم أصول الفقه – بيان أصوله وضوابطه وأسسه وقواعده.
هذا هو مصير الاجتهاد عند الجمهور، وأما الشيعة الإمامية فكانوا يكتفون إلى أواسط القرن السابع الهجري – رغم استكمال الفقه عندهم وتوسّعه - بالتعبير عن هذا العلم بلفظ (الفقه) وعن عملية الاستنباط بلفظ (التفقه) جريا على طريقة السلف واتباعا لأئمتهم من آل البيت b مجتنبين التعبير بـ(الاجتهاد) لأنه كان عندهم مساوقا للرأي والقياس اللذين نهى عنهما الأئمة، وقد جوزهما كثير من فقهاء الجمهور.
قال الشيخ الطوسي – المعروف بشيخ الطائفة الامامية – (385 – 460هـ) في كتاب (عدّة الأُصول)([2]).
بعد ذكر أصول الأحكام عنده: (وقد ألحق قوم بهذا القسم الكلام في الإجماع والقياس والاجتهاد... – إلى أن قال: وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا... وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما...).
فالشيخ الطوسي ، وهو يعيش في أوساط القرن الخامس الهجري بقي الاجتهاد عنده على معناه الأول مرادفا للقياس كمصدر للفقه عند الجمهور، لما ثبت عنده في المذهب أنه محظور من قبل الأئمة من آل البيت، ولاسيما الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام الذي كان يؤكد على تحريم العمل بالقياس والرأي، ويناقش أصحاب الرأي وعلى رأسهم الإمام ابا حنيفة كما جاء في المصادر([3]).
والظاهر أن المحقق الأول، أو المحقق الحلي (م 676هـ) نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي – وهو من كبار فقهاء الإمامية في القرن السابع – أوّل من أطلق لفظ (الاجتهاد) من الإمامية على استنباط الأحكام في كتابه (معارج الوصول في علم الأُصول).
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الفقه عند الإمامية في القرون الثلاثة الأول محصورا فيما روي عن الأئمة من الأحاديث والفتاوي مع مافيها من معالم ونماذج من الاستدلال والاستشهاد بالكتاب والسنة، حيث أن الأئمة كانوا مهتمين بتدريب أصحابهم على ذلك فقد قال الإمام أپو جعفر محمّد بن على الباقر عليه السلام (48 – 114هـ) وهو والد الإمام الصادق وخامس الأئمة من آل البيت – لأبان بن تغلب (422) وكان من فقهاء أصحابه وكانت له مكانة عالية عند أهل السنة: (اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك) ([4]).
وروى زرارة بن أعين وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام: مامعناه قلت لأبي عبد الله – أي الصادق – عليه السلام: من أين علمت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين، فأجابه بأن الله قال: (فاغسلوا وجوهكم) فعرفنا أن الوجه يغسل كله ، وقال: (وأيديكم إلى المرافق) فعلمنا أنه يجب غسل اليدين إلى المرافق. ثم فصّل بين الكلام فقال: (وامسحوا برؤسكم) فعلمنا أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: (وأرجلكم إلى الكعبين) فعلمنا أن المسح على بعض الرجلين...) ([5]). وكلّنا يعلم أن مسألة مسح الرجلين وغسلهما في الوضوء كانت ولازالت متضارب الآراء بين الفريقين، وهناك شيء كثير من الحوار والمحاجة بين الطرفين في هذه المسألة، وغيرها من مسائل الفقه، كمسائل العقيدة والكلام، جاءت في كتب مسائل الخلاف.
وهكذا كان الفقه عند الإمامية في غالب الحديث نقلا عن الأئمة بأسانيد شتى إلى أوائل القرن الرابع الهجري، وكلما جاءت من أسامي الكتب في فهارسهم، ولاسيما في فهرست الشيخ الطوسي، وفهرست الشيخ النجاشي (م450هـ) منسوبة إلى فقهائهم ومحدّثيهم الذين عاشوا قبل ذلك فهي مجموعات من الأحاديث الفقهية وهي قسمان:
قسم منها (أصل)، وهو ما رواه الراوي عن الإمام مباشرة، أو بواسطة واحدة وعددها عند بعضهم أربعمائه اصل.
وقسم منها (جامع) وهي التي جمعت ما كان في الأُصول وهذه هي (الجوامع الأولية) عند استاذنا الامام البروجردي رحمه الله، بإزاء الكتب الأربعة وهي الجوامع الثانوية عنده. وكان في الجوامع قليل من الشرح والبيان والاحتجاج، إلى أن برز فقيه في بلدة (قم) - وكانت من أهم عواصم العلم يومذاك عند الإمامية – وهو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (م329هـ) - وهو شيخ عائلة كبيرة أنجبت فقهاء ومحدثين – فحول هذا الفقيه الفقه من الفقه الروائي الذي كان في ثوب روايات مسندة، إلى تجريد ألفاظها وحذف أسانيدها فعرض الفقه في صورة متن فقهي مستخرج من الروايات مع الاحتفاظ على الفاظها قدر المستطاع.
فدوّنها في رسالة له إلى ولده، محمّد بن علي المعروف بـ(الشيخ الصدوق)(م381هــ) ولم تصلنا هذه الرسالة كاملة، سوى قطعات منها أدرجها ابنه في كتابه (من لا يحضره الفقيه) - وهو أحد الكتب الأربعة المعتبرة في الحديث عند الإمامية – وكذلك في غيره من كتبه الفقهية. ويسمى هذا النوع من الفقه (مجرد الفقه) أو الفقه المنصوص. فهذا يعد أول تحول في الفقه الإمامي.
ثم نهض في القرن الرابع فقيه معاصر للشيخ الصدوق باسم (محمّد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي)، المتوفي عام 381هـ([6]).
نفس العام الذي توفي فيه الصدوق – بتأليف كتب استدلالية في الفقه الإمامي، على طراز ماكان عند أهل السنة من ذي قبل، ولكن كتبه – مع الأسف – لم تصلنا. سوى بعض فتاويه متفرقة في الكتب المتأخرة من زمانه. ويبدو أنها تـُركت وطُردت حين ظهورها من قبل العلماء، لأنها كانت مظنة الرأى والقياس – وقد كان ابن جنيد ينسب إليه العمل بالقياس – وحينئذ قام تلميذه وتلميذ الصدوق معا الشيخ المفيد (م 413هـ) أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، بتأليف الفقه والأصول بنفس الأسلوب مع الاحتراز عن القياس. وتبعه أصحابه في هذه الطريقة، ولاسيما الشريف المرتضى علم الهدى (م436هـ) وأبو جعفر الطوسي وغيرهما، فألف المرتضى كتاب (الذريعة) والطوسي كتاب (العدّة)، كلاهما في علم الأُصول وهذان الكتابان لحد الآن من أحسن المؤلفات في هذا العلم عند الإماميّة، ومن أقدمها. ولم يكتف السيد والشيخ بتأليف علم الأُصول بل قاما بتفريع الفروع على طراز ما شاع بين المذاهب الأخرى قبل ذلك. – كما قاما بتأليف الكتاب في مسائل الخلاف في الفقه - فللطوسي - كتاب كبير باسم (المبسوط) في الفقه التفريعي، وقد نص في أوله على أن أصحابنا الإمامية كانوا إلى هذا الوقت يكتفون بالفقه المنصوص مجتنبين التوسع في الفروع حذرا من الوقوع في القياس والرأي. وقال: إني أطرح كل ما فرغ الفقهاء حسب قواعدهم في التعويل على القياس، وأعالجها من دون القياس تعويلا على أصولنا.
وهذا الكتاب يعد أول كتاب في الفقه التفريعي عند الإماميّة. ولكن ليس معنى ذلك لم يكن قبله تفريع في الفقه عندهم أصلا، كيف وفي كثير مما روي عن الأئمة عليهم السلام يوجد التفريع، بل يروى عن الإمام الصادق عليه السلام (م148هـ) أنه قال: إنما علينا أن نلقى إليكم الأُصول وعليكم أن تفرّعوا([7]).
وعن الإمام الرضا عليه السلام (م203هـ) – وهو ثامن الأئمة – أنه قال: علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع([8]).
إلى غيرهما من الأحاديث. ولكن الإمامية لم يوسّعوا في التفريع إلا قليلا ووقفوا عند النصوص حسب ماقاله الطوسي.
وهذا النوع من الفقه شاع بعد الطوسي بين الإمامية وتوسّع عبر العصور إلى هذا الزمان، ولم يتوقف في وقت من الأوقات، ولهم في الفقه والأصول مطولات ومختصرات وكتب الفتاوي لا تعدّ ولا تحصى. وبأساليب شتـّى. من أجل أن باب الاجتهاد عندهم مفتوح لا يتبعون فقيها معيّنا كما يقلّد أهل السنة أئمتهم. وإنّ أئمة آل البيت أقوالهم من مصادر الفقه والاجتهاد وليس الناس يقلدونهم كمجتهدين، وهذا هو الفارق بين مذهب أهل البيت والمذاهب الأخرى، وبين أئمتهم وأئمة المذاهب.
ومع ذلك لم تنقطع بتاتا طريقة الفقه المنصوص، أو الفقه الروائي، فكان يوجد بين الفقهاء من يميل إليه، تاركا الفقه التفريعي إلى أن قام بتجديده ونشره في القرن الحادي عشر عالم باسم (محمّد أمين الإسترابادي) (م 1032) وله كتاب باسم (الفوائد المدنية)، وتبعه آخرون سموا باسم (الأخبارية) لاعتمادهم على الروايات والأخبار، فشكّلوا جماعة في قبال جمهور الإمامية، الذين يعبر عنهم بـ(الأصوليين) لاعتمادهم على علم الأُصول. ولهؤلاء الأخبارية آٍراء خاصة، وكان اكثرهم قاطنين (البحرين) وماجاورها من البلاد في الجزيرة العربية، ثم هاجروا إلى ساير البلاد ونشروا مسلكهم. والأخبارية بين الإمامية كأهل الحديث والسّلفية عند أهل السنة.
وهم بين مفرط في الإنكار على الأصوليين وعدّهم من أتباع طريقة أهل الرأي والقياس، وبين معتدل في الموقف. ومن أبرزهم وأعدلهم موقفا الشيخ يوسف البحراني الساكن في الحائر الحسيني (كربلاء) صاحب كتاب (الحدائق الناضرة) وغيرها من المؤلفات (1107 – 1186هـ).
والأخبارية كان لهم دور كبير في الدولة القاجارية وقبلها، ولاسيما في عصر هذا العالم، إلا أنه قد نهض عالم فـذّ من الأصوليين – وكان معاصراً له قاطنا معه في كربلاء أيضاً – وقاومه بشدة، وهو آقا محمّد باقر البهبهاني المعروف بـ(الأستاذ الأكبر) و(الوحيد البهبهاني) (1118 – 1208هـ) فغلب عليه وكسر صولة الأخبارية، وله مع البحراني قضايا مشهورة. وكان له تلاميذ وأصحاب من جُلّة المجتهدين، أخذوا زمام أمر الشيعة الإمامية بيدهم، وتبعهم أكثر الناس، فانعزلت الأخبارية وتركوا الساحة للأصوليين إلى عصرنا هذا.
وللأصوليين الذين تأخروا عن الوحيد البهبهاني آراء وإبداعات في علم الأُصول لم يسبق لها نظير من ذي قبل، لا في الإمامية، ولا في غيرهم من أتباع المذاهب الفقهية الأخرى.
هذا هو موجز عن سير الفقه عند الشيعة الإمامية وقد حان الحين لبيان مصادر الفقه وضوابطه عندهم.
مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية
بعد أن أخذ الفقه بكامله موقعه عند الإمامية، أعلن الفقهاء أن مصادر الفقه هي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وإليكم التفصيل:
1- الكتاب
ويراد به القرآن، وهو الحجة الأولى عندهم، وغيرها من الأدلة تعرض عليه حتى لا تخالفه. والبحث عن حجية الكتاب كغيره من الأدلة من أهم المباحث الأصولية ولاسيما بحث ظواهر ألفاظ الكتاب، وحمل متشابهه على محكمه، ورفع التعارض بينه وبين ماثبت من السنة. ثم قسم كبير من علم الأُصول يبحث عن مفاهيم ألفاظ وردت في الكتاب والسنة من الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمبين، والمفهوم والمنطوق. كما أن بحثا جاء في الأُصول حول الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة، ونسخ بعضهما ببعض.
وهناك بحث حول عدم تحريف الكتاب بعد ماشك فيه بعض الأخبارية استنادا إلى روايات ضعيفة، فرفضه الأصوليون بتاتا، وبينوا خطأهم، وضعّفوا وأبطلوا، أو أوّلوا ما تمسّكوا به لرأيهم، بحيث لم يبق مقال لقائل ولا مصال لصائل. وكثيرا مايسند هذا الخطأ إلى الإمامية جمعاء، و لايصّح ذلك إلا ماشذ عن هؤلاء الأخبارية قديما وقد انصرفوا عنه بعد ذلك والحمد لله تعالى. فظهر أن نص الكتاب عند الإمامية كغيرهم متواتر قطعي كاد أن يكون من الضروريات عندهم.
2- السنة:
والمراد بها سنة الرسول o وقد ألحق بها ماصح عن الأئمة b توضيح ذلك أن الكتاب والسنة هما الركنان المعتمد عليهما عند الإمامية كغيرهم من المسلمين، وقد جاء باب في كتاب الكافي بعنوان (الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ما من شيء من الحلال والحرام وجميع مايحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة)([9]). وأيضاً باب (الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب) ([10]). وفيهما روايات تصرح بأن الأئمةb كانوا يستندون في أقوالهم إلى الكتاب والسنة، وهذا لا كلام فيه عند الإمامية، وقد ألحقوا ما استند إلى الأئمة بالسنة من أجل ماثبت لديهم أنها حجة كسنة النبي، لروايات صحت عندهم من أشهرها حديث الثقلين المستفيض بل المتواتر عن طريق الفريقين، أن النبي صلى الله عليه وآله قال في غير موقف: (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي) وقد روي عن حوالي ستة وعشرين صحابيا([11]). وجمعت طرقه ومتونه مع اختلاف ألفاظها في رسالة باسم (حديث الثقلين) ونشرتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة قبل حوالي خمس وثلاثين سنة، وقد جدّدنا طبعها مع تذييل منا من قبل (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية).
فالشيعة الإمامية يعتقدون حجية ماصحّ عن واحد من أئمة آل البيت من الروايات والأقوال والفتاوي كمصدر للشريعة استنادا إلى هذا الحديث وغيره من الروايات. ومن هذا المنطلق وسّعوا في مفهوم السنة إلى سنة المعصوم لتشمل سنة النبي والإمام كليهما. كما أن أهل السنة ألحقوا آثار الصحابة بالسنة وعملوا بها بشروط عندهم.
ومعلوم أن الإمامية كغيرهم من فقهاء المذاهب لا يقبلون الحديث إلا بشروط وقد قسّموا الأحاديث إلى أقسام حسب ماجاء في (علم مصطلح الحديث) بتفاوت بينهم وبين الجمهور، فقد قسّموا الحديث إلى متواتر وغير متواتر، وغير المتواتر إلى خبر الواحد والمستفيض أو المشهور أو ماقطع بصحته بقرائن، وقسّموا خبر الواحد إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف. ولمعرفة رجال الحديث عندهم علم خاص وقد ألفوا فيه كتبا مطولة ومتوسطه وموجزة، سَمّوه (علم الرجال) كما سمّوا علم مصطلح الحديث (علم الحديث) أو (علم الدراية).
والبحث الذي استوعب قسما من علم الأُصول هو حجية خبر الواحد الذي ليس قطعيا – وأكثر الأحاديث عندهم من هذا القبيل – فاحتجوا لها بآيات من الكتاب وبما ثبت عندهم من السنة أو الإجماع – وقد طال البحث حوله نقضا وابراما، لما ثبت عند القدماء من الامامية (أن خبر الواحد لا يُجدي علما ولا عملا)أي لا اعتبار به لا في حقل العقيدة ولا في حقل الشريعة. وهناك بازاء ذلك رأي للأخبارية أن كل ما في الكتب الأربعة أي: (الكافي) للكليني (م 329هـ) و(من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق (م381هـ) و(تهذيب الأحكام) و(الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) كلاهما لابي جعفر الطوسي (380 – 460) فهو قطعي الصدور، ولم يثبت هذا عند الأصوليين، فلابد لهم من إقامة الحجة على اعتبار ماجاء فيها أو في غيرها من كتب الحديث من الأحاديث غير القطعية. وهذا ما أوقعهم في الحرج إذ ليس عندهم كتاب يسمى بـ(الصحيح) كما عند الجمهور، بل كل حديث في هذه الكتب الأربعة أو في غيرها قابل للنقاش لكي تثبت صحته. ثم هذه الروايات قسم كبير منها متعارضة في بدو النظر ، فلا تقبل إلا بعد رفع التعارض. وقد تصدّى أبو جعفر الطوسي في كتابه (تهذيب الاحكام) لبيان رفع التعارض بينها وهو أول كتاب روائي في هذا الباب، لكنه كان حاويا للأخبار الموافقة والمتعارضة كلتيهما فخصّ الطوسي الأخبار المتعارضة بكتاب سماه (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) تعرض فيه للجمع بين هذه الروايات بوجوه ذكرها في مقدمة هذا الكتاب. ومن هذا المنطلق فكتاب الاستبصار يحوي قسما من التهذيب فقط من دون زيادة عليه، وهو كتاب منتظم الأبواب خاص بالروايات المتعارضة، بخلاف تهذيب الأحكام الذي يعبر عنه الطوسي كثيرا بـ(الكتاب الكبير) فهو شرح لكتاب أستاذه الشيخ المفيد باسم (المقنعة) من غير انتظام ولا ترتيب أنيق وفيه أبواب للزيادات اللاتي ألحقها الطوسي بالكتاب ومكررّات من الأخبار أيضاً.
فقام في القرن الحادي عشر عالم باسم السيد هاشم البحراني (م1107هـ) بترتيبه في كتاب سماه (ترتيب التهذيب) طبع على الحجر. ونحن وإن لا نعتبر تلك الكتب الأربعة صحاحا بالمعنى المصطلح عند أهل السنة، إلا أنها من أهم كتب الحديث عند الإمامية وماجاء في غيرها من الأحاديث دون ما جاء فيها اعتبارا.
وقد كانت تلك الكتب مرجعا للفقهاء إلى أن دوّنت في القرن الحادي عشر ثلاثة كتب مطولات: وهي (وسائل الشيعة في أحكام الشريعة) لمحمد بن الحسن الحر العاملي (1032 – 1104) وعليه المعوّل في الفقه منذ تأليفه و(الوافي) لمحمد محسن الفيض الكاشاني (المتوفي 1091) و(بحار الأنوار) لمحمد باقر المجلسي (1027 –1111) فضمّت هذه الموسوعات الثلاث إلى تلك الكتب الأربعة، مع تفاوت بينها كما بين تلك الأربعة، فإن الكافي من بين الأربعة اختص بجمع الروايات في حقل العقيدة والشريعة، فيعتبر جامعا كصحيح البخاري ومسلم والترمذي عند الجمهور، والثلاثة الباقية خاصة بالسنن والأحكام. ومن بين الثلاث المتأخرة كتاب (الوسائل) أيضاً خاص بالسنن والأحكام، و(الوافي) جامع لأحاديث الكتب الأربعة فقط، فهو باعتبار اشتماله لروايات (الكافي) يعد جامعا، و(البحار) جمع روايات غير الكتب الأربعة في يعدّ جامعا أيضاً، إلا أن مصطلح (الجامع) و(السنن) الشايع عند أهل السنة ليس متداولا بين الإمامية. وباعتبار أن المشايخ أرباب الكتب الأربعة كان أسماءهم (محمدا) وكذلك أسامي مؤلّفي المجاميع الثلاث الأخيرة فاشتهروا بـ (المحمدون الثلاثة الأول) و(المحمدون الثلاثة الأخر).
وقد ضُمّت إليها في القرن الرابع عشر الهجري موسوعة باسم (مستدرك الوسائل) للشيخ ميرزا حسين النوري (م1320هـ) استدرك فيه مافات صاحب (الوسائل)، أو مالم يرد ذكره عمدا من الأخبار، وموسوعة أخرى باسم (جامع الأحاديث الفقهية) ألفت باشراف أستاذنا الإمام البروجردي رضوان الله عليه وبمباشرة جماعة ممن تتلمذ عليه – وكنت أنا من جملتهم – وقد جمع فيها كل مافي تلك المجاميع مما يرتبط بالأحكام ، مع الجمع والإدغام بين الأسانيد والمتون، وفي هذا الكتاب مزايا هي عون للفقيه على الإحاطة بأخبار كل باب والإفادة منها مما لا يوجد في غيره من كتب الحديث قبله.
أما بعد، فهذا عرض سريع للسنة عند الإمامية والتفصيل فيها يتطلب مجالا واسعا جدا.
3- الإجماع:
وقد كان الإجماع بشروط أحد مصادر الفقه عند الجمهور مستندا إلى حديث (لا تجتمع أمتي على خطأ) وإلى أدلة أخرى لم يثبت شيء منها عند الإمامية كدليل مقنع إلا أنهم اصطلحوا في القرن الرابع. على عد الإجماع من مصادر الفقه بمعنى آخر غير ماعند الجمهور، فالإجماع عند الجمهور عبارة عن اجتماع الأئمة أو فقهاء الأمة على حكم في عصر من العصور، أما الإمامية فلا يعتبرون الإجماع بنفسه دليلا إلا إذا بلغ مبلغ القطعيات والضروريات مثل أن صلاة الصبح ركعتان وكل من صلاتي الظهر والعصر أربع ركعات وهكذا، فهذا خارج عن الإجماع، ولا يحتاج الفقيه في مثله إلى إقامة الحجة عليه.
وإنّما الإجماع عندهم هو اجتماع جماعة يكون الإمام أحدهم على حكم من الأحكام. فمآل إجماعهم إلى السنة وليس دليلا برأسه، ولهم أبحاث كثيرة في أقسام الإجماع من المحصل والمنقول وفي كيفية كشفه عن قول الإمام المعصوم. وإن الإمامية حسب قاعدتهم في اعتبار الإجماع قد نصّوا على أنه لو اتفق اثنان أحدهم الإمام على حكم، واتفق جماعة غيرهما على مايخالفه، فالعبرة بالأول دون الثاني. وقد تمسكوا بالإجماع على حكم وعلى ضده من قبل فقيهين، بل من قبل فقيه واحد في كتابيه، ومن أجل ذلك لا يعد الإجماع عندهم إلا مؤيدا لغيره من الأدلة، إلا في قليل من المسائل.
وقد ألحقوا بالإجماع (الشهرة) فبعضهم يفتي بماهو المشهور عند فقهاء الإمامية ولا يتعداه. وقد بحثوا في علم الأُصول حول (الشهرة) وما أريد بها، هل هي شهرة فتوائية أو شهرة روائية، وكان أستاذنا البروجردي له رأي خاص في الشهرة، فكان يعتبر شهرة حكم من الأحكام عند أصحاب الأئمة العارفين بأحكامهم هي الحجة، ومن هنا كان رضي الله عنه يهتم بجمع الفتاوي المشهورة بين الإمامية في عصر الأئمة b، أو ما قارب عصرهم، وقد جمعت بأمره فتاوى ابن أپي عقيل العماني الذي كان يعيش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري، وكذلك فتاوى ابن جنيد الإسكافي (م 381هـ) المتقدم ذكره ويعبّر عنهما بـ (القديمين).
وكذلك ألحقوا بالإجماع (سيرة المسلمين) أو (سيرة المتشرعة) منهم بشروط. ونحن نعرف أن شيئا من ذلك كالإجماع ليس حجة دليلا، إلا بكشفها عن قول الإمام الذي هو الحجة عند الإمامية كما سبق.
4- الدليل العقلي:
ربما يظن من لا خبرة له بمصطلحات الإمامية أنهم يفتون بالعقل ويجعلونه دليلا من أدلة الأحكام، كالكتاب والسنة، وليس ذلك على إطلاقه، فإنهم إنـّما يلتجئون إلى ما استقل به العقل بعد الفحص واليأس عن الدليل: أي الكتاب والسنة والإجماع المعتبر، في ظروف الحيرة والشك في حكم من الأحكام الكلية أو الجزئية مثل الشك في أن (شرب التتن) حرام أو مباح، والشك في أن هذا المايع (خمر أو خل) فحينئذ يعوّلون إلى ما حكم به العقل من الوظيفة العملية لرفع الحيرة، وليس لاستنباط حكم شرعه الله في ذلك، إذ لا طريق إليه.
وقد قسّموا موارد الشك إلى أربعة أقسام:
أولا: ماله علم سابق، فجعلوه مجرى الاستصحاب، وهو دليل عند ساير الفقهاء أيضاً فيحكمون بما ثبت سابقا لموارد الشك، وله فروع وأقسام كثيرة عندهم واستوعب قسما كبيرا من علم الأُصول.
وثانيا: ماليس فيه علم سابق فله ثلاثة أحوال:
أحدها ما الشك فيه مقرون بالعلم الإجمالي مثل أن يعلم ان الصلاة الواجبة يوم الجمعة إما الظهر أو الجمعة ولم يعلمها بعينها، أو يعلم أن أحد الإنائين نجس ولم يعلمه بعينه فالحكم فيه عقلا الاحتياط، إذا كان الاحتياط ممكناً، لأن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يستدعي الامتثال اليقيني، ولا طريق إليه سوى الاحتياط فيأتي بالصلاتين معا، ويرفض اليد عن الإنائين معا، وصولا إلى امتثال المولى جل شأنه امتثالا قطعيا إجماليا.
ثانيها: نفس الفرض فيما لا يمكن الاحتياط فيه، فالحكم التخيير عقلا، كما إذا دار الأمر بين شيئين لا يمكن الجمع بينهما كالواجب والحرام.
ثالثها: ما ليس الشك فيه مقرونا بالعلم الإجمالي – ويعبّر عنه بالشك البدوي – كأن شك في وجوب عمل أو عدم وجوبه، أو في حرمة شيء أو إباحته، وليس لهما حالة معلومة سابقا، فالأصل فيه البرائة عقلا – وكذلك نقلا – عند الأصوليين، والاحتياط عند الأخباريين في الشبهات التحريمية خاصة، وهذا أحد موارد الخلاف بين الفريقين، وقد قسّموه إلى الشك في الوجوب، أو الحرمة وفي الحكم أو في الموضوع إلى غيرها مما جاء في الأُصول.
هذه هي الأُصول العملية الأربعة، الجارية في عامة أبواب الفقه. وهناك أصول أخرى خاصة ببعض الأبواب ولها أدلة خاصة: كأصل الطهارة، وأصل الحلية فيما شك في طهارته أو في حليته. كذلك هناك قواعد فقهية غير ماذكر جارية في موارد خاصة من الفقه، ويدور أمرها بين كونها من الأمارات أو من الأُصول مثل اليد وقاعدة الصحة وغيرهما.
ومن ذلك يعلم أن الدليل العقلي عند الإمامية، حقيقتها وظائف عملية عند الشك في الحكم أو في موضوع الحكم. هناك طور آخر من الدليل العقلي مبني على استقلال العقل بحسن أو بقبح بعض الأعمال كحسن العدل وقبح الظلم، ويتفرع عليه الحكم شرعا، لما ثبت عندهم من (أن كلما حكم به العقل حكم به الشرع) وكذلك (كلـّما حكم به الشرع حكم به العقل). وعند الإمامية في الدليل العقلي كلام طويل في علم الأُصول، ويكفي الطالب بحث (المستقلات العقلية والدليل العقلي) في كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر رحمه الله تعالى.
ويجب التنبيه على أن عمدة المباحث الأصولية مشتركة بين الإمامية وأهل السنة، وإنّما الفارق بينهما أمران:
الأول: الترتيب في الذكر، فإن أهل السنة يبدؤن علم الأُصول بالأَحكام وأقسامها التكليفية والوضعية ثم يبحثون عن أدلة الأحكام من الكتاب والسنة، والإجماع ، والقياس وما ألحق به من الاستحسان والمصالح المرسلة وغيرهما. ثم يطرحون مباحث الألفاظ ثم مقاصد الشريعة ولها دخل مستقيم في القياس وما ألحق به.
أما الإمامية فيبدؤن بمباحث الألفاظ، ثم حجية الأدلة واحدا بعد واحد، ثم الأُصول العملية وما ألحق بها من الأُصول والقواعد ويختمون بباب التعارض والتراجيح ومباحث الاجتهاد والتقليد. وفي خلال مباحث الألفاظ وغيرها أبحاث في الملازمات العقلية، كمقدمة الواجب والأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده ام لا؟ واجتماع الأمر والنهي وغيرها. كما أن لهم بحث مستوفي في خلال باب التعارض يعبّرون عنه بالتزاحم فيما إذا تزاحم أمران، في مقام العمل – وهو بحث عقلي أيضاً – مثل أن يبتلي المكلف في وقت واحد بأداء الصلاة وانقاذ الغريق، ولا يتـّسع الوقت لهما معا، فعند ذلك العقل يحكم بتقديم الأهم على المهم، ومالا قضاء فيه على مافيه القضاء، فيجب انقاذ الغريق وإن فات وقت الصلاة. وهذا باب من الأُصول فيه حل لكثير من المستجدات والنوازل.
الثاني: التمييز بين الأمارات والأصول، وبين الأحكام الظاهرية والواقعية، وأيضاً بين الأحكام الأولية والثانوية والأحكام الولائية وتوضيحها: أن مايتمسّكون به من الأدلة عند استنباط الأحكام يسمونها أمارة لكونها طريقا إلى الأحكام، وما يلتجئون إليه عند الشك في حكم من الأحكام، كالاستصحاب، والبرائة، والاحتياط والتخيير، مما يحكم به العقل غالبا – وبعض منها دل عليه النقل أيضاً – يسمونها الأصل ومجموعها (الأُصول العملية) - كما سبق – من أجل أن مؤداها وظائف عملية فحسب، وليست طرقا إلى ما شرّعه الله في نفس الأمر. وقد يعبّر عن الأمارات بـ(الأدلة الفقاهتية) وعن الأُصول بـ(الأدلة الاجتهادية).
ثم مؤدّى الأمارات إن طابق الواقع الذي شرعه الله، فهي الأحكام الواقعية، وإن خالف الواقع لخطإ حدث في الاجتهاد، فهي أحكام ظاهرية يجب العمل بها على المجتهد وعلى من يقلده، وهي مجزية عند الله مادام لم ينكشف الخطأ. وعند الأصوليين بحث مبسوط في كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، ومن هذا المنطلق نشأ رأي لأحد كبار الأصوليين في القرن الرابع عشر، إلا وهو الشيخ ملا محمّد كاظم الخراساني (م1329هـ) وهو صاحب كتاب (كفاية الأُصول) أهم كتب الأُصول الدراسية لحد الآن، وهو محور المحاضرات الأصولية المعبّر عنها بـ (البحث الخارج) - رأي خاص في تربيع الأحكام بحسب نشأتها عقلا فرتبها إلى (الحكم الاقتضائي) - وهو الملاكات التي روعيت في إنشاء الأحكام، ثم الحكم الإنشائي الذي هو مجرد إنشاء من دون تحديد حدوده وتقييد قيوده ثم الحكم الواقعي المشروط والمعلق، ثم الحكم الواقعي المطلق، فحصر الأحكام الواقعية فيما بلغ المكلّفين وقامت لديهم الأدلة عليه من دون خطأ في الاستنباط، وأما مالم يصل إلى هذه المرحلة فهو حكم إنشائي أو حكم واقعي مشروط.
والحق أن علم الأُصول عند الإمامية، في القرنين الأخيرين اخذ طابعا فلسفيا، فكثير من مسائلها اختلطت بالفلسفة، فلا يفهمها من لا يعرف الفلسفة الإسلامية، وقسم آخر منها من فرط غموضه هو بنفسه نوع من الفلسفة. وقد سرى ذلك إلى كثير من المسائل الفقهية الفرعية. فلها لون فلسفي أيضاً.
وأما تثليث الأحكام إلى الأولية، والثانوية، والولائية، فقد نشأ من ملاحظة أن الأحكام التي شرّعها الله لموضوعاتها من دون عروض حالة خاصة عليها، كوجوب الصلاة والصوم وغيرها من الواجبات، وكحرمة الخمر ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمّات، هي الأحكام الأولية باعتبار تشريعها اولا، فإذا عرض ماغيّر الأحكام الأولية من الضرورات والأضرار ونحوها مثل الاضطرار إلى أكل لحم الميتة، أو شرب الخمر لرفع العطش أو للتداوي إذا انحصر الأمر فيه، وما شابه ذلك، فالحكم العارض بحسب الحالة العارضة هو حكم ثانوي لا يعارض الحكم الواقعي الأولي، لأنه ليس في عرضه وإنّما هو في طوله، لأنه إنما جاء بعد تبدّل الموضوع بطروّ الحالة العارضة، وهو باق إلى أن تزول تلك الحالة العارضة. والفقهاء يرفعون التضاد والتناقض بين كثير من الأحكام من هذا الطريق، ومنها رفع التضاد بين الأَحكام الواقعية والظاهرية كما مر.
ومن هذا المنطلق يدخلون في علاج التعارض بين الأدلة والأصول، فوضعوا مصطلحات: التخصيص – وهو مصطلح عام – والتخصّص، والحكومة والورود، فإن الأدلة والأصول المتعارضة ليست على طراز واحد بل على أشكال متفاوتة في نسبة بعضها إلى بعض، وأعتقد أن أعمق المسائل الأصولية، وأشدّها غموضا هو معرفة إجراء هذه المصطلحات في مجاريها المقرّرة وعدم الخطأ فيها.
وأما الأحكام الولائية فهي مايحكم بها الإمام القائد العام، المعبر عنه بـ(ولي أمر المسلمين) وهو ما اصطلح عليه المسلمون عموما، مع فارق بينهم في المصاديق، فعند الجمهور كل من تصدّى للحكم واتـّفق عليه الناس فهو ولي الأمر، بشروط عند بعضهم، وعند أتباع آل البيت هذا المنصب خاص بأشخاص معيّنين من آل البيت، وهم الأئمة الإثني عشر، ثم من ينوب عنهم من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط. وهذه الأحكام كثير منها من قبيل الأحكام الثانوية حيث عرضت عارضة توجب تغيير الأحكام الأولية، وقسم كبير منها مفوّض إلى وليّ الأمر بما يراه من المصالح العامة للمسلمين فيحكم ويصدر لما لا حكم له فيه من المباحات (ويعبّر عنها العلّامة الشهيد السيد محمّد باقر الصدر w بمنطقة الفراغ حكما جديدا لا يوجد فيما شرعه الله. وهذا ما اشتهر بـ(ولاية الفقيه) التي كان الإمام الخميني v يعوّل عليها كثيرا في أحكامه وآراءه، وكان يقول إن هذه الولاية في نفسها من الأحكام الأولية، لكن مايحكم به الولي الفقيه استنادا إلى هذه الولاية هي من الأحكام الثانوية، أو كما شاع التعبير عنها من (الأحكام الولائية).
وفي ذيل باب التعارض – كما سبق – باب بعنوان (التزاحم) وهذا يرجع إلى ملاحظة المصالح وملاكات الأحكام والترجيح بينها، وترجيح الأهم على المهم، وهذا المبحث مصيره إلى بحث (مقاصد الشريعة) وإلى استنباط وجه الشبه في الأقيسة والأشباه والنظائر ونحوها عند الجمهور. والولي الفقيه له مجال واسع في الإفادة من جميع ذلك. وهذه هي نقطة اتصال الاجتهاد عند الفريقين وللمشاركة الفعالة والجهود المماثلة بين فقهاء الفريقين في هذه وفي غيرها من طرق الاجتهاد ومسائل الفقه مجال واسع سوف يكون فيه حل لكثير من المسائل الفقهية، ولاسيما في صعيد الحكم والسياسة والاقتصاد والصحة والصناعة وغيرها بإذن الله تعالى.
وكذلك فيه تعايش فقهي بين أئمة المذاهب الإسلامية وخير كثير للمسلمين. والتعايش العلمي والتعاون الثقافي من أهم طرق التقريب بين المذاهب، وربما يكاد يعتبر سببا وحيدا للوحدة الإسلامية المنشودة من قبل المصلحين من علماء الأمة في القرن العشرين، وأخصّ بالذكر تلك النخبة من العلماء الكبار الذين قاموا بتأسيس (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) بالقاهرة منذ الخمسينات، فبذلوا جهودا مشكورة في سبيل إٍرساء قواعد التقريب بين الآراء في مجال المسائل الفقهية المختلف فيها، (ولله الأمر من قبل ومن بعد).
ضوابط الاجتهاد عند الإمامية
بعدما مرت علينا من الأپحاث، لايكاد يخفى على أحد أن الاجتهاد يتطلب شروطا وأسبابا يجب اجتماعها عند المجتهد – نذكرها بإيجاز:
الأول: معرفة جملة من العلوم: كالعلوم الأدبية من اللغة والصرف والنحو والاشتقاق والبلاغة ونحوها وكالعلوم القرآنية وخاصة التفسير عموما وتفسير آيات الأحكام خصوصا، وكثير من الباحثين حصروه في معرفة آيات الأحكام، والصواب التعميم لكل آيات القرآن، لأن في معرفتها بصيرة بالأحكام الإلهية وبسرّ التشريع، ثم بما شرعه الله تعالى للأمم الغابرة.
وأيضاً معرفة السيرة النبوية – وغفلوا عنها غالبا – والسنة النبوية والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت بعد تمحيصها وتوثيقها سندا ومتنا، وكان لأستاذنا الإمام البروجردي رأي خاص في وجوب الرجوع إلى روايات الجمهور وأقوالهم وفتاويهم الشايعة في عصر أئمة أهل البيت، لأن كثيراً من أقوالهم وآراءهم ناظرة إلى ماشاع بين المسلمين من الفتاوي والأحكام في عصرهم، كما أن جملة من السائلين عنهم كانوا من فقهاء أهل السنة، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمامية، أو بقوا على مذهبهم ورووا روايات أهل البيت وجمعوها في كتاب وهم جملة من أصحابهم. فهؤلاء السائلون والرواة آنست نفوسهم بما شاع عند الآخرين فرجعوا إلى أهل البيت ليعرفوا موقفهم أمام الآخرين – فكان الأستاذ يقول: إن فهم كثير من أقوال الأئمة مبني على معرفة تلك الآراء، ومن هذا المنطلق كان يؤكد على أصحابه معرفة المسائل الخلافية في صعيد الفقه ومعرفة مادارت على المسائل من الأحوال عند المذاهب الفقهية، وكان يكرر أن قدماء أصحابنا كانوا حافظين لمسائل الخلاف عن ظهر القلب.
وكذلك يشترط معرفة علم مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وتاريخ القضاء والفقه بل وشيء كثير من التاريخ السياسي وسيرة الخلفاء والحكام، ودورهم في إصدار الفتاوى من قبل القضاة ورجال الفتوى، بل تاريخ نشأة المذاهب الفقهية على العموم.
وأيضاً معرفة الفقه والفقهاء البارزين في المذهب، ومعرفة علم الأُصول تفصيلا، وعلم الكلام ومباحث من الفلسفة وعلم المنطق والنجوم والأوزان، والنقود ونحو ذلك مما يحتاج إليه الفقيه في بعض الأحيان.
وأيضاً معرفة الأعراف والعادات، فان للعرف دخلا كبيرا في تشخيص الحاجات ومعرفة الحوادث، ومعرفة متطلبات الأعصار ولاسيما في هذا الزمان بالذات. ومن ذلك يعلم أن الاجتهاد قد تعددت أسبابه ومقدماته مما لا يحيط بها عادة مجتهد واحد، ومن أجل ذلك اقترح بعض الباحثين تنويع الاجتهاد وإيكال كل نوع إلى من اختص به، أو إيكال قسم من المسائل النوازل والمستحدثة إلى لجنة فتوائية جمعت بين أحضانها الأخصائيين في كل نوع من أنواع الفقه من الفقهاء، بل وغير الفقهاء من الخبراء في مايحتاج إليه من العلوم الحديثة، والفنون المستجدة، والمفاهيم الجديدة.
الثاني: يرى كثير من الفقهاء الكبار شرط الاجتهاد في جميع هذه العلوم ولا يكفي التقليد فيها، وهذا الشرط في معرفة الكتاب والسنة وضوابط الاستنباط وعلم الأُصول ونحوها كاد أن يكون مجمعا عليه، فلو أفتى المجتهد بشيء اتكالا على فهم غيره من الكتاب والسنة، أو توثيق غيره للخبر، أو رأي غيره في قاعدة أصولية من دون اجتهاده هو فيها، فهذا نوع من التقليد، أو قل: هو اجتهاد في نطاق المذهب، وليس اجتهادا مطلقا، وفي أقسام الاجتهاد كلام كثير عند الفقهاء من جميع المذاهب.
الثالث: العقل السليم، وحسن التشخيص واستقامة الرأي، والحذاقة التامة التي لا تحصل إلا بالممارسة الدائبة، واستفراغ الوسع ليل نهار ونحوها مما يجب حصوله في جميع العلوم والصناعات. وبعض فقهاء الإمامية زادوا شرطا آخر ربما يرجع إلى بعض ماذكر، وهو أن يملك المجتهد قوة قدسية، وذوقاً فقهيا وشما تشريعيا وهي مما يهبها الله تعالى لأهل التقوى والهداية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام..)(الانعام/125) وتتطلب جهادا كبيرا، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت/69).
الرابع: الإخلاص والتقوي والتعهد والالتزام بما شرعه الله، والتحفظ والتماسك عن التساهل في الفتوى، والاجتناب عن الأهواء والآراء وعن التأثر بما يبدعه المبدعون في كل عصر ولاسيما في هذا العصر الذي غلبت فيه الأهواء والآراء القيم والمكارم، وينادى فيه بالحداثة، والعلمنة حتى في نطاق الأحكام الشرعية، أما العلمنة في نطاق السياسة وفصلها عن الدين فأمر واقع – مع الأسف – في أكثر البلاد الإسلامية تبعا للغر ب وقد نجح فيها أصحابها منذ زمن بعيد، فغرّبوا أو شرّقوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
الخامس: رعاية الترتيب بين الأدلة حسب ما أومأنا إليه، فلا يقدّم ماحقه التأخير، ولا يؤخّر ماحقه التقديم، وهذا يرجع إلى الحذاقة التامة والخبرة الكاملة في الاستنباط والتفقه بكل معنى الكلمة. وكذلك عرض بعض الأدلة على بعض ولاسيما عرض السنة على الكتاب، وهو موضع اتفاق عند أولي الالباب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.
([1] ). التاج، كتاب الإمارة والقضاء، الفصل الخامس في الاجتهاد نقلاً عن الترمذي وأبي داود.
([2] ). ط قم ج 10: 37.
([3] ). لاحظ تاريخ بغداد ترجمة الإمام أپي حنيفة.
([4] ). رجال النجاشي: ترجمة أبان بن تغلب.
([5] ). الكافي للكليني، ط طهران، ج 30: 39.
([6] ). حاشية فهرست الطوسي ص 161 نقلا عن (الشيخ عبد اللطيف في رجاله).
([7] ). الوسائل، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب صفات القاضي: الرواية 51.
([8] ). نفس المصدر: الرواية 52 .
([9] ). اصول الكافي، ط لبنان، ج 10: 110.
([10] ). نفس المرجع: 121.
([11] ). لاحظ كتاب جامع الاحاديث الفقهية، ج10: باب حجية فتاوي وروايات أئمة أهل البيت b.