السلام العالمي مظهر لعالمية الإسلام
السلام العالمي مظهر لعالمية الإسلام
شهاب الدين الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
اصالة السلام واستثنائية القتال
الإسلام دين الرحمة والمسامحة والعفو، دين التآلف والوئام والتعاون، دين السلام والأمان، وهي الاسس الثابتة التي يتعامل بها مع غيره من العقائد والوجودات، فالاصل هو السلام، وامّا القتال فهو أمر طارىء فرضته الظروف والتحديات لذا فان الإسلام ينتهز اقرب الفرص للعودة إلى الأصل.
قال الله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ([1]).
والإسلام لم يرغب في القتال ولم يشجع عليه لذاته، ولهذا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ينهى عن تمني لقاء العدو، فيقول: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموه فاصبروا) ([2]).
والإسلام لم يشرع القتال رغبة فيه، ولم يشرعه للسيطرة على الاراضي والسكان ولاطلباً للغنيمة، ولم يكن قتال المسلمين من أجل مجد شخصي أو قومي أو طبقي، وإنما لإعلاء كلمة الله تعالى ودفاعاً عن المفاهيم والقيم النبيلة والتي يحاول اعداؤه تعطيلها والغائها، وردعاً للعدوان الواقعي أو المحتمل الوقوع.
ولو نظرنا إلى الواقع نظرة واقعية وجدنا ان جميع معارك الإسلام كانت معارك دفاعية لرد عدوان واقعي أو محتمل الوقوع وخصوصاً في صدر الإسلام، وفيما يلي نستعرض دوافع القتال واهدافه القريبة والبعيدة كما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة.
أولاً ـ دفع العدوان
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ([3]).
وفي تفسير ذلك قال العلّامة الطباطبائي: (القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه اقامة الدين واعلاء كلمة الوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة، فان الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد... والنهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل ان يدعى إلى الحق، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدو...) ([4]).
وفي تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي: (يا ايها المؤمنون اني اذنت لكم في قتالهم إعزاز لدين الله وإعلاء لكلمته، لا لهوى النفس وشهواتها ولاحباً في سفك الدماء... ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لايقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى اليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الاشجار.
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ) أي إذا نشب القتال بينكم وبينهم، فاقتلوهم أينما أدركتموهم ([5]).
وفي آية اخرى قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...) ([6]).
ثانياً: الدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين
(وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) ([7]).
(...وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ([8]).
دعا القرآن الكريم إلى الدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين الذين يعيشون في أرض الشرك، وقيد النصرة بعدم الاخلال في العهود والمواثيق.
وقد ورد في التفسير: (انّ المؤمنين المقيمين في أرض المشركين وتحت سلطانهم وحكمهم... لا ولاية لكم عليهم إلاّ إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لاجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم، فعليكم ان تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لاعهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولاتباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق... وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سراً وجهراً امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار اهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر) ([9]).
وعلى العموم فانّ الدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين أمر مشروع تبيحه جميع الديانات الهية كانت أم وضعية، بل يرفع كشعار من قبل الجميع لمحبوبيته ومرغوبيته.
ثالثاً: قتال ناكثي العهد
(أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) ([10]).
الآية تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحق والحقيقة، وعدّ خطاياهم وطغيانهم من نكث الايمان والهمّ باخراج الرسول والبدء بالقتال اول مرة([11]).
وفي تفسير اكثر تفصيلاً : أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة:
1 ـ انهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي(صلى الله عليه وآله)وأصحابه على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها احراراً في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي(صلى الله عليه وآله)... وكان هذا من أفظع أنواع الغدر.
2 ـ إنهم هموا باخراج الرسول(صلى الله عليه وآله) من وطنه أو حبسه حتى لايبلغ رسالته، أو قتله بأيدي عصبة من بطون قريش ليتفرق دمه في القبائل.
3 ـ إنهم بدءوا بقتال المؤمنين في بدر حين قالوا: بعد العلم بنجاة غِيرهم: لاننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه ونقيم في بدر أياماً نشرب الخمر وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما([12]).
رابعاً: حماية العقيدة ورد العدوان المحتمل الوقوع
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) ([13]).
أيّ: وقاتلوهم حتى لاتكون لهم قوة يفتنوكم بها في دينكم، ويؤذونكم في سبيله ، ويمنعونكم من إظهاره والدعوة اليه... ويكون دين كل شخص خالصاً لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولايؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة([14]).
والآية خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الاصنام ويقر بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرّون به([15]).
ودعا القرآن الكريم إلى رد العدوان المحتمل الوقوع، لكي لا يعتدى على المسلمين بغتة، ومن ثم تهديد كيانهم بالفناء.
قال الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) ([16]).
وتفسير الآية: أنّه يجب ابلاغهم بالغاء العهد ولايجوز قتالهم قبل الابلاغ لانّ ذلك خيانة، امّا إذا لم يحتمل الخيانة فلا يجوز نقض العهد معهم([17]).
وفي تفسير آخر: وان توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثاً للعهد بوجود امارات ظاهرة وقرائن تنذر بها، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بان تنبذ اليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيد به ولامهتم بأمرهم، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء، والحكمة في هذا انّ الإسلام لايبيح الخيانة مطلقاً([18]).
وعلى ضوء ذلك يمكن القول: انّ ما اصطلح عليه الفقهاء بالجهاد الابتدائي هو في الواقع يحمل روح الجهاد الدفاعي لرد عدوان محتمل الوقوع، لانّ أعداء الإسلام عموماً لايروق لهم تقرير مفاهيمه وقيمه في واقع الحياة ولهذا فانهم يسعون للقضاء عليه وتحجيم دوره ومنع الشعوب من تبنيه عقيدة وفكراً في الواقع.
وفي جميع الظروف والاحوال فانّ القتال موقف استثنائي لم يشرع إلاّ لحماية الإسلام فكرة وعقيدة ووجوداً، ولذا فهو يدعو للتعامل بالبر والعدل مع غير المقاتلين (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)([19]).
والإسلام يدعو للعودة إلى الأصل في التعامل والعلاقات وهو أصل السلام وانهاء القتال في اقرب فرصة (...فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)([20]).
شبهات وردود
في كتاب الجهاد([21])، تطرق الامام السيد محمد محمد صادق الصدر إلى عدة مفاهيم وقيم وأسس وموازين وزعها على ثلاثين فقرة، ومن ضمنها بعض الشبهات وقد أجاب عليها بما ينسجم مع متبنيات الإسلام الفكرية والسياسية والاجتماعية، فوجدنا أهمية ذكرها هنا لتعميم الفائدة.
الفقرة 22
يوجد على فكرة الجهاد المقدس في الإسلام اشكال معتد به نسبياً قلما يلتفت اليه الناس. اود ان اواجهه بقوة قلب وثقة بالرب. بان نذكره ونناقشه.
وحاصله متكون من مقدمتين:
المقدمة الاولى: انه يجب قتل المشرك مهما كان دينه ومذهبه. ولا يمكن اقراره على دينه وطقوسه بحال من الاحوال. ولعل هذا من واضحات الفقه، واجماع علماء المسلمين عليه.
وهذا من النقاط الاساسية التي يختلف فيها المشرك عن الكتابي; فبينما نرى أن التعاليم الدينية في الإسلام، تحفظ للكتابي حياته وامواله وعائلته، وتقره على تعاليم دينه، وتعتبره (ذمياً) يعني في ذمتها المحافظة عليه; فان كل ذلك غير موجود بالنسبة إلى المشرك، ولا يمكن أن يكون (ذمياً) بحال.
المقدمة الثانية: ان عدد المشركين على وجه الكرة الارضية، الان وفي اكثر الاجيال المنظورة في الماضي وفي المستقبل، عدد كبير جداً، بل لعله يمثل اكثر من نصف البشرية، أو الاكثرية فيها.
اذن، نعلم من هاتين المقدمتين، انّ الدين الإسلامي اجاز قتل اكثرية البشرية ولم يحفظ لهم حقوقهم في الحياة والعيش الرغيد، وان ذلك يؤدي حتماً إلى وجوب قتل الملايين وابادة شعوب بكاملها ماداموا مشركين.
وجواب ذلك، يكون في عدة نقاط:
النقطة الاولى: انه لم يرد في الدين وجوب المبادرة إلى قتال المشركين او قتلهم، بل ذلك غير جائز حتى تعرض عليهم تعاليم الإسلام وهداه ومحاسنه، وينبغي ان ينتظر فيهم مدة كافية حول ذلك، فان اهتدوا واسلموا فهو المطلوب. وإلاّ كانوا معاندين يستحقون القتل.
النقطة الثانية: انه لم يرد في الدين وجوب المبادرة إلى قتال المشركين أو قتلهم مالم يبدأوا هم بالقتال، فان بدأوا كانوا محاربين فعلاً، وكان مقتضى ذلك وجوب الدفاع حتى وان لزم من ذلك ابادتهم جميعاً.
وهذا لا يعني ان الشعوب الامنة والبلدان الهادئة للمشركين، يجب المبادرة اليها وقتل اهلها جملة وتفصيلاً، فان هذا لم يحدث فيما سبق ولم يقره تشريع ديني.
النقطة الثالثة: ان الحكم الاصلي في الشريعة قابل للتخصيص أو التقييد بمقتضى الولاية العامة في كل عصر للفقيه أو للقائد، فهو يرى مقتضى المصلحة من جميع الجهات، قبل ان ينفذ الحكم المشار اليه في السؤال. مع العلم انه قلما تقتضي المصلحة ذلك في المستقبل المنظور.
النقطة الرابعة: ان الفقهاء قسموا الجاهل إلى قاصر ومقصر، فالمقصر هو الذي يستطيع ان يتعلم ولم يتعلم، والقاصر هو العاجز عن التعلم، والقاصر معذور فيما يجهله، بخلاف المقصر فانه غير معذور ويستحق عقوبة الدنيا والاخرة.
وبالتأكيد فان كثيراً من هؤلاء الذين نعدهم مشركين، قاصرون عن التوصل إلى الحق والايمان به، فيكونون من هذه الجهة معذورين، وإذا كانوا معذورين لم يستحقوا القتل إلاّ بعد الايضاح والتنبيه والتعليم.
وهذه الصفة لاشك عامة لكثير من عمال المعامل ومزارعي الريف، والموجودة مدنهم وقراهم في مناطق نائية يصعب الوصول اليها، ونحو ذلك. لا يختلف في ذلك وجود امثال هذه الطبقات في الصين أو الهند أو استراليا أو غيرها.
وعلى أي حال، فلا يحتمل ان يحكم الدين المقدس العادل، بوجوب قتل امثال هؤلاء، ماداموا على قصورهم وقلة ثقافتهم وتدني تفكيرهم.
اذن، فما قاله السائل من ان الحكم الفعلي في الدين هو قتل الملايين، مما لا اساس له من الصحة.
نعم، لو تم تنبيه المشرك أو المشركين إلى الإسلام وتعليمه لكنه استمر على غيه وعناده، فانه يعتبر جرثومة سيئة في المجتمع، لا يمكن استتباب العدل فيه ولا استقرار الامور به، إلاّ بالتخلص من هذه الجرثومة وقطع شأفتها، والتخلص من شرها; ومن هنا كان الحكم بوجوب القتل صحيحاً وعادلاً تماماً.
الفقرة 23
انه قد يخطر في البال في الجهاد بانه يقتضي الاكراه والاضطرار للدخول في الإسلام بالنسبة إلى الشعوب المشركة الذين لايقرون على اديانهم، بل يدور امرهم بين الدخول في الإسلام أو القتل والابادة، وليس حالهم حال أهل الكتاب الذين يمكن في الدين اقرارهم على دينهم واقامة شعائره في الجملة، وعدم الزامهم بالدخول في الإسلام.
ومن الواضح ان المسألة امام المشركين ستكون: اما الإسلام أو القتل وليس هناك اكراه عرفي أو عقلائي اشد من القتل. فإذا قيل لشخص اعطني الف دينار أو اقتلك فانه يدفع الالف لينجي نفسه، فكذلك الحال في الدين، ومن المعلوم ان الدخول في الدين بالاكراه لا اثر له لاشرعاً ولا عقلائياً، ولا ينتج الهداية ولا العدل ولا التكامل، فما الفائدة من ذلك.
ويمكن ان يجاب ذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول: ان الفقهاء عموماً قالوا، وقلنا أيضاً فيما سبق، بضرورة عرض الإسلام عليهم قبل مناجزتهم القتال، وهذا لايصدق الا بأمرين: اولهما: ان الإسلام يعرض بجميع تشريعاته المهمة، اي بمحاسنه وعدله ولطفه، بحيث يكون كل ذلك مما يفهمه اكثر الناس هناك ثانيهما: ان يمضي زمان كاف لاجل امكان تحصيل هذه النتيجة، ولا يجوز تضييق الوقت عليهم وتهديدهم بمناجزة القتال في وقت سريع.
ومن المعلوم ان اكثر الشعوب الان وفي المستقبل المنظور هم جاهلون بمفاهيم الإسلام وعدله ولطفه، وانما هم مقلدون لابائهم في تعصبهم لعبادة الاصنام وغيرها، فإذا اتضح لهم ذلك، فالمظنون جداً انهم سيميلون إلى الإسلام ميلة واحدة ويدخلون فيه افواجاً. وكفى الله المؤمنين القتال.
المستوى الثاني: اننا بعد ان نعلم انه لا اثر للدخول بالجبر والاضطرار إلى الدين. وهذا ما أدركه الإسلام حين قال: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). اذن فهذا مما لا يطلب منهم، بل يقال لهم بصراحة ادخلوا في الدين الإسلامي عن رغبة وقناعة. ويشرح ذلك عن طريق الايضاح والدليل. اذن ستكون النتيجة هي نفس المطلوب شرعاً.
المستوى الثالث: لايبعد القول في هذا المورد ان اي مشرك دخل في الإسلام قبل إسلامه. لانسأله عندئذ هل انت مجبور على إسلامك أو راغب به. بل نحمله على الصحة ونعامله معاملة المسلمين، حتى لو كان في باطن نفسه مجبوراً. وهذا المعنى كما يعم الواحد، يعم المجتمع ككل.
والدين حينما خير المشركين بين الإسلام والقتل، كان يعلم ذلك. ومعناه ان المشرك إذا اظهر الإسلام كفى في حرمة قتله وصون نفسه وماله وعرضه. وانما يفرق ذلك، اعني جهة الجبر والاختيار في آخرته، فان كان عن قناعة واختيار فاز في الاخرة بالثواب.
وان كان عن جبر واكراه سقط ثوابه. ومن المعلوم ان الفقهاء في الفقه يحسبون حال نظام الدنيا في امثال هذه المسائل، بغض النظر عن الاخرة.
المستوى الرابع: ان المجتمع ان كان قد دخل في الإسلام بالاكراه، أو آمن به في اقل المجزيء،لو صح التعبير فيقبل منه مجرد اظهار اصول الدين ولا يكلف عملياً بفروعه، اعني الصلاة والصوم ونحوها، يعني ان ذلك ليس له دخل في الجهاد، بحيث انهم إذا لم يصلوا أو يصوموا وجب قتالهم، كلا بل يحرم ذلك ماداموا قد دخلوا في الإسلام والتزموا باصول الدين. كل مافي الامر انهم سيكونوا مسلمين فسقة. وهذا امر له علاج آخر غير القتال.
المستوى الخامس: ان المجتمع وان كان قد دخل في الإسلام بالاكراه، ونحوه إلاّ انه لن يبقى على هذا الحال طويلاً، بعد ان تستمر الهداية والتعليم، وسيبدأ افراد المجتمع بالتدريج بالاقتناع بذلك والتحمس له. بعد زيادة الوضوح والتفصيل.
المستوى السادس: ان الهدف الإسلامي من الجهاد المقدس لبلاد المشركين امران:
احدهما: هداية المجتمع، وهو هدف اساسي واصيل لامحالة. وثانيهما: بسط العدل الإسلامي والحكم الإسلامي على اكبر منطقة ممكنة في البشرية أو قل على ذلك المجتمع الذي ذهب اليه المسلمون ايا كان.
ومن المعلوم انه على تقدير انتصار المسلمين، فانّ الهداية محتملة الحصول، إلاّ انّ بسط العدل اكيد الحصول سواء دخلوا في الإسلام عن قناعة أو دخلوا عن اكراه أو لم يدخلوا فيه اطلاقاً، وسينبسط العدل عليهم بمقدار مايناسب حالهم من الأحكام الشرعية، وهذا هو الهدف الاهم الاستراتيجي بطبيعة الحال.
أخلاقية القتال وإنسانية التعامل
الإسلام دين الرحمة والرأفة والسماحة؛ يهدف الى هداية الناس أجمعين وانقاذهم من جميع ألوان الاضطهاد والعبودية ومن الانحراف والانحطاط، ويهدف الى إقامة الحق والعدل، ولهذا فلا يقاتل حقداً او عدواناً حتى على المعتدين، وهذا واضح من خلال التأكيد على اشاعة قيم العفو والرحمة في ميادين القتال، وتتجسد أخلاقية القتال في المظاهر التالية:
1ـ حرمة القتال قبل القاء الحجة
مهما كانت دوافع وأسباب القتال فهو محرم قبل إلقاء الحجة على أعداء الإسلام، فقد أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك قائلاً: (يا علي لا تقاتل أحداً حتى تدعوه الى الإسلام وأيم الله لأن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت) ([22]).
وحرمة القتال قبل الدعوة موضع اتفاق بين فقهاء المسلمين شيعة وسنة، نكتفي بذكر فتاوى بعض منهم.
قال الشيخ الطوسي (ت 460 هـ): (ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم الى الإسلام) ([23]).
وأفتى ابو الصلاح الحلبي (ت 477 هـ) بعدم البدء بالقتال حتى بعد القاء الحجة حتى يكون الأعداء هم الذين يبدؤون ([24]).
وقال علي المرغيناني الحنفي (ت 593 هـ): (ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة الى الإسلام إلا أن يدعوه) ([25]).
وقال بدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ): (ولا يقاتل من لم تبلغه الدعوة الإسلامية حتى يدعوهم الى الإسلام قبل القتال) ([26]).
2ـ النهي عن قتل المستضعفين
نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتل المستضعفين وكانت تعاليمه في القتال: (… ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة…)([27]).
وفي رواية: (فلا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً لا يطيق قتالكم) ([28]).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تقتلوا أهل الصوامع) ([29]).
وهذا الحكم محل اتفاق فقهاء المسلمين
قال جعفر بن أحمد بن أبي يحيى (ت 537 هـ): (ولا يقتل الصبي منهم، ولا المرأة ولا الشيخ الهرم ولا الراهب المتخلي إلا أن يقاتل أحد منهم) ([30]).
وقال عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت 624 هـ): (ولا يقتل منهم صبي ولا مجنون ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا) ([31]).
وقال محمد بن مكي الشهيد الأول (ت 786 هـ): (ولا يجوز قتل المجانين والصبيان والنساء وان عاون إلا من الضرورة) ([32]).
وقال محمد حسن النجفي (ت 1266 هـ): (ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونتهم إلا مع الاضطرار، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك) ([33]).
فالإسلام لا يرغب في القتال إلا اضطراراً ولا يستهدف إلا الهداية والاصلاح، ولذا حرم قتل المستضعفين وإن كانوا من الأعداء.
3ـ حرمة القاء السم في بلاد المشركين
لم يكن هدف الإسلام من تشريع القتال الانتقام وإنما الهداية أولاً ورد العدوان ثانياً لذا حرم استخدام اسلحة الدمار الشامل ومنها القاء السم.
عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلقى السم في بلاد المشركين)([34]).
ويرى السيد محمد الصدر (ت 1419 هـ): (إن النهي دال على التحريم، مالم تحصل مصلحة عظيمة لا تكون الا نادراً، والرواية وان كانت دالة على خصوص السم، إلا أنها شاملة لكل المبيدات العامة، بحيث يذهب البريء بذنب المجرم والاعزل بذنب المسلح، حتى لو كان سلاحاً كالذري او غيره، وذلك بالتجريد عن الخصوصية فقهياً) ([35]).
4 ـ حرمة الغدر والغلول والمثلبة والتخريب الاقتصادي
حرم الإسلام استخدام الوسائل الوضيعة حتى في قتال المعتدين لأنه جاء رحمة للعالمين وليس انتقاماً، فمن وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لامراء جيشه: (سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا اليها …) ([36]).
وقال ابو الصلاح الحلبي: (… ولا يجوز حرق الزرع ولا قطع شجرة الثمر ولا قتل البهائم ولا خراب المنازل ولا التهتك بالقتل) ([37]).
وقال الشهيد الأول: (ولا يجوز التمثيل ولا الغدر ولا الغلول) ([38]).
وتحت عنوان (حرمة اتلاف النبات والحيوان) ذكر السيد محمد الصدر عدة روايات ومنها: معتبرة مسعدة بن صدقة عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله عز وجل في نفسه خاصة ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغز باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تحرقوا زرعاً لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون اليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه، إلا ما لابد لكم من أكله …) ([39]).
وهذه الروايات واضحة في ما قلناه في العنوان؛ مضافاً الى التبذير والاسراف المحرمين شرعاً، نعم مع الضرورة أو توقف مصلحة الجيش على ذلك ترتفع الحرمة.
وهي تحتوي الى جنب ذلك بعض النصائح الانسانية العالية، أودّ أن أشير له فيما يلي مختصراً:
أولاً: حرمة الغلول، وهو السرقة من الغنيمة او الاجحاف في سهم أحد الأفراد أو الأكثر.
ثانياً: حرمة المثلة، فإن المثلة محرمة نصاً واجماعاً.
ثالثاً: حرمة قتل المنعزل لأمره… وبعده التجريد عن الخصوصية يمكن التعميم الى كل فرد غير حامل السلاح ([40]).
5 ـ وجوب الاستجابة للاستجارة وطلب الأمان
من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية حقن الدماء، ولهذا فقد أوجب الإسلام جميع الوسائل والمقدمات المؤدية الى حقن الدماء، ومنها الاستجابة للاستجارة إن استجار المعتدي بالمسلم وطلب الأمان منه.
قال الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)([41]).
ومن وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لامراء جيشه: (… وايما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر الى أحد من المشركين فهو جار يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله عز وجل فإن تبعكم فأخوكم في دينكم وإن أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه مأمنه) ([42]).
ولا فرق بين المجير حراً كان أم عبداً، فحكمه نافذ على الجميع في حال اجارته لأحد من المشركين أو الاعداء.
ففي رواية: (… وايما رجل من أقصاكم أو أدناكم من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أماناً أو اشار اليه بيده، فأقبل اليه اشارته فله الأمان حتى يسمع كلام الله أي كتاب الله، فإن قبل فأخوكم في دينكم، وإن أبى فردوه الى مأمنه، واستعينوا بالله عليه، لا تعظوا القوم ذمتي ولا ذمة الله فالمخفر ذمة الله لاق الله، وهو عليه ساخط أعطوهم ذمتكم، وذمم أبائكم وفوالهم فإن أحدكم لان يخفر ذمته وذمة أبيه خير له من أن يخفر ذمة الله وذمة رسوله) ([43]).
والأمان هو الغاية في التعامل، وان رفض المسلمون طلب الأمان لضرورة معينة وظن الاعداء انهم استجابوا لهم كان ذلك الظن أماناً لهم؛ لأن هدف الإسلام هو حقن الدماء في جميع الأحوال.
قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (لو أن قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا، فظنوا انهم قالوا: نعم، فنزلوا اليهم، كانوا آمنين) ([44]).
وهذا محل اتفاق الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية ولم نجد احداً مخالفاً لهذا الرأي ([45]).
ومن اجل استشراء الأمان واشاعته فإنه لا يتوقف على أوامر قادة الجيش او كبار الشخصيات فكل من استجاب للأمان تكون استجابته نافذة على جميع المسلمين، سواء كان المؤمن رجلاً أو امرأة او عبداً مملوكاً؛ فلا يجوز للمسلمين قتل من أعطي الأمان ([46]).
ويسري هذا الحكم ليشمل إمام المسلمين، وفي هذا قال يحيى بن الحسين الزيدي: (أهل الإسلام يجوز أمان الواحد منهم على كلهم، لو أن رجلاً أمن عسكراً من عساكر اهل الشرك او قربه من قراهم ثم علم بذلك الإمام لم يجز له استباحتهم حتى يخرجوا من ذمة الأمان الذي أمنهم المسلم) ([47]).
6ـ الوفاء بالعهد
اوجب الإسلام الوفاء بالعهد، فلا يجوز نقضه ما دام العدو ملتزماً به، وقد جسد الإسلام بهذا الواجب السماحة والسلام وحقن الدماء، واثبت للبشرية جمعاً أنه لا يقاتل إلا دفاعاً عن المقدسات وعن النفس ردعاً للعدوان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسن العهد من الإيمان) ([48]).
وقال الإمام علي (عليه السلام): (إن وقعت بينك وبين عدوك قصة عقدت بها صلحاً والبسته بها ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة بينك وبين ما اعطيت من عهدك) ([49]).
وقال (عليه السلام): (ما ايقن بالله من لم يرع عهوده وذمته) ([50]).
وشدد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حرمة قتل المعاهد، فقال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)([51]).
وحرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ظلم المعاهد او تكليفه فوق طاقته، فقال: (من ظلم معاهداً او كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه) ([52]).
وحرم (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع مظاهر الأذى للمعاهدين: (من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) ([53]).
وتترتب على عدم الوفاء بالعهد آثار عملية يوم القيامة، قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (من آمن رجلاً على ذمة ثم قتله إلا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر) ([54]).
وقال الإمام الشافعي: (وان عقدت الهدنة على ما يجوز الى مدة وجب الوفاء بها الى ان تنقضي المدة ما أقاموا على العهد) ([55]).
وكانت سيرة المسلمين قائمة على الوفاء بالعهد، فلم ينكثوا العهد بعد اتمامه، ولم يحدثنا التاريخ أنهم نقضوا العهد مع المعاهدين، فقد أوصى احد الخلفاء في أيامه الأخيرة قائلاً: (اوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً أن لا يكلفوا فوق طاقتهم) ([56]).
وإذا نقض بعض المعاهدين العهد فلا يجوز تعميم النقض على الآخرين، فحينما نقض بعض المعاهدين من جبل لبنان عهدهم، واجلاهم الوالي كتب اليه الاوزاعي: (… فكيف تؤخذ عامة بعمل خاصة؟ فيخرجون من ديارهم وأموالهم) ([57]).
ويجب الوفاء بالعهد وان تضرر منه آحاد المسلمين، فحينما عاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المشركين بتسليم من جاءه من قريش مسلماً، وفى بذلك وسلم اثنين من المسلمين اليهم وفاء منه بالعهد ([58]).
والوفاء بالعهد محل اجماع الفقهاء كما صرح به صاحب الجواهر ([59]).
7 ـ حسن المعاملة مع الأسرى
أمر الإسلام بحسن المعاملة مع الأسرى وان كانوا معتدين قبل الأسر انسجاماً مع غاياته وأهدافه في هداية الناس واعادتهم الى الرشد، فلا يبيح الأذى وسوء المعاملة، فحول أسرى معركة بدر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسن المعاملة، وقال: (استوصوا بالأسارى خيراً)([60]).
وحينما طلب أحد الصحابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدلع لسان أحد المشركين الذين هجوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع عديدة: أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً) ([61]).
وحسن المعاملة ثابت في جميع الظروف والأحوال، فلا يباح قتل الأسير من قبل أي مسلم باستثناء بعض الحالات التي يستحق بها القتل، وهذا الأمر مرجعه الى إمام المسلمين وليس لآحاد المسلمين واجتهاداتهم الشخصية التي قد لا تصيب الواقع في أغلب الظروف.
قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه) ([62]).
ويجب اشباع حاجات الأسير من طعام وشراب وان كان حكمه القتل لضرورة خاصة.
قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (اطعام الأسير حق على من أسره، وإن كان يراد من الغد قتله، فإنه ينبغي أن يطعم ويسقى ويرفق به كافراً كان أو غيره) ([63]).
وذكر السيد محمد الصدر هذا الموضوع بشيء من التفصيل، فقال: لا يجوز قتل الاسير بعد الحرب وإن كان مشركاً، وعن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: (كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها ولم يثخن اهلها … والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها واثخن أهلها فكل أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم، فالإمام فيه بالخيار إن شاء منّ عليهم فأرسلهم وإن شاء فأداهم انفسهم وان شاء استعبدهم وصاروا عبيداً) ([64]).
وهذا هو المشهور جداً بين علمائنا لم يخالف فيه إلا النادر، وتوضيحه ان الامام، وهو المسؤول الأعلى في المجتمع او من يوكله الى شخص او جماعة معينة فيكون مخيراً بين ثلاثة امور حسب المصلحة العامة، وليس احدها القتل:
اولاً: المنّ: وهو الاطلاق بدون فداء.
ثانياً: الفداء: وهو الاطلاق بازاء مال او مالي.
ثالثاً: الاسترقاق: وهو ان ينوي عليهم التملك فيصيرون عبيداً، وهو المنشأ الوحيد للاستعباد في الشريعة غير الولادة.
وقد اشار القرآن الكريم الى اثنين منها بقوله: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
والحكم هو حكم الأسير بعد الحرب: أما ان يؤسر بعدها واما ان يؤسر قبلها ويبقى حياً الى انتهائها، والآية الكريم واضحة في ذلك لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ) وقوله: (بعد) واما قوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) فيكون ما سبقه قرينة متصلة على فهمه فيحمل على أحد أمرين:
1ـ أن يكون معنى حتى: حين.
2ـ أن يكون المعنى الانتهاء من الحرب وكل تبعاتها ونتائجها.
فإن بقي أسير عندئذ وجب اطلاقه بدون فداء، وانما التخيير المشار اليه ثابت قبل ذلك.
واما حذف الاسترقاق من الآية، فالآية ليست نافية له، بل هي قابلة للتقييد به، كما عليه الاجماع والسنة الشريفة.
ويقول أيضاً: ان الواجب ليس هو اطعام الأسير فقط، بل الرفق به والاحسان اليه، واطعام الأسير بعد تعميم فهمه يشمل الطعام والشراب واللباس وكل الحاجات الضرورية … وليس هذا خاصاً بما إذا اريد قتله من الغد، بل نصت الروايات على ذلك لأنه اسوأ التقادير، بل يشمل بطبيعة الحال ما إذا اريد اطلاقه او فداؤه.
كما ينبغي ان نلاحظ ان اطلاقه مجاناً او بالفداء لا ينبغي ان يصيره الى ضرر، بل يجب أن يضمن له الأمان في الطريق الى أن يصل الى مأمنه ([65]).
مبررات الاسترقاق
يقول الشيخ محمد قطب: (كان العرف السائد يومئذ هو استرقاق اسرى الحرب او قتلهم … وجاء الإسلام والناس على هذا الحال، ووقعت بينه وبين اعدائه الحروب، فكان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام، فتسلب حرياتهم، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذ على الرقيق، وتنتهك اعراض النساء لكل طالب.
عندئذ لم يكن في وسع الإسلام أن يطلق سراح من يقع في يده من أسرى الاعداء، فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك باطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك واتباع دينك يسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الاعداء، والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه، أو هي القانون الوحيد.
وإذن فقد كانت ضرورة لا فكاك للإسلام منها، مادام العدو مصراً على استرقاق الاسرى، والإسلام لا سلطان له عليه، ضرورة تظل قائمة حتى يتفق العالم على مبدأ آخر في معاملة هؤلاء الأسرى غير مبدأ الاسترقاق.
وظل الإسلام مضطراً الى عدم الغاء الرق حتى يتفق العالم كله على تجفيف هذا المنبع الوحيد الذي يعترف به الإسلام مبرراً للرق، وفي اللحظة التي يحدث فيها هذا الاتفاق يرجع الإسلام الى قاعدته العظمى التي قررها بصراحة كاملة لا موارية فيها وهي الحرية للجميع والمساواة للجميع([66]).
والرق والاسترقاق بدأ يتضاءل في العقد الأخير من القرن الأخير لتغير الظروف والاحوال السياسية والاجتماعية والعسكرية، وقد أدت التحولات المدنية والحضارية الى تضييقه وحسره في نطاق محدود، وهو تحول يبشر بخير لتنظيم العلاقات بين الدول والأمم لتقوم على أساس السماحة والمودة والعدل، كما ان التطور التقني والفكري لا يساعد على عودة الرق بعد وضع قوانين جديدة لمعاملة الأسرى اتفقت عليها جميع دول العالم بما فيها الدول الإسلامية، وغاية ما توصلت اليه الدول من قوانين ومقررات لا يتعدى الأسس الثابتة التي وضعها الإسلام في التعامل بين الأمم وبين الدول، وفي الموقف من المقاتلين ومن الأسرى؛ حيث يوضع الأسرى في أماكن خاصة لحين انتهاء الحرب او اتفاق الدولتين المتحاربتين على تسوية الخلافات العالقة، اضافة الى ذلك فإن أغلب اماكن تواجد الأسرى موضوعة تحت اشراف الأمم المتحدة.
ومع كل ذلك فإن الأسير يبقى ضيفاً كريماً عزيزاً في ظل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
الهوامش:
([1]). الانفال : 61.
([2]). كنز العمّال، ج4، ص391.
([3]). البقرة : 190 - 192.
([4]). الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص61.
([5]). تفسير المراغي، ج2، ص89.
([6]). الحج : 39، 40.
([7]). النساء : 75.
([8]). الانفال : 72.
([9]). تفسير المراغي، ج10، ص43.
([10]). التوبة : 13.
([11]). الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص159.
([12]). تفسير المراغي، ج10، ص67.
([13]). البقرة : 193.
([14]). تفسير المراغي، ج2، ص90 ـ 91.
([15]). الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص62.
([16]). الانفال : 58.
([17]). الميزان في تفسير القرآن، ج10، ص114.
([18]). تفسير المراغي، ج10، ص22.
([19]). الممتحنة : 8.
([20]). النساء : 90.
([21]). فقه الاخلاق، ج2، صص 1994 ـ 197.
([22]). الكافي، ج5، ص36.
([23]). النهاية، ص292.
([24]). الكافي في الفقه، ص256.
([25]). الهداية، ج2، ص136.
([26]). تحرير الأحكام، ص172.
([27]). الكافي، ج5، ص28؛ مجمع الزوائد، ج5، ص316.
([28]). مسند الإمام زيد، ص313.
([29]). شرح نكت العبادات، ص398.
([30]). شرح نكت العبادات، ص397.
([31]). العدة شرح العمدة، ص 655.
([32]). غاية المراد، ج1، ص482.
([33]). جواهر الكلام، ج21، ص73.
([34]). الكافي، ج5، ص28.
([35]). ما وراء الفقه، ج2، ص272.
([36]). الكافي، ج5، ص30، وبنحوه في: مجمع الزوائد، ج5، ص316.
([37]). الكافي في الفقه، ص256.
([38]). غاية المراد، ج1، ص482.
([39]). الكافي، ج5، ص29.
([40]). ما وراء الفقه ج2 قسم 2 : 283 ، 284.
([41]). التوبة : 6.
([42]). الكافي، ج5، ص30.
([43]). مسند الإمام زيد، ص314.
([44]). وسائل الشيعة، ج15، ص68.
([45]). النهاية، ص298؛ غاية المراد،چ1، ص482؛ العدة شرح العمدة، ص673.
([46]). الهداية، ج2، ص139.
([47]). الاحكام، ج2، ص510.
([48]). كنزل العمال، ج4، ص365؟
([49]). تصنيف غرر الحكم، ص252.
([50]). تصنيف غرر الحكم، ص 253.
([51]). صحيح البخاري، ج5، ص120.
([52]). سنن الأوزاعي، ص394.
([53]). الجامع الكبير، ج1، ص85.
([54]). الكافي، ج5، ص31.
([55]). المهذب في فقه الإمام الشافعي، ج2، ص260.
([56]). السنن الكبرى، ج9، ص206.
([57]). سنن الاوزاعي، ص394.
([58]). صحيح البخاري، ج5، ص68؛ السيرة النبوية، ج3، ص333.
([59]). جواهر الكلام، ج21، ص97.
([60]). السيرة النبوية، ج2، ص299.
([61]). السيرة النبوية، ج2، ص 304.
([62]). الكافي ج5، 35.
([63]). الكافي ج5، ص35.
([64]). الكافي، ج5، ص32.
([65]). ما وراء الفقه، ج2، قسم2، ص275 ـ 278.
([66]). شبهات حول الإسلام، ص 50، 51، 56.