أسس الوحدة الإسلامية و سبل دعمها
أسس الوحدة الإسلامية و سبل دعمها
الشيخ الدكتورحمدة سعيّد
مفتي الجمهورية التونسية
تمهيد:
مثّل موضوع الوحدة الإسلامية حلما وهدفا عاشت على أمل تحقيقه الأمة المسلمة لأكثر من قرن من الزمان وناضل علماء ودعاة ومفكّرون في سبيل هذا الهدف العظيم الذي يجمع أمّة الإسلام في مشارق الارض ومغاربها ويبعد عنها ويلات التقسيم الجغراسياسي الذي كرّسته القوى الاستعمارية لتحقيق مصالحها في عالمنا الإسلامي وتفتيت المسلمين إلى دويلات وممالك وإمارات ومقاطعات ليس لها وزن في عالم التكتلات الاقليمية و الدولية التي يسير عليها عالم اليوم .
وبالرغم من أن الوحدة الإسلامية اليوم ضرورة يقتضيها تردّي حال المسلمين ، وتشتت آرائهم وقوتهم على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية فإن أهميتها تكمن في كونها مبدأ قرآنيا عظيما كرّسه الوحي في وجدان المسلمين منذ خمسة عشر قرنا انطلاقا من قوله تعالى :" وأنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فأعبدون"[1] وهي أيضا ميراث النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه منذ التنصيص على النشأة الاولى لهذه الامة في صحيفة المدينة التي ورد فيها "أن المسلمين أمّة واحدة من الناس" بما يفيد أن الوحي الالهي جاء تكريسا لوحدة الامّة الموحّدة ونبذا لفرقتها ودعما لأواصر التماسك فيها حتى تكون كالبنيان المرصوص.
وقد سارت الأمة على هذا المنهج قرونا رغم بعض التقلبات السياسية والتنازع على الملك الذي تتسم به طبيعة الحياة البشرية و ضروراتها ثم حادت عن منهج الوحدة الإسلامية في أبسط معانيها السامية ليتفرّق المسلمون بين أهواء قبلية وعرقية وإقليمية وطائفية ومذهبية رغم التحديات التي تعيشها الأمة وعظيم مسؤولياتها .
فلا يخفى على المتابعين والعارفين أنّ أمّة الإسلام تمرّ في هذا الزمان بأحلك فتراتها وأصعبها عبر تاريخها الطويل فالقضايا التي تطرح أمامها كبيرة والتحديات جسيمة والمنزلقات مهلكة ومحدقة بالمسلمين في الداخل والخارج ، ولا يخيفنا في ذلك عظيم الخطر بقدر ما يربكنا واقع الأمّة التي تجابه مصيرها المعاصر وقد أضحت اليوم طرائق قددا من دول وتجمعات اقليمية ومذاهب وفرق دينية وطوائف يصارع بعضها بعضا في الوقت الذي يجد فيه أعداؤها متسعا لتدنيس المقدسات وانتهاب الممتلكات وترهيب الآمنين والتخطيط لتجزئة الأمّة بكل الوسائل والسبل انطلاقا من وهن أصابنا فأصبحنا نقدّم المصلحة الذاتية على المصلحة الجماعية ونركن إلى الانتماء القطري أو الطائفي أو المذهبي ولا نعلي راية الأمّة الواحدة لتكون صمام أمان وقوّة ضاربة يقرأ لها عدّوها ألف حساب .
من هنا أردنا ان نجوس خلال هذا البحث في أهم الأسس التي تقوم عليها وحدة المسلمين في شكل مقاربة نظرية تجابه التمركز حول الانتماءات الأخرى للطوائف والمذاهب والفرق والدول التي أضرّت على المدى المتوسّط والبعيد بمصير كل الشعوب المسلمة التي لا تقدر بمفردها على مجابهة التيارات الفكرية والاقتصادية والسياسية الجارفة في زمن العولمة وامبريالية الشركات العابرة للقارات ، إضافة إلى الصراعات المسلّحة التي أصبح الفضاء العربي والإسلامي ساحتها.
الأسس التي تقوم عليها الوحدة الإسلامية
ترتكز الوحدة الإسلامية على منطلقات متعددة المجالات كالعقدية والثقافية والحضارية وإن شئنا أضفنا للأسس القائمة أسسا طارئة وملحّة تقتضيها التحديات التي يعيشها المسلمون في هذا العصر على المستوى الاقتصادي والسياسي التي كانت لدى شعوب أخرى أسسا ومنطلقات للانصهار الاقتصادي والتحالف العسكري والسياسي رغم ما يعوزها من روابط عقدية ووجدانية تعوقها كما هو حال شعوب الإتحاد الأوروبي وشعوب امريكا اللاتينية والتجمعات الاقتصادية في جنوب شرق آسيا التي وحدتها المصلحة والتحديات ، وكان ذلك أساس لانطلاقها بينما تغفل أمة الإسلام عن هذه الغاية رغم شغف اعدائها بالعمل على انهاكها وانتهابها ، و تشتيتها كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله "إن التحدي الأعظم للإسلام كلّه هو يقظة كل القوى المعادية له وتبييتها النيّة على اغتياله ، لقد صحت اليهودية والنصرانية والشيوعية والوثنية وتملّكتها رغبة مجنونة للقضاء على هذا الدين وانتهاز ما يسود بلاده من غفلة و فرقة لتوجيه الضربة الاخيرة "[2]
1- وحدة العقيدة والكتاب.
لم تتميّز أمّة الإسلام عن سائر الامم الأخرى عبر التاريخ إلا من منطلق كونها الأمّة الوحيدة الموحّدة في العالم فعقيدة المسلمين في الله تعالى وفي جميع أركان الإيمان واحدة ، لا اختلاف بينهم في أصول الدين ومبادئه الأساسية ، انطلاقا من قاعدة عقدية واضحة تعتقد يقينا بوحدانية الله تعالى ، والإيمان بالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، وباليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره ، كما ورد ذلك محكما في قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[3] .
ففي الآية اقرار بأركان هذا الإيمان الذي يجمع المسلمين على اختلاف ألوانهم و ألسنتهم ومذاهبهم إلا انهم كما قال الشيخ العلامة ابن عاشور في معاني هذه الآية : إنهم آمنوا واطمأنوا وامتثلوا ، وقد جيء ذلك بلفظ الماضي دون المضارع ، ليدلوا على رسوخ ذلك ، لأنهم أرادوا إنشاء القبول والرضا [4].
وفي حديث جبريل عليه السلام عرّف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بأنه :" أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"
وهذه عقيدة المسلمين جميعا في كل العصور والدهور، وهي ما يجمع المسلمين كذلك في هذا العصر الذي انحرفت فيه البشرية عن معاني الدين و قيمه واستبدلت ذلك بقيم وعقائد وضعية وإلحادية ومادية تحت مسميات العقــلانية و التحـرر
و سلطة الإنسان على الكون التي هبطت بالبشرية إلى المستنقع الآسن من عبادة المادة و الجسد والمنفعة الزائلة ليبقى للمسلمين تميّزهم العقدي عن سائر الأمم ورابطهم المقدس بحبل الله المتين الذي لا يتزعزع ولا ينقطع وذلك أساس وحدتهم التي تقوم على إشارات ولطائف عظيمة ، وهي أنه لا مفّر لهذه الأمة إلى الله كما قال تعالى : " ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين "[5] أي أن المصير إلى الله لا إلى غيره وهذا يستوجب إذعان الأمّة المؤمنة جميعها إلى هذا المصير الذي يقتضي السير في طريق الله من دون ما يعبد أهل الضلال والانحراف .
ومن أعظم أسس الوحدة الإسلامية تمسكها بكتابها العظيم الذي لم تشبه الشوائب ولم تلحقه التحريفات طيلة خمسة عشر قرنا وهو برهان الوحي الالهي القائم في هذه الأمّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تصديقا لقوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ، فحفظ كتاب الله بيننا هو حفظ ذلك الرابط الذي يجمع المسلمين على تباينهم في أرض الله ، وهو قاعدة كل وحدة اسلامية منشودة ، ومرد كل اختلاف رغم محاولات بعض المستشرقين ايهامنا أن كتابنا قد طاله التبديل والتحريف من ذلك أن " المستشرق "جون تاكلي John Tagle" قد وضع منهجا لعدد من اللمستشرقين في تعاملهم مع الدراسات القرآنية وعلومه قائلا أنّه :"يجب أن يستخدم المستشرقون القرآن وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه للقضاء عليه تماما ، إذ يجب أن يرى المسلمون أنّ صحيح القرآن ليس جديدا وأن جديد القرآن ليس صحيحا"([6]) .
وما نحسب مثل هذه الإدعاءات إلا يقينا لدى أعداء الامّة من أن القرآن العظيم مصدر قوتها ووحدتها ، كيف لا وقد كتب الشيخ محمد الغزالي كلاما عميقا وبالغ الرمزية في قوله : " إنه لم يؤثر على شيعي أو سني أو خارجي أو صوفي أن لديه قرآنا آخر غير هذا الكتاب الفذ ، إن المصحف يطبع في القاهرة فيقتنيه مسلموإيران والهند من الشيعة دون أي تردد عالمين بأن هذا هو الوحي الذي نزل على نبيهم "[7].
فأي تشريف لهذه الأمّة ؟ و أي كتاب هذا الذي يجتمع حوله أكثر من مليار من البشر ؟ وأي وحي يعكف على دراسته وفهمه ملايين من الباحثين و الدارسين في كل بقاع وجامعات العالم لا يقدرون على تغيير كلمة واحدة فيه ، أو تحوير حرف أو آية منه ؟ فوحدة كتاب الله وحفظه هي أساس متين لوحدة المسلمين ماضيا وحاضرا ومستقبلا لو سارت الأمة على هذا الدرب وارتكزت على هذه المنحة الالهية التي شرفها الله بها .
الوحدة الحضارية بين المسلمين .
من المعلوم أن الإسلام لم يأت بعقيدة وشريعة فحسب ، بل بنى حضارة وصلت حدودها إلى جنوب فرنسا عبر الأندلس، وتاخمت وسط افريقيا وبلغت أقصى آسيا على ضفاف المحيط الهندي فعمّ التغيير الذي أحدثه الإسلام في صحراء العرب وفي الشرق بصفة عامّة لم تسعه حدود إقليمية ولم تحل بينه وبين العالم القديم عوائق التمدّد وغزا آسيا وإفريقيا والقارّة الأوروبيّة . فالإسلام جابه عقائد الشعوب الأخرى بعقيدة جديدة وحضارة امتلكت أدوات القوّة وعناصر التفوّق العلمي والثقافي مما أتاح له الانتشار في أوساط سكّان أوروبا بسرعة فائقة "وخاصّة إسبانيا التي استطاع فيها الاسلام أن يثبّت أقدامه في سنتين ولمدّة ثمانية قرون كاملة هي عمر حضارة الأندلس"([8]).
من هنا كان لزاما أن نتكلّم عن عالمية حضارة الإسلام التي هي قوام أساسي لتعزيز وحدة المسلمين ، فدينهم لا يؤمن بالانحباس المكاني والتقوقع داخل الفضاء الجغرافي بقدر ما يتميّز بالتمدّد والانتشار داخل فضاءات ومجتمعات أخرى بالأساليب المتاحة من التواصل والاحتكاك التي ابتكرها المسلمون منذ القديم سواء بالتجارة أو بالفتوحات أو بالترجمة أو بالوسائل الحديثة .
إنّ أساس الرسالة المحمّديّة ومقصدها الذي يجب أن تعيش لأجله الأمة قائم على نشر الدعوة وتبليغها وهذا "ما يمّيز الإسلام عن سائر الأديان السماويّة بأنه دعوة عالميّة بـُعث بها محمّد "صلى الله عليه و سلّم" لإخراج الناس من الظلمات إلى النور"([9]).
والعالميّة في ديننا لا تعني انفراد الحضارة الإسلامّية بالعالم وإلغاء التنوع الثقافي للشعوب المسلمة بصهر موروثها وثقافتها في وعاء واحد يضمحل بموجبه كل تنوع واختلاف أبدا ، بل الحضارة الإسلامية تنبني على التفاعل والتدافع والتسابق الإيجابي بين الشعوب المسلمة في ظل التأكيد على "أن التمايز والاختلاف هو القاعدة الطبيعيّة والقانون التكويني والسنّة الإلهيّة التي لا تبديل لها ولا تحويل"([10]) وهذا إقرار بالحريّة الفكريّة والثقافيّة لكافة الشعوب المسلمة في رحاب الإسلام ، وهي من أبرز معالم قوتها وأساس وحدتها داخل فضاء اسلامي واحد يسع الأمة المترامية الأطراف ، ويحقق لها التنوع والثراء والانسجام الذي تنشده مجتمعات أخرى ولا تجده.
حاجة الأمة إلى الوحدة
تبدو حاجة المسلمين اليوم إلى وحدة كلمتهم أوكد من أي وقت مضى ، فالتحديات التي تعانيها الأمة اليوم أكبر من أن يقدر شعب بمفرده على تحملها على كل المستويات السياسية و الاقتصادية والحضارية زمن العولمة التي تتجاوز الهيمنة الاقتصاديّة والتجاريّة والماليّة والاتصاليّة إلى إرادة أخرى تعمل على استخدام هذا النفوذ وقدراته المتعاظمة في مختلف المجالات إلى عولمة فكريّة وثقافيّة" تروم تنميط المجتمعات الإنسانيّة في مختلف مجالاتها وفق نموذج حضاري محدد"([11]) تهيئة لكل أرضية مواتية بهدف إحكام السيطرة وانتهاب الثروات واستعمار الأرض المسلمة.
وقد اعترف المستشرق لورانس براون (Laurence Brown)المعروف بلورانس العرب :"حين قال إذا اتّحد المسلمون في إمبراطوريّة أمكن لهم أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا أو أمكن أيضا أن يصبحوا نعمة له أمّا إذا بقوا متفرّقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن"([12]). وهذا ما يحتّم على الامّة اليوم أن تبحث عن وزنها العالمي بين الشعوب والأمم ، فالواقع الكوني اتجه ، منذ منتصف القرن الماضي، إلى التحالفات الاستراتيجية والعسكرية . واليوم نعيش على وقع التكتلات الاقتصادية في أوروبا وأمريكا اللاتينية مقابل تشتت إسلامي مقيت ، جعل الأمة كما قال النبي صلى الله عليه و سلّم : " من حديث ثوبان " ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ” ، فقال قائل : أومن قلة نحن يومئذ ؟ قال:” بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل "[13]
ونحن نرى هذا الضعف والوهن في أبسط مؤشرات النمو والتطور والتعليم في العالم ، في حين قد أصاب المجتمعات المسلمة الوهن والتخلّف خاصّة أن "الأمّية تفشّت في أوساط المسلمين بنسبة تتراوح بين 50 و80 بالمائة وبمتوسط نسبة حوالي 58 بالمائة ، بينما تقل الأميّة في الدول الغنية عن 2 بالمائة ولا تتعدى هذه النسبة في دول العالم الثالث بنسبة 45 بالمائة وهذا ما اعتبره مجمع الفقه الإسلامي منذ سنوات أمرا خطيرا ومزعجا" ([14])
فكلّ هذه الأسباب المذكورة وغيرها أفقدت المسلمين قوّتهم الماديّة والمعنويّة التي وهبها الإسلام لأسلافهم إذ كان التخلّف والانقسام سببا في ضعف الثقة بالنفس وجعل الشعوب الإسلاميّة تعتمد في كلّ شيء على غيرها نتيجة التبلّد والخمول وموت الهمم وهذه مسلمات بديهيّة تجعل الأمّة لا تستحق الحياة الكريمة والحرّة التي لا تكون دون ثمن وتضحية وذلك نتيجة الفراغ العقدي وغياب الارادة الحقيقة في الوحدة في زمن أيقنت فيه شعوب العالم عند قدرتها منفردة على مجابهة تحدياتها هذا فضلا عما يتعرض له المسلمون من أشكال الاستعمار المباشر وغير المباشر وعمليات الابادة في فلسطين وفي إفريقيا الوسطى وفي ميانمار أمام نظر العالم وصمته مما يؤكّد انه لا نجاة للمسلمين إلا بتكاتفهم ووحدتهم ونبذ فرقتهم المذمومة نقلا وعقلا.
سبل دعم وحدة المسلمين :
لا يمكن للمسلمين أن تكون لهم كلمتهم العليا في عصر اليوم دون أن يكون لهم نخبهم من العلماء والمفكرين الذين يحملون مسؤولية توجيه الأمّة إلى صلاحها وقوتها بوحدتها وتماسكها أمام الرياح العاتية التي تحيط بسفينة المسلمين ، فالعلماء والدعاة قوام هذا الدين ، وهم ورثة الانبياء وحرّاس رسالتهم كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك في قوله: { إن العلماء ورثة الأنبياء ،إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر} . [15]
ولا يمكن بأي حال أن يكون لعلماء الإسلام حظ وافر في هذا الميراث النبوي دون أن يكون لهم نصيبهم من أمانة توحيد هذه الأمّة وإذابة جليد التنافر بين الدول والشعوب والقيادات والمذاهب والطوائف ، وقد تحولت كل هذه المسميات اليوم إلى مداخل للشقاق والتصارع والحرب بين المسلمين ، و إن الطامة الكبرى أن يكون بعض العلماء جزءا من هذا التباين بين المسلمين ، وهم يحيون العصبية القبلية والمذهبية والقومية من حيث يشعرون أولا يشعرون. وهذا داء قديم ساعد على تفكك الأمّة وجعلها لقمة سائغة لأعدائها في الداخل والخارج .
فلا وحدة للمسلمين إلا بإحياء معاني الأخوة في العقيدة والانتماء الحضاري وتظافر الجهود لإطفاء نار الفتنة والتناحر تحت رايات الإقليمية و الطائفية والمذهبية لنتحمّل مسؤولياتنا الكونية التي أمرنا بها الله تعالى في قوله : " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " [16] فأي شهادة اليوم والمسلم يقتل أخاه ويحاربه وسط صمت رهيب.
إن العمل على دعم أسس الوحدة الإسلامية ينطلق أولا وضرورة من تكثيف النشاط العلمي لعلماء هذه الأمة لإيجاد أيسر السبل لتقريب وجهات النظر وتجاوز الفروق بين أبناء الأمة الواحدة على اختلاف مذاهبهم و فرقهم وجنسياتهم ، فكما قال المفكر الإسلامي سلمان العودة في كتابه : " كيف نختلف "إن الانتساب مقبول بلا فخر و لا استعلاء ولا انعزال ، فتاريخ الإسلام صنعته شعوب شتّى ، كالكرد والفرس والترك والهنود وغيرهم"[17].
ولا يكون هذا التنوع إلا من منطلق قبول الاختلاف أولا في قلوب وعقول المسلمين على قاعدة قرآنية عظيمة تتجلى في قوله تعالى : "ولو شاء ربّك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك ولذلك خلقهم "[18] .
فنحن اليوم بعيدون عن تجسيد هذه الآية واقعا عمليا ملموسا في حياتنا ، ولا تفسير لاختلافاتنا وصراعاتنا الراهنة إلا وجود رغبة كامنة في قلوب البعض لإلغاء الاختلاف بيننا بالقوة أو بسط هيمنة جهة على أخرى بالعنف المادي أو المعنوى وبغي فئة على أخرى متنكّرين لسنّة الله في خلقه وفي هذه الأمّة .
لذلك لا يجب ان تتوقف مساعي توحيد المسلمين على عقد الملتقيات والندوات والخروج بتوصيات ومحاضرات تنشر في الكتب ، بل بالمرور العملي لتنفيذ خطط حقيقية و تصورات استراتيجية لتوحيد كلمة الأمّة ورص صفوفها في وجه منتهكي أراضيها ، ومغتصبي حقوقها وخاصة المتربصين بالمسجد الأقصى وقبّة الصخرة اللذان يئنّـان تحت وطأة الاحتلال الغاشم ، والأمّة غافلة عن قضيّتها المركزية والجوهرية ، منهمكة في التنازع والتخاصم فيما بينها ، ولا عنوان لنا في الختام إلا قول الله "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"[19] وهذا تبيان دائنا، أما دواؤنا فهو قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرّقوا" [20]
[1] - سورة الانبياء الآية 92
[2] - محمد الغزالي ، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين ، الزيتونة للإعلام والنشر ، ط1 تونس 1989.
[3] - - سورة البقرة:285
[4] - ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، دار سحنون للنشر ، ج 3 ص 134
[5] - الذاريات :الآية 50
[6]- محمد نبيل، غنايم. "من أساليب الغزو الفكري: الطعن في القرآن الكريم"، مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، 1992، ص: 525.
[7] - محمد الغزالي ، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين ، الزيتونة للإعلام والنشر ، ط1 تونس ص 25
[8]- عبد السلام، داود. دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلامي، مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة،1992، صص: 320- 321 وأحمد عبد الرحيم، السايح. الغزو الفكري في التصوّر الإسلامي، مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، 1992، ص: 623.
[9] - محمّد، الدسوقي. أصول العلاقات الدوليّة بين الإسلام والتشريعات الوضعيّة، مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، 1992، ص: 87.
[10]- محمّد، عمارة. بين عالمية الإسلام والعولمة الغربية، مجلّة الإسلام اليوم، العدد 26 ، 2009 ص: 76.
[11]- محمد، محفوظ. العولمة وتحوّلات العالم إشكاليّة التنميّة في زمن العولمة وصراع الثقافات، ط1، المغرب: المركز الثقافي العربي، 2003، ص : 13.
[12]- عبد السلام، داوود .دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلامي، مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، 1992، ص: 328.
[13] - أخرجه أبو داود في سننه (2/10 2)
[14]- القاسم، البيهقي المختار. المسلمون وتحديات الفكر المعاصر، مجلّة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، 1992، ص: 743.
[15] - رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني
[16] - البقرة " الآية 143
[17] - سلمان العودة : كيف نختلف ، الإسلام اليوم للإنتاج والنشر الرياض 1433 هـ ، ص31
[18] - سورة هود الآية " 118- 119
[19] - الأنفال : الآية 46 .
[20] - آل عمران : الآية 103.