أسباب التخلف ومعوقات التنمية في العالم الاسلامي
أسباب التخلف ومعوقات التنمية في العالم الاسلامي
أ.م.د. فردوس ياسين مهدي العوادي
تعريف التنمية
الدول المتقدمة والدول المتخلفة، مظاهر التخلف
التنمية من منظور إسلامي:التعريف
تنمية الإنتاج موضوع يتفق عليه المذهب الإسلامي والمذاهب الوضعية:
وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج:
وسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين:
أولاً – وسائل مذهبية من وظيفة المذهب إيجادها وضمانها.
التشريعات والأحكام الإسلامية التي تساعد على التنمية
ثانياً – وسائل تطبيقية تمارسها الدولة التي تتبنى ذلك المذهب.
لماذا ننتج ؟ أو ما هو الهدف من التنمية
- مفهوم الإسلام عن الثروة
- ربط تنمية الإنتاج بالتوزيع
- تصور الإسلام للمشكلة الاقتصادية
وقفة مع السيد الصدر (قدس سره) في موضوع التوزيع:
أسباب التخلف ومعوقات التنمية في العالم الإسلامي
كيف حصل الخلل (عدم وجود حكومة) في تشريع متكامل ؟
الآراء الفقهية ومشكلة إقامة الدولة الإسلامية
الفصل الثاني: دور الهيمنة الأجنبية (الاستكبار) في تأخر التنمية في العالم الإسلامي
عودٌ على بدء
اقتراحات للتنمية
نتائج البحث
أسباب التخلف ومعوقات التنمية في العالم الاسلامي
تعريف التنمية: (التنمية في اللغة: جاء في لسان العرب في مادة نمي، نمي: النماء: الزيادة نَمى يَنمِي نَمياً ونُميّاً ونماءً: زاد وكثر، وربما قالوا ينمو نموّاً وأنمَيتُ الشيء ونمّيته: جعلته نامياً. وفي الحديث أن رجلاً أراد الخروج إلى تبوك فقالت له أمه أو امرأته كيف بالوَدِيّ ؟ فقال: الغزو أنمى للوديّ* أي ينمّيه الله للغازي، ويحسن خلافته عليه. والأشياء كلّها على وجه الأرض نامٍ وصامت)(1).
والتنمية في الاصطلاح الاقتصادي: تعني الزيادة في الناتج القومي مصحوبة بتغير الهيكل الإنتاجي لصالح الصناعة التحويلية ويفرّق بينها وبين النمو إلى كون النمو يشير إلى مجرد الزيادة في الناتج القومي أي من دون أن تصحبه التغيرات للإنتاج الصناعي(2) والناتج القومي الذي يُعرَف: بـ(الدخل القومي National income مقياس للقيمة النقدية للتدفق الكلي للسلع والخدمات التي ينتجها النشاط الاقتصادي في مجتمع ما خلال فترة زمنية – سنة مثلاً -،)(3).
ومن خلال التعريف الاصطلاحي للتنمية يتضح لنا أن الزيادة التي تحصل بالتنمية زيادة يصاحبها تطور في البُنى الاقتصادية الإنتاجية بينما النمو فهو الزيادة فقط وبالمقارنة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي نجد أن اللغوي يتعرض لمفهوم النمو دون التنمية.
(وكانت الأمم المتحدة أول مَن حاول إعطاء مفهوم اجتماعي للتنمية، حيث ورد في إحدى وثائقها الصادرة عام 1947 أن « الغاية النهائية للحكومات من التنمية الاقتصادية هي رفع الرفاه القومي لكل السكان »، وفي هذا الصدد يرى بعض الاقتصاديين أن ربط التنمية الاقتصادية بتحسين مستوى حياة غالبية السكان لا يجد مبرره فحسب في الناحية الاجتماعية بل وأيضاً في الناحية الاقتصادية، ذلك أن « النفقات التي يقوم بها الأشخاص أو الدولة لتحسين نظام الغذاء والحالة الصحية ومستوى الثقافة يمكن أن تكون أكثر إنتاجية في المدى البعيد من أية استثمارات أخرى »)(1).
(وتعرّف اليونسكو UNISCO التنمية: « ... انبعاث لروح المجتمع ذاتها »)(2) ويرى الكاتب أن هذا التعريف قريب من تعريف موريس غيرينيه Mourice Guernie لها فقد عرّفها بأنها (ولادة ثانية للحضارات الكبرى في عصر التقدم التقني وعصر حقوق وواجبات الإنسان العالمية)(2).
وشتان ما بين المفهومين السابق والآخر للتنمية أي بين المفهوم الذي يركز على التنمية في جانبها الاقتصادي وبين الذي يركز على التنمية في جانبها الإنساني الذي تؤدي في النتيجة إلى التنمية في الجانب الاقتصادي أيضاً فالمفهوم الأول يضحي بالإنسان من أجل الاقتصاد والثاني يرفع من مستوى الإنسان وقدراته للنهوض بالاقتصاد الذي يعود بدوره إلى خدمة الإنسانية.
كما أن التطور في مفهوم التنمية، قد ربطها بالحضارات، فلكل مجتمع حضارته التي تعطي شكلاً للتنمية ينبثق ويتناسب مع الأمة التي تنتمي لتلك الحضارة وبالتالي لا تكون التنمية مستوردة ومستعاره ولا تمثل تقليداً أعمى للغرب، بل يجب ان تنبثق من حاجة المجتمع ولا تخدم إلاّ المجتمع الذي تقوم فيه .
الدول المتقدمة والدول المتخلفة: لقد ارتبط مفهوم التنمية بالتقدم الصناعي لذا فعندما توصف الدول بأنها متقدمة، ذلك يعني في ميدان الصناعة، وبعكسها الدول المتخلفة، يراد بها الدول التي ليس لها نصيب في التطور الصناعي وعليه قسّمت الدول إلى دول متقدمة، ودول متخلفة وأطلق عليها الدول النامية (جبراً للخاطر) ودولنا الإسلامية تدخل تحت العنوان الثاني. ولتوضيح الصورة أكثر (أن هناك في عالم اليوم مجموعة بلدان (متقدمة) تضم على وجه التقريب كل أوروبا غير الاشتراكية، والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا ونيوزيلندا الجديدة، وإسرائيل وأفريقيا الجنوبية، في قسم الأقلية البيضاء منها، وأخيراً اليابان. وتوضع على حدة عادة الأربعة عشر بلداً اشتراكياً في العالم، من كوبا إلى فيتنام الشمالية التي يعترف بأنها –حيث لا تصل إلى مستوى بلدان المجموعة الأولى، فإنه لا يمكن اعتبارها، بحال من الأحوال، متخلفة – بعد ذلك تأتي بقية العالم، وبمعنى آخر الأكثرية الساحقة للدول الممثلة في هيئة الأمم المتحدة. فعلى الرغم من بعض التباين الجاري، ما تزال أمريكيا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا غير الاشتراكية منتمية في التصور الشائع وحتى في الحقيقة إلى عالم التخلف هذا)(1). ومن هذا التقسيم وهذا الوصف الذي وصف به العالم الثالث المتخلف استمدت أوروبا وامتداداتها وعيها الصالح لقوتها ولحقها في السيطرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(2).
مظاهر التخلف:
للتخلف مظاهر كثيرة تترك طابعها على جوانب الحياة المختلفة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وقد يُعبّر عنها بخصائص التخلف(3)، وسنحاول التعرض لأهمها:
1- نقص رؤوس الأموال (أي ضعف التكوين الرأسمالي): ويقصد به الاستثمار، باعتبار أن التنمية مرتبطة بالتقدم الصناعي، والأخير يحتاج إلى رؤوس أموال تستثمر لتلبية متطلبات الصناعة، ويعزى نقص رؤوس الأموال إلى ضعف الادخار، أو تدني نسبة الادخار فهي لا تتجاوز 5٪ في الدول المتخلفة، في حين أنها لا تقل عن 15٪ في البلدان المتقدمة.
إذن فرأس المال يلعب دوراً مهماً في عملية التنمية وقد عدّت بلداننا الإسلامية جميعها بلداناً نامية – باللفظ المحسّن للمتخلفة – فلماذا لم تلعب أموال النفط والمعادن والزراعة والثروة البحرية دورها في عملية التنمية ؟ ولماذا عدّت متخلفة رغم امتلاكها رؤوس الأموال الضخمة والمواد الأولية ؟ ونتساءل هل استطاعت أموال الخمس أن تلعب دورا ايجابيا في التنمية ؟
2- نقص وسوء التغذية: يعد سوء التغذية أو نقصها أحد مظاهر التخلف وهو من أخطر المشكلات التي تواجهها الإنسانية في بلدان العالم الثالث (فحسب معطيات منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، يعاني الآن أكثر من 700 مليون شخص من بينهم 35٪ من الأطفال دون العاشرة من العمر من المجاعة كما أن 30٪ من سكان أمريكا اللاتينية و32٪ من سكان آسيا يعانون من سوء التغذية كما يذكر (جيمس غرانت J Grantt) مدير المنظمة العالمية للصحة أن الوضع الغذائي للعديد من البلدان النامية يتفاقم عاماً بعد آخر حيث يموت سنوياً ما يقارب 17 مليون طفل دون الخامسة من العمر، كما ينام 100 مليون من أطفال البلدان النامية كل ليلة وهم جائعون)(1).
ويعزى ذلك إلى أسباب طبيعية كالجفاف والفيضانات ... الخ، والى أسباب اقتصادية واجتماعية يمكن التحكم بها فالاهتمام بالزراعة التصديرية وإهمال الزراعة وعدم الاهتمام بالريف مما أدى إلى نزوح أهله وهذا يؤدي بدوره إلى قلة الإنتاج وتزايد الطلب على المواد الغذائية في المدن التي تستقبل النازحين، وقد عزوا المشكلة إلى التزايد السكاني في البلدان النامية وإذا كانت هذه هي الأسباب التي يعزى لها نقص الغذاء أو سوء التغذية في البلدان النامية، فما بالنا نرى شرائح كبيرة في الدول المتقدمة تصبح عرضة للمجاعة في بلد تتلف فيه المواد الغذائية لكي ترتفع أسعارها ؟
وكمثال على ذلك نذكر أنه في الولايات المتحدة الأمريكية (صاحبة أكبر فائض غذائي في العالم) هناك ما لا يقل عن 30 مليون إنسان يعانون من الجوع)(2)!. ومثال آخر (بالنسبة للدول النامية يذكر أن متوسط الاستهلاك الفردي من الغذاء في البرازيل يفوق الحاجة إليه بمقدار 10٪ في حين أن 44٪ من سكان هذا البلد النامي يعانون من سوء التغذية المزمن)(3). ويرى أحد المفكرين (أن السكوت عن الشقاء في البلدان المتقدمة يقابله سكوت عن الطبقات المترفة « الإقطاعية » أو البرجوازية في البلدان المتخلفة)(4). لذا يخلص إلى أن الجوع أو سوء التغذية ليس تفسيراً بحد ذاته، أن تفاقمه، بالعكس من ذلك، هو المحتاج إلى تفسير. وإلا فمن سيزعم أنه يصنع إحساناً لمقاومته سيتحول ذلك إلى إحسان وهمي(5). ويمكن مراجعة الكثير من المصادر على مواقع (الانترنت) التي تؤكد الموضوع تحت عنوان (مجاعة) famine))(6)
حقيقة المشكلة: وخلاصة ما يستنتج من الأمثلة السابقة ومن آراء المفكرين أن المشكلة الغذائية لا تكمن في جانب الإنتاج بقدر ما تكمن في جانب التوزيع وهذا ما يحدده الإسلام في المشكلة الاقتصادية ويضع الحلول العادلة له.
ولو تأملنا في واقع الأمة الإسلامية فماذا نجد ؟ نجد فقراً مدقعاً في جانب وثراءً فاحشاً في آخر، وفي نفس البلد، ناهيك عن التفاوت الموجود بين بلد وآخر، رغم ان الثروات بكل أنواعها التي يحتضنها تراب البلدان الإسلامية من المواد الأولية والثروات الزراعية والمعدنية وأهمها النفط ولكنها صنّفت ضمن البلدان النامية التي يعاني الكثير منها من سوء التغذية والفقر في حين لو أن هناك عدالة في التوزيع ووحدة اقتصادية أو سياسية بين الأوصال الثلاثين المقطعة للعالم الإسلامي لكانت أموال الزكاة والخمس وحدها كافية لأن يعيش كل فرد منهم عيشاً كريماً.
3- انتشار البطالة المقنعة:(1) والمقصود بها وجود عمّال أكثر مما يحتاجه العمل بحيث يمكن الاستغناء عنهم دون أن يتأثر الإنتاج مع بقاء العوامل الأخرى على حالها (أي ثبات رأس المال والتكنولوجيا) ويمكن أن توجد هذه البطالة في القطاع الزراعي والصناعي، ووجود البطالة المقنعة يعني – من وجهة نظر اقتصادية تحليلية – إن الإنتاجية الحدّية لبعض العاملين (Marginal Productivity of labour) أصبحت معدومة ويقصد (بها التغير في الناتج الكلي الذي يترتب على زيادة المستخدم من العمل بوحدة واحدة فقط)(2) ويحدث الوضع المذكور في حالة نقص في عوامل الإنتاج الأخرى مثل رأس المال التقني والأراضي الزراعية.
4- سوء إدارة المنشآت وعدم كفاءة الإدارة العامة وانخفاض الإنتاجية الاجتماعية: إن تخلف أو قصور أساليب العمل الإداري يحول دون الاستفادة القصوى من استغلال الموارد المتاحة وطنياً، ويرجع هذا القصور إلى مجموعة من العوامل منها:
1- عدم توفر العناصر الإدارية القادرة على إدارة المشاريع الإدارية.
2- سوء توزيع الاختصاصات أي عدم تطبيق مبدأ « الشخص المناسب في المكان المناسب ».
3- انتشار الإدارة العائلية حيث لا يتم اختيار العاملين وفـقـاً لمؤهلاتهم العلمية بل وفقاً لقرابتهم.
4- انعدام الظروف الملائمة للعمل، مما يؤدي إلى تدني إنتاجية العاملين.
5- الروتين الحكومي الذي يؤثر على النشاط الاقتصادي الخاص والعام(1).
5- انخفاض متوسط دخل الفرد: ويشمل هذا الانخفاض جميع الدول النامية عدا النفطية منها ويعتبر متوسط دخل الفرد في البلدان النامية متدني جداً حيث تذكر (إحصائية للبنك الدولي للإنشاء والاعمار أن سبعة من بلدان العالم الإسلامي وهي: بنغلادش، وغينيا بيساو، ومالي، والنيجر، والصومال، يكون دخل الفرد السنوي فيها أقل من (200) دولار أمريكي)(2). واندونيسيا البلد النفطي (البالغ عدد سكانه مائة وخمسين مليون نسمة، لا يستطيع خمسون مليون نسمة منهم أن يحصلوا على دخل سنوي قدره تسعون دولاراً)(3).
وقليل من الدول النامية(4) يتجاوز متوسط دخل الفرد فيها (1000) دولار، في حين لا يقل هذا المتوسط عن (20.000) دولار في الدول المتقدمة (دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية).
وهناك حقيقة هامة لابد من الالتفات إليها وهي أن الأرقام الخاصة بمتوسط دخل الفرد لا تكشف التوزيع الفعلي للدخل لكون إن هذه الأرقام تعطي كمتوسطات للدخل كناتج القسمة للدخل القومي على عدد السكان في حين أن هناك تفاوتاً صارخاً في توزيع الدخل القومي على السكان في أغلب الدول النامية.
ففي البرازيل على سبيل المثال – يحصل 20٪ من السكان على 63٪ من الدخل القومي في حين أن 40٪ من السكان (أصحاب أدنى الدخول) يحصلون على 8٪ فقط، وذلك حسب إحصائيات البنك الدولي لعام 1992. وقد ذكرنا في الفصل السابق – على سبيل المثال أن الإيرادات الصافية للصادرات النفطية للدول الإسلامية في منظمة أوپك بلغت (210) مليار دولار عام 2003، ولو كان هناك حسن إدارة وتوزيع للحقوق المالية على فقراء العالم الإسلامي فهل تجد هذه الهوّة بين الغني والفقير ؟ فعلى مَن تقع المسؤولية ؟!
6- سوء استغلال الموارد الطبيعية: من ظواهر التخلف إهمال أو سوء استغلال الموارد الطبيعية كالأراضي الزراعية أو الثروة المعدنية أو المائية.
وفي هذا الصدد يهمنا أن نلقي نظرة على بلداننا الإسلامية التي تنضوي تحت عنوان البلدان النامية (المتخلفة) لنرى ما فيها من ثروات وما تمّ استثماره منها وما هو مهمل ليظهر لنا الواقع بالأرقام.
تعتبر أكثر البلدان الإسلامية بلدانا زراعية، فمساحة العالم الإسلامي تبلغ ثلاثة بليون هكتار تمثل ما نسبته 21.9٪ من إجمالي مساحة العالم البالغة (13.4) بليون هكتار، أما مساحة الأراضي الزراعية في العالم الإسلامي فتبلغ ما يقارب (242) مليون هكتار، أي 8٪ من أراضي العالم الإسلامي، وحوالي 13.6٪ من مجموع الأراضي الزراعية في العالم(1).
كما يملك العالم الإسلامي ثروة مائية كبيرة لا تحتاج إلى إثبات، وطاقة سكانية هائلة يبلغ عدد العاملين منها في القطاع الزراعي ما يقدر نسبته 75٪ من السكان. كل ما يبشر بخير وفير متوفر، ونتساءل عن النتيجة فماذا نجد ؟!
نجد أن نسبة ما يستثمر من هذه الأراضي في الزراعة يقدر 4٪ من مجموع الأراضي الصالحة. وفي الوقت الذي يشكل سكان العالم الإسلامي 16.6٪ من إجمالي سكان العالم، نجد أن إنتاج العالم الإسلامي من الحبوب يمثل 9٪ من الإنتاج العالمي، وهذا يدلنا على العجز في سد الحاجة من الحبوب مما يجعله يعتمد في تغطية هذا النقص على الاستيراد (وطبيعي أن البلاد التي تضطر إلى الاعتماد على الاستيراد من الخارج في سد حاجتها إلى الغذاء والقوت اليومي، ستفتح الباب على مصراعيها للضغوط والتدخلات السياسية في شؤونها الداخلية، من قبل الدولة أو الدول المصدرة. هذا بالإضافة إلى مـا ترتبـه هذه الواردات من أعباء مـالية على الدولـة المستوردة)(2)، في حين يرى (الخبراء الزراعيون أن استغلال مساحة تقدر بـ(76) مليون هكتار من أراضي السودان فقط قادرة على سد النقص الذي يواجهه العالم الإسلامي في مجال إنتاج الحبوب)(3). ويرينا الواقع المرير أن 11٪ فقط من مساحة الأراضي الزراعية في العالم الإسلامي مستثمرة فعلاً أما ما تبقّى فمهمل(4). ولعل من المفيد في هذا الموضوع أن نلقي نظرة على العراق أرض السواد، ووادي الرافدين الذي يمتلك من الثروات الطبيعية كل الأنواع: المائية والمعدنية والأراضي الزراعية، ولكن أهله يموتون جوعاً ولا يجدون من أرض العراق الخصب ما يسد حاجتهم من الحبوب والمواد الغذائية في زمن الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه من قبل أمريكا متمثلة بمجلس الأمن والأمم المتحدة، وقبل الحصار متمثلة بالحاكم(1) الذي فرضته على العراق والمسمّى صدام حسين وزمرته البعثيين، أقول أن أرض الرافدين في فترة الحصار لم يسعفها الرافدان ولا أرض السواد فتفتقت ذهنية أمريكا والأمم المتحدة عن برنامج إنساني !! سمي برنامج النفط مقابل الغذاء (Oil for Food) فوضعت ثروته النفطية تحت إشراف الأمم المتحدة لتغطية نفقات الغذاء الذي يفترض أن يوزع على السكان، والذي كان من أردأ الأنواع إطلاقاً، في حين صُرفت أموال طائلة ثمناً لذلك النوع الرديء من الغذاء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع هذا إضافة إلى ما نُهب منها تحت هذا الغطاء الإنساني، فقد عاش العالم في حينها فضيحة النفط مقابل الغذاء فسرقة (21) مليار دولار(2) من أصل (100) مليـار دولار من قبل اثنين من العاملين في البرنامج الإنساني في الأمم المتحدة، ليس بكثير !! ونعود للقول مَن المسؤول ؟ ألا تقع – ولو جزءاً من المسؤولية – على المخلصين في الأمة لمعالجة الأوضاع وإنقاذ الناس ؟ وما هي المشاريع الخيرية التنموية التي أنشأت لمواجهة الأزمة ؟
عودة للعنوان:
ونعود للعنوان الذي ابتدأنا منه إذ يعزي المختصون هذه الظاهرة – سوء استغلال الموارد الطبيعية – إلى ما يلي(3):
أ- عدم توفر عناصر الإنتاج الأخرى اللازمة لاستغلال الموارد الطبيعية المتاحة وبصفة خاصة عنصر المال – وأركز هنا على عنصر المال – فهل باستطاعة أموال الخمس أن تسد هذا النقص، أو جزء منه ؟
ب- ضيق السوق المحلية وصعوبة التصدير إلى السوق العالمية إما بسبب انخفاض الجودة أو لارتفاع تكاليف الإنتاج مما يؤدي إلى غلاء أسعار المنتجات ولعل هذه النقطة التي أوردها الكاتب لا تتماشى كثيراً مع ما سبق من معلومات فيكفي الأسواق المحلية لتصريف الإنتاج بدل الاستيراد الخارجي، أما انخفاض النوعية فلعله بحد ذاته يعتبر نتيجة لمظهر آخر من مظاهر التخلف وهو التأخر التكنولوجي.
ج- سوء الإدارة داخل الوحدات الإنتاجية التي تتولى استغلال الموارد.
7- ضعف التصنيع: تتميز الدول النامية بتأخر الصناعة بالنسبة للدول المتقدمة ومن مؤثرات ذلك قلة نسبة العاملين فيها واقتصارها على الصناعات الخفيفة لدباغة الجلود وحلج القطن وما شابه. (ويترتب على ضعف وتأخر الصناعة في الدول النامية أن تصبح اقتصاديات هذه الدول تحت رحمة اقتصاديات الدول المتقدمة اقتصادياً، مما يهدد استقلالها الاقتصادي وبالتالي استقلالها السيـاسي لأن الاستقلال السياسي لن يكون له معنى إلا إذا كان مدعماً بالاستقلال الاقتصادي)(1).
8- التبعية الاقتصادية(2): من الخصائص التي تتميز بها الدول المتخلفة هي تبعية اقتصادها لاقتصاد الدول الإمبريالية(3)، أي بمعنى أن الدول المتقدمة تتحكم في مسار تطور اقتصاد الدول المتخلفة وأشكال هذه التبعية تظهر في:
أ- التبعية التجارية: ويقصد بالتبعية التجارية تحكم الطلب العالمي في معدلات نمو دخول الدول النامية، وذلك من خلال دور شركات الاستثمار للدول المتقدمة في عملية التصنيع للمواد المراد تصديرها التي تحصل على الأيدي العاملة الرخيصة والمواد الأولية فتحقق أرباحاً خيالية في حين تخضع تلك الصناعات للاستراتيجيات العامة لتلك الشركات، وليست لحاجة أهل البلد المصنع.
(ولابد من التذكير هنا أن توجيه صادرات الدول النامية في هذا الاتجاه ليس عملاً إدارياً، بل يشكل أثراً من آثار الاستعمار القديم. فالاستعمار هو الذي صمم، إلى حد كبير بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الهياكل الإنتاجية في معظم هذه البلدان حسب حاجاته هو)(4).
فالبلدان المتقدمة ترى أن صناعاتها مرتبطة بالدول النامية، فدول العالم الثالث تزودها بالمواد الأولية كالبترول، والنحاس، والمنغنيز، والأورانيوم، والقطن بالإضافة للأيدي العاملة الرخيصة. وإذا كانت الدول المتقدمة بحاجة إلى المواد الأولية والأيدي العاملة من البلدان النامية فهل يعني أن الدول النامية المالكة لذلك تستطيع أن تملي شروطها ؟
والإجابة على ذلك تأتي نفياً فالشركات الاحتكارية التي تحدثنا عن استثماراتها في الدول النامية هي التي تملك هذه المواد وتشرف على تصنيعها وتسويقها.
ب- التبعية النقدية: وتأتي هذه التبعية نتيجة لحاجة الدول النامية إلى رؤوس أموال الشركات الاستثمارية التي تربطها بعجلتها فارضة عليها شروطها، إضافة إلى القروض التي تقدم للدول النامية تحت شروط لا تخدم اقتصاد تلك البلدان بقدر ما تؤدي إلى ربطها بالدول المانحة لتلك القروض.
هذا لا يعني أن قسماً من الدول النامية (النفطية) لا تملك رؤوس أموال ضخمة تقدر بالمليارات غير أن هذه الأموال الضخمة تخرج أكثرها خارج بلدانها لتستثمر في أوروبا والولايات المتحدة، فقد قدرت(1) الإيداعات والاستثمارات لأموال الدول الإسلامية في أمريكا بـ(42) مليار دولار، وفي الدول الغريبة بـ(16) مليار دولار وفي الدول العربية بمقدار (12) مليار دولار، وكقروض للمؤسسات النقدية العالمية بقيمة (10) مليار دولار، وإيداعات في سوق النقد (60) مليار دولار، في حين يذهب ما قيمته (20) مليار دولار قروضاً واستثمارات في بلدان العالم الثالث الأقل نمواً.
ويدلنا ذلك أن موضوع التبعية النقدية للدول المتقدمة لا يأتي من عدم وجود رؤوس الأموال في البلدان النامية ككل، بل من عدم التخطيط الصحيح لتوزيعها واستثمارها في إطار تلك البلدان بما يغنيها عن الارتباط والتبعية النقدية للدول المتقدمة.
ج- التبعية التقنية (التكنولوجيا): ويقصد بها النقل الأفقي للتقنية أي استيرادها من الدول المتقدمة بدل العمل على تنميتها تدريجياً وبذلك ترتبط عجلة تقدمها الصناعي بالتقنيات التي تعتمد على استيرادها من الدول المتقدمة.
كما أن هناك خصائص اجتماعية وسياسية للتخلف تتمثل في:
- الأمية وتخلف الخدمات التعليمية.
- انخفاض المستوى الصحي وارتفاع نسبة الوفيات.
- تخلف المرافق العامة والخدمات الأساسية.
- سوء استغلال وقت الفراغ.
- فساد البيئة السياسية وتسلط الحكام وكبح الحريات.
- وقد عدّ تكاثر السكان في البلدان النامية أحد مظاهر التخلف أيضاً.
التنمية من منظور إسلامي:
يمكننا تعريف التنمية من منظور إسلامي (بأنها عملية استثمار وتطوير قدرات الأمة وإمكانياتها المادية والإنسانية للوصول بأوضاع الأمة الإسلامية إلى مستوى التفوّق والقدرة على قيادة البشرية)(1).
ولو قارنا بين التعريف الإسلامي للتنمية وبين ما سبق ذكره من تعريف الأمم المتحدة، وتعريف اليونسكو UNISCO، وموريس غرينيه Mourice Guernie، نجد أن تعريف الأمم المتحدة الذي أعطى مفهوماً اجتماعياً للتنمية ولم يركز على الاقتصاد فقط، بقوله أن (الغاية النهائية للحكومات من التنمية الاقتصادية هي رفع الرفاه القومي لكل السكان)(2)، هذا التعريف قد أخذ العناية بالإنسان بعين الاعتبار من حيث تحسين أوضاعه المعيشية، واعتبر ذلك الهدف النهائي من التنمية ويشترك الفهم الإسلامي للتنمية مع التعريف المذكور ويزيد عليه في كون هذا الاهتمام والتنمية لا تقتصر على الجانب المعيشي والمادي للإنسان بل تتعداه إلى الجانب المعنوي والروحي. ولعل التعريف الإسلامي يلتقي بشكل أكثر مع تعريف اليونسكو حيث نرى التنمية (انبعاث لروح المجتمع ذاتها) ويراها موريس غرينيه أنها (ولادة ثانية للحضارات الكبرى في عصر التقدم التقني وعصر حقوق وواجبات الإنسـان العالميـة)(3). فكلا التعريفين يتعرضان للجانب المعنوي المحرك للمجتمع والحضارات على اختلافها ومن هذا المنطلق تكون للعقيدة التي تبتني عليها حضارة أي مجتمع دور كبير في عملية التنمية لذلك المجتمع، وبناء على ذلك فلابد لعملية التنمية في البلدان الإسلامية أن تنطلق من العقيدة الإسلامية ذاتها. ولما كانت التنمية على الصعيد الاقتصادي تعني تنمية الإنتاج بالاستـفادة من الطبيعة واستثمـار الطاقات واستحداث الأسـاليب والطرق التي تؤدي إلى ذلك في إطار المذهب. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن تنمية الإنسان بتوفير فرص الرفاهية والعيش الكريم له وتفجير طاقاته الإنسانية على ألا تكون هذه العملية منفصلة عن التنمية الروحية التي تسير به نحو التكامل، إذا كان هذا المقصود من التنمية إسلامياً، فهل في النصوص الإسلامية والتشريعات الفقهية ما يعزز هذا الفهم ؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين نقطة الضعف ؟ وللإجابة على الأسئلة المذكورة لابد من إلقاء الضوء بشكل مختصر على نظرية الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي من خلال فكر السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه الموسوم « اقتصادنا ».
ما هو العلاج ؟
بعد هذا الاستطراد في عرض مظاهر التخلف في البلدان النامية نتساءل ما هو العلاج ؟
سؤال لا تتجاوز كلماته الثلاث إلاّ أن الإجابة عليه لا تفي بها مجلدات من أين نبدأ ؟ وهل سننتهي إلى تشخيص صحيح ؟ وأن كنا قادرين على تشخيص العلاج فهل نحن قادرون على الانتفاع به ؟ لكي نحاول الإجابة على السؤال السابق لابد من التعرف على وجهه نظر الإسلام في موضوع التنمية بالخصوص كون أن كل بلدان العالم الإسلامي تصنف تحت عنوان البلدان النامية (المتخلفة) وبعد ذلك نحدد أبعاد المشكلة هل تكمن في تعاليم الإسلام ونظريته في التنمية ؟ أم تكمن في الآراء الفقهية ومن تصدوا إلى قيادة العالم الإسلامي ؟ أم إلى أسباب أخرى خارجية ؟
نظرية الإنتاج(1): في هذا الصدد يتعرض السيد الصدر إلى الصلة بين المذهب والإنتاج ويؤكد على أن لعملية الإنتاج جانبين:
1- الجانب الموضوعي: ويقصد به الأساليب والوسائل والجهود التي تستخدم في عملية الإنتاج وهذا الجانب من اختصاص علم الاقتصاد.
2- الجانب الذاتي: ويقصد به الدوافع النفسية والأهداف المتوخاة من عملية الإنتاج، وتقييم العملية وفق التصور الذي يتبناه المذهب عن العدالة. ويوكل هذا الجانب للمذهب الاقتصادي الذي يتبناه المجتمع، والمُثُل العليا للحياة التي يؤمن بها.
فالمذهب الاقتصادي يجيب على الأسئلة التالية: لماذا ننتج ؟ وإلى أي مدى ؟ وما هي الغايات التي تستهدف من وراء الإنتاج ؟ وما هو نوع السلعة المنتجة ؟ وهل هناك قوة مركزية تشرف على الإنتاج وتخطيطه ؟
تنمية الإنتاج موضوع يتفق عليه المذهب الإسلامي والمذاهب الوضعية:
يـؤكد السيد الصدر أن النقطة التي تتفق عليها كل المذاهب الاقتصادية، هي تنمية الإنتاج واستعمار الطبيعة بكل الوسائل والأساليب المتاحة، على ألّا يخرج ذلك عن إطارها المذهبي لكون موضوع التنمية جزء من كل يتمثل بالمذهب الاجتماعي لكل مجتمع، وعليه فالرأسمالية ترفض من الأساليب ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، في مجال التنمية وكذلك الإسلام يرفض منها ما يتعارض مع نظرياته في التوزيع والعدالة. فالاستفادة من الطبيعة واستثمارها لتحقيق التنمية للمجتمع الإسلامي يجب ألا يخرج عن إطار المذهب كما يقرر ذلك القرآن الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم وَلاَ تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعتَدِينَ ((1).
ويرى السيد الصدر أن التعبير بالنهي عن الاعتداء في مجال استثمار الطبيعة، تعبير عن الإطار المذهبي العام. ومن النصوص التي تؤكد اهتمام الإسلام بمبدأ التنمية، ما جاء في أمالي الطوسي عن أمير المؤمنين (ع) لما ولّى محمد بن أبي بكر مصراً، حيث كتب له كتاباً يتضمن تعليماته في هذا المجال وأمره أن يعمل بتعليماته، ويقرأه على أهل مصر حيث يقول (ع):
« يا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباح الله لهم الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجلّ:
) قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُونَ ((2) سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق مَن كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ».(1)
وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج:
ويؤكد السيد الصدر على أن الإسلام الذي أكد على التنمية والاستمتاع بالطبيعة على إنها هدف، نستطيع التعبير عنه بأنه هدف مرحلي على طريق تحقيق الهدف الأسمى في الحياة حسب نظرة الإسلام للحياة، ولتحقيق هذا الهدف فقد جند الإسلام إمكانياته المذهبية لذلك، لكون أن وسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين:
أولاً – وسائل مذهبية من وظيفة المذهب إيجادها وضمانها.
ثانياً – وسائل تطبيقية تمارسها الدولة التي تتبنى ذلك المذهب.
أولاً – الوسائل المذهبية: وتتمثل هذه الوسائل في الأسس الفكرية التي تثبتها الإسلام وذلك بالحث على العمل والاستثمار وذم البطالة، فأصبح العامل في سبيل قوته أفضل عند الله من المتعبد الذي لا يعمل وصار الخمول أو الترفع عن العمل نقصاً في إنسانية الإنسان وسبباً في تفاهته حسب تعبير السيد الصدر. وقد زخرت النصوص الإسلامية من الكتاب والسنة على تأكيد هذه المفاهيم. وعلى سبيل المثال فقد أهاب القرآن الكريم بالإنسان لاستثمار مختلف المجالات بقوله تعالى ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلُولاً فَامشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ ( ومن السنة الشريفة ما جاء عن رسول الإنسانية (ص): « إن إصلاح المال من الإيمان » « ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه الإنسان أو دابة إلا وكتب له به صدقة ».
وعن الرسول (ص) أيضاً: إنه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبلّها، وقال: طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة، ومَن أكل من كدِ يده مرّ على الصراط كالبرق الخاطف، ومَن أكل من كد يده نظر الله إليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبداً. ومَن أكل من كد يده حلالاً فتح له أبواب الجنة يدخل من أيّها شاء، وعلى مستوى التشريع، فإن تشريعات الإسلام في مختلف الحقول تتفق مع مبدأ التنمية وتساعد على تطبيقه.
6- الطوسي: شيخ الطائفة ابي جعفر محمد بي الحسن / آمالي الطوسي ص25-26 ط1 1384-1965 م / مؤسسة الوفاء بيروت
التشريعات والأحكام الإسلامية التي تساعد على التنمية: لقد أورد السيد الصدر قسماً من التشريعات الإسلامية في هذا الصدد أذكرها باختصار لإتمام الفائدة:
حكم انتزاع الأرض من صاحبها، إذا عطلّها وأهملها حتى خربت وامتنع عن اعمارها، وعلى هذا الأساس يستولي عليها ولي الأمر ويستثمرها بالأسلوب الذي يختاره.
- ونلاحظ هنا دور ولي الأمر في الموضوع.
منع الإسلام عن الحمى وهو: السيطرة على مساحة الأرض العامرة وحمايتها بالقوة دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها، وربط الحق في الأرض بعملية الأحياء.
- ونتساءل هنا مَن الذي ينفذ هذا المنع ؟ أليس هو ولي الأمر ؟
1- لم يعط الإسلام للأفراد الذين يبدأون عملية إحياء المصادر الطبيعية الحق في تجميد تلك المصادر وتعطيل العمل بها وفي مثل تلك الحالة لا يسمح لهم بالاحتفاظ بها حيث كلف ولي الأمر بانتزاعها منهم في حالة عدم استجابتهم لمواصلة العمل بها.
2- لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعية إلا بالقدر الذي يتمكن الفرد من استثمارها والعمل بها.
_ حرّم الإسلام الكسب بدون عمل، عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأجرة وإيجارها بأجر أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين من دون أن يمارس عملاً في ذلك.
_حرّم الإسلام الفائدة أو ألغى رأس المال الربوي ليضمن تحويل رأس المال إلى رأس مال منتج. علماً أن لرأس المال دوراً أساسياً في المشاريع التنموية. وإلغاء الفائدة يحقق مكسبين أحدهما تحول المرابين إلى مضاربين في المشاريع الصناعية والتجارية. كما أن أصحاب رؤوس الأموال سيستخدمونها في مشاريع ضخمة وأعمال طويلة الأمد لتحقيق الأرباح بعد أن أغلق أمامهم باب الفوائد.
_ حرّم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة والسحر والشعوذة ولم يسمح بالاكتساب بأعمال من هذا القبيل ) وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ (، لكون هذه الأعمال تبديد للطاقات الصالحة المنتجة في الإنسان، والأجور التي تدفع لهم، هدر للأموال التي يمكن أن تساهم في مشاريع التنمية.
_ منع الإسلام من اكتناز النقود، وذلك بفرض ضريبة على ما يكنـز من النقود الذهبية والفضية، وهي ضريبة الزكاة التي تستنفد المال المدّخر لأنها تتكرر في كل عام وتقطع منه في كل مرّة ربع العشر، ولا تتركه الضريبة حتى تنخفض به إلى عشرين ديناراً، وبالقضاء على الاكتناز تستثمر تلك الأموال في المشاريع التنموية.
_ تحريم اللهو والمجون، لكونها تلهي عن ذكر الله وتؤدي إلى تذويب الشخصية وتعطيل الطاقات وعزلها عن العمل المثمر المنتج.
_ المنع عن تركز الثروة وفقاً للنص القرآني الكريم: ) كَي لا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغنِيَاء مِنكُم ( ويرى السيد أن هذا المنع وإن كان يرتبط بالتوزيع ولكنه أيضاً يرتبط بالإنتاج لأن تركز الثروة بيد قلة من الناس، تصبح الكثرة الكاثرة عاجزة عن استهلاك ما يشبع حاجاتهم وبذلك تنخفض القوة الشرائية مما يؤدي إلى توقف الإنتاج.
_ وضع الإسلام المبادئ التشريعية للضمان الاجتماعي الذي يحمي الفرد في حالة خسارته ويوفر له فرص العيش الكريم، مما يجعله يندفع للمشاريع الإنتاجية بطمأنينة.
_حرم الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي، ومنعهم من الاستجداء، مما يوظف طاقاتهم في الإنتاج المثمر.
_ حرّم الإسلام الإسراف والتبذير، مما يحد من الحاجات الاستهلاكية ويوفرّ الأموال للأنفاق الإنتاجيّ.
_ أوجب الإسلام على المسلمين كفاية تعلم جميع الفنون والصناعات التي تنتظم بها حياتهم. وهذه النقطة تعيدنا إلى مظاهر التخلف التي منها التأخر العلمي والتكنولوجي. فالتعليمات الإسلامية أوجبت على الإنسان وجوباً كفائياً تعلم كل ما تحتاجه الحياة علماً أن هذا الوجوب لا يوجد في نظام آخر، فهلا تساءلنا ما الذي سدّ على المسلمين باب العلم وجعلهم في ركب المتخلفين تكنولوجيا ودينهم يوجب ذلك ؟ وما هو دور العلماء والمراجع في هذا الوجوب الذي يقابله هذا التخلف ؟
_ أوجب الإسلام على المسلمين الحصول على أكبر قدر ممكن وأعلى مستوى من الخبرة الحياتية العامة في الميادين، ليتاح للمجتمع الإسلامي امتلاك جميع الوسائل المعنوية والعلمية والمادية التي تساعده على دوره القيادي للعالم، بما فيها وسائل الإنتاج وإمكاناته المتنوعة. قال الله تعالى: ) وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ (، ويرى السيد الصدر أن القوة هنا جاءت مطلقة، فهي تشمل كل ما يزيد من قدرة الأمة على أداء رسالتها القيادية، وفي مقدمة تلك القوى الوسائل المعنوية والمادية للتنمية، ووضع الطبيعة في خدمة الإنسان.
- فما الذي حققناه في هذا المجال ؟ ومَن المسؤول عن تطبيق هذه الأحكام أو تعطيلها ؟ ومَن المسؤول عن وصول الأمة الإسلامية إلى أدنى مستوى من التخلف وأعلى مستوى من التبعية.
_ مكّن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها للقطاع العام. فأين هي الدولة التي تقود كل هذه المشاريع وكيف تحقق ذلك في ظل مبدأ فصل الدين عن الدولة ؟ الذي أريد لها ؟
_ أعطيت الدولة الحق في الإشراف على الإنتاج وتخطيطه مركزياً، لتفادي الفوضى التي تؤدي إلى شركة حركة الإنتاج، وتعصف بالحياة الاقتصادية.
هذا ما قدّمه المذهب على مستوى الفكر والتشريع للنهوض بالتنمية.
ثانياً – الوسائل التطبيقية التي تمارسها الدولة التي تطبق ذلك المذهب: بعد أن أعطيت الدولة من الصلاحيات ما لاحظناه في الأحكام الشرعية السابقة، فقد ترك لها الإسلام أن تدرس الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية، وتحصي الثروات، وتستوعب ما يختزنه المجتمع من طاقات ومواهب، وما يعيشه من مشاكل، وعلى ضوء ذلك تضع خططها في السياسة الاقتصادية – في حدود المذهب – بما يؤدي إلى التنمية وزيادة الإنتاج.
فالمذهب لا يرسم السياسة الاقتصادية للدولة بل يتركها لتقدير الدولة وظروفها في إطار المذهب. يتضح لنا من ذلك أن جميع ما هيأه المذهب من وسائل للتنمية والإنتاج سواء على الصعيد الفكري أو التشريعي يبقى معطلاً ما لم تكن هناك دولة إسلامية تقع على عاتقها مهمة التنفيذ وتفعيل تلك الأحكام وإنزال تلك الأفكار والثقافة التنموية إلى حياة الناس وواقعهم.
لماذا ننتج ؟ أو ما هو الهدف من التنمية: بعد أن وضحنا رأي الإسلام في موضوع الإنتاج وتنميته واتفاقه مع المذاهب الأخرى على أصل المسألة , يوضح السيد الصدر النقطة الثانية التي ترتكز عليها نظرية الإنتاج وذلك بالإجابة على السؤال الآنف الذكر، وللإجابة على السؤال السابق لابد من توضيح ما يلي:
1- مفهوم الإسلام عن الثروة: بالاستفادة من النصوص التي تتحدث عن الثروة والغنى والمال يرى السيد الصدر إنها تنقسم إلى قسمين، قسم يمتدح الثروة والغنى ويعتبرها عوناً على مرضاة الله وبلوغ الآخرة وقد أورد (قدّس سرّه) بعضها في ص634 من كتابه (اقتصادنا) منها مايلي :
- قال رسول الله (ص): « نعم العون على تقوى الله الغنى ».
- عن الصادق (ع): « لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه ».
- وفي الحديث: « ليس منّا مَن ترك دنياه لآخرته أو آخرته لدنياه ».
أما القسم الثاني فنصوص تؤكد على رفض الدنيا وأن مرضاة الله لا تحصل إلا بالزهد في الدنيا وتركها، ومنها:
- عن الرسول (ص): « مَن أحب دنياه أضر بآخرته »
- عن الصادق (ع): « رأس كل خطيئة حب الدنيا ».
وللوهلة الأولى يبدو هناك تضاد بين المجموعتين ففي المجموعة الأولى يفيد أن الغنى والدنيا تساعد على التقرب لله وبعكسها المجموعة الأخرى فإنها تفيد أن حب الدنيا يبعد عن الله. ويؤكد الصدر على أن حل هذا الأشكال (بعملية تركيب) فالدنيا والثروة والغنى نِعمَ العون على الآخرة وهي رأس كل خطيئة لأنها ذات حدين، وإطارها النفسي هو الذي يبرز هذا الحد أو ذاك. (فالثروة في رأي الإسلام وتنميتها هدف من الأهداف المهمة ولكنه هدف طريق لا هدف غاية فليست الثروة هي الهدف الأصيل الذي تصنعه السماء للإنسان الإسلامي على وجه الأرض، وإنما وسيلة يؤدي بها الإنسان الإسلامي دور الخلافة، ويستخدمها في سبيل تنمية جميع الطاقات البشرية والتسامي بإنسانية الإنسان في مجالاتها المعنوية والمادية فتنمية الثروة والإنتاج لتحقيق الهدف الأساسي من خلافة الإنسان في الأرض هي نعم العون على الآخرة، ولا خير فيمن لا يسعى إليها، وليس من المسلمين بوصفهم حملة رسالة في الحياة مَن تركها وأهملها. وأما تنمية الثروة والإنتاج لأجل الثروة بذاتها، وبوصفها المجال الأساسي الذي يمارس الإنسان فيه حياته ويغرف منه، فهي رأس كل خطيئة، وهي تبعد الإنسان عن ربه، ويجب الزهد فيها)(1).
يتبين مما تقدم من نص أن التنمية من وجهة نظر إسلامية في الوقت التي تتفق فيه مع بقية المذاهب الاجتماعية على أصل تفعيلها وإقامة المشاريع التنموية لتحقيقها فإنها تنفرد عن غيرها من النظم في أهدافها ففي الوقت الذي تبقى فيه الرأسمالية حبيسة الثروة وإطارها الضيق حيث يجعل من أصل تنمية الثروة هدفاً لها، تنطلق التنمية في الإسلام من أفق تنمية الثروة الضيق الذي تعتبره هدفاً مرحلياً إلى أفق رحب وهدف أسمى وهو تنمية الإنسان لا على مستوى العيش المرفه وحسب، بل على المستوى الروحي والمحتوى الداخلي للإنسان للسير به في طريق التكامل لتحقيق الهدف من خلال وجوده على الأرض. وعليه فإن الأموال الطائلة من الخمس تمثل العمود الفقري لمشاريع التنمية مع ميزة الأيدي العاملة والمواد الأولية المتوفرة في بلداننا الإسلامية على المستوى الاقتصادي والإنساني، فهل حققت هذا الهدف ؟
2- ربط تنمية الإنتاج بالتوزيع: إن الإسلام لا ينظر إلى تنمية الثروة بشكل منفصل عن توزيعها بالشكل الذي يحقق نموّها من رفاهية ويسر ورخاء للأمة، وهذا خلاف النظرة الرأسمالية للتنمية التي تعتبر زيادة ثروة المجتمع ككل الهدف الأساس، بغض النظر عن توزيعها وانتشار الرخاء لأفراد المجتمع، وبحسب التعبير الاقتصادي فالتنمية من منظور رأسمالي هي الزيادة في الناتج القومي، وهذا يعني أن ترّكز الثروة لدى شريحة قليلة من المجتمع لا يضر بمفهوم التنمية ما دامت النتيجة زيادة الناتج القومي مصحوباً بتطوير في المجال الصناعي، وأن بقي القسم الأكثر من الناس لم يتأثر إيجاباً بالزيادة المذكورة، علاوة على أن عملية التنمية في النظام الرأسمالي لا يُلاحظ بها تنمية الإنسان من ناحية معنوية وروحية والسير به في مراتب الكمال لأنها تناط بإطار الحضارة والمذهب الذي تنطلق منه والذي لا يرى غير المادة.
3- تصور الإسلام للمشكلة الاقتصادية(2): في هذه النقطة المهمة حيث أن الخطأ في تشخيص المشكلة مقدمة للخطأ في إيجاد الحل السليم النافع لها، يرى الشهيد الصدر أن المشكلة الاقتصادية من وجهة نظر إسلامية لم تنشأ من ندرة موارد الإنتاج وبخل الطبيعة، وإن كانت الموارد الطبيعية محدودة، ولكن المشكلة نشأت من سوء التوزيع النابع من ظلم الإنسان نفسه، فالتصور الإسلامي للمشكلة الاقتصادية التي يستند إلى النصوص الإسلامية (يرى أن الطبيعة قـادرة على ضمان كل حاجات الحياة، التي يؤدي عدم إشباعها إلى مشكلة حقيقية في حيـاة الإنسان)(1).
ومن هذه النصوص ما جاء في القرآن الكريم: ) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقاً لَّكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ فِي البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ ! وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ ! وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعمَتَ اللهِ لاَ تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( (2).
وهكذا تتحدث الآية المباركة عمّا أنعم الله سبحانـه بـه على الإنسان في هذه الطبيعة الواسعة، وتعزي مشكلة الإنسان إلى ظلمه ) إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (، (فظلم الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان، ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع، ويتجسد كفرانه للنعمة في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي فيها).
- وهل هناك ظلم وكفران أكثر من أن ترمى نعم الله من المنتجات والمحاصيل الزراعية في البحر، ويحرم منها الفقراء من أجل ارتفاع أسعارهما في السوق؟ وهذا ما يفعله الرأسماليون اليوم لزيادة ثروتهم فأين هذا العمل من المشكلة الاقتصادية التي حددتها الرأسمالية ؟ وهل وفرة الإنتاج تقتضي إتلاف المنتج ؟ ولعل ذلك أبسط ما يسقط زيف ادعاء الرأسمالية وخطأ تصورهم للمشكلة.
وخلاصة مـا يريد الشهيد قوله في هذا المجال أن المشكلة الاقتصادية التي يشخصها الإسلام في سوء التوزيع قد حلّها بعدالة التوزيع فجعل العمل والحاجة سبـباً للملكية وبذلك كان للحاجة دور في التوزيع، وهذا ما تختلف فيه الرأسمالية مع الإسلام. (فإن الحاجة في المجتمع الرأسمالي ليست من الأدوات الايجابية للتوزيع، وإنما هي أداة ذات صفة مناقضة ودور إيجابي معاكس لدورها في المجتمع الإسلامي. فهي كلما اشتدت عند الأفراد انخفض نصيبهم في التوزيع حتى يؤدي الانخفاض في نهاية الأمر إلى انسحاب عدد كبير منهم عن مجال العمل والتوزيع)(1) والوصول إلى هذه النتيجة (نظراً إلى أن الطاقة الإنسانية سلعة رأسمالية تتحكم في مصيرها قوانين العرض والطلب، كما تتحكم في سائر سلع السوق)(2). (فالحاجة في المجتمع الرأسمالي تعني انسحاب الفرد من مجال التوزيع وليست أداة للتوزيع)(3).
وقفة مع السيد الصدر (قدس سره) في موضوع التوزيع:
لاشك أن السيد الصدر (قدس سره) حين ناقش موضوع التوزيع في النظام الرأسمالي، وقرر أن الحاجة تعني انسحاب الفرد من مجال التوزيع وتحمله لآلام الحرمان والموت جوعاً، إنما كان ذلك القرار مبنياً على ما تنتجه الأسس التي بُنيت عليها النظرية الرأسمالية فتقرير النتيجة المذكورة إنما كان على مستوى النظرية، كما أن تقرير كون الحاجة سبباً للتوزيع في الإسلام على مستوى النظرية أيضاً في حين أن الواقع العملي للمجتمع الرأسمالي يرينا غير ذلك فان النظرية الرأسمالية التي لم تجعل للحاجة دوراً في التوزيع تلافت نقصها بتشريعات استثنائية ونظام عملي، وذلك بتشريع قوانين الضمان الاجتماعي وتطبيقاتها، ولكي لا نبخس الناس حقهم علينا أن نرى ايجابيات الناس بحيادية وسلبياتهم بحيادية أيضاً من أجل الوصول للمشتركات التي تخدم الإنسانية، يمكننا القول أن من ناحية عملية هناك دور للحاجة في التوزيع في المجتمعات الرأسمالية وأخص بالذكر – بريطانيا – ولذا فالضرائب التي تفرض في النظام الضرائبي الرأسمالي البريطاني على السلع وأصحاب الأعمال والدخول يكون هناك نصيب وافر فيها للحاجة في التوزيع وحسب النظرية الإسلامية في التوزيع، وحسب مـا ذكره الشهيد الصدر في مثال تحت عنوان « دور الحاجة في التوزيع »(4) حين قسم المجتمع الإسلامي إلى ثلاث فئات: فئة قادرة بما تتمتع به من مواهب وطاقات فكرية وعملية، على توفير معيشتها في مستوى مرفـه غني، فهي تستمد حظها من التوزيع على أساس العمل وإن زاد عن حاجاتها الضرورية. وفئة ثانية تستطيع أن تعمل، ولكنها لا تنتج في عملها إلا ما يشبع ضروراتها ويوفر لها حاجاتها الأساسية، أما الحاجات الأخرى – غير الضرورية – فتسدها الدولة للحاق بمستوى الناس العام من الرفاه، وفقاً لمبادئ الكفالة والضمان التي يتضمنها النظام الإسلامي. أما الفئة الثالثة التي لا يمكنها العمل لضعف أو عجز أو عاهة وما إلى ذلك فتحصل على نصيبها من التوزيع وفق مبادئ الكفالة العامة والضمان الاجتماعي بما يرفعها إلى المستوى العام للناس.
أقول وفق المثال التوضيحي المذكور من السيد الصدر نجد أن المجتمع البريطاني الذي يحكمه النظام الرأسمالي قد توصل إلى نفس النتيجة فبالنسبة للفئة الأولى العاملة الغنية التي تحصل على نصيبها من التوزيع بالعمل وحده، وتقوم بدفع الضرائب فإن تلك الضرائب تصرف على الفئة الثانية التي لا يفي عملها إلا بالمتطلبات الضرورية، تحت عنوان (Family Credit) والفئة الثالثة العاطلة عن العمل لأسباب وجيهة مقبولة فإنها أيضاً تأخذ نصيبها من التوزيع، تحت عنوان (Income Support) أو (Pension) للعاجزين ... وهذا لا يدل على كمال النظرية الرأسمالية بل على نقصها حيث تم تلافي هذا النقص عملياً في مسألة التوزيع وإن اختلف مع أسس النظرية، وإنه لنجاح للنظرية الإسلامية كونها تلبي حاجات البشر.
ولكن الأسئلة المؤلمة التي لابد من طرحها حفاظاً على الحيادية في البحث العلمي، هي: أين عدالة التوزيع في المجتمعات الإسلامية ؟ وأين كرامة المعوزين والفقراء ؟ وهل تمّ سد حاجاتهم ؟ وكيف ؟ وهل روعيت مسألة الحفاظ على كرامة الإنسان في سد حاجات المعوزين في الحقوق الشرعية ؟ وهل وضع نظام لذلك ؟
يجيبنا الواقع بالنفي، فالدول الإسلامية لا يحكمها نظام إسلامي وإن كان أعضاء الحكومة مسلمين، ونتساءل من جديد ألا يستطيع المراجع الكرام والمؤسسات المرجعية على القيام بقسم من المشاريع التنموية والتخفيف من مظاهر التخلف في المجتمع ؟ بل، ألا يستطيع الفقهاء العظام حل المشكلة الأولى، مشكلة الحكومة إذا كان لها ذلك الدور الخطير في تطبيق الشريعة ؟
أسباب التخلف ومعوقات التنمية في العالم الإسلامي:
لعلنا ونحن نوشك على الانتهاء من هذا البحث أدركنا أن عوامل التنمية في كل نظام لا تخرج عن:
1- اهتمام المذهب الاقتصادي الذي يتبناه المجتمع بموضوع التنمية وتهيئته ما يحتاجه الموضوع على المستوى الفكري والتشريعي بما يشكل العمود الفقري والهيكل العام لموضوع التنمية.
2- توفر المواد الأولية والثروات الطبيعية والطاقات البشرية كعامل أساس من عوامل التنمية.
3- وجود حكومة مؤمنة بذلك المذهب قادرة على وضع نظام وإيجاد آليات تطبيقية لتفعيل تلك التشريعات وإنزالها إلى واقع الحياة.
ومن خلال ما تمّ طرحه نجد أننا كمسلمين نمتلك العامل الأول من خلال توفر الإسلام على مذهب اقتصادي يدعم موضوع التنمية على المستوى الاقتصادي والإنساني مادياً ومعنوياً، كما نجد توفر العالم الإسلامي ككل على العامل الثاني وهو وجود الثروات الطبيعية والطاقات الإنسانية، غير أننا كمسلمين لا نملك العامل الثالث للتنمية، القادر على تفعيل موضوع التنمية، ألا وهو الحكومة المؤمنة بالإسلام كنظام حياة ونظام حكم، لتتبنى تشريعاته بشكل عام وفي موضوع التنمية بشكل خاص، لذا بقيت تلك التشريعات على مستوى النظرية ولم تنـزل إلى حيّز التطبيق الواقعي، وبقيت تلك الثروات الهائلة تتناهبها أيدي اللصوص على مرّ التاريخ حيث ساهمت تلك الثروات في تأخر الأمة لا تقدمها، إذ جعلت الأمة الإسلامية مطمعاً للغزاة والمحتلين مما زاد الأمر سوءاً.
وبقيت أموال الخمس _ وأؤكد على أموال الخمس لانها اكثر الضرائب الاسلامية نسبة _ لمبعثرة بين المرجعيات المتعددة وأجهزتها، تتراكم على شريحة من المجتمع وتنحسر عن أخرى من دون أن تلعب دورها التنموي في حياة الأمة، لا عن سوء قصد فمراجعنا الكرام أعلى الله مقامهم أرفع من ذلك، ولكن ذلك نتيجة الخلل الذي يتركه عدم وجود حكومة إسلامية.
كيف حصل الخلل (عدم وجود حكومة) في تشريع متكامل ؟
إذا كان الخلل الذي تعاني منه الأمة الإسلامية والداعي إلى تخلفها وإعاقتها عن مواكبة عملية التنمية في البلدان المتقدمة – رغم تأكيد الإسلام على الموضوع – هو عدم وجود حكومة إسلامية تنـزل الأحكام الشرعية إلى واقع حياة الأمة في المجال السياسي والاقتصادي، والإنساني، فهل من المعقول أن نصف شريعة كالشريعة الإسلامية بأنها كاملة وخاتمة للشرائع وقد وضعت على مستوى التشريع ما ينظم الحياة في كل مجالاتها، ثم ينقصها الإشارة إلى مَن يتولى مهمة التنفيذ والتطبيق ؟ علما ان سؤالا قد وجه الى عدد من كبار المراجع حول اهمية ووجوب اقامة حكومة اسلامية في زمن الغيبة وكان جواب الجميع بالايجاب .
فإلى مَن يتوجه هذا الوجوب ؟ ولماذا لم ينـزل هذا الحكم الشرعي إلى حيز التطبيق ؟ هل ضاعت المسؤولية ؟ ومَن هو أولى المسلمين بإقامة هذا الحكم ؟ أليس إقامة الحكومة عملاً سياسياً ؟ فلماذا تعيب بعض الحوزات على مرجع الدين تدخله في السياسة ؟ من أنزل هذه الثقافة الى الحوزة بل الى اللمجتمع ؟ ألم يترك مَن يعمل بالسياسية ويتصدى لإقامة الحكم الإسلامي، وحيداً في الساحة ؟
الآراء الفقهية ومشكلة إقامة الدولة الإسلامية
لم نشهد في تـاريخ الغيبة الطويل حكومة إسلامـية شرعية تحكم رقعة من الرقاع الإسلامية الممزقة ولا أدري لماذا لم يعمل بهذا الوجوب – أعني وجوب إقامتها – الذي يترتب عليه الكثير، حتى قامت الدولة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس سره) ولا زالت محفوظة بعين الله تحاربها كل قوى الضلال، في حين اتفق الجميع على أن الإسلام دين متكامل واتفقت الآراء الفقهية أنّ للإسلام حكماً في كل صغيرة وكبيرة حتى أرش الخدش، واتفقوا على أن الفقيه الجامع للشرائط هو الذي له الصلاحية في زمن الغيبة بصفته نائب الإمام غير أنهم اختلفوا في حدود هذه الصلاحية فمنهم من آمن بالولاية الخاصة التي لا تتعدى الفتوى والأمور الحسبية، وسكت عمن له صلاحية تفعيلها وتطبيقها وإنزالها إلى حيز الواقع وإقامة الحدود وقيادة الأمة ورعاية مصالحها الاقتصادية والسياسية والإنسانية، وهم الكثرة من الفقهاء، أي بكلمة مختصرة أنهم آمنوا بشمولية الأحكام الإسلامية لجميع مرافق الحياة وأن فيها خلاص الإنسان وسكتوا عن حكم واحد من شأنه أن يجعلها فاعلة وهو وجوب قيام الحكومة وتشخيص الذي ينصبُّ عليه ذلك الوجوب لذا كان الإسلام صالحاً للإنسان في كل المجالات مع وقف التنفيذ.
وأما القلة من الفقهاء فقد آمنوا بما آمن به كل فقهاء المسلمين من أبناء المذهب على مرّ التاريخ في شمولية الأحكام الإسلامية وصلاحيتها ووجوب تصدي حكومة إسلامية تتمثل بالفقيه لتطبيقها وتجسيدها فكانت نتيجة تلك الآراء الفقهية القليلة أبحاث مطولة في الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، وثمرة عملية تتمثل بالدولة الإسلامية في إيران التي أقامها الإمام الخميني ( قدس سره ) وقادها خلفه سماحة اية الله العظمى السيد الخامنئي ( دام ظله)والتي تعمل وفق نظرية ولاية الفقيه العامة .
وبين الولاية الخاصة والولاية العامة، آراء فقهية في صلاحيات الفقيه تتسع وتضيق حسب ما يفهمه الفقهاء من أدلتها.
وهناك إذن نتيجتان للولاية العامة والولاية الخاصة تتمثلان فيما يلي:
1- ولاية خاصة ! فصل الدين عن الدولة (السياسة) ! عدم وجود حكومة إسلامية ! عدم وجود ميزانية مالية للدولة ! عدم وجود مشاريع اقتصادية وتنموية بكل أنواعها ! تصنيف الدولة دولة متأخرة ! سيطرة القوى الاستعمارية عليها والتحكم بمصيرها ! وهذا يؤثر على تفعيل كل الأحكام الفقهية حتى التي تتعلق بالعبادات ! موت الأمة وانحسارها عن مسرح الحياة.
2- ولاية عامة ! السياسة جزء من الدين ! وجود حكومة إسلامية ! وجود ميزانية للدولة ! القيام بالمشاريع الإنتاجية والتنموية بكل أنواعها ! تصنف الدولة دولة متقدمة ! قوة الدولة وقدرتها على التحرر من السيطرة الأجنبية ! امتلاكها للوسائل الإعلامية والثقافية ! قدرتها على تفعيل الأحكام الشرعية وتطبيقها في جميع المجالات ! تتخذ الأمة موقعاً متقدماً بين الأمم.
ولذا جاء التأكيد على الولاية في الروايات الكثيرة بكونها حافظة لأحكام الإسلام وفرائضه وسنته. وقد أكد القرآن الكريم على إقامة حكم الله وشرعه وطاعته وحذر من مخالفة أحكامه، فقد جاء في الذكر الحكيم ما يلي:
1- ) لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ ... ((1).
2- ) ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمرِ فَاتَّبِعهَا ... ((2).
3- ) مَا تَعبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسمَاء سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم ... ((3).
4- ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا .... ((4).
5- ) أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِّقَومٍ يُوقِنُونَ ( (5).
6- ) أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ... ( (6)
7- ) وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ ... ( (7)
ومما جاء في السنة نقتطف ما يلي:
1- الإمام علي (ع): « وأما ما فرضه الله – عز وجل – من الفرائض في كتابه، فدعائم الإسلام، وهي خمس دعائم، وعلى هذه الفرائض بني الإسلام... ثم الولاية، وهي خاتمتها والحافظة لجميع الفرائض والسنن .. »(1)
2- الإمام الصادق (ع): « إن الأئمة في كتاب الله – عز وجل – إمامان، قال الله – تبارك وتعالى: ) وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا ( لا بأمر الناس، يقدمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم. قال: ) وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ ( يقدّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله »(2)
3- ونقتطع من رواية الإمام الرضا (ع): «... إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف »(3)
4- وعن الإمام الرضا (ع): «... فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك ؟ قيل لعلل، منها: أن الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما وذلك إنا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمم والإرادة، فإذا كانا اثنين ثم اختلفت همتهما وإرادتهما، وكانا كلاهما مفترضي الطاعة، لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون في ذلك اختلاف الحلف والتشاجر والفساد، ثم لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلا وهو عاص للآخر، فتعم المعصية أهل الأرض، ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والإيمان، ويكونون إنما أوفوا في ذلك من قبل الصانع والذي وضع لهم باب الاختلاف وسبب التشاجر، إذ أمرهم بإتباع المختلفين »(4).
- ويستفاد من الرواية السابقة أنها لا تتحدث عن إمامين معصومين لأن المعصومين لا يختلفان.
- كما أنها لا تتحدث عن مراجع الدين في موضوع الفتوى، فتعدد المرجعيات مما توافق عليه المذهب.
- إنما تتحدث عن ولي أمر وقائد لأمة من غير المعصومين، قد أمر الله بطاعته ليوحد الأمة أمام أعدائها ويقودها إلى بر الأمان، عارفاً بدينه ولابد أنها تقودنا للفقيه الحاكم وولايته الواسعة التي ستفيدها من الطاعة التي أمر الله الأمة بها.
ونكتفي بهذا القدر من الآيات والروايات ونلفت النظر إلى أهمية ما جاءت به من إقامة حكم الله وتنصيب ولاة الأمر , ولهذا السبب لكون أن ولاية الفقيه العامة في زمن الغيبة قوة للمسلمين وحفظ للدين لذا حوربت من قبل أعداء الإسلام كنظرية، وكدولة عاملة بها.
ملاحظة مهمة:
ليس خافياً على كل منصف أن مراجعنا العظام وعلى مرّ التاريخ هم من أنزه الناس وأحرصهم على الإسلام وأن لكل فقيه دليله الذي يعتمد عليه في رأيه الفقهي سواء قال بالولاية الخاصة أو العامة، ولكن البحث العلمي الذي حاولت فيه الحفاظ على الحيادية والتجرد أوصلني إلى هذه النتائج فلو افترضنا _ جدلا _ عدم وجود ما يمكن الاعتماد عليه من الادلة النقلية في موضوع الولاية العامة لدى مَن يقول بالولاية الخاصة، ولكن ألا يعتبر الواقع المرير وخضوع الأمة وخنوعها لأعداء الإسلام، وذهاب خيراتها وثرواتها في جيوب السراق الأدعياء، ما يدعو لإعادة النظر في الأدلة الفقهية في موضوع الولاية ؟ ألا يكفي مايفرزه هذا الواقع الضعيف الهزيل للمسلمين ان نعتمد الدليل العقلي في الموضوع؟
دور الهيمنة الأجنبية (الاستكبار) في تأخر التنمية في العالم الإسلامي:
يؤكد المفكرون والباحثون في مجالات التنمية أن أهم عامل أدى إلى إعاقة النمو وتعميق حالة التخلف في البلدان النامية بشكل عام والعالم الإسلامي بشكل خاص هو الاستكبار، فـ(جميع بلدان هذه المنطقة، بلا استثناء، حولت إلى مستعمرات أو نصف مستعمرات من قبل الدول الأوروبية الكبرى في زمن أو آخر بين القرن السادس عشر والقرن العشرين، وكلها ما تزال، حتى الآن، مرتبطة ارتباطاً كلياً أو أكثرياً بالبلدان المتقدمة في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد انضمت هذه المرة، إلى الدول المستعمرة بالأمس، الولايات المتحدة الأمريكية، الحاضرة عملياً في كل مكان)(1).
وقد استخدم الاستكبار كل وسائله العسكرية والسياسية والاقتصادية في إعاقة المشاريع التنموية في البلدان المستعمرة وكان لعالمنا الإسلامي نصيبه الراجح من ذلك، فعلى الصعيد السياسي أُقيمت (الحدود المصطنعة بين أجزاء الوطن العربي الواحد، خالقة بذلك كيانات قطرية تعرف مسبقاً إنها ستظل عاجزة عن تحقيق التحرر الاقتصادي وبالتالي تبقى خاضعة « للجاذبية الاستعمارية » على الرغم مما تتمتع به من مظاهر التحرر السياسي مثل الأناشيد والأعلام« الوطنية » وأصحاب « الجلالة والفخامة والسمو والنيافة والمعالي.. »)(2).
وعلى الصعيد الصناعي باعتبار أن التقدم يقاس اقتصادياً بالتطور في الجانب الصناعي فتؤكد الدراسات أن بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية (لم تكن أقل تطوراً في المناطق التي أصبحت الآن تعرف بالمتطورة. كما يؤكد هؤلاء الباحثون أن العرب كانوا مهيئين لتحقيق « ثورة صناعية لولا تدخل بعض العوامل الخارجية، وهي العوامل التي سهلت فتح الأسواق العربية أمام البضائع الأوروبية المصنعة، مما أدى إلى تقهقر الصناعات العربية التي كانت موجودة، وحال دون إقامة صناعات جديدة. وفي هذا الصدد يكتب أحد الاقتصاديين العرب قائلاً: لقد أدى تطبيق اتفاقية 1838 (بين فرنسا والسلطان العثماني) على تدفق البضائع الأوروبية على البلاد العربية، وإلى خروج المواد الأولية لتغذية مصانع أوروبا، وحرمت الصناعة المحلية الأولية من الحماية الجمركية في نفس الوقت)(1).
· وقد نتساءل: ماذا عن بعض الصناعات في بعض البلدان الإسلامية التي تسير باتجاه التطور على المستوى الاقتصادي ؟ والإجابة على ذلك أن بعض الصناعات الحديثة في بعض بلداننا الإسلامية لا تملك الحرية في تصنيع ما تريده وما يحتاجه البلد حيث أن حريتها في التصنيع مرتبطة بالحرية التي تسمح بها الدول الاستعمارية وبما يعود بالفائدة لتلك الدول لا الدولة النامية المصنعة، وبما يخدم مصالحها وغير مزاحمة لمنتجاتها الصناعية، فهي مرتبطة بعجلة الاستكبار الذي يسعى لتحقيق مصالحه على حساب الشعوب من ناحية التمويل، والخبرة، والحاجة للمنتج، وفي الوقت الذي تبدو فيه هذه الصناعات قد حلت محل بعض المستوردات فهي (تخلق الحاجة إلى مستوردات أخرى، وبخاصة الآليات، والتجهيزات وقطع الغيار، وكلها منتجات مصنوعة وغالية، وبخاصة الآليات، والتجهيزات وقطع الغيار، وكلها منتجات مصنوعة وغالية، واستيرادها المتزايد باستمرار يتطلب بلا انقطاع، فتح أسواق جديدة، أحياناً، هذه المنشآت الجديدة يمكن أن تتطلب استيرادات حقيقية في قطاع الأشغال العامة الكبرى.
وأخيراً لابد من الإشارة على أن هذا يخلق غالباً الفرصة لأن تسيل إلى العالم الثالث تجهيزات مستهلكة، مهترئة أو منسقة لأن التقنية قد تقدمت)(2).
· وخلاصة ما أريد قوله أن العالم الرأسمالي كان و لا يزال يعيق عملية التنمية في البلدان الإسلامية التي لم تفلت من قبضته فهي إما تحت الاحتلال العسكري المباشر أو السيطرة الاقتصادية التي تؤدي بدورها إلى السيطرة السياسية وعدم استقلالية القرار، وانتهاءً بحملة التغريب الثقافية التي يخضع لها الإنسان المسلم تحت عنوان « العولمة » والتي تبتعد به عن هدفه الأصيل في الحياة وهو تحقيق الهدف في استخلاف الإنسان الذي هو الهدف الأساسي للتنمية من منظور إسلامي، (إن المأساة الحقيقية إذن في قصة الاتصال بين العرب والغرب ليست هي إنه كان من الممكن للعرب أن يحققوا تنمية أسرع مما تحقق لهم لو تمتعوا باستقلالهم، وإنما هي أنهم كانوا سيحققون التقدم بطريقتهم، وطبقاً لآمالهم وطموحاتهم هم، وبالمعدل الذي يختارونه، ربما كان هذا المعدل أبطأ مما تحقق لهم بالفعل، ولكن مَن الذي يستطيع أن يؤكد أن التطور الأسرع هو دائماً التطور الأفضل ؟).
نعم مَن قال أن التطور الأسرع هو الأفضل دائماً ؟ خصوصاً إذا صار واضحاً لدينا اختلاف الهدف الأساسي من التنمية بين الرأسمالية والإسلام، فغاية الرأسمالية من التنمية المادة، وغاية الإسلام ترفيه الإنسان والسير به في درجات الكمال والعبودية لله وما المادة إلا وسيلة لذلك، وشتان ما بين الغايتين.
عودٌ على بدء
صحيح أننا أرجعنا أسباب تأخر الأمة إلى سبب داخلي وهو عدم وجود الحكومة الإسلامية، وسبب خارجي هو الاستكبار ولكن أرجو ألا أكون مغالية أو متطرفة إذا أرجعت السبب الثاني للأول، فلكي لا نحاول التخلص من الذنب نرميه على غيرنا ونظهر بمظهر المظلومين المغلوبين على أمرهم، لماذا لا نشخص الحقيقة ما علّة تسلط الدول الاستكبارية على الأمة المسلمة ؟ ألسنا نحن عندما نفصل الدين عن الدولة، نقول للاستكبار – بشكل غير مباشر – تعال وأملأ هذا الفراغ فنحن أمة من الناس ولدينا ثروات كثيرة يسيل لها اللعاب، ولكننا أناس روحانيون متنسكون، متدروشون لا نتدخل بالسياسة، ولا يعنينا أمر الحكومة، كل ما نريده أن نصوم ونصلي ونحج ونلبس ونأكل ونسافر ونزور أئمتنا ونلطم رؤوسنا وصدورنا ووجوهنا في عاشوراء ليشهد الناس حبنا للحسين، أما لماذا ضحى الحسين بنفسه وبأهل بيته ولماذا رفض البيعة ليزيد، فيكفينا أن نسمعه بالقصائد والخطابات.
اقتراحات للتنمية
إذا كان ما توصلنا إليه في البحث السابق من أسباب التخلف هو عدم وجود حكومة تمثل الجهاز التنفيذي والتطبيقي للعملية التنموية، فإن ذلك لا يعني إننا وبمعزل عن الحكومة لا نستطيع أن نحقق بعض الأهداف بما يتوفر من أموال الخمس والزكاة. وهذه بعض الاقتراحات آمل أن تحقق شيئاً من الفائدة في التطبيق:
1- إيجاد مؤسسات مالية للخمس على غرار بيت الزكاة في الكويت لكي لا تتبعثر الأموال.
2- وضع لجان علمية متخصصة لدراسة بعض المشاريع الإنتاجية في حقل الصناعة والزراعة واستثمار أموال الخمس في ذلك بغية تشغيل العاطلين عن العمل من جهة وتوفير السلع والمنتجات الزراعية من جهة أخرى للناس، واستخدام أرباحها في رفع معاناة الطبقة المحرومة ممن ليس لهم معيل أو العاجزين عن العمل.
3- تنمية الطاقات العلمية وذلك باحتضان المتفوقين من الطلاب والطالبات في مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية وتوفير المتطلبات المادية لاستمرار دراستهم من حق الإمام فالتخصص في مختلف الصناعات والمعارف التي يحتاجها المجتمع المسلم واجب كفائي، كما أن طلب العلوم الدينية واجب كفائي، فلماذا يصرف على طلبة العلوم الدينية ولا يصرف على الآخرين ؟!
4- وضع لجان اجتماعية متخصصة تمتلك رؤية إنسانية وقدرة تربوية على التعامل مع الناس بطريقة تحفظ فيها كرامتهم للبحث عن الأطفال الذين يعوقهم الفقر أو اليتم عن التعليم وإدخالهم المدارس والصرف عليهم من الحقوق.
5- توفير الرعاية الصحية من خلال المستشفيات الخيرية بخدمات جيدة لمعالجة الفقراء والمحرومين. ولعل من المشاريع الصحية في هذا موجود بالفعل في بعض المناطق والبلدان ولكنه نادر، وقد سمعنا بمشاريع إنسانية في الهند وباكستان والدول الفقيرة يصرف عليها من الحقوق الشرعية ولكن لا ترقى لمستوى الحاجة والطموح علماً أنني أنظر إلى المجتمع العراقي في كتابة هذه المقترحات بشكل خاص والذي حرم من كل مشروع تنموي يقوم على الحقوق الشرعية، في حين أن أهله في أشد الحاجة لذلك بعد حصار جائر وحاكم جائر امتد حكمه طويلاً، وفوضى حاضرة نأمل أن تستقر في المستقبل وبين ما هو حاضر وما يأتي به المستقبل، يموت الناس نفسياً وجسدياً.
نتائج البحث:
آمل في نهاية هذا البحث أن أكون قد أجبت على الأسئلة التي أثرتها خلاله، ولعل نتائج البحث تركز تلك الإجابات وتبلورها.
1- التعريف الإسلامي للتنمية يتفق مع أفضل ما توصل إليه العقل البشري من تعريف ويزيد عليه، بتنمية الإنسان من الجانب الروحي.
2- أن الإسلام قد امن بالتنمية وحث عليها وهيئ قواعدها الفكرية وسنّ أسسها التشريعية، ونهت تشريعاته عما يعيق العملية التنموية.
3- أن الإسلام قد اتفق مع المذاهب الوضعية في الاهتمام بالتنمية واختلف معها في الهدف من التنمية فالتنمية من وجهة نظر رأسمالية مادية هدفها الثروة وزيادتها، أما الهدف الأساس للتنمية الإسلامية فهو تحقيق عبودية الإنسان لله وهو الهدف من عملية استخلاف الإنسان في الأرض.
4- على مستوى النظرية، فان التنمية الإسلامية ترتبط بتوزيع ما بعد الإنتاج إذ تجعل من العمل والحاجة أساسا لتوزيع ما بعد الإنتاج، في حين لا تؤخذ الحاجة أساسا للتوزيع في النظام الرأسمالي، ويتم التوزيع على أساس العمل ورأس المال، مما يجعل اشتداد الحاجة سببا لانخفاض الأجور في مجتمع تتحكم فيه قوانين العرض والطلب.
5- على المستوى العملي والتطبيقي تتلافى تشريعات النظام الرأسمالي هذا النقص في النظرية بتشريعات الضمان الاجتماعي التي تضمن توزيع ما بعد الإنتاج، مما يظهر النقص في أصل التشريع، فالوقت الذي استنفذته لتلافي هذا النقص في التشريع، يكون شاهدا على كمال الإسلام، واعترافا عمليا بصحة نظرياته واختصاره للزمن مما يخفف من معاناة الإنسانية، في حين يخفق المسلمون من الناحية العملية في تفعيل موضوع التنمية وما يتعلق بها.
6- إن الإخفاق في تفعيل المشاريع التنموية في العالم الإسلامي لا يعود للتشريع كما ذكرنا ولا لقلة الموارد الطبيعية والبشرية ورؤوس الأموال الضرورية، بل يعود إلى عدم وجود حكومة إسلامية تؤمن بنظريات الإسلام وتسعى إلى تطبيقها، أي فقدان الجهاز التنفيذي للعملية التنموية من جهة، والى أسباب خارجية تتمثل بالاستعمار من جهة أخرى.
(1) ابن منظور: لسان العرب، ج15 / ص: مادة (نمي).
(2) أمين: د. جلال / العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأورغواي 1798 – 1998 انظر ص: 153 مركز دراسات الوحدة العربية.
(3) هيكل: د. عبد العزيز فهمي / موسوعة المصطلحات الاقتصادية والأخصائية، ص: 596 – 597. دار النهضة العربية للطباعة والنشر 1406 هـ - 1986م.
(1) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، ص: 95.
(2) المصدر السابق، ص: 96.
(1) إيف بينوت: ماهية التنمية، ص: 6 / ترجمة: سعيد أبو الحسن.
(2) المصدر السابق، انظر ص: 6.
(3) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 13 - 45.
(1) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 15 – 16.
(2 و3) المصدر السابق، ص: 17 نقلاً عن كتاب السكان والمشكلة الغذائية للكاتبة الروسية كينيا جينيسكايا.
(4 و5) المصدر السابق، نفس الصفحة.
6 news.bbc.co.uk/1/hi/in-picture foodfirst.org/pubs/backgrdrs/2002 concern.net/pressroom/niger/index.
(1) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 18.
(2) هيكل: د. عبد العزيز فهمي / موسوعة المصطلحات الاقتصادية والأخصائية، ص: 534.
(1) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 18 – 19.
(2 و3) الموسوي: السيد ضياء / النهب الإمبريالي للعالم الإسلامي – حقائق وأرقام، ص: 33.
(4) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 19.
(1) Islamic Council of Europe, the Muslim word and the future economic order (London 1979), page: 305 – 306.
(2) الموسوي: السيد ضياء / النهب الإمبريالي للعالم الإسلامي – حقائق وأرقام، ص: 60.
(3) المصدر السابق، ص: 60 – 61.
(4) Islamic council of Europe, op. it, page: 307.
(1) فرض الحصار الاقتصادي على العراق في سنة 1992م بعد غزوه للكويت ثم انكساره في الحرب الذي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضده لتحرير الكويت.
(2) News day, copyright © 2005/ February 10, 2005 (Food-For-Oil Scandal at UN, Suspending 2 UN workers isn’t enough.
(3) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 22 – 23.
(1) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 20 – 21.
(2) المصدر السابق، ص: 27 – 35.
(3) هيكل: د. عبد العزيز فهمي / موسوعة المصطلحات الاقتصادية والأخصائية، ص: 283.
(4) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 29.
(1) الموسوي: السيد ضياء / النهب الإمبريالي للعالم الإسلامي – حقائق وأرقام، ص: 80 – 81.
(1) دار التوحيد، مفاهيم إسلامية 45، التنمية في الإسلام، ص: 10.
(2) سيدي محمد: د. سيدي محمود ولد / المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 95. (3) المصدر السابق، ص: 96.
(1) الصدر: السيد محمد باقر / اقتصادنا، انظر ص: 612 – 675.
(1) سورة المائدة، الآية: 87.
(2) سورة الأعراف، الآية: 32.
(1) الصدر: السيد محمد باقر / اقتصادنا، ص: 634 – 635.
(2) المصدر السابق، انظر ص: 329 – 340.
(1) المصدر السابق، ص: 330.
(2) سورة إبراهيم، الآيات: 32 – 34.
(1) الصدر: السيد محمد باقر / اقتصادنا، انظر ص: 340.
(2 و3) المصدر السابق، نفس الصفحة .
(4) المصدر السابق، ص: 330.
(1) سورة الحديد، آية: 25.
(2) سورة الجاثية، آية: 18.
(3) سورة يوسف، آية: 40.
(4) سورة المائدة، آية: 55.
(5) سورة المائدة، آية: 50.
(6) سورة النساء، آية: 60.
(7) سورة المائدة، آية: 49.
(1) الحكيمي: محمد رضا ومحمد، وعلي: الحياة، ج2 / ص: 381.
(2) المصدر السابق، ص: 389 نقلاً عن الكافي ج1 / ص: 216.
(3) المصدر السابق، ص: 385 نقلاً عن الكافي ج1 / ص: 200.
(4) الحكيمي: محمد رضا ومحمد، وعلي: الحياة، ص: 385 نقلاً عن الكافي ج1 / ص: 200.
(1) إيف بيولت: ما هي التنمية، ص: 14.
(2) المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 61.
(1) المشاكل الهيكلية للتنمية، انظر ص: 61.
(2) إيف بيولت: ما هي التنمية، ص: 57.