آفاق أخرى في رسالة الوحدة الاسلامية
آفاق أخرى في رسالة الوحدة الاسلامية
الدكتور محمد حبش
مدير مركز الدراسات الإسلامية بدمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الأمة وباني الوحدة وهادي الناس الى صراط الله المستقيم، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين.
لا أظن أننا بحاجة للتذكير حول اهمية لقاءنا هنا، فهي الغاية التي نادى بها رجال الإصلاح كافة عبر التاريخ الإسلامي، استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً)، وهي الأوامر الإلهية التي تكررت في مواضع كثيرة: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
وعبر التاريخ الاسلامي فإن جهود الوحدة والجماعة لم تتوقف أبداً، وظل صداها يتردد في رغبة واضحة لإحياء هدف الوحدة والجماعة، ويمكن أن نشير هنا الى أول رائد للوحدة الإسلامية وهو الإمام الجليل الحسن بن علي عليه رضوان الله الذي قاد أول عمل وحدوي في إطار الجماعة المسلمة ورسم ملامح مدرسة خالدة تحقيقاً لقول النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إن ولدي هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
وعلى هدى سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تتابعت جهود الوحدة الاسلامية في مراحل التاريخ، ويمكننا أن نذكر من أعلام الوحدة والجماعة الإمام جعفر الصادق والإمام أبا حنيفة والإمام ابن جرير الطبري، والإمام الشاطبي وغيرهم من أعلام الفكر الإسلامي الذين كانوا يبحثون عما يجمع ولا يفرق، ويوحد ولا يمزّق، تحت ظلال قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
وفي التاريخ الحديث للأمة بدأت جهود الوحدة والجماعة التي تطالب الأمة بنبذ الخلاف والتأكيد على الجوانب التي تجمع الكلمة ولا تفرق الصف، وتصدى لقيادة حركة الوحدة والجماعة أئمة كبار من أبرزهم جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، الشيخ البروجردي، محمد إقبال، العلامة القمي، مالك بن نبي، محمود شلتوت وغيرهم من رواد الوحدة والجماعة، وكانوا على اختلاف أوطانهم وثقافاتهم تجمعهم رغبة عارمة في الدعوة الى الكلمة السواء، وأدركوا أن تحقيق الوحدة والجماعة يتطلب إرادة نقية وصافية، ولا يشترط له التخلي عن التراث الفقهي، وذوبان المذهب في المذهب، وكانت الفكرة الجامعة لجهاد هؤلاء الأئمة هي أن بإمكاننا أن نحقق الوحدة الاسلامية في الإطار التربوي والفقهي عن طريق القاعدة الذهبية: نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
وهكذا يمكننا رسم ملامح إسلوبين للوحدة:
الأول: ثوري شمولي يطالب بإلغاء الآخر، ودعوة الأقلية ليذوبوا في الأكثرية ويتخلوا عن فقه أئمتهم استجابة للوحدة الاسلامية.
والثاني: تسامحي إصلاحي يقر بحق الاختلاف، ويرى أن الوحدة لا تشترط التطابق في الفكر والرأي، بل يمكن تحقيقها عن طريق التسامح والاعذار.
ولاشك أننا نختار الإسلوب الثاني ولولاه لما اجتمعنا هنا في هذا المؤتمر، فالمنطق الذي يطالب بإلغاء الآخر منهج استبدادي لا يؤمن بحرية الإنسان، ولن يتم تحقيقه إلا بعنف غير قليل، ناهيك عما يتطلبه من ضياع تراث الأمة وتاريخها وفقه رجالها، في حين أن منطق الإعذار تتحقق به رعاية الفقه الإسلامي والإفادة منه وحسن التخير للحاضر والمستقبل.
وخلال التاريخ الإسلامي تحرك رجال التنوير في الدعوة الى الوحدة الإسلامية على أساس إقرار حق الاختلاف، واحترام المخالف، وعشنا على سبيل المثال في إطار المذاهب الأربعة تقول الشافعية: الرأي عندنا كذا وعند السادة المالكية بخلافه، وكان الحنفي يقول الرأي عندنا كذا وعند السادة الشافعية بخلافه، ونقول اليوم الرأي عندنا كذا وعند السادة الجعفرية او السادة الزيدية بخلافه، ونحن نتطلع الى احياء هذا الأدب الحضاري في الاختلاف فيما جد من مدارس فكرية، وأتمنى أن نستخدم عبارة السادة السلفية والسادة الإباضية والسادة الظاهرية والسادة الصوفية والسادة المؤولة، بدلاً من العبارات الشائعة والتي لا تخدم مبدأ الوحدة الإسلامية.
وفي استعراض سريع لنشاط التقريب في الفقه الإسلامي نلاحظ أنه قد ظهرت أعمال جليلة تهتم بالفقه المقارن، فمن الآراء المتعددة في المذهب الواحد الى الآراء في الطائفة الواحدة الى آراء الطوائف الاسلامية المتعددة، وهكذا تطورت ثقافة الوحدة والجماعة ونقرأ من كبار أعلامها ابن قدامة وابن رشد والشاطبي والشعراني، وها نحن بحمد الله في القرن الخامس عشر نتحدث في المجامع العلمية، والموسوعات الفقهية عن ثمانية مذاهب اسلامية هي: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والجعفرية والزيدية والظاهرية والإباضية، وهي مذاهب تعيش متجاورة في العالم الاسلامي يتلاقى علماؤها على الخير والمحبة ويتبادلون النصح والمشورة في الخيرات والمعروف.
وهكذا يمكن قراءة المشهد الوحدوي على الصعيد الفقهي في هذه المنظومة من المذاهب الثمانية وهي تحظى باحترام المستنيرين من أئمة الفقه الإسلامي، ونتمنى أن تدخل هذه الوحدة النظرية الموسوعية الى الأعمال العملية التطبيقية كمجامع الفقه الإسلامي وكليات الشريعة في مختلف البلاد الإسلامية بحيث تتناوب على قاعات الدرس عمائم سود وعمائم بيض، وينادي فيها بالفلاح وخير العمل، ويترضى فيها عن الراشدين والأئمة الاثني عشر، وهو طريق يتطلب مزيداً من الحكمة والأناة والصبر.
أيها الأخوة
منذ بدأت فكرة التقريب في رحاب الأزهر الشريف قبل نحو مائة عام يتجه الحديث عادة الى التقريب بين السنة والشيعة، على أساس أنهما الطائفتان الأعظم بين المسلمين، وقد تحقق قدر غير قليل من إنجاز ذلك التقارب او قل إن المسألة صارت أكثر وضوحاً وتمايزاً فمن اختار التقريب وهم الكثرة الغالبة من أبناء الأمة بحمد الله، يدركون أدبه ومقاصده، ومن رفض التقريب وهم القلة القليلة أصبحوا اليوم أكثر عزلة وأخفض صوتاً، وأدرك المسلمون أنه لا خيار لهم إلا في الوحدة والجماعة.
وهكذا فإن مسألة التقريب بين السنة والشيعة نضجت واكتملت، وأصبح المطلوب ان نتحدث عن مرحلة ما بعد التقريب من العمل الجماعي، والمشاريع المتكاملة، والموسوعات العلمية المشتركة.
واعتقد أن المرحلة اليوم تتطلب موقفاً أكثر وعياً بحاجات التقريب وشروطه، فثمة تيارات أخرى في العالم الإسلامي اليوم تنتظر منا دعوة التقريب، وإن من الحكمة أن مؤتمرنا هذا لم يختر عنوان: مؤتمر التقريب بين السنة والشيعة، وإنما اختار عنوان التقريب بين المذاهب الإسلامية وهو عنوان يتسع لكافة ألوان الطيف في هذا العالم الإسلامي، وهو ما نحن مطالبون اليوم بإدراك غاياته ومراميه.
أيها السادة:
إن تصنيف العالم الاسلامي اليوم الى سنة وشيعة لم يعد تصنيفاً دقيقاً، والمطلوب الآن إدراك المدارس الفكرية الأخرى التي نشأت في المجتمع الاسلامي، وربما تم تكفيرها او تفسيقها في مرحلة من المراحل، ولكنها اليوم طورت مفاهيمها وتداركت نقصها وأصبحت أكثر جهوزية للدخول في جنة الجماعة التي أسسها الرواد الأوائل لمثل هذا اللقاء العظيم.
إنني سعيد بأن أطرح على مؤتمرنا الكريم توفير آلية حقيقية لفتح حوار جاد مع التيارات العلمانية في العالم الاسلامي، وتمييز التيارات العلمانية التي طورت نفسها وتمسكت بإيمانها من تلك التيارات التي وقف موقفاً عدائياً من الفقه الإسلامي.
علينا أن نتجاوز التفكير الذي كان سائداً في الستينات والسبعينات من القرن الماضي والذي كان يصبغ علاقات التيارات السياسية في العالم الإسلامي بالحدود الدموية، حين كانت كلمة علماني ترادف كلمة كافر، وفي المقابل كان العلمانيون يستخدمون تعبير الظلاميين والرجعيين على أولئك الذين يريدون أن يبعثوا الفقه الإسلامي في الحياة كمعلم هدى ونور وبر وخير.
إن العلمانية تعاني من توصيف حاسم لخيارها الأيديولوجي، ولكن قراءة سريعة للمشهد الثقافي والسياسي في العالم الاسلامي يجعلك تدرك الى أي مدى يمكن أن يكون التقارب واقعياً مع تيارات كثيرة لا يمكن التعبير عنها بأنها سنة ولا شيعة، ثمة أحزاب كبرى في العالم الاسلامي تنهج نهجاً علمانياً في الحياة ولكنها شديدة الشوق والتوق الى السمو الروحي، والهدى الرباني الذي جاء به الإسلام، حزب نهضة العلماء في أندونيسيا يزيد أعضاؤه عن ثلاثين مليون مسلم، وحزب عوامي في باكستان، والرفاه والتنمية والعدالة في تركيا، والأمة في السودان، جميعها أحزاب ذات ميول علمانية بدرجات متفاوتة، وهي موجودة ونشيطة في العالم الإسلامي وتقدم خدمات غير قليلة للأمة الإسلامية، ولكن حركة التقريب تعاملها عادة بأسلوب واحد ولم نخط حتى الآن باتجاه فتح حوار حقيقي وبناء معها.
ومن الضروري هنا أن نسجل هذا التحفظ الضروري فمن يختار إنكار الخالق، والتشكيك بالنبوات لا يمكن أن يكون مسلماً، سواء كان أصله سنية او شيعية او علمانية او كان من أبناء الانبياء!
ولكن هل يسوغ القول بأن العلمانيين اليوم في العالم الاسلامي يحملون هذه الرؤية الكافرة عن ثوابت الشريعة؟
إن كثيراً من التيارات العلمانية في العالم الاسلامي اختارت أن تتجاوز الفقه الاسلامي وتكتب تشريعات وضعية، ليس بسبب سوء رأيها في الرسول والرسالة، وإنما بسبب عدم المعرفة بغنى الفقه الاسلامي، وقدرته على مسايرة الأحداث وأعتقد لو أننا قمنا بفتح منجم الفقه الاسلامي على مصراعيه، وأضأنا جوانبه المختلفة التي تراكم عليها الجمود، لوجد المخلصون من كافة الاتجاهات حاجتهم وغايتهم داخل الفقه الإسلامي ولم يتورطوا في استدباره والتنكر له.
إن الأمة الاسلامية في فترة صعودها الحضاري قامت باحتواء تيارات كثيرة نشأت في الفكر الإسلامي، ولدينا تصانيف هامة في تفسير القرآن كتبها أعلام محترمون كالزمخشري ومجاهد والرازي الجصاص وابن رشد والفخر الرازي وأبو العلاء المعري وابن أبي الحديد مع أنهم لم يكونوا يخفون ميولهم الاعتزالية والقدرية والتأويلية، ولكنهم كانوا يجدون في الوعي الحضاري للأمة ما يوفر لهم منابر الفكر والقلم، ولم يكن العالم الاسلامي يشعر بالغضاضة من رواية علم هؤلاء والانتفاع بهم، ولعل الموقف الوحيد المظلم كان يوم سيطر التعصب على القرار السياسي سواء كان سنياً أو شيعياً أو اعتزالياً، وأوضح الأمثلة على ذلك ما صنعه المعتزلة يوم سيطروا على قرار الخلفاء العباسيين فعرضوا رقاب الناس على السيف ليقولوا بخلق القرآن، وسالت دماء طاهرة زكية رفضت العنف والقهر والإكراه ودافعت عن حرية الاختيار الى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً وقمعت تلك الفتنة المشؤومة.
إنني أتوجه الى مؤتمركم الكريم بالدعوة الى تشكيل لجنة خاصة تتولى الحوار مع الاتجاهات العلمانية في العالم الاسلامي وتقدم الأدلة الواضحة على غنى الفقه الإسلامي، وغزارة مناجمه، لإحياء جذوة الإيمان في هذا الشطر من الأمة، والمحافظة على الرصيد الروحي الذي تختزنه الفطرة، وتجتهد في رسم العلاقات بين أبناء الأمة الواحدة على أساس تعزيز المشترك، والإعذار في المختلف، وفق القاعدة الذهبية التي وضعها النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): للمجتهد إن أصاب أجران وإن أخطأ أجر واحد.
إني أعتقد أن المؤيدات الشرعية لهذا الاتجاه موفورة وصريحة، نقرأ في التنزيل العزيز قول الله سبحانه: (قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون)، وكذلك ينص القرآن الكريم صراحة على القول: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً).
وفي هدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا.
وفي موقف لافت لدلالات الوحدة والجماعة لم يشأ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرغم الناس على قراءة واحدة حتى في نص القرآن الكريم وإنما أذن للناس أن يقرؤوه بالحروف التي اعتادوها واللهجات التي عرفوها، وقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف فاقرؤوا منه ما استطعتم.
ولقد قدمت الأحداث الأخيرة في العراق أوضح الأدلة على أن الاستكبار المادي الإلحادي، الذي يحرك المطامع الاميركية الهائجة، لا يفرق بين اتجاه واتجاه، وقد يكون من المعاني التي افرزها هذا البغي الأميركي إنما هو تحقيق صلح بين الاتجاه الاسلامي والاتجاه القومي، ودعوة الأمة الى إدراك ما يجمعها ويوحدها في مواجهة أعداء الأمة.
إنني سعيد بأن أقدم لمؤتمركم الكريم تجربتنا المتواضعة في مركز الدراسات الإسلامية بدمشق لفتح حوار إسلامي علماني عبر وسائل الاعلام والدراسات والبحوث والندوات العلمية والنشاط البرلماني، وبعد نشاط عشر سنوات فإنه يمكن القول إن المشترك أكثر مما نعتقد، وأن مظلة الإسلام الجامعة قادرة على استيعاب المزيد من أبناء الأمة في ظلال عبادة الله سبحانه والسمو الى الملأ الأعلى، وإني أقول بمرارة إن الأفق الوحيد الذي يستعصي على الحوار والوحدة إنما هو التعصب الذي عبّر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: إعجاب كل ذي رأي برأيه، سواء كان ذلك التعصب في إطار سني او شيعي او قومي او علماني.