أهداف الحكومة الإسلامية
أهداف الحكومة الإسلامية
حميد معله ـ قم
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: ضرورة الحكومة للتجمع البشري
تكاد تجمع الدراسات التاريخية على أن الحكومة والدولة كظاهرة تاريخية وسياسية، هي ظاهرة متأخرة على الوجود الإنساني، إذ لم تكن لتوجد في الأيام الأولي من عمر الإنسان، ولا في حياة المجتمعات البدائية ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(1).
بيد ان هذه المجتمعات ما ان وصلت إلى درجة معينة من الاجتماع وتطور الحاجات وتفاوت القابليات الذهنية وتداخلها ـ المؤدية بطبيعتها إلى تعدد المصالح واختلاف الرؤى ـ حتى لم يعد بإمكانها الاستمرار بالاعتماد على العفوية والتلقائية.
التي كانت سائدة فيها لتنظيم شؤونها الاجتماعية وترتيب علاقاتها الإنتاجية والحقوقية، فظهرت الحاجة إلى وجود الحكومة والدولة بما تنطوي عليه من قوانين محددة وضوابط مشخصة تعمل على تسيير وتيسير الحركة الاجتماعية وحل اختلافاتها.
___________________________
1 ـ سورة يونس: 19.
ـ(470)ـ
ثم ان هذه الظاهرة(الحكومة والدولة) بدا يتعمق وجودها وتزداد الحاجة إليها كلما اتسعت هذه المجتمعات وتعددت مطاليبها حتى عدّت الدولة حاجة طبيعية وضرورية تقتضيها الفطرة وتحث على وجودها الحركة الاجتماعية.
يقول أرسطو:(ان الدولة من عمل الطبع، وان الإنسان بالطبع كائن اجتماعي، وان الذي يبقى متوحشاً ـ بحكم النظام لا بحكم المصادقة. هو على التحقيق إنسان ساقط، أو إنسان أسمى من النوع الإنساني)(1).
وقد تزامنت ظاهرة الدولة الصالحة(أي مهمة حل الاختلافات والتعقيدات البشرية المستجدة وفق معايير العدل والأنصاف عوضاً عن الأعراف والتوافقات البسيطة) مع ظاهرة النبوة زمنيا وسببيا. فكان الأنبياء عليهم السلام هم أول من سعوا إلى إرساء قواعد حكومة «القسط» من أجل الاحتكام أيها والى معاييرها الربانية في حل الاختلافات الحاصلة في المجتمع.
ان مرحلة ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ تكن لتستبطن خلافات سياسية أو عقائدية أو اقتصادية أو اجتماعية حادة، وبمستوى يهدد وحدة الأمة ويقلق أمنها ونسيجها الاجتماعي، وإنّما ابتدأ الاختلاف ﴿فَاخْتَلَفُواْ﴾ حينما شهد المجتمع تطورات نوعية في الفكر، وفي الانفتاح على استثمار الطبيعة، فكان من نتائج ذلك إيجاد التفوق والسيادة كمعطى للتطور الفكرية وإيجاد الوفرة الاقتصادية كمعطى لاستثمار الطبيعة، الأمر الذي أدى إلى الاختلاف وتشابك المصالح، وقد اقتضى نزوع(التفوق) إلى التسلط والاستعلاء، ضرورة التربية والتهذيب لمنع التجاوز والعدوان، بينما اقتضى نزوع (الوفرة) إلى الاستئثار والاستثمار غير المشروع، ضرورة التوزيع العادل، وتنظيم
___________________________
1 ـ السياسة ـ ترجمة احمد لطفي ـ ص 96.
ـ(471)ـ
العلائق الاجتماعية والاقتصادية.
وقد انصبت مهمة الأنبياء عليهم السلام ابتداء على أيجاد نوعين من الروادع:
ألف: رادع داخلي: وهو محاسبة الضمير والوجدان.
ب: رادع خارجي: وهو متابعة الدولة وأجهزتها القضائية والتنفيذية.
مع التأكيد التام على وجود الرقابة والمحاسبة الإلهية الكبرى التي لا تضل ولا تخطأ ولم تكن مهمة الأنبياء عليه السلام لتحقيق ذلك مهمة سهلة، وإنّما خاضوا بسببها ولا جلها، صراعات دامية مع المستكبرين والمترفين، وكل من كان يسوؤه سيادة العدل وانتشار القضيلة ودرء الاختلاف، فكان من نتائج ذلك، قتل الأنبياء تارة، ونفيهم وتعذيبهم تارة أخرى، وتعرضهم للهزء والسخرية والتنكيل تارة ثالثة.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾(1).
وفي خضم هذا الصراع لم يعد ممكناً الفصل بين وظيفة الأنبياء عليهم السلام، المتمثلة بهداية الإنسان إلى طريق الله تعالى وتهذي نفسه وربطه بالمطلق، وبين عملهم في تنسيق وتنظيم حركة المجتمع الإنساني، بما فيها الحاجات والعائق ـ أي تشكيل الدولة ـ وتوجيهها بما يتوافق ويحقق الشروط الموضوعية والنفسية لذلك الهدف، حتى عدت المهمتان مهمة واحدة، وهو الواقع.
والخلاصة التي يمكن ان نخرج بها هي ان الدولة والحكومة ظاهرة اجتماعية وتاريخية، وإنها ضرورية لكل تجمع بشري ولا يمكن لأي اجتماع ان يقوم إلا بها، وان الحكومة الصالحة هي ظاهر إلهية مؤطرة بالأحكام الشرعية تأسست على يد الأنبياء وأريد لها ان تحقق للإنسان سعادته في دنياه وأخرته.
___________________________
1 ـ سورة سبأ: 34.
ـ(472)ـ
ثانيا: مشروع الحكومة الإسلامية
بين الرفض والقبول
من المسائل التي تطرح نفسها بقوة هذه الأيام، على الوعي في المجتمع الإسلامي هي: هل هناك من ضرورة لتشكيل الحكومة الإسلامية؟ وهل من الضروري إقامة النظام السياسي على مبادئ الدين وقواعده؟ وكحالة وسطية إلا يمكن التوفيق بين القيم الإسلامية والقيم الحديثة، والمصالحة بينهما دون إعلان الثورة على أي منهما؟ إزاء هذه الأسئلة وأمثالها هناك فريقان أساسيان:
الفريق الأول:
ينفي إمكانية قيام حكومة إسلامية، بل ويرفض قيام مثل هذه الحكومة حتى لو توفرت إمكانيتها انطلاقاً من استنتاج قديم مفاده ان بناء الدولة الحديثة، واللحاق بالحضارة الغربية، ليس ممكناً في إطار التمسك بالمرجعية الدينية، وان الدين قيم ومثل لا تصلح لقيادة المجتمعات العصرية ـ وفي اقل الفروض تساهلاً ـ هو مبادئ لتنظيم علاقة العبد بربه فقط دون الامتداد إلى غيرها من المجالات.
ويضيف هؤلاء ان تشكيل الدولة على أساس الدين فيما لو تم فانه يعني إلغاء الديمقراطية، والتبادل السلمي للسلطة، ويعني عودة الاستبداد والتعسف السلطاني، والانحدار نحو التطرف الديني الذي يتجاوز حدود الدين نحو السياسة، أو يقدس الأخيرة ليضعها في مصاف الحقائق الدينية المقدسة، وبعبارة مختصرة يعتبر هذا الفريق إقامة الحكومة على أساس الدين، عودة إلى الماضوية وغرقا في الأصولية تجسيدا للإرهاب.
أما الفريق الثاني:
فيرى ان قسماً مما يعيبهم به الخصوم إنّما هو اجتزاء للحقائق التاريخية، واجتراء على الأمانة العلمية والموضوعية، بينما لا يشكل القسم الآخر إلا تأكيد حق شرعي في
ـ(473)ـ
الهوية والاستقلالات الثقافية. مؤكدين ان أحياء التراث الذي تقوم به الحركات الإسلامية الداعية إلى تشكيل الحكومة الإلهية، والمد الجماهيري الذي تحصل عليه، إنّما يعبران عن إرادة التحرر الذاتية للمجتمعات الإسلامية بعد حقبة طويلة من الضياع والاغتراب في زحمة العقائد والقيم الغربية الوافدة، أما ازدياد المطالبة الشعبية بالعودة إلى الأصول ودعمها للصحوة الإسلامية فهو استفتاء جماهيري حر على قبول هذه العودة والتفاني من أجلها مضيفين بان ما يثار على مشروع الحكومة الإسلامية،(وهو ما زال في طور الفرض) غير ذي قيمة، خاصة وان أداء العلمانية لا يدعم اعتراضاتها. ويضيف هذا الفريق أيضا ان عودة الأمة إلى المنابع الأصلية لتراثها(الماضوية كما يسميها الخصوم) هو مقدمة لتحقيق ما عجزت الأمة الإسلامية عن تحقيقه منذ نشأتها ـ باستثناء حقبة الخلافة الراشدة القصيرة ـ من سلطة إلهية تستلهم تعاليم الدين، وتستمد سيادتها وشرعيتها من أوامر الله وشرعه.
صراع الفريقين والنتائج الحاسمة
ان الحديث عن تشكيل الحكومة الإسلامية مرتبط في أذهان الناس بالتأكيد على نموذج معين للشرعية، وبالتالي على نموذج معين لممارسة السلطة.
فالحديث عن الشرعية الدينية يجر رأساً لنموذج الخلافة، والخلافة العثمانية بالخصوص باعتبارها أقرب المراحل التاريخية للذهن المعاصر دون التمييز بين دور هذه الخلافة وطبيعتها، وبين دور الخلافة في طورها الأول(الراشدة) أو ما هو أبعد منها أي طبيعة الحكومة وشرعيتها في الفترة النبوية الشريفة.
ومن إيحاء هذا الارتباط تتغذى مخاوف الفريق الأول من الخلافة والسلطنة وما تنطوي عليه من استبداد وتكريس للفردانية وغياب الدستورية.. الخ في وقت لا يعير هذا الفريق مخاوف الفريق الثاني أهمية تذكر ولا يسمح بتعقلها، كالمخاوف المتمثلة
ـ(474)ـ
بخطورة التماهي مع القيم الوافدة وما تؤدي إليه من استلاب وفقدان الهوية والأصالة، مع ان الوقائع التاريخية اللاحقة أثبتت بما لا يقبل الجدل جدية هذه المخاوف، وآثارها المرعبة في حياة الجماعة المسلمة. بل الملاحظ ان الفريق الأول ظل يلوك خطاب من سبقوه المشحون بالتهم والتجني دون ان يكلف نفسه قراءة التجربة واستخلاص العبر منها.
لقد وجدنا ومنذ عام 1914 م ـ وهو عام سقوط الدولة الإسلامية العثمانية ـ ولحد الآن، ان الفريق الذي يتوجس خيفة من استبداد الخليفة السلطاني قد أوقع الأمة في استبداد افضع، وهو استبداد(النخبة)، ثم أخضعها بعد ذلك إلى تعسف الديكتاتوري الذي يطل على جنح دبابة في ليل مظلم ليستولي على مقاليد البلاد والعباد، ثم أدخلها في عسف الحزب الواحد، وجور العشيرة المتخلّفة وأخيراً في فرعونية الفرد الواحد وأسرته. أولئك الذين لم ينجحوا لا في الحفاظ على الوطن الصغير ولا كسب الوطن الأكبر.
وخلال ثمانين عاما، لم يحص الوعي الشعبي وهو يراقب التجربة بخوف وحذر، سوى المزيد من الخسائر والانكسارات والهزائم المنكرة على جميع الأصعدة والمستويات، حتى أصبح جديرا ان نقول: ان من حق اتباع الفريق - الأول فضلاً عن غيرهم- ان يتمردوا على نخبهم وخلفائهم الديكتاتوريين، لأنهم قدموا أداء مشينا أكثر سوءاً من أداء النموذج الذي تخوفوا منه، فقد كان النموذج السلطاني مستبداً حقا لكنه كان - وعلى الأقل - محترما من قبل أعدائه، وكان متخلفاً في أدائه ومعالجاته، إلا أنه كان متشددا في حقوق بلاده فلم يبع فلسطين ولم يساوم على الجزائر أو المغرب العربي.. الخ ومن حق الفريق الثاني ان تتعمق مخاوفه وتزداد مراراتها سواء من العدو الأكبر(الاستكبار والإمبريالية) أو من السلاطين الجدد الذين أضاعوا الهوية ولم يكسبوا الحداثة، وضحّوا بالوحدة ولم يكسبوا القطرية
ـ(475)ـ
ولو كان هناك ما يبرر توقف الصراع وتجميد المخاوف بالنسبة للفريق الثاني خلال الفترة ما بين وما بعد الحربين العالميتين لأسباب عديدة فإن الزمن اللاحق قد أسقط تلك الأسباب وكشف حقيقة المخاوف أو زيفها لكلا الفريقين، ورجّ الوعي المتردد بما أخرجه من قوقعة الانتظار ودفع به وبالأمة إلى حالات التوثب والجهاد كيما تلج الأمة وطلائعها أزمتها الكبرى بكل وضوح، وبكل اقتدار، ودون ملابسات أو تبريرات.
ان المرحلة التي مرت على المسلمين وبرغم قساوتها كانت مرحلة ضرورية لانفتاح الوعي، إذ ما كان للوعي الشعبي الإسلامي ان يقفز قفزته الهائلة هذه ما لم يمر بها ويتجرّع مرارتها، لكن الاستمرار في صياغة المخاوف القديمة بأطر جديدة، إنّما هو استمرار للازمة وتكريس للمحنة وليس حلالها. وإذا كان الفريق الأول لا يمتلك دليلاً على عدم ضرورة قيام الحكومة الإسلامية سوى مخاوفه، وسوى ترديد المثلث المعروف(رجعية، أصولية، إرهاب) فان الفريق الثاني لا يعتقد فقط ان الحكومة الإسلامية تشكل الإجابة والمنطلق لازمته الحاضرة، وإنّما يعتقد إضافة إلى ذلك بوجوب وشرعية العمل على إيجاد مثل هذه الحكومة.
ثالثا: الحكومة الإسلامية
الأدلة والمخاوف المفترضة
كما ذكرنا ان مشروع الحكومة الإسلامية، لا يشكل عند الداعين إليه مشروع إنقاذ واسترداد هوية فحسب، وإنّما يمثل أمانة ثقيلة يجب أداؤها، ومسؤولية عظيمة ينبغي تحملها.
والأدلة العقلية والنقلية كثيرة على ضرورة الحكم بما أنزل الله تعالى وإعلاء كلمته وتطبيق شرعه وإصلاح أرضه.
ـ(476)ـ
وسنكتفي هنا بإيراد دليلين هامين وهما:
ـ دليل السيرة النبوية.
ـ دليل الأحكام الشرعية.
ألف ـ السيرة النبوية دالة على ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية
لقد أقدم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بمجرد نزوله المدينة المنورة على تأسيس الدولة بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ومارس كل ما هو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأخرى، وتنظيم الشؤون الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، مما يتطلبه أي مجتمع منظم ذا طابع قانوني، وصفة رسمية، وصيغة سياسية، واتخاذ مركز للقضاء والإدارة ـ المسجد ـ ووضع الرواتب وتعيين مسؤوليات إدارية وتوجيه رسائل إلى الملوك والأمراء في الجزيرة العربية وخارجها، وتسيير الجيوش والسرايا.. الخ وبذلك يكون الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم أول مؤسس للدولة الإسلامية... وان من يراجع التاريخ النبوي يلاحظ بجلاء ان النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم كان منذ بداية بعثته الشريفة وحياته الرسالية يصدد تأسيس الحكومة وإقامة الدولة(1).(ولكم في رسول الله أسوة حسنة).
ب ـ القوانين الإسلامية وحاجتها إلى القوة التنفيذية.
ان دين الإسلام ليس منحصراً في الأعمال العبادية والآداب والمراسم الشخصية فحسب وإنّما هو نظام واسع وشامل لجميع ما يحتاجه الإنسان ويواجهه في معاشه ومعاده، ومن بدء تكوينه إلى آخر مراحل حياته، هذا ما يجمع عليه فقهاء وعلماء المسلمين جميعاً، ومع ملاحظة القوانين الإسلامية في مختلف المجالات الحقوقية والاجتماعية والمالية يتأكد بأن طبيعة هذه القوانين وطريقة تنفيذها تقتضي وجود
___________________________
1 ـ جعفر السبحاني ـ مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الإسلامية ج 2 ص 16.
ـ(477)ـ
الدولة، وتدل على ان مشرعها افترض وجود حاكم عادل شجاع يقوم بتنفيذها.(وإذا كنا نعتقد ان الأحكام التي تخص إقامة الحكومة الإسلامية مازالت قائمة، وان الشريعة ترفض الفوضى كان لزاماً علينا تشكيل الحكومة، والعقل هو الآخر يحكم بضرورة ذلك.. وكذلك يدعو الإسلام إلى أنصاف المظلوم واستخلاص حقه، وردع الظالم، وكل ذلك بحاجة إلى أجهزة قوية)(1).
ان الإسلام لا ينحصر في التقنين والتشريع فقط من دون الالتفات إلى القوة المنفذة وشرائطها، بل شرعت أحكامه ومقرراته على أساس الحكومة الصالحة العادلة التي تقدر على أجراء المقررات وتنفيذها، فاشتبك فيه التقنين والتنفيذ معا، وكانت الحكومة الصالحة المنفذة للقوانين من أهم برامجه وداخلة في نسجه ونظامه، بنحو يوجب تعطيل الحكومة تعطيل الأحكام وإهمالها(2).
ان الاعتقاد بالتوحيد ووجود الله تعالى يعني الاعتقاد بالحياة النوعية الاجتماعية للإنسان. فأصل الاعتقاد بالله وبالأنبياء عليهم السلام يقتضي ان ينتخب الإنسان شكل حياته بإرشاد من الأنبياء... علينا ان نعمل للقضاء على الأفكار التي تقول ان الإسلام لا يدعو المسلمين لإقامة حكومة إسلامية، لأن لك شعب يؤمن بالإسلام عليه ان يطالب بحكومة إسلامية، ولا يمكن ان نتصور أناسا يؤمنون بالإسلام دون ان يؤمنوا بالحكومة الإسلامية... ان عدم الاعتقاد بالحكومة الإسلامية كارثة كبيرة قائمة في العالم الإسلامي.. وعلى العالم الإسلامي ـ اليوم ـ ان يعرف ما هي الحكومة الإسلامية؟ وإذا لم يعرف ذلك فمن المحتمل ان تترك الادعاءات الباطلة لأعداء
___________________________
1 ـ الولاية والحكومة في كلام سماحة الإمام الخميني (قدس سره) حديث الشمس ص 65 وللاستزادة يراجع كتاب (الحكومة الإسلامية) لسماحة الإمام قدس سره.
2 ـ دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية ـ آية الله العظمى الشيخ المنتظري ج 1 ص 162.
ـ(478)ـ
الإسلام تأثيرها في هذا المجال»(1).
وأما الخوض في تحليل النصوص الشرعية ودلالاتها الإلزامية على أهمية وجود الحاكم الشرعي والإمام وتنفيذ الحدود فهي من الكثرة ما تجعل البحث يخرج من طوره فيما لو تتبعها. ومن أراد المزيد فليراجع في محله.
المخاوف المحتملة
قد يقال إننا كمسلمين لسنا بصدد الأدلة والبراهين التي تثبت لنا صلاحية وشمولية وقدرة عقيدتنا وأحكامها السمحاء، ولا بصدد الأدلة التي تؤكد لنا ضرورة أو وجوب التزامنا بها وتحكيمها بيننا، فربنا هو الذي أخبر بذلك، وشواهد تاريخنا المعطاء لا تنفي ذلك.
وإننا كمسلمين نعيش أزمة كبرى ومحنة عسيرة، قد فشلت كل الطروحات البشرية في حلها ـ إذا لم تزدها تعقيدا ـ لذا فمن اللازم علينا ان نعود إلى ديننا وأحكامه باعتباره البلسم الشافي لجروحنا.. لكننا نبحث عن الضمان.
ان ما نخشاه ليس هو جور الدين، فحاشا للدين عن ذلك وإنّما نخشى جور ولاة الأمر وفساد أمرهم، وتجيير أحكام الدين لصالح المصالح الضيقة والأهداف الجزئية. فنكون كمن وقع فيما هرب منه، وستكون مصيبتنا أشد وأعظم.
ان ما نخشاه ان نعود مرة أخرى لمظلة الاستبداد وسيف القمع وهذه المرة باسم الإسلام وباسم الله، فيضيع دم الضحية بقداسة الجلاد. ان فساد حكامنا الحاليين يضرنا ويضر أنفسهم، أما فساد الحاكم الإسلامي فإن يضرنا ويضر نفسه، ويضر الإسلام (تلك العقيدة التي نحتمي بها حينما يشتد الجور بنا وتتفاقم المصائب علينا). هذه هي
___________________________
1 ـ من كلمة لولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي.
ـ(479)ـ
مخاوف المسلمين من قيام حكومة إسلامية وهي مخاوف لا تنبعث من الخيال، ولا من التعصب(كما هو شأنها عند النخب المتسلطة) وإنّما منشأؤها الموروث التاريخي المثقل بتجارب الاستبداد السياسي التي حفلت بها الحياة الإسلامية السابقة، والتي مورست باسم الإسلام والخلافة والإمامة... انها مخاوف حقيقية وواقعية ومن الحق ان تثار، ولكن الحق أيضا ان يصار إلى حلها والوقوف حائلا أمام عدم تجسمها مرة أخرى، وذلك عبر إيجاد الضمانات وصمامات الأمان اللازمة والشرائط المحكمة لانتخاب أولياء الأمور، ومسؤولي النظام، وإعطاء الأمة وطلائعها المؤمنة دورها في الانتخاب والمحاسبة... الخ. ان من الحق إظهار هذه المخاوف، والإعلان عنها، والتذكير بها، وذلك حرصاً على الدين عموماً وعلى التجربة المزمع قيامها خصوصاً، لكن ليس من الحق تتحول هذه المخاوف إلى مفارز تعويق إزاء المشروع ابتداءً، وليس من الحق ان تكون حجة المرض على المشروع مدعاة لاجهاضه أساساً
فنحن مع الضمانات ومع الشرائط ومع إعطاء الشعب حقه في الانتخاب والاختيار.. الخ من أجل ترصين المشروع وسد منافذ انحرافه المحتملة ولمن يريد ان يكفي نفسه عناء التنظير ويحتكم إلى التجربة والعمل الملموس، فليلق طرفه على التجربة الزاهرة التي يعيش فصولها الشعب الإيراني وليغترف منها ما يشاء.
رابعاً: الحكومة الإسلامية
الأزمة ـ الرهانات ـ الأهداف
1 ـ الأزمة:
لاشك ان البشرية قد قطعت في هذا العصر أشواطا كبيرة في مجال التطور العلمي والتقني بحيث لا يمكن عقد مقارنة بينها وبين وضعها في أي حقبة زمنية أخرى.
ولاشك أخرى أنه حصل مع هذا التطور الكبير تدني كبير في الأخلاق والقيم
ـ(480)ـ
الاجتماعية، بحيث بدا ينذر بتمويل هذا التطور وتقنيته إلى كارثة يمكن ان تطال الوجود البشري نفسه.
ولاشك ثالثة ان المجتمعات الإسلامية وهي تعيش هذه الأزمة الكلية تعيش في أعماقها أزمة داخلية مادة ربما لم تقف على مثلها من قبل.
وبالتأكيد فإن لك أزمة بواعث أساسية، ونتائج متوقعة، وأساليب مواجهة مفترضة.
ولنتساءل ما هو مصدر البؤس والتعسف والانهيار الذي تعيشه مجتمعاتنا؟ وهل يمكن إعادة تشكيل(أفكار، وعواطف ونظم) هذه المجتمعات بما يمكنها من الوقوف بصلابة في هذا المعترك الحاد، أو يمكنها من اجتيازه وترشيد حركته وهدايته إلى طريق الخلاص؟ ان الأزمة التي تعانيها مجتمعاتنا هي بمجملها أزمة نظام وأخلاق، أي أزمة حكومة صالحة.
أما مصادر هذه الأزمة وما يتفرع عنها من بؤسس وتعسف وهزيمة فهي:
ألف ـ تعاظم القوة والسلطة لدى الأنظمة السياسية الحاكمة في مقابل دحر قوة المواطن وتدمير كرامته وشعورها الدائم بالرعب وهو ما نصطلح عليه هنا بأزمة(فقدان الأمن).
ب ـ انعدام التوازن الاجتماعي والاقتصادي وغياب الضابطة التي من شأنها تقنين الفرص، وتقييم الكفاءات وفق معايير العدل والمساواة وهو ما نسميه بأزمة(فقدان العدل).
ج ـ عدم قدرة الأنظمة الحاكمة، أو عدم قدرة مرجعياتها الفكرية، على توليد الالتزامات الوجدانية لأفراد المجتمع تلك الالتزامات التي من شأنها لجم الميول والنزعات التي تنجم عن حركة النمو والتطور وعن استثمار الفرص وغير المشروعة وكبح جماحها، وهو ما نطلق عليه بـ(فقدان الأخلاق).
وبعبارة موجزة ان أصل الأزمة التي تعانيها مجتمعاتنا هي ان حكوماتها لا تملك
ـ(481)ـ
إمكانية الاستجابة أو الإجابة الواقعية على التطلعات الرئيسية لمجتمعاتها في(أيجاد الأمن والعدل والحرية والتوازن الخلاف).
وليس اكثر تجسيداً للانهيار الشمولي الذي تعانيه هذه المجتمعات وعلى جميع الأصعدة والمستويات ما تعانيه في هذه الحقبة ذاتها(ففي الوقت الذي تتعرف فيه الجماعات العربية والإسلامية على بعضها البعض كما لم يحصل من قبل، ويندمج مصيرها التاريخي في سياق واحد، تتفاقم الحروب والنزاعات المدمرة فيما بينها ويعم الانقسام وعدم الثقة والأمن. وفي الوقت الذي تتراكم فيه الثروات وتتعزز الإمكانات المادية والمعنوية والبشرية كما لم تعرفها البلاد الإسلامية في أي حقبة سابقة، تستعر الخلافات بين الفئات والطبقات والأفراد، وتترسخ آليات اللجوء للقوة والقهر على جميع المستويات وفي كل يوم يقتل عشرات الأفراد ويسجن ويعذب الآلاف في معتقلات لا إنسانية ويطرد مئات الألوف من مقر إقامتهم وأوطانهم، وتنهب ممتلكاتهم وأرزاقهم، ويُعامل ملايين المسلمين معاملة العبيد في بلاد إسلامية... لقد أصبح القتل والتعذيب والاضطهاد والقمع من الظواهر العادية والطبيعية في الاجتماعات المدنية العربية، يحصل كل ذلك على أيدي مسلمين ولدوا وعاشوا في بلاد إسلامية)(1).
هذا ما يحدث على أيدي النخب الحاكمة، وناهيك عما يحدث على أيدي غيرهم مما يندى لـه الجبين، وتغور إمامه القيم.
وإذا كان يمكن إلقاء تبعات كل ذلك على القوى الاستكبارية وسعيها الحثيث لامتصاص دماء وحقوق المستضعفين، وكذلك على النخب العلمانية الحاكمة في بلادنا، والتي شكلت الأدوات الفعلية لتلك القوى الغاشمة، فإن عجز الفكر الإسلامي التقليدي عن عدم محاولة اندكاكه مع الواقع والتواصل معه وإبداع الوسائل اللازمة
___________________________
1 ـ نقد السياسة ـ الدولة والدين ـ برهان غليون ـ ص 405.
ـ(482)ـ
لترجمة قيمة ومعالجاته وغرس فضائله من جديد،(عبر إيجاده الحكومة الإسلامية التي تعيش العصر وتجيب على أسئلته) يمكن عدّه السبب الآخر الذي لا يقل أهمية وخطورة عما ذكر. وليس السعي إلى إعادة تشكيل الحكومة الإسلامية وإشاعة أهدافها السامية سوى خطوة مهمة على هذا الطريق ولكنها ليست الهدف بأكمله.. لأن الهدف الأساس للإسلام ولحكومته هو هداية الإنسان النسبي وربطه بالخالق المطلق لتحقيق كلمة الله في أرضه كيما تتحقق عبرها الخلافة والشهادة ويكون الدين كله لله ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾(1).
وأمام هذا الواقع ماذا ينبغي على مشروع الحكومة الإسلامية تقديمه للخروج من هذه الأزمة؟
2 ـ الرهانات
لقد أصبح واضحاً ان الإسلام عادة مرة أخرى ليحتل موقع العقيدة المقاومة والمدافعة عن الجسم الإسلامي الكبير، ويتحول رغم كل المعوقات، إلى الملجأ العام للمسلمين من أزمة الاستلاب التاريخية التي يعانونها، لذلك كان لزاماً على هذه العقيدة(الملجأ) ان تقدم العناصر الأساسية والقيم اللازمة للتصدي لهذه الأزمة كيما تساهم في:
ألف ـ إعادة بناء وحدة الجماعة الإسلامية على محور(العبودية الخالصة لله تعالى ونبذ ما عداها وذلك عبر إعادة تنظيم المرتكزات الفكرية والعاطفية والأخلاقية لها.
ب ـ إعادة تشكيل الحكومة الإسلامية والنظام السياسي والعلاقات الاجتماعية على أساس استلهام القيم والأفكار والمباديء الإسلامية. ان مفهوم الحكومة الإسلامية
___________________________
1 ـ سورة القصص: 5.
ـ(483)ـ
الذي نحن بصدده هو الوحيد القادر على ان يغطي هذه المساهمة أو يراهن على تقديمها عبر ثلاثة رهانات أساسية تشكل بمجملها وعدم الفصل بينها مشروعاً حضارياً جديداً قادراً على تجاوز الأزمة الحاضرة والإجابة على أسئلتها.
الرهان الأول: هو إعادة الهوية الأصيلة للمجتمعات الإسلامية وتعيين شبكات التواصل والتفاعل والتراحم بينها في مواجهة حالات التمزق والانكسار والانهزامية التي تعانيها، ويتم ذلك عبر أحياء التراث الإسلامي والرجوع إلى أصالة الأمة كمصدر أساس لتثبيت الذات وتنيمتها وتأصيلها. هذه العودة توفر أرضية(الأمن) العام للجماعة في قبال الخوف العام الذي أنتجته الأزمة، وتوفر التكتل المطلوب، إزاء القوة القمعية التي انتهجتها النخب الحاكمة وليحصل التوازن المطلوب الذي يؤهل المشروع للانطلاق إلى الرهان الثاني.
الرهان الثاني: هو تأسيس الحكومة وتوحيد الإرادة الجماعية على أساس القيم والمعايير الدينية، أي إقامة الحكومة الإسلامية وبناء نظامها السياسي وتجديد النخب الحاكمة والقيادات الاجتماعية وتحديد شرعية وجودها وحدود صلاحياتها وفق نفس تلك القيم.
وهو ما يوفر ثاني العناصر المطلوبة في مواجهة الأزمة، وهو سيادة(العدل) في قبال شيوع المحاباة والمحسوبيات. الوجاهات الزائفة والاستحقاقات الظالمة.
الرهان الثالث: وهو إيجاد وتنمية المبدأ الأخلاقي في روح الجماعة الإسلامية وتطوير فرصه، من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية والالتزام بزواجرها ونواهيها. وهو ما يوفر العنصر الثالث الذي تنشده الأزمة وهو فقدان(الأخلاق)، أخلاق التضحية والإيثار والمحبة في مقابل سلوك النفعية والابتذال والتهافت.
أذن لما كانت الأزمة هي فقدان الأمن جرّاء فقدان الهوية، وفقدان العدل بسبب فقدان النظام العادل، وفقدان الأخلاق عبر فقدان أو تسويف المبدأ الصالح. فإن
ـ(484)ـ
مشروع الدولة الإسلامية مطالب بأن يوفر آمناً وعدلاً وفضيلة في قبال الخوف والجوع والابتذال المستمر. والسؤال الآن هو: أين تكمن الإشكالية على هذا المشروع؟ وما الذي يمنع من تطبيقه؟
قد لا يبدو هناك تبايناً كبيراً سواء بين النخب الحاكمة حالياً وبين طلائع مشروع الحكومة الإسلامية، أو بين أفراد الجماعة الإسلامية حول الرهان الأول ـ أي رهان أحياء الهوية الدينية الإسلامية كبديل أكثر أصلة وعمقاً من الهوية الوطنية أو القومية ـ وان كانت هناك بعض التحفظات من هذا الطرف أو ذاك، لذلك فلا مشكلة تذكر على هذا الرهان بشكل أولي، بيد ان الأمر يزداد تعقيداً حينما نصل إلى الرهان الثاني وما يعني من تجديد وإزاحة لنخب رسخت مصالحها وتباينت رؤاها، ويمكن أجمال ما يواجه هاذ الرهان من اعتراضات ومصاعب بما يلي:
تشبث النخب الحاكمة بمشاريعها، أو قل بفرصها وامتيازاتها. واستحقاقاتها.
إثارة المخاوف التقليدية التي مرّ ذكرها والتي سنمر عليها لا حقا.
تحفظات بعض القطاعات الإسلامية ذاتها واختلاف اجتهادها حول مفاصل مهمة كالسياسة وحدودها وشرائط الحاكم وشروط الثورة عليه.. الخ.
أما الرهان الثالث، والذي يرتبط ارتباطاً عضوياً مع الرهان الثاني فتشتبك فيه وعليه الاختلافات، بينه ما مرّ ذكره وبينه التشكيك أساساً بقدرة المشروع وآلية التطبيق وما سيؤول إليه، وكذلك كفاءة المتصدين لـه والقائمين عليه.
وتتحول التحفظات هنا إلى صراع مرير ينسف كل ما ظن أنه تم التوافق عليه في الرهان الأول والثاني.
ففيما يعني شعار تطبيق الشريعة بالنسبة إلى الداعين لـه(الانطلاق في السياسية من مقتضيات الإيمان بالله والخضوع لـه والقبول بتحكيم كتابه وسنة رسوله في كل ما يتعلق بأمور الحياة والمجتمع، ينظر العلمانيون إليه على أنه محاولة لإعادة بناء الدولة
ـ(485)ـ
الدينية بما تعنيه من إلغاء الحريات المدنية جميعاً وفرض الرقابة على الضمائر والسرائر، وتحكيم رجال الدين في شؤون المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وهم غير كفوء لها، إلى جانب ما يتضمنه هذا الشعار من تطبيق بعض الحدود والأحكام التي لا تتفق وروح العصر وقيمة الإنسان، سواء فيما يتعلق بالعقوبات الجسدية أو التمييز بين الرجل والمرأة)(1). وفيما يبدو تطبيق الشريعة بالنسبة إلى الإسلاميين امتثالا لوظائفهم الشرعية الداعية إلى إرجاع عباد الله إلى حضيرته تعالى والالتزام بأوامره(يبدو القانون الوضعي لأنصاره بمثابة التعبير عن قيم التحرر العقلي والسياسي والاجتماعي البشري. وبالعكس يبدو النظام الوضعي بالنسبة للإسلاميين كنموذج للحكم القهري الاستبدادي المفرط بالحريات، تماماً كما يبدو النظام الإسلامي عند العلمانيين كنموذج للحكم الديني الوسطوي المجسد لقيم الاستبداد والتضحية بالقانون والضمير(2)، وهي كما يلاحظ تحفظات تدل على قطيعة واضحة بين الطرفين لا يمكن حسمها بالتسويات التقليدية أولا، وأنها مخاوف لا تستند إلى مبررات منطقية حاسمة فقسم منها من تاريخنا وأغلبها من تاريخ ثانيا، وان ما هو قائم من تعسف واستبداد وإلغاء الحريات وهدر لكرامة الإنسان من قبل النخب العلمانية الحاكمة مما لا يعين هذه النخب على اتهام غيرها والتشيكك بنواياهم ثالثاً.
ان الرهان الثالث يكشف زيف الالتفافات الزائفة ويسمى الأشياء بأسمائها، أنه ينطلق من حقيقة الاعتقاد بأن أحكام الشريعة الإسلامية أحكام واضحة وميسرة وصريحة ولا يحتاج تطبيقها إلى الإرادة والإيمان بهما الأمر الذي يفتقده الحكام أما بسبب جهلهم حقيقة الدين أو ابتعادهم عنه، أو ارتباطهم بمرجعيات فكرية غيره.
هذا الاختلاف بين النخب الحاكمة وبين مشروع الدولة الإسلامية وطلائعه
___________________________
1 ـ نقد السياسة... الدولة والدين ـ برهان غليون ص 424.
2 ـ المصدر السابق ص 425.
ـ(486)ـ
لا يمكن حلّه بالتوافقات والحلول والوسطية وتمييع الحدود الفاصلة، ولا يمكن ردمه أيضا بالنقاش النظري والجدل الكلامي، وإنّما يمكن فقط عبر طريق واحد وهو العمل والاحتكام للتجربة والمعطى الجديد، وهذا لا يتم إلا بفسح المجال للمشروع الإسلامي للتعبير عن نفسه، فأما ان يحقق مدعياته بالأمن والعدل والفضيلة، وأما أن يجسد المخاوف التي يطلقها الطرف المقابل ضده، وحينها سيكون لكل مقام مقال.
ان مشروع الحكومة الإسلامية يتحقق عبر طريقين:
1 ـ الثورة: وهو ما حصل في الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني(قدس سره) قبل 18 عاماً وتحوّل إلى نموذج زاهر جدير بالدراسة والتأمل.
2 ـ الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
والذي حصل في الجزائر وتركيا يمكن مراجعته، ولا نجدنا بحاجة أي التعليق عليه. بيد أننا نسجل ملاحظة عابرة وهي ان كلا الطريقين مرفوضين من قبل أنظمتنا القائمة. فالأول في شرعها تمرد وعصيان يهدف إلى إشاعة الفوضى ويدمر البلاد وعقوبته الإعدام. والثاني مرفوض أو مؤجل لأن الشعوب ـ حسب ادعاء الحكام الديمقراطيين ـ لم تصل بعد مرحلة النضج التي تمكّنها من الاختيار الحر المعقلن. وعلى الشعوب ان تنتظر مائة عام أخرى لتجد ذات اللائحة أمامها والى الله المشتكى.
3 ـ الأهداف:
لما كانت الدولة والحكومة بشكل عام هي ضرورة اجتماعية لا يمكن لأي تجمع بشري ان يستغني عن وجودها.
ولما كانت الحكومة، الإسلامية ونظامها هي مما يريده الله تعالى لعباده من أجل أن يعمروا الأرض ويصلحوها.
فلابد ان تكون لهذه الحكومة أهداف واضحة ومسارات محددة. يمكن أجمال هدف الحكومة الإسلامية بالقول أنه هدف الدين والأنبياء عامة أي(هداية) الإنسان
ـ(487)ـ
وربط حركته كلها بربه عبر تشبهه بأخلاق الله وصفاته، ويمكن تفصيله وعلى النحو التالي:
ألف ـ الاتجاه إلى إبراز عنصر(العبودية) الخالصة لله تعالى في جميع النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بوصفها القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها جميع الأهداف الأخرى كالعدل والحرية والمساواة.. الخ، ونفي ما عداها من عبوديات زائفة كانت وما تزال مصدر جميع المساوئ والكوارث المحلية والعالمية.
ب ـ تجسد الاتجاهات العامة التي تتبناها العقيدة الإلهية في عملية التغيير والهداية، على شكل نماذج حركية وواقعية تشكل أطروحة عملية للاقتداء والتأسي لعموم الخليقة، وتشكل حجة عليها.
ج ـ تمنح المؤمنين في إطارها(إطار الدولة الإسلامية) فرصة شرف العمل والالتزام بأحكام الإسلام والتقيد بحدود الله تعالى بشكل عملي يساهم في مضاعفة أجرهم وبناء أنفسهم وتعميق شعورهم بأصالتهم وهويتهم وانتمائهم إلى رب البرية، وأما في خارج إطارها فتدفع عنهم شعور اليأس والإحباط والهامشية الذي يمكن ان يضغط عليهم بسبب سيادة الحكومات الطاغوتية وانتشار مفاسدها.
د ـ توجه الحكومة الإسلامية الإنسان إلى نفسه وتعرفه عليها وتبين قيمته الحقيقية.. ونضع المواهب الطبيعية في خدمته ليتمكن من استثمارها على النحو الأفضل وليتحرك في المسار الإنساني بشكل أسرع وأدق وأصح(1). أي توفر لـه الشروط الموضوعية على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي لتجسيد خلافة الإنسان في الأرض وربط شرع الله مع حركة الإنسان ومع حركة التاريخ(2).
هـ ـ وخير ما نراه وافياً لرسم أهداف الحكومة الإسلامية ونظامها السياسي هو ما
___________________________
1 ـ مقالات المؤتمر الثالث للفكر الإسلامي ـ حجة الإسلام الشيخ محمد يزدي: ص 74.
2 ـ خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء ـ الشهيد محمد باقر الصدر: ص 16.
ـ(488)ـ
جاء في المادة الثانية والرابعة من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران حيث جاء:
المادة الثانية: يقوم نظام الجمهورية الإسلامية على أساس:
1 ـ الإيمان بالله الأحد (لا اله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع ولزوم التسليم لأمره.
2 ـ الإيمان بالوحى الالهي ودورة الاساس في بيان القوانين.
3 ـ الإيمان بالمعاد ودوره الخلاق في مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله.
4 ـ الإيمان بعدل الله في التكوين والتشريع.
5 ـ الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام.
6 ـ الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله وهو نظام يؤمن القسط والعدالة، والاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، والتلاحم الوطني عن طريق مايلي:
ألف ـ الاجتهاد المستمر من قبل الفقهاء جامعي الشرائط، على أساس الكتاب وسنة المعصومين عليهم السلام.
باء ـ الاستفادة من العلوم والفنون والتجارب المتقدمة لدى البشرية والسعي نحو تقدمها.
جيم ـ محو الظلم والقهر مطلقاً ورفض الخضوع لهما.
أما المادة الرابعة من الدستور فتنص على مايلي:
يجب ان تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها، هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك.
ـ(489)ـ
بقي ان نشير إلى ان وظائف الدولة كالصحة والتعليم والأمن والدفاع وتوفير وسائل التقنية والترفية.. الخ ليست هي وظائف الدولة والحكومة الإسلامية فحسب وإنّما هي وظائف ومهام كل دولة أو على الأقل شعارات كل دولة، ولكن ما يميز وظائف الدولة الإسلامية عن غيرها ان هذه الوظائف ليست أهدافاً مستقلة بذاتها إنّما هي وسائل لخدمة الهدف الأسمى وهو تهيئة الأرضية والشروط الموضوعية للإنسان للاتجاه نحو الله تعالى.
خامساً: الجمهورية الإسلامية في إيران بين النموذج التنظير
لاشكّ ان نموذج الحكومة الإسلامية القائم في إيران هو أول تجربة متقدمة للمشروع الإسلامي في العصر الراهن، وهي قابلة للانفتاح والاستفادة من كل الإضافات الخيرة والاجتهادات المخلصة، يقول ولي أمر المسلمين وقائد الثورة الإسلامية في إيران آية الله العظمى السيد علي الخامنئي(دام ظله) قبل اكثر من عشرة أعوام(نحن لا ندعي تشكيلنا حكومة كحكومة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكننا ندعي بأننا نمضي إلى الإمام نحو حكومة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم... نحن أول تجربة في هذا المجال، ونأمل ان تغنينا التجارب القادمة(1).
لذلك فان كل كلام سبق قيام هذه الحكومة المباركة، إنّما هو كلام يدور حول إمكانية المشروع المفترضة، وبعبارة أخرى يدور في إطار التنظير، أما بعد قيامها فكل بحث أو دراسة حول هذا الموضوع ستكون أمام تعديل للتنظير المفترض وفق
___________________________
1 ـ مقالات المؤتمر الثالث للفكر الإسلامي المنعقد بطهران عام 1985 ص 25.
ـ(490)ـ
النموذج القائم، أو إضافة للنموذج القائم وفق التنظير المفترض. لذا فنحن نسأل والنموذج يجيب. وسنعرض هنا ملاحظة واحدة وعدة أسئلة خوف إلا طالة وطلباً للاختصار مع التأكيد بأن مثل هذا الحوار يمكن ان يظل مفتوحاً بين السائل والنموذج وليس بالضرورة ان يكون مادحاً أو ممجداً فالجمهورية الإسلامية باعتبارها أمل المسلمين جميعاً تظل بحاجة إلى التقويم والكثير من التنظير المعمق والاقتراحات الهادفة.
الملاحظة: إذا كنا نعتقد أو نجمع على الاعتقاد بان الهدف الأساس من وراء قيام الحكومة الإسلامية هو إشاعة الحق والعدل والحرية والأمان بين الناس، أو بعبارة أخرى، هو إيجاد الأمة الوسط التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بأبعادهما الواسعة، لتكون شهيدة على الناس، أو بعبارة ثالثة مختصرة وجامعة، هو تفعيل لعملية الجهاد(الأكبر والأصغر) من أجل تمهيد أرضية الهداية للعالمين، إذا كنا نعتقد ذلك، فينبغي ان نعرف إلى جانب ذلك، ان روح الدولة بما هي دولة ميالة في أغلب أحوالها إلى الاستقرار والانتفاع الواقعي من النعم والمعطيات الإلهية، وتدعيم وجودا، بينما روح الدين تظل نازعة إلى الاستمرار في الهداية والاندفاع بها إلى ما لا نهاية وان هذا التجاذب لابدّ وان يقسم الناس إلى فريقين، فريق يدعو لمواصلة الهداية الدائمة، وإدامة شروطها، وفريق يدعو إلى التوقف أو التأمل واستثمار المعطيات الفعلية للحالة المتحققة. لذلك ينبغي التأكيد أن شكل الدولة أو آلية مؤسسات الحكومة ليست أهدافاً قائمة بذاتها، وإنّما هي وسائل في خدمة الهدف الأكبر وهو(هداية) الإنسان والأخذ بيده من دائرة الظلمات إلى أفق النور الأوسع، وكلما اندكت الوسائل بالهدف وخضعت لـه كلما طال عمرها واتسعت قاعدتها وترسخت شعبيتها، هذه هي الملاحظة أما الأسئلة فهي:
الأسئلة: قيل ان الحكومة الدينية إذا ما قامت، فإنها تلغي الحريات المدنية جميعاً،
ـ(491)ـ
وانها تفرض رقابة صارمة على الضمائر والسرائر، وانها ترجع الدنيا إلى العصور المظلمة وانها تجلد العقل وتقطع الأعضاء، وإنها تبتذل المرأة وتستعبد الرجل، وانها تغيب التبادل السلمي للسلطة وتضحي بالقانون، وإنها تسيس الدين وتحمد السياسية، وإنها واللائحة ليست على وشك الانتهاء ولنسأل النموذج هل الأمر هكذا حقاً ؟ لنسأل هل ضاعت الحريات المدنية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكيف حال المرأة فيها؟ وكم عدد الذين قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف؟ لنسأل ما هو مستوى الجمهورية الإسلامية(التقني والعسكري والإعلامي والثقافي والاقتصادي..) مقارنة مع ميزان بلدان المنطقة؟ وما هي درجة الأمن والاستقرار في هذا البلد؟ وكيف تقوم الانتخابات فيه وكم هي نسبة المشتركين فيها؟ كيف يعتني بالأمومة والطفولة والشباب؟ وهل تخلفت الفنون والرياضة والآداب خلال الـ 18 عاماً الأخيرة؟ وأخيراً وليس أخراً كيف يقابل الناس ولي أمرهم وقائد مسيرتهم؟ وكيف يتعامل الشعب مع مسؤولية؟ ومن يجبر الناس على الحضور في المسيرات والتظاهرات وصلاة الجمعة الخ.
ان الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها يحتاج إلى مجلدات، ولكن إطلالة موضوعية واحدة على ما حصل ويحصل في هذه البلاد تكفي للدلالة ألف مرة أن مشروع الحكومة الإسلامية هو الإجابة الواقعية على أزمة الانكسار والهامشية التي نعيشها، ويكفي ان تقول ان الانتخابات الرئاسية الأخيرة فيها قد حظيت بإعجاب جميع بلدان العالم بلا استثناء ومنهم الولايات المتحدة الأمريكية وهي ألدّ الأعداء وخير الفضل ما شهدت به الأعداء، فهل بعد الهدى إلا الضلال؟
كلمة أخيرة
لا تنسي ان نشير في آخر البحث ان الحكومة الإسلامية في نموذجها الباهي في الجمهورية الإسلامية في إيران قد أجابت على جملة كبيرة من أسئلة مأزقنا الحضاري
ـ(492)ـ
الكبير، وقد حققت من الإنجازات العظيمة ما تغبط عليه، وما يجعلها في موقع القدوة والاحتذاء، بيد ان التجربة ستقطع أشواطاً أكبر فيما لو قامت حكومة أو حكومات إسلامية في أحد أو في أكثر البلدان العربية وغير العربية حيث ان قيام حكومات إسلامية في الأقطار الإسلامية سيكون باعثاً إلى أيجاد فرص كبير للالتقاء والوحدة الإسلامية المنشودة، باعتبار ان الدولة الجديدة التي سوف تقوم ستكون مجبرة على مواجهة مشاكل العصر والإجابة عن أزماته، عبر فتح باب الاجتهاد.. ولما كانت مشكلات العصر للشعوب الإسلامية هي مشكلات متشابهة فإن المواقف الشرعية المزمع إيجادها تجاهها(عبر الاجتهاد) ستكون هي الأخرى متشابهة ـ أو على الأقل ـ متسقة وبذلك ستردم هوة كبيرة بينه عواطف المسلمين وأفكارهم وسياقات حركتهم.
هذا فضلا عن أن قيام حكومة إسلامية جديدة في المنطقة سيساهم في إذكاء الوعي الإسلامي وتشجيعه على متابعة التجربة وصناعة مثيلاتها وملء فراغاتها حتى يتم الله نعمته على المسلمين بقيام دولة الإسلام العالمية الكبرى التي تمتلأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت ظلما وجوراً بقيادة الإمام المهدي(عج) من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وخاتم رسله محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.