وب سایت رسمی مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى

اهم اخبار تقریب مذاهب اسلامی

مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى
سایت رسمی مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى

دور السيد جمال الدين في الأدب العربي الحديث الدكتور محمد علي آذرشب مقدمة يجمع النقاد والمؤرخون على أن القرن التاسع عشر شهد نهضة في الأدب العربي، أدت الى تغيير واسع في الشعر العربي والنثر العربي على صعيد الشكل والمضمون، ويختلفون في تاريخ بدء هذه النهضة، وهذا الاختلاف يرتبط برؤيتهم للعامل الأساس لها. وهم ـ على الإجمال ـ فريقان: أحدهما يرى أن هذه النهضة بدأت منذ الحملة الفرنسية على مصر (1789م)، وهذا يعني أن النهضة تعود الى عامل ثقافي اجنبي غربي. وممن ذهب الى ذلك جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية([365])، وعمر الدسوقي في كتابه في الادب الحديث([366]) وأحمد حسن الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي([367]) والدكتور شوقي ضيف في كتابه الأدب العربي المعاصر في مصر([368]). ويشكك آخرون في هذا الرأي، ذاهبين الى أن الحملة الفرنسية لم تستطع أن تؤثر على الثقافة المصرية. يقول المؤرخ الدكتور أحمد عزت: (من الصعب أن نذهب مذهب القائلين بأن الحملة الفرنسية تركت أثراً استمر باقياً من بعدها على المجتمع المصري والثقافة المصرية، إننا لا ننكر أن الحملة كان لها أثرها السياسي في تحطيم النظام القائم، وفي فتح باب ما سمّي بالمسألة المصرية. أما التأثير الاجتماعي والثقافي فمن الغلو في القول أن نذهب مذهب القائلين بأن الفرنسيين وجهوا المجتمع المصري والثقافة المصرية وجهة جديدة، بل لقد ذهب كل ما أقاموه بذهابهم).([369]) إذن متى بدأت النهضة؟ ليس هناك رأي موحد بين أصحاب هذا الفريق. منهم من يقول: بدأت بظهور الثورة العرابية بمصر.([370]) ومنهم من يقول إنها بدأت في منتصف القرن التاسع عشر([371]) ولم يحدد عامل هذه البداية. وقال بعضهم إنه (لم تظهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث قام الأدب الحديث في النثر بريادة الإمام محمد عبده، وفي الشعر بريادة محمود سامي البارودي زعيم المجددين، إذ كان أول شاعر من ثمار العصر الحديث).([372]) ونريد في هذا المقال أن نثبت أن السيد جمال الدين هو رائد النهضة الادبية المعاصرة في مصر ومنها انتشرت الى العالم العربي، وأن محمد عبده والبارودي، بل وثورة عرابي باشا من ثمار اليقظة المعاصرة التي تزعمها السيد في مصر وفي ارجاء العالم الاسلامي. شروط النهضة من أجل أن نفهم نقطة البدء في النهضة الادبية العربية الحديثة لابد أن نتعرف الشروط اللازم توفرها لنهضة الأمة، لأن النهضة الادبية لاتنفصل عن النهضة العامة؛ واذا عرفنا هذه الشروط نستطيع أن نفهم زمن توفرها، وبالتالي زمن بداية النهضة. موضوع شروط النهضة ليس بموضوع رياضي يمكن الحديث عنه بالجزم والأرقام، بل إنه يرتبط بفلسفة حركة التاريخ، فهناك من يربط التطور الاجتماعي بالعوامل الجغرافية، وهناك من يبحث عنه في عامل الغريزة الجنسية، والماركسيون ربطوه بتطور آلة الانتاج. ولا نريد أن ندخل هذه الساحة الفلسفية وآرائها المتضاربة، بل نتبنى رأياً تسانده شواهد التاريخ الاسلامي المعاصر، وينطبق على رأي القرآن الكريم في سنن التاريخ، وهو إن النهضة الاجتماعية تحدث حينما يتوفر عنصرا (الاصالة) و(المعاصرة). أقصد بالأصالة أن (تكون الدعوة ذات جذور ضاربة في أعماق ضمير الأمة ووجدانها، وبالمعاصرة أن تتجه الدعوة الى الحركة مع الزمن وأن ترفض الجمود والتحجر وقبول الأمر الواقع). وأعتقد أن نجاح كل دعوة في التاريخ القديم والحديث يعود الى الجمع بين هذين العنصرين، وفشل كل دعوة مردّه فقدان أحد العنصرين او كليهما. للعلماء والباحثين المسلمين آراء متنوعة في هذا المجال مرده لدى إمعان النظر الى الرأي الذي ذكرناه. يرى مالك بن نبي مثلاً أن الحركة الحضارية تنتج من تفاعل (الإنسان) و(التراب) و(الوقت)([373]). وهذا التفاعل يحتاج الى طاقة روحية لا يمكن أن يوفرها إلاّ الدين. ويقول: (فالحضارة لا تنبعث ـ كما هو ملاحظ ـ إلا بالعقيدة الدينية. وينبغي أن نبحث في أية حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها ... فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلاّ في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجاً، أو هي ـ على الأقل ـ تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام).([374]) ويقصد بالمعبود الغيبي بالمعنى العام أن يكون ذا أهداف بعيدة الأمد، وربما يكون بصورة مشروع إجتماعي جديد (يضع حجره الأول جيل وتواصل بناءه الأجيال المتتابعة) كما يذكر هو في الهامش. والإمام الشهيد الصدر يطرح النظرية القرآنية في التغيير الاجتماعي وهي (إن الأساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للانسان) ثم يسأل: ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه .. ما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان؟). ويجيب أنه المثل الأعلى.([375]) ثم يذكر أن الدين الحق يدفع بالمسيرة الانسانية لأن تتجه نحو المثل الأعلى المطلق الحق، وهو الله سبحانه، والإنسان في حركته نحو الله يسير على طريق غير متناه، ومجال التطور والإبداع والنمو متواصل دائماً دون توقف.([376]) أي إن التغيير الاجتماعي يتطلب (ايماناً) ويتطلب أن يكون هذا الإيمان قادراً على دفع الإنسان نحو مسيرة إبداع مستمر لا يتوقف. بن نبي والصدر يتحدثان عن متطلبات المسيرة الحضارية بمحتوى واحد، ولكن بإسلوبين مختلفين، كلاهما يلتقيان عند ضرورة كون المشروع الحضاري مرتبطاً بالجذور النفسية للإنسان، وقادراً على دفع الفرد نحو حركة مستقبلية لتحقيق أهداف جديدة باستمرار. وهذا ما عبرنا عنه بالأصالة والمعاصرة. الأصالة والمعاصرة في حركة السيد شهد العالم الاسلامي قبل السيد حركات اصلاحية سلفية في الجزيرة العربية (منذ 1744) وفي الجزائر على يد عبدالقادر الجزائري (1832 ـ 1847) وفي السودان على شكل حركة المهدية (1881 ـ 1898) وفي ليبيا بصورة الحركة السنوسية (1912 ـ 1925)، وتميزت جميعاً بالمقاومة والرجعة الى الاصول.([377]) وإذا كانت هذه الحركات قد استطاعت أن تحقق بعض النجاح في مقاومة الاستعمار ومكافحة البدع فإنها فشلت تماماً في تحقيق (نهضة) شاملة بسبب عدم قدرتها على استيعاب مستجدات العصر، أي إنها كانت تفتقد المعاصرة. والحملة الفرنسية فشلت ايضاً أن تحقق نهضة في مصر، رغم كل الجهود التي بذلتها، لأنها لم تكن تنتمي الى جذور الأمة، فأخفقت في التفاعل، واستثارت الناس ضدها، وعادت من حيث أتت بعد حين. أما السيد فقد جمع بين الاصالة والمعاصرة في دعوته، وهذا هو سر كل ما حققه من نجاح، يقول في العروة الوثقى: (الديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في اصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكماً لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لابد أن يكونوا أولاً، ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الملل الى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحر فيما يلزمها من الفنون: كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها! ومن تأمل في آية: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة) أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة، وطلب كل وسيلة الى ما يسهل سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلاً عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه! ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرّم المراهنة إلا في السباق والرماية، انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرين عليها...)([378]) من مظاهر أصالة السيد ارتباطه بالتراث الاسلامي وتمكنه من العلوم الاسلامية مما جعل النابهين من الازهريين في مصر يلتفون حوله ويتلقون دروسه من أمثال: محمد عبده، وعبدالكريم سلمان، وابراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم طلباوي، وكانت هذه الدروس منطقاً وفلسفة وتصوفاً وهيئة، مثل كتاب الزوراء في التصوف، وشرح القطب على الشمسية في المنطق، والهداية والاشارات وحكمة العين وحكمة الاشراق في الفلسفة، وتذكرة الطوسي في علم الهيئة القديمة.([379]) ومن مظاهر أصالته ايضاً اهتمامه بوحدة المسلمين بكافة قومياتهم ومذاهبهم: فهو (يدعو الى نبذ الخصومة بين السنة والشيعة، ليؤلف بين سلطتين قويتين في رقعة العالم الاسلامي إذ ذاك: بين ايران وسلطة القسطنطينية، بعد ذهاب دولة الهند الاسلامية).([380]) وكان يغتنم كل فرصة للدعوة الى وحدة المسلمين مستشعراً الخطر من تفرقهم، ومهيباً رجال الأمة أن يبذلوا الجهد من أجل تحقيق هذه الوحدة. يقول في مؤتمر دعا له السلطان عبدالحميد في الآستانة: (الديانة الاسلامية في الوقت الحاضر هي بمثابة سفينة ربانها محمد بن عبدالله (ص) وركاب هذه السفينة المقدسة كافة المسلمين خاصتهم وعامتهم. وفي الوقت الحاضر أشرفت هذه السفينة على الغرق في بحر السياسة العالمية، كما تعرضت لخطر الطوفان. ولعل الحوادث الدبلوماسية، والدسائس الدولية، تؤدي الى اغراق هذه السفينة وتحطيمها، فما حيلة ركابها وهي مشرفة على الغرق وما هو تدبيرهم؟ فهل يجب على ركاب هذه السفينة أن يبذلوا جهدهم لحراستها وانقاذها من الطوفان والغرق؟ ألم يظلوا مختلفين فيما بينهم، متبعين أغراضهم الشخصية وأهواءهم الدنيئة؟).([381]) ودفعت هذه الدعوة الى توحيد كلمة المؤمنين على العمل من أجل الوحدة الاسلامية. ومن مظاهر اصالته الدفاع عن الدين أمام التيارات الفكرية المنحرفة مثل رده على المذهب الدهري الذي انتشر في الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفيه يقاوم الالحاد الديني بشكل عام ويوضح ضرورة الدين للمجتمع الانساني، ثم يذكر مزايا الإسلام التي تكفل للإنسان متعة في هذه الحياة أرفع بكثير من تلك المتعة التي يهيؤها له اعتناق المذهب الطبيعي.([382]) أما طابع المعاصرة فيه فهو أبين وأوضح، وأهم معالمه دخوله ساحة الكفاح السياسي لمقارعة الاستبداد الداخلي والاستعمار الاجنبي. لقد ظهرت دعوة السيد في عصر كان العالم الاسلامي يعاني من الحكام المستبدين الذين يمهدون باستبدادهم وطغيانهم لسقوط العالم الاسلامي بيد المستعمرين الطامعين. وكانت العقلية العامة السائدة هي الاستسلام لهؤلاء الطغاة باعتبارهم أولياء أمور، وباعتبارهم قضاء مقدراً من السماء، ولذلك سادت حالة الذل والخضوع والملق بين الناس، وعم الظلم والفساد والطغيان. وفي هذا الجو ارتفع صوت السيد ليقول للمصريين: (إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم معرضون. فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة. تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان، والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت. أنظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط؛ فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجداكم. هبوا من غفلتكم ...! اصحوا من سكرتكم! عيشوا كباقي الأمم أحراراً سعداء).([383]) وليقول لكل أبناء العالم العربي والإسلامي وهو في فرنسا: (وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة، بين أهل الحرية أسمع ألحاناً في مجالس العدل، فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوح الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجاً بسواط القلب فأكتب اليهم: يا قوم ظلمتم غير معذورين، وصبرتم غير مأجورين وسعيتم غير مشكورين، فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلاً، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حلياً، وتخفضون للظالمين جناح الذل حيث يقول من يراكم ما هؤلاء بشر إن هم إلا آلة سخرت للناس، يفلحون بها الأرض ويزرعون. يقلب الجائرون عليكم أنواع المكايد وأصناف الحيل وألوان الخداع فيما يختلسون كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون. رأيت فلاحهم في حقله الصغير يتناول الطعام أكلاً مريئاً، وينام القيلولة نوماً هنيئاً، ويأوي الى البيت فيأكل بين عياله ويتلو عليهم صحيفة النهار، ثم ينام ملء عينيه، لا يحلم بسوط المأمور ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم لتجتمعوا على القصعة السوداء فتلتهموا فتات الشعير، وتنكبّوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر، تعودون الى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها لتنصرفوا الى أكواخ تشبه قبوراً توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم صغار لا تعرف أبدانهم الوقاء، ونساء تعوّضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالباً، والشيخ غاضباً، والمدير ناهباً، فأنتم في بلاء مستقر، وعناء مستمر، تحصدون البر ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون). (لقد بُليتم بما يذيب الشحم ويفري اللحم، وينقي العظم وأنتم صابرون؛ ومنيتم بما وفّر النقم وغيّر النِعم وأهلك النَعم وأنتم صامتون، ورزقتم بما جلب المصاب، وهتك الحجاب، وأبرز الكعاب وأنتم خاشعون، فما الذي تخافون؟ تقولون لا نرضى بهذا الخسف، ولا نقوى على احتمال الذل، فقد صار تاجرنا عاملاً، ونبيهنا خاملاً، وعالمنا سائلاً، فلم يبق فينا غير الأجير والتابع والشحاذ والزارع، والجندي منخفض الجانب، والشرطي منقطع الراتب، بل زارعنا الذي يدفن مع الحبة قوة يمينه، ويسقي الغرس بماء جبينه، نزيل في دار أبيه، وغريب في أرض ذويه، يحصد مما زرع ولكن لسواه ، ويجتني مما غرس ولا يذوق جناه. وكأني بكم عصابة، من أهل الهمة والإصابة، ترفعون الأصوات في طلب الحق المسلوب، وتمدون الأكف لالتماس المال المنهوب، وتجعلون الأبدان للوطن سوراً يرد عنه العدو مذعوراً، وأنتم الكلمة المتحدة والقوة المتجمعة هي أقوى من العدد الكثير إلا أنكم تترددون. فيا حليف الصبر ويا نضوَ العناء، نداء مشارك في بلواك، وسامع لنجواك، دع التردد إن أردت النجاح والنجاة، وأقدم، فرب حياة تكون في طلب الموت، ورب موت يجيء من طلب الحياة).([384]) ومن مظاهر معاصرته أيضاً ارتباطه بالنخب المثقفة في مصر من المثقفين والأدباء والشعراء خلافاً لما كان عليه عامة الأزهريين من انغلاق. كانت له الى جانب دروسه العلمية المنظمة جلسات مستمرة في أحد مقاهي القاهرة قرب حديقة الأزبكية، يلتف حوله انماط شتى من الراغبين في التزود من علمه وفكره، وهو يجيب على الأسئلة (لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، او يطهر العقيدة، او يذهب بالنفس الى معالي الأمور او يستلفت الفكر الى النظر في الشؤون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف الى بلادهم أيام العطلة، والزائرون يذهبون بما ينالونه الى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصاً في القاهرة).([385]) يقول عمر الدسوقي: (في هذه الحلقة انشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب، ولكنها كانت روحاً مشعة تبدد دياجير الغفلة، وتحيي العزائم الميتة، وتلهب الإرادات الخامدة وتفتح الأذهان المغلقة، وفيها تخرج محمود سامي البارودي، وعبدالسلام المويلحي، وأخوه إبراهيم المويلحي، ومحمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحاق وغيرهم. وفي هذه المدرسة العامة، استعرضت حال الأمة الاجتماعية والسياسية، وحقوقها وواجباتها، وداؤها ودواؤها، وانتقد الحكام، وبثت التعاليم، وفتشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم في شؤون البلاد مما كان له أبلغ الأثر فيما بعد. كان جمال الدين يقضي بياض نهاره في بيته يختلف إليه أعضاء تلاميذه، وما أن يقبل الليل حتى يخرج متوكئاً على عصاه الى هذا المقهى، فيجد في انتظاره الطبيب والمهندس والأديب والشاعر والمعلم والكيمياوي وغيرهم، ويظل يحدثهم بشغف وقوة حتى يمضي جزء كبير من الليل).([386]) ومن مظاهر معاصرته أيضاً دعوته الى فتح باب الاجتهاد، لكي تواكب الشريعة المقدسة تطورات الظروف يقول: (ما معنى أن باب الإجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد؟ ومن قال لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه؟ إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواه القرآن ليس إلا فطرة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده).([387]) هذا الجمع بين الأصالة والمعاصرة هو الذي خلق النهضة الحديثة في مصر وانتشرت منها الى سائر أرجاء العالم العربي، وأثرت على الأدب العربي فطورته ودفعته الى عصر جديد كما سنرى. أثر دعوته في النهضة الحديثة لا يمكن لباحث منصف أن ينكر أثر دعوة السيد في النهضة الحديثة، بل إن كثيراً من المفكرين من يعتقد أنه هو الذي فجّر هذه النهضة وهو الذي بعث الحياة في المجتمع وفي الأدب العربي. عمر الدسوقي، بعد أن يتحدث عن النثر في أواخر عصر اسماعيل وعهد توفيق وتحوله الى نثر ينبض بالحياة والحرارة، يقول: (وإذا أردت أن تقف على الروح التي تكمن من وراء هذا الأدب الحي، والتي بعثت في الشرق الاسلامي كله حيوية دافقة، وهزته هزة عنيفة أيقظته من نومه الطويل، وعرّفته كيف يطلب حقه من الأقوياء العتاة، وكيف يدفع عن نفسه جور الظلمة القساة، فاعلم أن الروح تمثلت في السيد جمال الدين الأفغاني، من يدين له الشرق الإسلامي بيقظته القومية والفكرية في العصر الحديث). لقد كانت الكلمة التي أطلقها جمال الدين مرتبطة بجذور الماضي الاسلامي العريق ومتطلعة الى مستقبل عظمة الأمة وعزتها ولذلك كانت ذات أثر بالغ، يقول مالك بن نبي: (فالكلمة ـ يطلقها إنسان ـ تستطيع أن تكون عاملاً من العوامل الاجتماعية حيث تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية. وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذوراً لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتهم الى أسلوب في الحياة جديد. وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان، وكشفت عن الشعوب الاسلامية غطاءها، ودفعتها الى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر، فأنكرت من أمرها ما كانت تستحسن، واتخذت مظاهر جديدة لا تتلاءم حتى مع ثيابها التي كانت تلبسها، فنبذت النرجيلة والطربوش والحرز والزردة([388]). ولقد بلغ تأثير تلك القوة الفعالة الجزائر فأخذت منها نصيب).([389]) وللأستاذ محمد عبده نص صريح يوضح لنا حالة مصر قبل أن يهبط واديها السيد جمال الدين (سنة 1871) وفيه معلومات على غاية من الأهمية توضح لنا أن حملة نابليون وما أعقبها من اتصال المصريين بأوروبا في زمن محمد علي باشا وابراهيم باشا لم يعد بثمر على المصريين، يقول: (إن أهالي مصر قبل سنة 1293 هـ كانوا يرون شؤونهم العامة بل والخاصة ملكاً لحاكمهم الأعلى، ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم، يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان الى أمانته وعدله أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأياً يحق له أن يبديه في إدارة بلاده. أو إرادة يتقدم بها الى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحاً لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مصرفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم. وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية ـ ومع كثرة من ذهب منهم الى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي الكبير الى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم الى ما جاورهم من البلاد الإسلامية أيام محمد علي باشا الكبير وإبراهيم باشا لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار، ولا فوائد تلك المعارف، ومع أن اسماعيل باشا أبدع مجلس الشورى في مصر سنة 1283، وكان من حقه أن يعلم الأهالي أن لهم شأناً في مصالح بلادهم، وأن لهم رأياً يرجع اليه فيها، لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن لهم ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشورية. لأن مبدع المجلس قيده في النظام وفي العمل، ولو حدث إنساناً فكره السليم بأن هناك وجهة خير غير التي يوجهها اليه الحاكم لما أمكنه ذلك؛ فإن بجانب كل لفظ نفياً عن الوطن، أو إزهاقاً للروح، أو تجريداً من المال).([390]) ثم يتحدث محمد عبده عن وضع الشعب المصري بعد أن استيقظ من سباته يقول: (ومما تقدم سرده تعلم أن أهالي بلادنا المصرية دبت فيهم روح الاتحاد، وأشرفت نفوسهم على مدارك الرأي العام، وأخذوا يتنصلون من جرم الإهمال، ويستيقظون من نومة الإغفال، وقد مرت عليهم حوادث كقطع الليل المظلم، ثم تقشعت عنهم فطالعوا من سماء الحق ما كحل عيونهم بنور الاستبصار، حتى اشرأبت مطامعهم الى بث أفكارهم فيما يصلح الشأن ويلم الشعث ويجمع المتفرق من الأمور ليكونوا أمة متمتعة بمزاياها الحقيقية، فهم بهذا الاستعداد العظيم أهل لأن يسلكوا الطريق الأقوم، طريق الشورى والتعاضد في الرأي).([391]) ويقول جرجي زيدان عن جمال الدين: (هو إمام هذه الحركة الاجتماعية في الشرق، بدأ عمله في أفغانستان وبلاد فارس، ثم نزل وادي النيل في زمن اسماعيل، فالتف حوله الأدباء والكتاب يأخذون عنه ويقتدون به، فذاعت شهرته ونبغ من تلاميذه طبقة من الأحرار، أهل الجرأة في السياسة والأدب والإصلاح، فثارت الأفكار. وكان ذلك مما ساعد على اضرام الثورة العرابية فأبعد الى كلكتا وبقي فيها حتى انقضت الثورة فأطلق سراحه فسافر الى اوروبا ونزل باريس وأنشأ فيها (العروة الوثقى) يحررها مع صديقه محمد عبده، ولم يطل ظهورها. وتقلبت عليه أحوال شتى، وانتهى أخيراً الى الآستانة بجوار عبد الحميد وكان يجله ويهابه وبقي هناك حتى مات سنة 1897. ولم يخلف كتباً تستحق الذكر، لكنه خلف روحاً جديدة في نفوس الشرقيين، وكان غرضه السياسي توحيد كلمة المسلمين وجمع شتاتهم في ظل دولة واحدة، فلم يوفق الى ذلك، لكنه وفق الى تحريك الهمم واستحثاث الخواطر الى السعي في هذا السبيل).([392]) وبمناسبة الاشارة الى ثورة أحمد عرابي باشا، لا بأس أن نذكر أن هذا الرجل هو من ثمار الصحوة التي أوجدها السيد جمال الدين، فقد قاد الجيش في ثورته ضد توفيق باشا. وكان همه الأول تخليص المصريين من العذاب والذل والسخرة والاستغلال.([393]) وسانده عن قناعة او عن رضوخ للأمر الواقع كبار الشعراء والأدباء من أمثال عبدالله النديم ومحمود سامي البارودي، ومحمد عبده، واستعان الخديوي بالانجليز، فقضوا على هذه الثورة ونكلوا بالأحرار. جمال الدين والأدب العربي الأدب مظهر من مظاهر حياة المجتمع، فإذا كانت هذه الحياة متحركة متّقدة خلاّقة كان الأدب متسماً بسماتها، وإذا أصيبت بعاهة انتقلت الى الأدب ايضاً، ولذلك نرى الأدب في عصر الركود والانحطاط لا يعدو أن يكون (مهارة لفظية، وقدرة على التفوه بعبارات شعرية ونثرية لا حياة فيها، ولا عاطفة ولا قوة، وإنما غرضها إظهار البراعة في اقتناص ألوان البديع؛ حتى إنهم ليخلّون بالأعراب في الكلمات والتصريف، إذا تعارض الأعراب او التصريف مع ما يريدونه من جناس او طباق، ويفسدون بنية الكلمة، عساها تصادق ما يجرون وراءه من هذه الحلي التي يسترون بها عورات لغتهم الركيكة وأفكارهم السقيمة، وخيالاتهم المريضة).([394]) ومرّ بنا أن الأدب العربي قبل السيد لم يكن يختلف كثيراً عن عصر الانحطاط، ولم يكن للاتصال الاوروبي عن طريق الحملة او البعثات او الارساليات أثر يذكر على الأدب العربي. أما بعد نهضة السيد فقط تطور الأدب تطوراً واسعاً بشعره ونثره، لما كان لهذه النهضة من أثر عميق في ضمير هذه الأمة ووجدانها. ولا أدلّ على ما ذكرنا من أن رائد النثر العربي الحديث محمد عبده ورائد الشعر الحديث محمود سامي البارودي هما من تلاميذ السيد جمال الدين. تأثيره المباشر على الأدب العربي الى جانب النهضة الاجتماعية التي أوجدها السيد، وتأثير هذه النهضة على الأدب، كان لجمال الدين دور مباشر في دفع حركة الأدب وتطويرها نلخصها بما يلي: 1ـ أرشد السيد تلاميذه الكتاب الى التحرر من القيود الثقيلة التي كانت ترسف فيها الكتابة الانشائية من محسنات بديعية مختلفة، وسجع متكلف ممقوت، واستعارات غريبة وغير ذلك مما أفسد المعنى وستر الأفكار عن الوضوح والجلاء، كما أرشدهم الى تجنب المقدمات الطويلة؛ وطبيعي أن يصرفهم الى الاهتمام بالمعاني، لأن هناك أشياء كثيرة يريدون الإبانة عنها والإفاضة فيها. ولا يتسع هذا النثر المقيد لكل تلك المعاني، ولا يستطيع إيضاحها كاملة([395]). وظهرت هذه التوجيهات في أسلوب محمد عبده وأديب اسحاق وعبدالله النديم وأحمد عرابي وغيرهم كثير. 2ـ لم يكن السيد جمال الدين من المطبوعين على الاساليب العربية الجميلة، لكنه فيما كتبه من مقالات قدم نماذج جيدة على الاسلوب المتحرر من السخافات والجمود. لقد كان قادراً على تفتيق المعاني وتوليد الأفكار. يقول تلميذه محمد عبده: (له سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في الصورة اللائقة بها كأن كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها. كل موضوع يلقى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع). ويقول في موضع آخر متحدثاً عن تأثير السيد في نشوء جيل من الكتاب في مصر: (كان أرباب العلم في الديار المصرية، القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل. وما كنا نعرف منهم إلاّ عبدالله باشا فكري، وخيري باشا، ومجد باشا سيد أحمد، على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي، على تخصص فيه، ومن عدا هؤلاء، فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها؛ ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري لا يُشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة وما منهم إلا أخذ عنه (عن السيد جمال الدين) أو عن أحد تلاميذه أو قلد المتصلين به).([396]) 3ـ شجّع جماعة من الكهول والشبان على إنشاء الجرائد، والكتابة فيها. فطلب الى الشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني وغيرهما أن يشتركا في تحرير جريدة التجارة التي أنشأها أديب اسحاق، وكتب هو بنفسه فيها. وتدخل في تحرير الوقائع المصرية وطلب الى الكتاب أن يدبّجوا مقالاتهم في موضوعات تمسّ حياة الأمة في صميمها، وحرّض الصحفي اليهودي (يعقوب بن صنّوع) على إصدار جريدته التهكمية أبي نضارة ويشجعه على الاستمرار في النقد الذي يلذع به إسماعيل.([397]) 4ـ من الملفت للنظر أنه شجع على ترجمة الأدب الاوروبي، وخاصة ذاك الذي يحمل روحاً ملحمية، واعتبر أن نقل هذا اللون من الأدب الى العربية أكثر فائدة من نقل الفلسفة اليونانية. وهذا يؤيّد اهتمامه بيقظة الروح أكثر من اهتمامه بالفكر. يُذكر مثلاً أنه (هو الذي شجع سليمان البستاني على ترجمة الإلياذة لهوميروس فقال كما يروي البستاني نفسه: إننا يسرّنا أن نفعل اليوم ما كان يجب على العرب أن يفعلوه قبل ألف عام ونيف. ويا حبذا لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا الى نقل الإلياذة بادئ ذي بدء، ولو ألجأهم ذلك الى إهمال الفلسفة اليونانية برمتها).([398]) أفول النهضة ربّ سائل يسأل عن مصير هذه النهضة، ولماذا لم تحقق في العالم العربي ما حققته نهضة أوروبا في الغرب ونهضة اليابان في الشرق. والجواب أن هذه النهضة انتكست على يد المستعمرين وبطشهم وخططهم العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ولولا هذه النكسة لبلغت مصر في التنمية مستوى لا يقل عما بلغته اليابان، ولعمّتّ هذه الروح كل العالم العربي والإسلامي. لقد دفع عرابي باشا بالنهضة الى مواجهة حادّة مع أعدائها؛ بينما كانت تشقّ طريقها بسرعة الى القلوب والأرواح، ونتج عن ذلك دخول البريطانيين ليبطشوا بالأحرار وينكّلوا بهم أشدّ التنكيل، الى جانب نشاط مدروس لتمييع شخصيات النهضة وتذويبهم فكانت النتيجة أن لم تحقق النهضة أهدافها وانحرفت عن مسيرتها. في نهاية القرن التاسع عشر ظهر جيل من تلاميذ السيد يحملون روحه ودعوته، فيهم السياسيون والكتاب والشعراء والعلماء من أمثال: محمد عبده، وعبدالكريم سلمان، وابراهيم اللقاني، وسعد زغلول وابراهيم طلباوي ومحمود سامي البارودي، وعبدالسلام المويلحي، وابراهيم المويلحي، وعلي مظهر، وسليم نقاش وأديب اسحاق وسليمان البستاني، وعبدالله النديم، وعبدالرحمن الكواكبي، وسيد بن علي المرصفي. وعلى يد هذا الجيل تربى أمثال المنفلوطي وطه حسين والزيات ومصطفى صادق الرافعي وابراهيم اليازجي واحمد الحمصاني وقاسم امين وغيرهم كثيرون. ولاتزال هذه الروح التي أوجدها السيد تتراءى ولو بشكل ضعيف في كثير من الكتاب والادباء والشعراء وأصحاب الحركات السياسية في العالم العربي. غير أن المسيرة تعثرت منذ خطواتها الأولى ولم تطو مراحل كمالها. الهيمنة الاستعمارية على مصر والعالم العربي صادرت الآمال، وأعرب السيد جمال الدين مراراً عن خيبته. ومن العجيب أن يضم مجلس الوزراء الذي أصدر أمره بنفيه بحجة أنه (رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا) اثنان أعجب بهما وتوسم فيهما الخير: توفيق باشا، والبارودي وكان ألمه بالغاً خاصة للنكسة التي أصابت البارودي وقد كان يؤمل فيه كل خير، ويعده ليوم عصيب في تاريخ مصر، وقد ظلت هذه الآلام تحز في نفسه حتى أخريات حياته. فقد زاره الامير شكيب أرسلان وهو بالآستانة. ويدور الحديث حول ما روي من العرب عبروا المحيط الاطلسي قديماً وكشفوا أميركا بدليل الأهرام الموجودة ببلاد المكسيك، فيقول السيد: (إن المسلمين اصبحوا كلما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه: إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من خمول وضعة، إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر، قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالاً، ولكنكم أنتم أولاد كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلا أن تفعلوا فعلهم، إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم، هذا محمود سامي البارودي عاهدني ثم نكث معي وهو أفضل من عرفت من المسلمين).([399]) ومحمد عبده ايضاً مني بهزيمة نفسية بعد نفيه، وعاد بعد النفي الى مصر وهو مسالم للانجليز متعاون معهم، وأفتى بجواز الاستعانة بهم. يقول الأستاذ عبدالرحمن الرافعي: (إن نقطة الضعف في شخصيته هو تخلفه عن الكفاح السياسي واختلافه في هذه الناحية مع أستاذه جمال الدين، وقد بدأ انقطاعه عنه منذ عودته الى مصر سنة 1889، فترك أستاذه يعاني متاعب الكفاح السياسي وآلامه ومرارته. وكان من قبل عضده وساعده الأيمن. حتى أنه لم يرثِ أستاذه الروحي عند موته).([400]) استطاع الانجليز أن يقضوا الى حد كبير على هذه الصحوة بأساليب شتى، منها البطش والارهاب بالقتل والسجن والنفي، ومنها بالتطميع بمنح المسؤوليات والامتيازات، ومنها عن طريق المحاربة النفسية والتذويب التدريجي، وذلك بإنشاء نوادي أدبية فكرية و(صالونات) متميعة لجذب النخب الفكرية والسياسية وتفريغ طاقاتها الكفاحية. مثل صالون (نازلي فاضل)، وهي بنت الأمير فاضل الملقب بأبي الأحرار في تركيا، جاء بها الانجليز الى مصر بعد الاحتلال، حيث توثقت صلاتها باللورد كرومر. وبدأت تكوّن صلات بطائفة من شباب مصر الذين كانوا يعدون إعداد معيناً ليؤدوا أدواراً هامة في تاريخ مصر فيما بعد. وكان أبرز رواد هذا الصالون ثلاثة هم: سعد زغلول ومحمد عبده وقاسم أمين. وفي هذا الصالون بذرت بذور السياسة التي نادى بها كرومر. ونازلي فاضل كان لها دور في ربط صداقة سعد زغلول ومحمد عبده باللورد كرومر. ومن أجلها كتب قاسم أمين كتاب (تحرير المرأة).([401]) تلخيص واستنتاج 1ـ إن العامل الأساس في تطوير الأدب العربي في العصر الحديث ليس هو حملة نابليون، بل حركة السيد جمال الدين الاسد آبادي. 2ـ لم تكن قبل نزول السيد جمال الدين مصر نهضة أدبية في النثر أو الشعر وبدأت هذه النهضة بعد انتشار دعوته. 3ـ كان للسيد اهتمام خاص برائد النثر العربي المعاصر محمد عبده ورائد الشعر العربي المعاصر محمود سامي البارودي وعلى يديهما ويد تلاميذهما بدأت النهضة الأدبية الحديثة في مصر وانتشرت الى سائر أرجاء العالم العربي. 4ـ كان للسيد توجيه مباشر للكتّاب والأدباء كي ينهضوا بالأدب ويتخلصوا مما ران عليه من سفاهات في عصر المماليك والعصر العثماني. 5ـ قدم السيد بكتاباته البعيدة عن الصنائع البديعية المتكلفة، والمهتمة بالمعاني الدقيقة نموذجاً جيداً لأدباء عصره، ومحمد عبده ذكر أستاذية السيد لطلائع كتاب النهضة العربية. 6ـ لقد عملت هذه النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين على تخريج جيلين او ثلاثة اجيال من كبار أدباء النهضة الأدبية، ثم اتجهت الى الهبوط بسبب محاولات التغريب والإبعاد عن الأصالة، فانقطعت النهضة عن أصالتها وجذورها واتجهت الى الضمور.